|
خطة الله في غزة
محمد عبد القادر الفار
كاتب
(Mohammad Abdel Qader Alfar)
الحوار المتمدن-العدد: 8293 - 2025 / 3 / 26 - 08:18
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
في كل ملحمة عظيمة، هناك لحظة لا تُحتمل، تُكسر فيها الشخصيات، ويبدأ الانهيار. في “الإلياذة”، يبكي أخيل أخيرًا، لا لأنه بطل، بل لأنه إنسان. في “الملاحم النوردية”، تمضي الآلهة نحو راجناروك، نهاية العالم، وهي تعلم أنها لن تنتصر، لكنها تذهب لأنها لا تملك خيارًا آخر. في “المسرح الإغريقي”، كان البطل التراجيدي يدرك مصيره، ويصعد رغم ذلك إلى المنصة، ليواجه قدرًا محفورًا سلفًا في النص.
لا أحد يعلم يقينًا ما كانت تفكر فيه تلك الأم التي نزعت بنفسها شريطًا لاصقًا من صندوق الإسعافات الأولية، لتربط به كيسًا بلاستيكيًا حول قدم طفلها المبتورة حديثًا. ربما كانت تفكر فقط في أن الدم يجب أن يتوقف. أن لا مزيد من التسرب. أن العتمة قادمة.
هذه الإبادة ليست فقط الأكثر وحشية في القرن الجديد، بل هي الأكثر توثيقًا، والأشد حضورًا في الزمن الحقيقي. كل قطرة دم، كل غبار ركام، كل صرخةٍ داخل الخيمة، تم تسجيلها، لحظة بلحظة، بعدسات الهواتف وكاميرات الصحفيين وبثّات الطائرات المسيّرة وأقمار التجسس، وملايين العيون الرقمية التي شاهدت الحدث من كل زاوية… العالم لم يعد يستطيع الادعاء أنه “لم يعرف”.
لكن التوثيق هنا ليس وسيلة إدانة، بل مادة خام لصناعة ذاكرة جمعية، لا تنام. وحتى حين تُنسى هذه الصور في مجلدات الأرشيف الإلكتروني، فإن أثرها يبقى في الذين شاهدوها أول مرة، حتى وإن ادّعوا النسيان.
من هذه الذاكرة المتخمة بالبتر والاحتراق والتجويع، سيخرج الجيل القادم. جيلٌ لم يقرأ الرواية، بل عاشها. لم يسمع حكايات دير ياسين من جدته، بل شاهد خيمة الجيران تحترق. هذا الجيل، لن يكرّر نموذج من سبقه. لا في الوسائل، ولا في اللغة، ولا في طريقة النظر للعالم.
وحين يتحرك هؤلاء، فإنهم لن يطلبوا من العالم شيئًا. لا وسيطًا، ولا رأيًا عامًا، ولا تفهمًا. لأن العالم كله، في هذه النسخة من الإبادة، كان شاهدًا مباشرًا. لن تكون هناك حاجة لبناء سردية جديدة أو لكتابة التاريخ، فكل شيء كُتب بالصوت والصورة والنبض. الكاميرا هذه المرة كانت بلا مواربة، والإدانة لم تأتِ من مجلس الأمن، بل من عيون الأطفال وهم ينظرون للعدسة مباشرة، لحظة احتراقهم.
هذا الجيل، لن يبحث عن شرعية. بل عن توازن.
لكن دعونا نبتعد للحظة عن صورة النزيف.
أسئلة اللحظة كثيرة. مصير غزة؟ مصير حماس؟ من سيحكم؟ هل سيكون هناك تهجير جماعي؟ وإلى أين؟ كل هذا نسمعه في غرف الأخبار. التحليلات تتقافز ككرات تنس على مائدة حرب، تتنازعها مقاربات طوباوية وإنسانوية وبراغماتية وسينيكية.
لكننا اليوم، في هذا المقال، نبتعد قليلًا عن الضجيج. لا لنغلق الباب على الألم، بل لننظر من زاوية أبعد. زاوية يحكمها السؤال الكبير: ماذا بعد هذا الطوفان؟ وماذا كانت خطة الله؟
من أراد أن يتلمّس حكمة الله، عليه أولاً أن يسلّم بأنه إله—لا يُتوقّع منه ما يُتوقّع من بشر، ولا يتصرّف وفقًا لما نعدّه نحن “منطقيًا” أو “عادلاً” أو “متسقًا مع مشاعرنا”. هو إله. لا يُختصر في معادلة، ولا يتنقل بين نقاط السيناريو على شاشة عرض ثلاثية الفعل. هو ليس الحتمية، بل الفوضى المدبّرة. ليس اللغز، بل كينونة اللغز ذاتها. قد يقول البعض إن الله “unpredictable”، لكن الأدق أنه لا يحب أن يُحاصر في صفة واحدة. أن يبقى مفتوحًا على كل الاحتمالات، حتى وهو يمارس السنن ذاتها مرارًا.
هذا لا ينفي وجود القواعد. السنن الإلهية، نعم، ثابتة، لكن تطبيقاتها لا تسير على خطٍ واحد. هناك دائمًا انحناءة في المسار، نتوء في الجدول الزمني، خروج مقصود عن التوقّع. فالله، إن صحّ التشبيه، يشبه مخرجًا سينمائيًا يكرر فكرة معينة في أفلامه، لكن بكل مرة يضع حبكة جديدة، نهاية جديدة، وجوهًا مختلفة، صدمات لا تُنسى.
ولذلك فإن خططه ليست آنية فقط، بل جيولوجية. تنحت مصائر الشعوب مثلما تنحت الرياح شكل الجبال. ينقل المجموعات البشرية كما تنقل الكائنات الدقيقة عبر التيارات البحرية، يخلطهم جينيًا واجتماعيًا ونفسيًا، يصقلهم بمحن متتالية، يحمّل ذاكرتهم صورًا ومقاطع فيديو وصراخًا يدوّي في منتصف الليل… كل ذلك لصياغة نسيج بشري جديد، لا نراه ونحن داخل النسيج، بل نراه حين نبتعد بما يكفي.
