وليد عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 8294 - 2025 / 3 / 27 - 07:44
المحور:
قضايا ثقافية
لا يمكن اعتبار مسلسل “معاوية” مجرد إنتاج درامي عابر، بل هو خطاب بصري محمّل برسائل أيديولوجية تستهدف الوعي الجمعي عبر إعادة تشكيل سردية تاريخية حساسة تُقدَّم من خلال منظور أحادي منحاز. فالمسلسل، رغم ما يدّعيه من التزام بالموضوعية والتاريخ، يندرج ضمن محاولات مستمرة لإعادة صياغة الماضي الإسلامي بما يخدم مصالح سياسية معاصرة، تُبرر أنظمة الاستبداد، وتعيد إنتاج منطق القوة والانتهازية باسم الدين. إنه عمل يطمس الوقائع، ويفرض سردًا انتقائيًا للتاريخ، لتبرير تحولات سياسية وتغليفها برداء ديني يُراد له أن يُقنع الجمهور بقدسية الزعيم، ولو على حساب الحقيقة.
من أبرز ما يغيب عن هذا العمل هو إدراك طبيعة الصراع القبلي الذي شكّل بُنية الصراعات المبكرة في الدولة الإسلامية. فالصراع بين بني أمية وبني هاشم ليس تفصيلًا هامشيًا، بل هو جوهر العديد من التحولات التي شهدها ذلك العصر. تجاهل هذا العنصر المركزي أدى إلى طمس الخلفية الحقيقية لنشوء الخصومة بين معسكر علي بن أبي طالب ومعسكر معاوية. فوالد الأخير، أبو سفيان، كان على رأس المعارضين للدعوة المحمدية، ولم يدخل الإسلام إلا بعد فتح مكة وتحت ضغط الهزيمة، وليس عن قناعة إيمانية، كما يروي العديد من المؤرخين. وهو ما يُلقي بظلال من الشك على دوافع معاوية نفسه، الذي اختار البقاء في دمشق بعد وفاة النبي، ليبني لنفسه قاعدة سياسية مستقلة، مستندًا إلى طموحات أسرته التجارية القديمة المرتبطة بجغرافيا الشام منذ الجاهلية.
هذه الخلفية تُفسر التحولات السياسية لا بوصفها تطورات طبيعية في مسار الخلافة، بل كانت امتدادًا لمنطق الثأر الجاهلي والرغبة في السيطرة، وليس دفاعًا عن قيم الإسلام الأولى. فبنو أمية، الذين خسروا معركة بدر وقُتل منهم عتبة وشيبة وحنظلة، لم ينسوا تلك الهزيمة، وظلوا يتربصون بالدولة الناشئة، حتى تمكنوا من إعادة التموقع داخلها، ليس كأتباع مخلصين، بل كمستثمرين في لحظات الضعف السياسي. ورغم دخولهم الإسلام، فإن الروايات تُجمع على أن أبا سفيان ظل يحمل في نفسه شيئًا من الكراهية، وقد صرّح للعباس عم النبي قائلًا: “إن في النفس شيئًا”، قبل أن يُجبر على النطق بالشهادتين.
كل هذه السياقات التاريخية الهامة تم تهميشها أو حذفها من المسلسل لصالح تقديم صورة جديدة لرجل يتمتع بذكاء سياسي ودهاء استثنائي، دون التطرق إلى الوسائل التي اتبعها لفرض سلطته. فمعاوية لم يكن مجرد والي طموح، بل هو أول من حوّل الدين إلى أداة للهيمنة السياسية، وقد تجلى ذلك في حادثة رفع المصاحف خلال معركة صفين، التي كانت مناورة مكشوفة لتجميد القتال دون حل جذري للصراع، وأداة لخداع البسطاء من أتباع خصمه. كما استغل مقتل عثمان، لا بوصفه مأساة تستدعي العدالة، بل كذريعة للثأر وإسقاط الشرعية عن خلافة علي، وتحويل الخلافة إلى مُلك عضوض، كما وصفها المؤرخون، حين نصّب نفسه حاكمًا متفردًا، وفتح الباب أمام توريث الحكم، في قطيعة واضحة مع قيم الشورى التي أسّس لها الإسلام.
