سكينة سيلاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8292 - 2025 / 3 / 25 - 21:13
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
في عالم يشهد مخاضات وتطورات مثيرة ، يبرز الإعلام أداة رئيسة في توجيه الرأي العام وإعادة تشكيل المشهد السياسي، ولم تعد المعارك تُحسم في ساحات القتال فقط، بل باتت تُدار على الشاشات ومنصات التواصل الاجتماعي بطرق أكثر تأثيرًا وخطورة.
و العراق، الذي خاض حربًا طويلة ضد الإرهاب، يجد نفسه اليوم أمام تحدٍّ جديد يتمثل في محاولة إعادة تأهيل شخصيات إرهابية وتحويلها إلى قادة سياسيين، ففي عملية تضليل إعلامي ممنهج. ومن بين أبرز هذه الحالات، تأتي قضية أبو محمد الجولاني، الذي أصبح فجأة رئيسًا عبر صفقة دولية ، في تحول يثير الكثير من الشكوك حول طبيعة الترتيبات السياسية التي سمحت بحدوث ذلك.
التعاطي الحكومي العراقي مع هذا الملف يثير العديد من التساؤلات، خاصة أن الجولاني لم يكن معارضاً سياسيا أو قائد فصيل مسلح عابر، بل شخصية مصنفة دوليًا كإرهابي، ومدان بارتكاب مئات الجرائم بحق المدنيين والعسكريين على حد سواء. العراق، الذي خاض معركة شرسة ضد الإرهاب، دفع ثمنًا باهظًا لتخليص أراضيه من تنظيمات مثل داعش والنصرة، فكيف له أن يقبل فجأة بوجود شخصية مثل الجولاني في المشهد السياسي؟ كيف يمكن لحكومة تدّعي محاربة الإرهاب أن تتعامل مع شخص كان حتى وقت قريب مسؤولًا عن عمليات قتل وتفجيرات وجرائم حرب موثقة؟
إن الصمت الحكومي أو محاولة التعامل مع هذا الملف بمرونة زائدة قد يفسَّر على أنه قبول ضمني أو تواطؤ سياسي، سواء بسبب الضغوط الإقليمية والدولية، أو نتيجة حسابات غير معلنة تتعلق بالتوازنات الداخلية والخارجية.
أما القضاء العراقي، الذي يفترض أن يكون الحارس الأول للعدالة، فهو يواجه تحديًا أكثر تعقيدًا، إذ إن ملف الجولاني ليس جنحة جنائية أو سياسية، بل قضية إرهاب وجرائم ضد الإنسانية، ما يضع القضاء أمام مسؤولية كبيرة في التعامل مع هذا الملف بعيدًا عن التوجهات السياسية.
الجولاني ليس شخصاً متهماً بجرائم عادية، بل هو مسؤول عن عمليات إرهابية استهدفت الأبرياء، فكيف يمكن للقضاء أن يتعامل مع شخص بهذه الخلفية؟
هل سيتم إغلاق ملفاته الجنائية بحجة "الواقعية السياسية"؟ وإذا كان الأمر كذلك، فماذا عن آلاف الضحايا الذين سقطوا بسبب جرائمه؟ هل ستتم التضحية بحقوقهم من أجل مصالح سياسية عابرة؟ وإذا تم التساهل مع ملف الجولاني، فهل سيكون ذلك سابقة لإعادة تأهيل شخصيات إرهابية أخرى مستقبلاً؟
الإعلام الأمني العراقي، الذي كان يفترض به أن يكون خط الدفاع الأول ضد مثل هذه التحولات الخطيرة، لم يكن على مستوى التحدي، بل بدا وكأنه جزء من عملية تضليل ممنهجة تهدف إلى تهيئة الرأي العام لتقبل هذا التغيير غير المنطقي. فبدلاً من كشف حقيقة ما يجري وتحذير الشعب من محاولات إعادة إنتاج الإرهاب، بدأ الإعلام الأمني بتقديم خطاب ناعم ومبهم، يهدف إلى تطبيع صورة الجولاني وإعادة تقديمه كقائد سياسي يمكن التعامل معه.