من ذا الذي يجرؤ على فهم الإله؟ ثم من ذا الذي لا يحاول؟
الطريق إلى المعنى ليس مفروشًا باليقين، بل بالحيرة المحترمة، حيرة من يدرك أن الله لا يُطالَب بالشرح، لكنه أحيانًا يلمّح. أحيانًا يفتح كوة في الجدار، تسمح لك أن ترى بصيصًا، لا الخطة الكاملة.
من أراد أن يفهم الله فعليه أن يقف في موقعه الصحيح: لا موقع المحاسب، ولا موقع العارف، بل موقع المتأمل الذي يحمل في قلبه دهشة الطفل حين يرى البحر لأول مرة—يعرف أنه لا يستطيع احتواءه، لكنه يصرّ أن يراقبه، أن يتعلم منه، أن يبني قلاعه على الشاطئ رغم علمه بأن الموج سيمحوها.
والله، في كثير من الأحيان، يمنح المفاتيح لمن يُحسن الوقوف عند الباب. لا يفتحه بالضرورة، لكنه يتركك تلمس قبضته. فإن صدقت، منحك لحظة كشف. وإن لم تفهم، ترك لك آثارًا كافية لتبني منها موقفًا. الأمر أشبه بعالم فيزياء فلكية يقرأ خريطة الموجات الكونية الخلفية، لا ليتحكم بها، بل ليستدل على ما حدث قبل المليارات من السنين… فقط لأن الفهم أحيانًا، في ذاته، عبادة.
اعذروني، إن كانت البداية تبدو ميتافيزيقية أكثر مما تتحمله واقعية هذا الدم. ولكنني أكتب من الهامش. أنا لست هناك. لم يسقط سقف فوق رأسي، ولم تُنتشل جثث أولادي من تحت الركام، ولم أحرق داخل خيمة نزوح. أنا لست ضحية. ولذلك يمكنني، ويجب عليّ ربما، أن أجرّب هذا النوع من التأمل.
حين تكون في عين العاصفة، فإن مهمتك هي البقاء. أما حين تكون في محيط الحدث، فإن مهمتك هي الفهم. الفهم من أجل الفعل لاحقًا. أو من أجل ألا تموت كمجرد متفرج.
أعرف أن الله لا يُسأل عما يفعل، لكن ذلك لا يمنعنا من محاولة فهم ما يفعله. لا عن استحقاق، بل عن فضول وجودي. عن عطش لمعنى.
الله، كما تقول الكتب، يحب أن يُعبد، ويحب أن يُعرف، ويحب أن يُخشى. لكنه أيضًا، في نصوص كثيرة، يبدو وكأنه يحب أن يُفاجئ. يحب أن لا يُختصر في معادلة. يحب أن يُبقيك حائرًا في الحكمة، حتى وأنت مطمئن للعدالة.
نعم، الله ليس نظام تشغيل آلي. وهو لا يستجيب للمدخلات بالنتائج المرجوة كل مرة. وإذا كنا نؤمن أنه يرى ما لا نرى، فربما علينا أن نفترض أنه يعمل في أفق أطول مما يمكن لخيالنا إدراكه.
لا داعي لتجنب السؤال الأكثر حرجًا: لماذا؟ لماذا لم يُنقَذوا؟ لماذا لم ينزل الطوفان هذه المرة على المجرمين؟ لماذا لم تنفلق السماء، وتخرج الملائكة بخيولها لتوقف المذبحة؟ لماذا ظل كل شيء يعمل كما لو كان منظمًا مسبقًا؟ كما لو أن الصمت كان أيضًا جزءًا من الخطة؟
الخطة الإلهية موجودة، وكل عنصر فاعل في ما يحدث هو جزء من الخطة…
لنأخذ مثال حماس. مجموعة دينية عقائدية تؤمن بالآخرة أكثر من الدنيا، وتؤمن بالجهاد كذروة سنام الدين، وتحمل نفسها مسؤولية الدفاع عن القدس وفلسطين والأقصى. أخلصوا، أو هكذا بدا، لما اعتقدوه تكليفًا شرعيًا. دخلوا المعركة. لكن الله لم ينصرهم.
أو هكذا يبدو.
هنا لا نحكم، بل نلاحظ. حماس ربما كانت آخر حركة مقاومة تخوض معركتها بهذه الطريقة: بتحالفات رخوة، برهانات عاطفية، وبنبرة خطابية تستنهض ما لم يعد يُستنهض. آخر من يطلب من الشعوب النفير، ويخطب في جماهير نامت منذ عقود.
لكن هذا لا يعني أنها كانت بلا دور.
الله، في طريقة عمله الغامضة، كثيرًا ما يستعمل من لا يمنحهم النصر. يستعملهم كنقطة انعطاف. كإشارة. كحدّ فاصل بين نموذجين. وكأنّ حماس كانت نموذجًا استُنفد، ليُفتح الباب أمام آخر.
حماس ليست ظاهرة سطحية. هي بنية عقائدية نشأت في خاصرة العجز العربي، وتشبعت بسردية الخلاص الإسلامي، وورثت من الإخوان المسلمين قناعاتهم، ومن الإنتفاضة الفلسطينية الأولى شرعيتهم، ومن حصار غزة إحساسهم العميق بالتفويض الغيبي. هي مجموعة متدينة، نعم، ولكنها متدينة حتى العظم. تأخذ الدين لا كمصدر إلهام أخلاقي بل كنظام تشغيل كامل، manual إلهي شامل، لكل ما هو صغير وجلل.
