سلمان النقاش
الحوار المتمدن-العدد: 8293 - 2025 / 3 / 26 - 00:16
المحور:
الفساد الإداري والمالي
في المشهد اليومي، حيث تتحول الأرصفة إلى أسواق غير منظمة، وتُختزل إشارات المرور إلى توصيات غير ملزمة، تبدو الفوضى وكأنها القانون الفعلي، هذه الصورة تنسحب على الفساد، حيث تُفتح ملفات كثيرة، وتمر القضايا عبر مسارات تحقيق طويلة، وسط تحديات تتعلق بسرعة الإنجاز وفعالية الإجراءات، وبينما تُبذل جهود قانونية لمتابعة المخالفات، فإن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في الكشف عن القضايا، بل في مدى قدرتها على الوصول إلى مراحل حاسمة من المحاسبة والمساءلة.
لم يعد الفساد في العراق مجرد انطباعات عامة أو أحكام أخلاقية، بل حقيقة مدعومة بالمؤشرات المحلية والدولية التي تؤكد استمراره وتجذّره في بنية المجتمع والدولة، وفقا لمؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لعام 2024، حصل العراق على 26 نقطة من أصل 100، ما يضعه ضمن الدول ذات المستويات العالية من الفساد، هذا التقييم يعتمد على تقارير متعددة صادرة عن مؤسسات دولية تأخذ في الاعتبار طريقة إدارة الموارد، مستوى الشفافية، واستقلالية المؤسسات الرقابية والقضائية، هكذا أصبح الفساد في العراق بعيدا عن مجرد مخالفات قانونية فردية، بل هو نظام متكامل يعمل داخل مؤسسات الدولة، وله حاضنة اجتماعية باتت تتقبله وتروج لقبول آثاره العامة من خلال الانكفاء على المصالح الخاصة، مما يجعله غير قابل للحل عبر قرارات جزئية أو حملات وقتية لمكافحته.
تُعد هيئة النزاهة الاتحادية الجهة الرسمية المسؤولة عن مكافحة الفساد في العراق، وهي تعمل بموجب قانون رقم 30 لسنة 2011 المعدل، تشمل مهامها التحقيق في قضايا الفساد، إحالة المتورطين إلى القضاء، وتعزيز النزاهة من خلال التوعية والتثقيف، بالإضافة إلى التعاون مع المؤسسات المحلية والدولية لتعزيز الشفافية، كما تسعى الهيئة إلى تطوير استراتيجيات وقائية تحدّ من الفساد قبل وقوعه، عبر بناء منظومة رقابية متكاملة تدعم المساءلة الفعالة.
لكن هيئة النزاهة تواجه مجموعة من التحديات التي تؤثر على فاعلية مهامها بين الجانب التحقيقي والجانب الوقائي، من الملاحظ أنَّ التركيز الإعلامي المكثف على الجانب التحقيقي قد أدى إلى تكوين صورة ذهنية غير متوازنة لدى الجمهور حول طبيعة عمل الهيئة، فنتائج التحقيقات، رغم أهميتها، لا تلبّي تطلعات الجمهور حول مكافحة الفساد بالشكل الفاعل، ما يعكس محدودية الدور الفعلي الذي يمكن أن تضطلع به الهيئة في هذا الجانب، إذ تقتصر صلاحيات الهيئة على إحالة الملفات إلى القضاء، حيث تصبح هذه القضايا بعد ذلك تحت اختصاص الجهات القضائية، في المقابل، يظل الجانب الوقائي مجالا أكثر اتساعا وتأثيرا، إذ يمنح الهيئة فرصة استباقية لمنع وقوع الفساد عبر بناء بيئة مؤسسية أكثر نزاهة، وبالتالي تقليل الحاجة إلى التدخل التحقيقي وتقليل تراكم القضايا في المحاكم.
ورغم أن هيئة النزاهة تمتلك منصات إعلامية حديثة وأدوات رقمية متعددة، إلا أن تأثيرها الفعلي لا يزال محدودا بسبب غياب الرؤية التطبيقية الواضحة وانعدام المحاسبة على النتائج، فغالبا ما يقتصر التركيز على ملء الجداول والتقارير دون تقييم حقيقي للأثر الفعلي على الواقع، هذا النقص في التفعيل لا يمنح الهيئة الإمكانيات الكافية لتفعيل دورها كما ينبغي، مما يجعل تأثيرها محدودا في دعم جهود مكافحة الفساد، إذا تم تحسين هذا الجانب، فإن من المحتمل أن يسهم بشكل كبير في توسيع دائرة التأثير المجتمعي لمبادرات الهيئة، وتعزيز التعاون مع الجهات الفاعلة في مجال الشفافية والنزاهة.
عندما تصبح البيانات الإدارية مجرد سجلات تراكمية دون تأثير حقيقي، يصبح التساؤل حول فاعلية القوانين أمرا ضروريا، خصوصا إذا لم تُفعّل هذه القوانين عبر أدوات تضمن تحقيق العدالة، إن الفوضى، حين تُترجم إلى واقع إداري مستمر، قد تؤدي إلى خلق معايير مزدوجة تُطبق بانتقائية، فتتحول النزاهة إلى مسألة نسبية، والمحاسبة إلى إجراء مشروط بالسياقات لا بالمبادئ، إذا كانت القوانين تُستخدم كإطار تنظيمي دون أن تصبح مرجعا فعليا للمساءلة، تصبح الثقة في الإصلاح محل تساؤل، وهنا، يظهر اختبار حقيقي: هل يمكن تحقيق التغيير عندما تكون الأدوات ذاتها خاضعة لاعتبارات مرنة لا لالتزامات صارمة؟
الفساد في العراق ليس مجرد أرقام تُسجَّل في التقارير، بل هو واقع يومي يُدار كما تُدار الفوضى في الشوارع، كما أن بعض السائقين يمرون دون عقاب رغم اختراقهم للإشارات الحمراء، وبحسب تقرير هيئة النزاهة الاتحادية لعام 2024الارقام تحكي عن ملفات تفتح وتغلق، التقرير يُظهر تحسّنا طفيفا في بعض المؤشرات، لكنه يعكس استمرار التحديات التي تواجه جهود مكافحة الفساد، خاصة فيما يتعلق بغياب المحاسبة على المستويات العليا. صدر (3240) أمر قبض، نُفذ منها (1742) ، من بين هذه الأوامر، كان هناك (14) أمرا بحق 10 وزراء، بينما بلغ عدد أوامر القبض الصادرة بحق الدرجات الخاصة والمديرين العامين (82) أمرا ضد 43 مسؤولا. أما أوامر التوقيف فقد بلغت (2276)، لكن لم تشمل سوى (9) أوامر ضد 8 متهمين من ذوي الدرجات الخاصة وعندما نقرأ أن أوامر التوقيف لم تطل وزيرا او من هو بدرجته يبرز الاستفهام بوضوح واستغراب .
إن مشكلة الفساد في العراق تتجاوز كونه مجرد اختراقات قانونية، بل أصبح جزءا بنيويا ، وبالتالي، نحن بحاجة إلى إصلاح شامل يُركز على تطبيق القوانين بصرامة، دون استثناءات أو تمييز، ان إعطاء الجانب الوقائي مزيدا من الاهتمام، و تعزيز دور هيئة النزاهة في التوعية وبناء بيئة مؤسسية قادرة على مواجهة الفساد قبل وقوعه، و تقييم فعالية جهود مكافحة الفساد على أرض الواقع، يضمن نتائج ملموسة تساهم في تحسين حياة المواطنين والحد من الفساد المستشري في مؤسسات الدولة.
#سلمان_النقاش (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