هذه الاستراتيجية لاتعكس ضعفاً إعلامياً وحسب ، بل قد تكون جزءًا من خطة أوسع لإعادة تشكيل وعي الجمهور العراقي، بحيث يتم التلاعب بمفاهيمه حول الإرهاب والسياسة، وتقديم شخصيات كانت بالأمس تمثل الخطر الأكبر على العراق وكأنها باتت اليوم جزءًا من المشهد السياسي الطبيعي.
السؤال هنا: لماذا يتم تضليل الشعب العراقي بهذا الشكل؟ ولماذا يبدو الإعلام الأمني وكأنه يساهم في إعادة كتابة التأريخ بشكل يتناقض مع الحقائق؟ هل يخضع لضغوط سياسية تمنعه من قول الحقيقة؟ أم أن هناك تعليمات عليا تحاول فرض هذا الواقع الجديد على العراقيين؟ وكيف يمكن للحكومة أن تقنع شعبها بقبول شخصية مثل الجولاني، وهو الذي كان حتى الأمس القريب عدوًا للعراق وشعبه؟
العراقيون ليسوا جمهورًا ساذجًا يمكن خداعه بسهولة، فهم يعرفون جيدًا من هو الجولاني، ويعلمون حجم الدمار الذي تسببت به الجماعات الإرهابية التي قادها. لذا، فإن محاولة إعادة إنتاجه في صورة جديدة لن تمر بسهولة، ولن يكون من السهل إقناع الشعب بأن هذا التحول المفاجئ أمر طبيعي. وإذا كانت بعض الجهات تعتقد أن بإمكانها فرض هذه الرواية الإعلامية بالقوة، فهي ترتكب خطأ فادحًا، لأن العراقيين فقدوا الآلاف من أبنائهم في الحرب ضد الإرهاب، وهم ليسوا مستعدين لرؤية جلاديهم يتحولون إلى حكام وزعماء بين ليلة وضحاها.
إن القضية لا تتعلق فقط بالجولاني كشخص، بل بما يمثله من سابقة خطيرة قد تفتح الباب أمام شرعنة الإرهاب بطرق جديدة. فإذا تم تمرير هذا السيناريو بنجاح، فما الذي يمنع من أن نرى مستقبلاً زعماء آخرين من خلفيات إرهابية يتم تقديمهم كقادة سياسيين؟ وما الذي يضمن ألا يكون هذا مقدمة لإعادة إنتاج الإرهاب ولكن بغطاء شرعي ورسمي؟ وكيف يمكن للشعب العراقي أن يثق بمؤسساته إذا رأى أنها عاجزة عن حماية تضحياته، بل وربما متواطئة في إعادة إنتاج من قتلوا أبناءه ودمروا مدنه؟
إذا لم تتخذ الحكومة العراقية موقفًا واضحًا، وإذا لم يتحرك القضاء لحسم هذا الملف بناءً على القوانين والعدالة وليس وفق الحسابات السياسية، فإن العراق قد يجد نفسه أمام نسخة جديدة من الإرهاب، ولكن بغطاء دبلوماسي وسياسي، وهو ما سيجعل المواجهة أكثر تعقيدًا وخطورة. فهل سيتحول العراق إلى ساحة لتبييض سجلات الإرهابيين وتحويلهم إلى قادة شرعيين؟ وهل سيقبل العراقيون بأن يصبح جلادوهم حكامهم؟ وإذا كان الإعلام الأمني قد أصبح جزءًا من المشكلة بدلاً من أن يكون جزءًا من الحل، فمن الذي سيواجه هذه الحملة المنظمة لتزييف الوعي؟ وهل يمكن للشعب العراقي أن يسكت عن هذه المسرحية السياسية التي يراد له أن يكون ضحيتها مرة أخرى؟
#سكينة_سيلاوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