في خطابها العلني، كما في خطابها الداخلي، لا يظهر تردد في الإيمان بأن الجنة ليست فقط نهاية الطريق بل هي الهدف نفسه. ولذلك، فإن الموت ليس مأساة، بل معبر، والمجازر ليست نهاية، بل اصطفاء. لهذا يمكنها، بضمير مطمئن، أن تضع أرواح الآخرين إلى جوار أرواحها في ميزان التضحية. لا لأنهم أدوات، بل لأنهم إخوة في السعي للخلاص الأبدي، وعلى مبدأ أن من ساواك بنفسه، ما ظلمك.
حماس ليست المثال، لكنها حالة. ليست البديل الوحيد، لكنها البديل الذي جاء في لحظة عطالة، حين نُحرت فلسطين بين مشروع مفرغ بلا مقاومة، ومقاومة بلا مشروع. ومع كل حساباتها غير المكتملة، ومع حلفائها المتقلبين، ومع سذاجة بعض رهاناتها، فإن حماس خاضت المعركة الأخيرة كأنها صلاة العصر الأخيرة. أغلقت الأبواب خلفها، وواجهت التاريخ كما هو، لا كما تتمنى.
لكنها لم تُنصر. على الأقل ليس كما كانت تأمل. وهنا تبدأ الأسئلة. لا الأسئلة التي تُحاكم، بل تلك التي تُحاول أن تفهم: لماذا؟ أين كانت يد الله؟ أليس في النصوص أن المؤمنين إذا صدقوا نُصروا؟ أليس هناك خمسة آلاف من الملائكة وُعد بها أهل بدر؟ لماذا لم تُرسل؟ أم أن التاريخ لم يعد يحتمل المعجزات، وأن الله، كما يفعَل أحيانًا، ترك الأمر ليتحول إلى درس لا يُنسى… لا نصرًا يُحتفل به، بل نموذجًا يُستخلص منه العِبر؟
في خضم الإبادة، ظهرت قصص تلمّح إلى تدخل غيبي. مقاتل واحد يواجه عشرة جنود دفعة واحدة وينجو، فيُقال إن ملَكًا كان يلوّح بسيفه خلفه. طفل يسير خارج الركام بعد أن حمله “رجل نوراني”، فيُقال إنه من جنود السماء. طفلة قُطعت يدها ثم رُكبت مجددًا بعملية بدت مستحيلة في ظل الحصار، فاعتبرها البعض لمسة رحمة خارقة من الأعلى.
لكن العقل النقدي، وهو ليس خصمًا للإيمان بل أحد أدواته، يقف متسائلًا. إن كانت الملائكة تحارب، فلماذا لا تكتسح؟ وإن كانت تنقذ طفلًا، فلماذا لم تحمِ آلاف الأطفال الآخرين؟ لماذا تُرك البعض ليُشوى حيًّا في خيامهم بينما اختير آخرون لتُنقذهم يدٌ لا تُرى؟ لماذا لا تنزل السماء على الأرض فتخسف المعتدين كما فعلت بقارون أو بأصحاب الفيل؟ ولماذا لا تُرسل طيرًا أبابيل، أو تسلّط برقًا يُطفئ شرارة الشرّ قبل أن تتوسع؟
هؤلاء ليسوا ملاحدة. هم مؤمنون، ولكنهم يؤمنون بأن الله لا يعمل بعشوائية، وأن القصص الفردية لا تكفي لصياغة عقيدة في الفهم الإلهي. أن لطف الله، مهما رقّ، لا يُبنى عليه تصوّر لإدارة السماء للحرب. لأن اللطف لحظة، والحرب سردية، والله لا يُختزل في ومضة، مهما كانت معجزة. ولأن السياق الأوسع يقول شيئًا آخر: إن المذبحة وقعت، وتوسعت، وكادت تلتهم التاريخ.
إن محاولة تفسير هذه القصص كمؤشرات على الاصطفاء أو النصر، تشبه محاولة الاستدلال على بركة المطر من قطرة واحدة على اللسان. الله لا يُقاس بالأفراد، ولا بالأفعال المتقطعة، بل بحركة الجبال التي لا يراها إلا من يبتعد كفاية.
لكن يبقى السؤال، كمنجم فارغ في قلب جبل: لماذا لم تُنصر حماس؟ لماذا لم تحدث المعجزة التي نُحسن روايتها في كتب الأطفال؟ لماذا لم يتصدع الجدار، ولم ينشق البحر، ولم تتحول النار بردًا وسلامًا على أولئك الذين اعتقدوا أنهم في طريق الله؟
هل خانهم الإخلاص؟ لا يبدو ذلك. فعلوا ما بوسعهم، بل ما يفوق الطاقة البشرية أحيانًا. صلّوا، وضحّوا، وتوكلوا. لكن النتيجة لم تكن نصرًا، بل مذبحة. لا شيء يوحي بأنهم وُعدوا بالنصر ثم أُخلفوا. بل كل شيء يوحي بأن الخطة كانت أكبر، أغرب، وأبعد من أن تُفهم من نقطة واحدة على الخط الزمني.
الله، في سردياته الكبرى، لا ينصر دائمًا من يستحق، ولا يعاقب فورًا من يبطش. لأنه لا يكتب الرواية بلغة الفصل الواحد، بل يكتبها كما تُبنى الجبال: طبقة فوق طبقة، حتى تنحت الريح اسمًا لا يُنسى.
ليس كل استجابةٍ تأخرت هي غياب. وليس كل صمتٍ إلهي هو تخلي. أحيانًا، الله لا يمنح النصر لأنه أراد أن يُبقي التجربة درسًا. أن يجعل الفشل بذرةً في وعاء التاريخ، تنبت منها أشكال جديدة من الفهم، والنهج، والقيادة، والوعي.