هذا التوظيف السياسي للدين تم التعتيم عليه في العمل، إذ جُرّد معاوية من أي مسؤولية عن العنف السياسي، وقدّمه المسلسل على أنه رجل عقلاني يبحث عن الاستقرار. لكنه في الحقيقة، وفق ما نقله المؤرخون، كان السبب في اندلاع معركة صفين، التي راح ضحيتها نحو سبعين ألف مسلم، دون محاسبة قتلة عثمان الحقيقيين، الذين ظلوا خارج نطاق الاتهام. كما تُظهر بعض المصادر تورطه في اغتيال قادة معارضين له، مثل الحسن بن علي، الذي قُتل مسمومًا بعد أن كان قد أبرم اتفاقًا تاريخيًا معه نصّ على عدم توريث الحكم، وهو الاتفاق الذي خرقه معاوية حين نصّب يزيد خليفة بعده، مُدشّنًا بذلك أول انتقال سلطوي وراثي في تاريخ الدولة الإسلامية.
المسلسل، إذن، لا يكتفي بطمس هذه الحقائق، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، حين يُفرغ الشخصيات من تعقيداتها الإنسانية، ويُحولها إلى رموز مفرغة تُستخدم لتبرير قرارات سياسية. فشخصية معاوية قُدّمت كأنها مخطط بارد، بينما غابت صراعاته الداخلية، وافتقرت شخصيات مثل الحسن بن علي إلى العمق الفكري الذي تميزوا به تاريخيًا، وأُفرغوا من طابعهم النضالي في مواجهة التسلط. كما تم تبرئة رموز إشكالية، مثل هند بنت عتبة، التي كانت رمزًا للثأر الجاهلي، ووصفتها كتب التاريخ بأنها “آكلت الكبود”، لكن المسلسل قدّمها بصورة “المرأة الوقورة” لتجميل صورتها، فيما ظهر أبو سفيان بمظهر “الفيلسوف الحكيم”، رغم انتهازيته المعروفة حتى في لحظة إسلامه.
كل ذلك يُشكّل محاولة درامية لإعادة كتابة التاريخ، لا استنادًا إلى الوثائق والمرويات، بل عبر سردية تلفزيونية مُعلّبة تفتقد للحد الأدنى من النزاهة العلمية. فحتى البيئة التاريخية تم التلاعب بها، حيث ظهرت مكة والمدينة وكأنهما عاصمتان بيزنطيتان، تتناقض صورتهما البصرية مع طبيعة الحياة البدوية التي كانت سائدة في ذلك الوقت. الديكور، الملابس، والحوار، لم تعكس الروح الثقافية لذلك العصر، بل بدت استنساخًا رخيصًا لدراما تاريخية غربية، نُقلت إلى السياق الإسلامي دون تمثل حقيقي للهوية الأصلية.
وما يُثير القلق في هذه المعالجة هو أنها لا تتوقف عند حد التزييف البصري أو الدرامي، بل تتعداه إلى ترسيخ خطاب خطير يعيد تعريف مفهوم البطولة والتقوى بما يتوافق مع منطق القوة. فالمسلسل يُعيد تطبيع منطق “الغاية تبرر الوسيلة”، ويُقدم الاستبداد بوصفه ضرورة سياسية، ويبرر العنف بدعوى الدفاع عن الدين، في انعكاس واضح لخطابات الأنظمة الاستبدادية المعاصرة، التي تجد في مثل هذه الأعمال مادة ثقافية لتثبيت سلطتها، وتوجيه وعي الأجيال الجديدة نحو الانصياع، بدلًا من التساؤل والمحاسبة.
البطولة الزائفة: حين تصبح القوة معيارًا للتقوى
من أخطر ما يمكن رصده في مسلسل “معاوية” هو الانزلاق نحو إعادة تعريف مفاهيم البطولة والتقوى والشرعية، بحيث يُعاد تقديم القوة والدهاء السياسي باعتبارهما فضيلتين، وتُجرَّد القيم الأخلاقية من مضامينها التحررية. لقد أصبح “الانتصار” في السردية الدرامية معيارًا للحقيقة، لا الحق معيارًا للانتصار.