ربما لم يُنصروا لأن المطلوب لم يكن النصر، بل النهاية. نهاية حقبة. نهاية نموذج. لأن استمرارهم كان يعني استمرار المنظومة القديمة، بكل ما فيها من لغةٍ لم تعد تفعل شيئًا، سوى أن تُطمئن من لا يملك شيئًا. وربما، أيضًا، لأن الله أراد أن ينقل الشعلة… ولكن لا بالخطاب، بل بالدم.
إن الله حين “يستعمل” أحدًا، لا يقدّم له ضمانًا بالنصر، ولا وعدًا بالنجاة. بل يختاره ليلعب دورًا في مشهد لن يُعرض كاملًا إلا بعد عقود، وربما قرون. كثيرون ظنوا أنهم أبطال القصة، لكن اتضح لاحقًا أنهم كانوا بوابةً لظهور بطل جديد، أو جدارًا اصطدم به الآخرون ليغيروا وجهتهم. حماس، في هذا السياق، تبدو كما لو أنها كانت ذلك الجدار.
لقد قالوا مرارًا: “اللهم استعملنا ولا تستبدلنا”. وقد استُعملوا. ولكن لم يُنصروا. وهذا، في منطق السماء، ليس تناقضًا. لأن “الاستعمال” ليس وعدًا بالنصر، بل هو استحقاق للدور. وقد قاموا به.
كان دورهم أن يغلقوا فصلًا. أن يُظهروا، في أدق درجات التوثيق، أن هذا النهج، وهذه اللغة، وهذه التحالفات، وهذه الطريقة في إدارة المقاومة، قد بلغت مداها. لم يكن فشلًا في الإخلاص، بل استنفادًا للوسائل. وهذا، كما في الفيزياء، يؤدي بالضرورة إلى تحوّل في الحالة.
هم آخر من سيثق بوسيط لا يمسك بخيوط اللعبة. وآخر من يراهن على خطاب تعبوي في زمن البودكاستات الباردة. وآخر من يظن أن رفع السقف الأخلاقي كافٍ لإسقاط سقف الاحتلال. وآخر من يطلب من الجماهير المرهقة أن “تنتصر بثقتها”.
إنه ليس حكمًا قيميًا، بل قراءة جرد. قد يكون الله قد قرر أن ينهي هذه المرحلة بأيدٍ مؤمنة، حتى لا يقول أحد إنها سقطت لأن القائمين بها كانوا غافلين. لم يكونوا غافلين. كانوا يرون، ولكنهم رأوا بأدوات قديمة.
إن ما نراه الآن ليس نهاية، بل ممرٌ مظلمٌ نحو ولادة أخرى. تمامًا كما يحدث في الأساطير، حين يُبتلع البطل في بطن الوحش ليخرج بعد ذلك أكثر وعيًا، أكثر شراسة، وأكثر فهمًا لما ينبغي فعله.
.في الملحمة السومرية، «جلجامش» لم يبلغ الحكمة إلا بعد أن سقط في التيه، وخسر صديقه أنكيدو، وواجه موتًا لا يقهر. ربما نحن الآن في مرحلة فقد أنكيدو. لم تبدأ الحكمة بعد، لكن الشرخ تشكّل.
النموذج القادم ليس بالضرورة إسلاميًا ولا علمانيًا، ولا متشددًا ولا مهادنًا. لكنه سيكون مختلفًا. هذا ما تقوله أنماط التاريخ. فالتكرار نادرًا ما يكون نسخة طبق الأصل. دائمًا هناك اختلاف في الزاوية، في الشدة، في التوقيت.
ومن تحت الرماد، قد يظهر شيء جديد. أشد خشونة، وأوسع صدرًا.
جيل يرى المجزرة كل يوم، لا في كتب التاريخ، بل في بثٍ مباشر. هذا الجيل لن يكرر أخطاء من سبقوه. لا في الفعل، ولا في التوقعات.
وربما، فقط ربما، سيكون الطوفان التالي أكثر دقةً في إصابة الهدف.
ليس هذا تنجيمًا ولا ضربًا من أحلام اليقظة؛ لكنه منطق التاريخ حين يبلغ أقصى درجات اختناقه. هناك دائمًا من يأتي بعد الطوفان، لا كمنقذٍ خارق، بل كمُعادِل كونيّ لما اختلّ. تلك ليست طوباوية ساذجة، بل بصيرة تستند إلى دورة الحياة ذاتها، إلى الطريقة التي يتدحرج بها الظلم حتى يصطدم بجدارٍ لم يكن في الحسبان.
من سيأتي — سواء كان كيانًا سياسيًا، أم جماعة منظمة، أم حالة اجتماعية متجددة — لن يكون وريثًا لحماس في الشكل، ولا بالضرورة في الروح، لكنه سيكون وليد المذبحة. كمن خرج من رحم الوحش، مشوهًا، لكنه حيّ. لن يأتي من بين التنظيرات المعهودة، ولا على أكتاف أولئك الذين وقفوا ذات يوم على المنصات يُنظّرون لحماس، بينما كانت غزة تحترق.
أبطال الطوفان القادم لن يتكلموا بلغة تلك الحملات الإعلامية التي خذلت، ولا سيتبنون نفس الخطاب الذي رُوّج له، ثم انكفأ حين اشتدّ السيل. لن يكونوا ممن يلتمسون رضا المنصات الغربية، ولا ممن يظنون أن الرأي العام هو حليف دائم. لقد رأوا كيف يتم تكييف البربرية لتبدو كدفاع عن النفس، وكيف يُعاد تعريف المجزرة كـ”عملية عسكرية مركّبة”. لقد شهدوا انهيار المعاني، ويعرفون الآن أن عليهم أن يعيدوا اختراع اللغة.
حين يأتون، لن يعلنوا ذلك. سيأتون بصمتٍ، كما تأتي الفكرة الحاسمة بعد ليلٍ طويل من العبث.