هذا الخطاب يعكس ما يسميه منظّرو السلطة بـ”نزع الأخلاق عن السياسة”، وهي مقاربة تُبرر منطق “الغاية تبرر الوسيلة” الذي تبنّته أنظمة استبدادية قديمة وحديثة. في هذا السياق، يصبح الاستبداد ضرورة لحماية الدين، والبطش بالمخالفين وسيلة لحفظ الاستقرار، وتُختزل مفاهيم التقوى في مظاهر شكلية، بينما يتم تغييب الأسس الفلسفية للدين كعدالة، وحرية، ومحاسبة.
هكذا، يعاد تمرير سردية تقول إن “المؤمن القوي” خير من “المؤمن الضعيف”، دون أن يكون معيار القوة مرتبطًا بالموقف الأخلاقي أو المبدأ، بل بالنجاح في الحكم والانتصار في المعركة، ولو كان الثمن دماء عشرات الآلاف من المسلمين، واغتيال رموز الإصلاح.
تغييب العقل وتهميش رموز التنوير
في الوقت الذي يُعاد فيه إنتاج شخصيات سياسية مثل معاوية وصلاح الدين وتقديمها كرموز ملهمة، يتم تغييب أعلام الفكر والعقل في الحضارة الإسلامية. مثل ابن رشد، أو ابن سينا، أو ابن الهيثم، رغم أن هؤلاء شكّلوا ثورات معرفية حقيقية، وأسّسوا لنهضة عقلية أثّرت في أوروبا نفسها.
هذا الانتقاء ليس بريئًا. إنه يعكس توجهًا أيديولوجيًا نحو “مأسسة القوة على حساب المعرفة”، فحين يُقدَّم القادة العسكريون بوصفهم أبطالًا، بينما يُهمَّش الفلاسفة والعلماء، فإن الرسالة الضمنية للجمهور هي: “لا جدوى من العقل، ما دامت السلطة تُمجّد السيف”.
وفقًا لنظرية غرامشي عن الهيمنة الثقافية، فإن السيطرة لا تكون فقط بالوسائل الأمنية أو الاقتصادية، بل عبر احتكار الرموز الثقافية والتاريخية التي يُعاد من خلالها تشكيل وعي الجماهير. غياب رموز التنوير، إذًا، هو شكل من أشكال الإقصاء الرمزي، يُعيد تشكيل الذاكرة الجماعية وفق منطق الطاعة لا التساؤل، والانقياد لا النقد.
خاتمة: الدراما كسلاح أيديولوجي
إن مسلسل “معاوية” لا يجب التعامل معه كعمل فني مستقل، بل كمشروع أيديولوجي يستخدم الدراما لإعادة إنتاج السلطة والشرعية السياسية والتاريخية وفق منطق يخدم أنظمة الحاضر أكثر مما ينتمي لحقائق الماضي. فالتاريخ الذي يُقدَّم عبر الشاشة ليس سردًا بريئًا، بل إعادة تركيب للوقائع ضمن إطار ثقافي يهدف إلى ترسيخ قيم معينة: تقديس الزعيم، شيطنة المعارضة، وتبرير الاستبداد.
في ظل هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى خطاب مضاد، يعتمد على المعرفة النقدية، والتحليل التاريخي، واستعادة المبادئ الديمقراطية في فهم التاريخ. إن السؤال الذي يجب أن يُطرح ليس فقط عن مدى دقة المسلسل، بل عن نوعية التاريخ الذي نغرسه في أذهان الأجيال: هل هو تاريخ يُعزز قيم الحرية والعدالة والمساءلة؟ أم تاريخ يُكرّس الطاعة والهيمنة وتقديس السلطة؟
المعركة اليوم لم تعد فقط على من يملك السلاح أو الثروة، بل على من يملك الرمز، والسرد، والصورة. ومن لا يملك أدوات تفكيك هذه الصور، سيجد نفسه يتماهى مع سرديات تم صُنعها لشرعنة الماضي وترويض المستقبل.
#وليد_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