أبطال الطوفان القادم لن يخرجوا من عباءة أولئك الذين تولّوا التنظير لحماس، لا من مراكز البحوث المؤدلجة، ولا من المنابر التي استهلكت طاقتها في إعادة تدوير الشعارات. ومع الاحترام الواجب لبعضهم، لم يكن في صوتهم ما يكفي من عمقٍ ولا في وعيهم ما يكفي من فطنة ليكونوا ظهيرًا نظريًا لحرب بهذا المقام، لإبادة بهذا الحجم، لمجزرة تحمل على أكتافها عبء التاريخ وآلام المستقبل. فهذه لم تكن حربًا تُدار بتكتيكات غوارية، ولا تُقرأ بنشرات الأخبار، بل كانت نفقًا أسود يفتح على جغرافيا الذاكرة، تبتلع فيه الأجيال القادمة وهم يتعلمون حروف الأبجدية من بين الركام.
من سيؤطّر الطوفان القادم لن يكون ابن خطابية رتيبة، ولا فكرًا أُنهك في الدفاع عن الجُدران المتصدعة. بل سيكون عقلًا خارقًا لزمنه، قدريًا دون سذاجة، ميتافيزيقيًا دون أن يفرّط في الدم، وجراحيًا في فهمه لما تعنيه الخسائر البشرية على ميزان العدالة الكونية. لن يكون ناطقًا باسم حلم، بل مدوّنًا لرؤية. ومن سيكتب سردية القادم، لن يكتبها بالحبر، بل بالرماد.
كذلك، لن تكون له علاقة عضوية مع وسائل الإعلام التي امتصت الحدث حتى التخمة، ثم لفظته حين انخفضت نسب المشاهدة. الإعلام المتعاطف مع غزة لم يُفلح في أن يكون جسرًا، بل أصبح أحيانًا قيدًا. خريجو مقاطع التفاعل اللحظي، أولئك الذين يرون في كل دمعة فرصة لزيادة عدد المتابعين، لن يكونوا هم من يؤرّخ للزلزال القادم. الطوفان لن يجد خريطته في الستوديوهات.
بل، على الأغلب، سيصعد من مكان لا تراه الكاميرات بعد.
الطوفان القادم قد لا يكون جذابا للجماهير الموسمية، تلك التي تتفاعل مع الدم كما تتفاعل مع مباريات كأس العالم: بحماس لحظي، وشعارات جاهزة، وصور بروفايل موحدة، ثم تنام على مهل في نهاية الشوط الثاني. لن يُولَد من أرحام شعوب تُجيد الهاشتاغ أكثر مما تُجيد الفعل، شعوب تزاود على بعضها في سوق المزايدة العاطفية، كأنها تشارك في برنامج مسابقات عنوانه: “من يحب غزة أكثر؟” — حيث الجائزة الأولى صورة لطفل مبتور القدمين مع تعليق: “حسبنا الله ونعم الوكيل”.
الطوفان القادم لن يأتي من هؤلاء الذين يسابقون الزمن لنشر تسجيل صوتي لقائد مقاومة، أو قصة غامضة عن رجل صالح ظهر في المنام يحمل بشارة النصر. ولن يخرج من المنصّات التي لا تمانع أن تعيد بث خطابات المتحدث باسم جيش الاحتلال فقط لأن فيها سطرًا قابلاً للقصّ والنشر، يُشعل التفاعل ويجلب رضا الخوارزميات.
أولئك الذين ينشرون فيديوهات أشلاء الأطفال، ثم يُكرِّرون كليشيهات من نوع: “اصمدوا”، “ما بعد الصبر إلا الفرج”، “غزة لا تنكسر”، يبدون أحيانًا وكأنهم شخصيات ثانوية في عرض مسرحي كتب نصّه حاكم فاشي، ووافقوا عليه دون قراءة.
وكأن المجازر أصبحت حملة دعائية — حملة تشبه تلك التي أطلقها مرةً مجلس السياحة الأمريكي حين غطّى على أزمة الهجرة من الجنوب بصور للغروب في تكساس، وقال: “Come Experience the Border”. الآن، هناك من يقول لغزة: “Come Experience the Sacrifice”، ويلتقط الصور، ويرحل.
هذا العالم لم يكتفِ بأن يخذل، بل يطلب من الضحية أن تشرح خذلانها بلباقة، وتعبّر عنه بشعارات قابلة للطباعة على قمصانٍ تباع في الميت غالا، أو تُعلّق في ممرات الفن المفاهيمي.
لكن أبطال الطوفان القادم؟ لن يقفوا طويلاً عند هذه المسرحيات. لن يخاطبوا شعوباً تنتشي من هزيمتها المؤقتة ثم تتلاشى في سُبات الاستهلاك اليومي. لن يطلبوا نصرةً من جمهورٍ عاطفي لديه ذاكرة سمكة ذهبية، ينسى غزة كما ينسى آخر نكتة تداولها على تيك توك.
الطوفان القادم لا يحتاج إلى جمهور. يحتاج إلى ذاكرة حية لا تُختصر في منشور. يحتاج إلى وعي يتغذى على الفقد لا على “التريند”.
أبطال الطوفان القادم لن يحتفلوا بالنصر قبل أن يُنجز كما ينبغي. لن يُعلنوا البيان الأول في منتصف الفوضى، ولن يصدروا بلاغًا عاجلًا عبر قناة يوتيوب تشير إلى “تفوق تكتيكي” بعد سقوط ثلاثين حيًّا وتحول ألف طفل إلى رماد.
هؤلاء لن يتعاطوا مع الانتصار كمشهد سينمائي، حيث تنفجر القنبلة خلف البطل وهو يسير في هدوء دون أن يلتفت، بينما تتصاعد الموسيقى، وتُطبع صورته على قمصان البازارات في اسطنبول. لن يقولوا “انتصرنا رغم أنف العالم” فيما تُنتزع الأم من تحت الركام وهي تهمس: “أين ابني؟”
هؤلاء يعرفون أن النصر، كالحب، لا يُعلَن بل يُعاش. أنه ليس مانشيتًا، بل منظومة. أنهم لن يُقنعوا الناس بأن الظلام نورٌ مؤجَّل، ولا أن المذبحة “ضريبة الكرامة”، ولا أن الأشلاء “ثمن العزّة”، كما لو أننا نعيش في قصيدة ملحمية لشاعر مخمور.
سيسمّون الأشياء بأسمائها. لن يقولوا “ارتقاء الشهداء”، بل سيقولون “ذُبِح الأطفال”. لن يقولوا “العدو يترنح”، بل سيحصون عدد من ترنّحوا من صفوفهم أولًا. لن يقولوا “الصورة أوصلت الرسالة”، بل سيتأكدون أن الرسالة وصلت فعلاً، وأن من استلمها لم يمزقها أو يضعها في مجلد “الرسائل غير الهامة”.
سيفهمون أن العالم الذي يشاهدك تُباد ثم يطالبك بـ”ضبط النفس” لا يستحق مخاطبته أصلاً. وأن الصمت أبلغ من شرح لا يُصغي إليه أحد.
إن إسرائيل بالغت كثيراً في إراقة الدماء، ليس فقط كثمرة لعقيدة أمنية غريزية، بل كتعبير فجّ عن اطمئنانها لعالم مبرمج على النسيان. كانت تمضي قدماً كما لو أن التاريخ يُكتب عبر برمجية أوتوكاد، يمكن دائمًا مسح طبقاته القديمة وإعادة رسمه دون أن يلاحظ أحد أن الرسم بات مشوهًا.
لكن الكون، حتى وإن بدا عليه الصمم أحيانًا، يدوّن. هناك رصيد يتراكم، لا في دفاتر المحاكم، بل في طبقات الذاكرة الجمعية، في الشيفرة النفسية لأجيال لم تولد بعد. إسرائيل قد لا تُحاسب اليوم، وقد لا تُعاقب غداً، لكنها، وبحكم قوانين التوازن العميقة في هذا العالم، تدفع باتجاه لحظة ارتداد، لحظة تُعاد فيها القسمة، وتُفك فيها كل حيلة.
التاريخ لا يتحرك بروح ديزني، ولا يستيقظ دائماً على صوت تغريدة من البيت الأبيض. لكنه يشبه أحيانًا رواية دوستويفسكي، يتباطأ، يتعرج، ويُكثر من الشخصيات والمآسي، لكنه لا يُسدل الستار قبل أن يسائل الجميع، بما فيهم القارئ.
هناك جيل يتكوّن الآن، ليس في غزة فقط، بل خارجها أيضًا. أولئك الأطفال بين العاشرة والثامنة عشرة… هؤلاء الذين تشكّلت ملامحهم على ضوء الحرائق، لا ضوء القمر، والذين تعلّموا العدّ، لا من واحد إلى عشرة، بل من طائرة استطلاع إلى قذيفة هاون إلى فقدان قريب. جيل لم يفتح عينيه على شمس الحياة، بل على ظلال الطائرات وارتجاف الخيام وصوت الزنانة تحوم فوق رؤوسهم.
نعم، ستتفاوت ردّات أفعالهم. أحدهم سيختار الهروب من كل شيء، وآخر سيحفر نفقًا في نفسه ليرمم ما تبقّى من إنسانيته، وثالث سيقرر الانتقام، لا حبًا في الدم، بل لأن الحياة لم تمنحه خيارًا آخر. ورابع سيبدأ مشواره في طريق ما، ثم ينقلب عليه، لأن المشوار نفسه قد يخذله.
لكن شيئًا واحدًا سيوحّدهم جميعًا: إسرائيل ليست قدرًا. هذا الكيان المسخ ليس مشروعًا مستقبليًا، بل خطأ مطبعيًّا في كتاب الوجود. وهذه المرة، على عكس دير ياسين وغيرها، فإن المذبحة موثقة بدقة 4K، مؤرشفة على خوادم “ميتا” و”غوغل”، مكرّسة في الذاكرة الرقمية للبشرية، لا في دفاتر مؤرّخ غلبه النعاس.
هؤلاء ليسوا الجيل الذي سيخوض النقاشات المعتادة: هل “المقاومة” أضرت؟ هل من الأفضل “الصمود أم التفاوض”؟ هل كان من الأجدى “أن نصمت وننجو”؟… لا وقت لديهم لهذا. هؤلاء أبناء “التوقيت العالمي الموحد للقصف”، أبناء “جوجل إيرث” الذي صار يعرض الدمار بالسنتمتر، لا بالمجاز. وهم يعلمون، بوضوح مخيف، أن العالم قد خذلهم.
الكل بات يعرف الآن -حتى من لم يرغب في المعرفة- أن إسرائيل لم تكن يومًا مشروعًا أخلاقيًا، بل كانت، على الأرجح، خطأ في الشيفرة الوراثية للحداثة الغربية، طفرًة وحشية ارتدت ربطة عنق وسمّت نفسها “ديمقراطية”. أما حماس، فليست سوى استجابة مناعية مبالغ بها في جسدٍ طُعن مرارًا. لم تكن مثالية، ولم تكن دائمًا حكيمة، لكنها، على الأقل، لم تكن وهماً علاقاتياً مثل “عملية السلام”، ولم تكن إعلانًا دعائيًا مشوّشًا مثل “صفقة القرن”.
أما اللاهوت السياسي، فسيُعيد كتابة نفسه. لن يعود الحديث عن “العهد”، عن “الأرض الموعودة”، عن “الشعب المختار”، قادرًا على الاستمرار كما كان. لأن فكرة الاختيار هذه انكشفت — لا أخلاقيًا فحسب، بل جماليًا أيضًا. العالم بدأ يرى أن من يتذرّع بأنه مُختار، غالبًا ما يبرّر لنفسه ما لا يُغتفر.
السيادة الإلهية في السياسة لم تعد كما أرادها كارل شميت، تلك التي تُفعّل الاستثناء باسم المقدس. بل تحوّلت الآن إلى سؤال مرعب: هل يقف الإله مع أحد؟ وهل يعني الصمت الإلهي حيادًا… أم تمهيدًا؟
في العقل السياسي الغربي، هناك مفهوم مركزي: “احتكار العنف المشروع”. هذا ما تنص عليه الفكرة الماكس-فبريّة للدولة الحديثة. لكن إسرائيل، في عيون الطوفان القادم، لم تعد دولة. بل أصبحت تشويشًا على هذه الفكرة ذاتها. إنها كيان يدّعي احتكار العنف، ثم يفقد شرعيته بسبب إفراطه فيه. إنه يتصرف كما لو كان إلهاً صغيرًا، يوزّع الموت ويخترع الحكايات ويحوّر السرديات، ثم يصطدم بحقيقة مرعبة: أن المجازر، مهما طالت، لا تُنهي الحكايات… بل تلد أخرى.
إن ردود الأفعال ليست مفاهيم نظرية، إنها كيمياء لحظات. لم تنشأ حماس في بيئة سويسرية، بل في فرنٍ من اللهب والخذلان والتطبيع الرسميّ. ومتى كانت ردّات الفعل مفصّلة على مقاسات المثال؟ الشهداء لا يعودون لمساءلتك: “هل كان تكتيككم مناسبًا؟”، لكن المؤرخين سيفعلون، وغالبًا سيخطئون، لأنهم يكتبون بأقلام مغموسة في حبر الفائزين.
حماس كانت التجربة الكاملة الأخيرة للنمط القديم من المقاومة. بعدها، سيظهر نمط آخر: أبطال الطوفان القادم. أشخاص أو كيان أو مشروع لا يهم، لكنه سيكون ابنًا شرعيًا لهذه المأساة. سيكونون قد تعلموا من خطب القادة الذين يصرخون في الهاوية، من البروباغندا التي تبكي على الهواء ثم تذرف اتفاقيات في السر، ومن الشعوب التي تهتف في النهار وتنسى بحلول المساء. لقد رأوا بأم أعينهم كيف تم التنكيل، لا بالجسد فقط، بل بالمعنى، بالرمز، بالاحتمال.
أبطال الطوفان القادم لن يرفعوا شعارات “المقاومة” بنفس اللغة، ولا سيطلبون دعمًا من الشاشات، ولا سيطلبون من الشعوب شيئًا. لقد ولدوا في عالمٍ صامت، فتعلموا كيف يتحركون في العتمة.
لن يحتكموا إلى شعور العالم بالذنب، لأنهم رأوا كيف أن هذا العالم، حتى حين يشعر بالذنب، لا يتصرف إلا كقاتل مرتبك. وحين يسألك أحدهم يومًا: “من هؤلاء؟”، قل له: إنهم امتداد المنطق، حين يعجز المنطق عن احتمال الظلم أكثر. هم البرهان الرياضي حين يُكمل المعادلة بعد أن سقط حامل القلم شهيدًا.
الطوفان القادم ليس ردة فعل… إنه قانون توازن في كيمياء الوجود. هناك طاقة تراكَمت… لا في مخازن الأسلحة، بل في نظرات الأمهات. في عيون الأطفال الذين تعلموا العدّ لا للحروف، بل للضربات الجوية. هذه الطاقة لا تفنى… وإن لم تتحول إلى فعل، فستتحول إلى لعنة.
واللعنات، كما نعلم من كل الميثولوجيات، لا تُلقى في الهواء عبثًا. إنها تُصوّب.
في الطوفان القادم، لن تُرفع الشعارات في أول المعركة، بل بعد آخرها. لن يبدأوا من “الله أكبر” بل قد ينتهوا إليها. هم ليسوا جيل القادة الملهمين ولا المتحدثين باسم الفضائيات. لن يعقدوا المؤتمرات الصحفية على أنقاض بيوتهم، بل سيصنعون من تلك الأنقاض شيئاً يُهدم به غيرها. لن يشرحوا مظلوميتهم، ولن يطلبوا تفهماً من العالم، لأنهم قرؤوا كل ما كُتب ولم يجدوا في المكتبات سوى فصول ناقصة من رواية لا يكتبها المظلومون.
هؤلاء سيعاملون الأرض كما تُعامل الخريطة في غرف الحرب: ليست مساحةً للسكن، بل مسرح عمليات. سيعرفون أن الأمم لا تنهض بالتغني بالماضي، بل بتجاوزه… لا بتقديس الضحايا، بل بتحويل دمائهم إلى دوائر قرار.
سيكون الطوفان القادم بلا “غلاف إعلامي”. بلا لافتات براقة ولا مقاطع مؤثرة. سيكون كأن الطبيعة نفسها ثارت، بلا تعليق صوتي، بلا موسيقى تصويرية، بلا مونتاج.
لأن الموسيقى كانت دائماً تُعزف في جنازاتنا، ولأن الوقت حان لتصبح صاخبةً في موكبٍ آخر.
المثير أن التوازن، الذي كثيراً ما يُحتفى به كقيمة سامية في الخطاب الفلسفي والديني، قد لا يأتي أبداً كحالة وئام متناغم، بل كحالة تصفية قاسية. في الكوميديا السوداء لهذا العالم، قد يكون العدل لحظةً تفقد فيها الرحمة معناها، لا لأنها غائبة، بل لأنها مؤجلة.
هناك قوانين لا تُكتب في الدساتير، بل تُنقش في عظام الأطفال المحترقة، وتُحفر في الذاكرة الجمعية للأمهات اللواتي يعلمن أن صرخة الطفل لا تموت، بل تعيش بأصواتٍ أخرى، في أجسادٍ أخرى، وفي توقيتٍ آخر.
الطوفان القادم لن يأتي ليشفي، بل ليكشف. لن يداوي الجرح، بل سيُسمِع صدى أنينه لمن لم يسمعه سابقاً. وربما يكون أولى علامات اقترابه، ليس تفوقًا عسكريًا ولا حراكًا سياسيًا، بل لحظة وعيٍ عميق: أن أحدًا لم يكن يرانا… وأننا، رغم كل التوثيق، كنا مجرد هامش في دفتر هذا العصر… وأن كل حبر الأخبار لم يكن إلا تسليةً بين إعلان وآخر.
سيعرف الطوفانيون القادمون أن نكبتهم لم تكن فقط في الطرد، ولا إبادتهم فقط في الحرق… بل في أن أحدًا لم يهتم. وهذه المعرفة، وحدها، ستكون وقودًا أكثر اشتعالًا من كل الخطب.
ولهذا سيبدأون دون إعلان. سينقضّون دون شعار. وسيفاجئون العالم لا حين يصرخون، بل حين يصمتون صمتًا جديدًا… صمتًا لا يشبه السكون، بل يشبه الزلزال الذي لا تصدر عنه أصوات، فقط تتداعى معه البنايات.
حين يخرج أبطال الطوفان القادم من تحت الركام، لن يكونوا مجرد ناجين. سيكونون، كما ألمحت إحدى الشخصيات في “لعبة العروش” إلى أن من خُلقوا من النار لا يُكسرون بسهولة. ولن يجيئوا حاملين شعار النصر أو الموت، بل شعارًا أكثر رعبًا: إعادة تشكيل العالم.
كما في حكايات الإنكا، حين كانت الأرواح تعود عبر آلهة الغضب لتعيد التوازن بعد اختلاله. وكما في كتب الزرادشتية، حين تتصارع قوى النور والظلام، لا لأجل الغلبة، بل لأجل أن تكتمل الدورة. غزة الآن ليست في حرب، بل في دورة كونية تستعد للإغلاق، لتُفتح بعدها دائرة جديدة، أكثر وضوحًا، وأكثر وجعًا، وربما… أكثر عدلًا.
وحين يحدث ذلك، سيبدو كل ما سبق وكأنه كان مقدمة طويلة ومؤلمة، كتبها القدر بتأنٍ شديد، فقط لتكون خلفية مناسبة لظهور فصل لم يكن أحد يتوقعه.
هل تتذكرون تيرينس ماكينا؟ ذلك النبي الغرائبي الذي تحدث كثيرًا عن الوعي باعتباره موجات وترددات. كان يرى أن نشاز الحضارة المعاصرة ناتج عن اختلال في هذه الترددات، وأن علينا إعادة ضبطها، لا بإصلاح العالم، بل بتوسيع وعينا. لا أعلم إن كان قد فكر يومًا في غزة. لكن لو فعل، لربما قال إن التكرار الدموي نفسه هو النشاز، وإن هناك لحظة قادمة ستعيد التناغم، ولو بعد حين.
لو سألنا إسحاق عظيموف عن أعظم سؤال طرحه البشر يومًا؟ لعله كان سيجيب: “هل سيبقون على قيد الحياة؟”.
غزة، اليوم، تسأل نفس السؤال. ولكن ليس بصيغة الجمع، بل بصيغة المفرد. لا تسأل عن بقاء البشر، بل عن بقاء الذاكرة. بقاء المكان. بقاء المعنى.
وهذا، ربما، هو السؤال الأصعب.
ولعله، ببساطة، البداية الجديدة
#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)
Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سأم مع سبق الإصرار
-
غزة: مشهد إضافي
-
كاتب يطارد شبحه في أرشيف الإنترنت
-
حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 8
-
حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 7
-
مذكرات تائب -٦
-
مذكرات تائب - 5
-
مذكرات تائب - ٤
-
مذكرات تائب - ٣
-
مذكرات تائب - ٢
-
مذكرات تائب - 1
-
لا أستحق الحياة
-
صابر Sober - جزء ثان
-
رحلة إلى شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة (7)
-
رحلة إلى شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة (6)
-
لا تخالف كي تُعرف (قصيدة)
-
يا قوم قصوا لي لساني (قصيدة كاملة)
-
يا قوم قصوا لي لساني ٤
-
يا قوم قصوا لي لساني ٣
-
يا قوم قصوا لي لساني ٢
المزيد.....
-
ما الأضرار التي تسببها منتجات التنظيف؟ وهل يمكن استبدالها؟
-
الاتحاد الدولي للصليب الأحمر -غاضب- و-مصدوم- إثر استشهاد 14
...
-
الأمن اللبناني يوقف مشتبها بهم في إطلاق صواريخ نحو إسرائيل
-
واشنطن وبكين تتنافسان على بناء روبوتات بخصائص بشرية
-
حماس توافق على مقترح مصري جديد لإطلاق سراح رهائن
-
انتشال جثث 15 مسعفا قتلوا بقصف إسرائيلي في رفح.. والصليب الأ
...
-
إعلام إسرائيلي: تل أبيب تشترط لإنهاء الحرب وتقدم مقترحا جديد
...
-
76 شهيدا في غزة بأول أيام العيد وحماس تدعو للتحرك لوقف العدو
...
-
الاتحاد الدولي للصليب الأحمر -غاضب- إثر مقتل مسعفين في غزة
-
قطع شجرة تاريخية في البيت الأبيض.. وترامب يكشف السبب
المزيد.....
-
حين مشينا للحرب
/ ملهم الملائكة
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
المزيد.....
|