الطيب عبد السلام
باحث و إعلامي
(Altaib Abdsalam)
الحوار المتمدن-العدد: 8292 - 2025 / 3 / 25 - 14:04
المحور:
قضايا ثقافية
ازمة الشعر العربي المعاصر
قبل كل شيء لا بد من إيضاح مركزية الشعر العربي في الحضارة العربية كونه يلعب الدور الأهم في صياغة الوعي العربي و التعبير عنه بل و التسيد علىه، و هو "ديوان العرب" و مكانهم الرمزي و الجغرافي و هو بالنسبة للعربي بمثابة مبنى الكولزيوم لليوناني و كالأهرامات و المسلات بالنسبة للمصري هو الأثر المادي الملموس الذي يوثق العقل العربي
و منجزاته التاريخية عسكرية ام جمالية ام خيالية و هو "لسان حالهم"، و بالرغم من تراجع تأثير الشعر لصالح نصوص أخرى تحظى بالقداسة و العصمة الا أنه ظل فاعلا في توكيد نقاشاتهم و خطاباتهم و "جلسات أنسهم و احتفالاتهم".
تعاني القصيدة العربية الراهنة من اشكاليتين مزدوجتين و هي إما انها مغرقة في الانماط القديمة و الكلاسيكية او انها إذا تمردت على هذا النص فإنها اتت بشعر مبهم الكلام مبهم المعنى كقصائد سليم بركات و من سار خلفه.
هذا المأزق سببه الأساسي هو خطأ النظرة الأساسية للمسألة الشعرية أولا و ثانيا ضيق أفق الشاعر الناتج من عزوفه عن القراءة و التأمل و التفكير النقدي البحثي فتولدت في داخله روح تقديسيه للمعاني الشعرية و مقاصد الشعر فتحول المفهوم الشعري عنده لمعطى جاهز "لا يقبل التحليل و التفكيك" فعلى سبيل المثال القصيدة الموجهة للحبيبة في نظره او الوطن او ذاته نفسها او تاريخه او هويته تحولت "أغراض الشعر" إلى معاني "نهائية مغلقة" غير قابلة للتسييل النقدي او البحثي او التاريخي و بالتالي إحياء جوهرها و افتكاكها من جمود الإدراك المدرسي الذي يقدس و لا يفكر و يأخذ هذه "الأغراض الشعرية" كمسلمات جاهزة ما عليه إلا "ان ينمق الخرائد في وصفها" فصارت القصيدة العربية الراهنة فاقدة "لجمالية و شاعرية حقيقة المقصد الشعري نفسه" و تحول الشاعر إلى مجرد "فقيه" يردد و يدور في فلك مدرسية لا تضئ جمالا ولا تقدم معنى جديدا.. و هو جمود يطغى على كامل تفكيره.
و لإن العرب في إيمانهم و تمردهم "يتشابهون جدا" فقد ادى النفور من هذه الكلاسيكية الفجة التي "تحكم قبضتها" على رقبة الشعر إلى ظهور تيار "عبثي عدمي" مضاد يهشم اللغة تهشيما و يخترع في مفردات يزعم من كتبوها "انها حديثة و أنها خاصة بالنخبة" و ما عداهم "سلفيون" و يسمون شعرهم العمودي "شعر أبو ضلفتين" هذا الأمر قاد لظهور كتابات لا تكاد تستبين اولها من خاتمتها و لا تكاد تفهم لها قصدا، و هم في "غيهم" وجهوا تمردهم على اللغة و في اللغة وجهوه ضد "الكلمات و المصطلحات" لظنهم أنها "أس التخلف و الرجعية الشعرية" و تمردوا على "بحور الشعر"
و لكنهم لم يتجاوزوا الكلاسيكيين في شيء لتورطهم هم ايضا في خطأ النظرة الأساسية للمسألة الشعرية فصارت كتباتهم تكرار مستمر من الأشعار الموغلة في الذاتيه المتشظية و المتبعثرة "و المُلططة" و الحالات النفسية و الأمور
"غير المفهومة" و الا واقعية، ففقدوا هم ايضا "نبض شاعرية الواقع" و تلاشت "جمالية الشعر" الأصيلة فيما يكتبون.
و كل ما قدموه هو مجرد "تمرد بلا مضمون" لإنهم هم بدورهم لم " يسيلوا الفكرة او المقصد الشعري او يفتكوه من اسر "الوصف و التقديس" بل أنهم سيلوا الكلمات من "اسر القاموس" و "ارغام السياق" و خلقوا منها "زومبي شعرية".
في المقابل تقف قصيدة محمود درويش مثلا كحل اساسي لمعضلة و ازمة الشعر التي وصلها بسبب "فقهاء متمسكون"
و "متمردون يهذون".
و ذلك لإن نص محمود درويش افتك "أغراض الشعر" سواء الحب سواء الهوية سواء المرأة سواء الوطن سواء التاريخ سواء الديموغرافيا سواء الشعب و الوطنية من ليل هذا العماء إلى شمس التحليل و التدقيق و النقد و "الأنسنة" فعلى سبيل المثال يقول عن شخصية المسيح في نصه الرائع القربان :
لا تنتصر..لا تنكسر..كن بين بين معلقا
فإذا انكسرت كسرتنا و إذا انتصرت كسرتنا و هدمت هيكلنا
اذن كن ميتا حيا و حيا ميتا
إذا نحن هنا امام شعر لا يتناول المسيح كمعطى مقدس او كظاهرة تاريخية مغلقة بل هو "تحليل دقيق" لفكرة المقدس نفسه و سقوطه على ميدان البشري و مناجاة له او كما قال :
لست منا إن نزلت و قلت لي جسد يعذبني.
فالمقدس هو حوجة إنسانية ملحة تتجه إلى شئ فتسجنه في "صليب رغبتها" و هو تحليل يمتد لكامل ظاهرة التقديس و إن اختلفت "رواياتها و قصصها".
و إذا تحدثنا عن معالجة درويش للهوية فإنني استعير هنا ما كتبه صديقي خباب النعمان :
اما درويش مثلا فقد قال :
لا أعرف الصحراء لكني نبت على جوانبها كلاما .. قال الكلام كلامه ومضيت ك أمراة مضيت كزوجها المكسور
لم احفظ سوى الايقاع أسمعه وأتبعه وأرفعه يمامافي الطريق إلى السماء,سماء أغنيتي.
أنا ابن الساحل السوري،
أسكنه رحيلاً أو مقاما
بين أهل البحر،
لكن السراب يشدني شرفاً
إلى البدو القدامى،
أورد الخيل الجميلة ماءها،
وأجس نبض الأبجدية في الصدى،
وأعود نافذة على جهتين...
أنسى من أكون لكي أكون
جماعة في واحدٍ، ومعاصراً
لمدائح البحارة الغرباء تحت نوافذي،
ورسالة المتحاربين إلى ذويهم:
لن نعود كما ذهبنا لن نعود ... ولو لماما! ..
واضح ان معالجة درويش ابعد غورا واكثر تركيبا .. «لا أعرف الصحراء لكني نبت على جوانبها كلاما» ذات الفكرة التي أشار اليها لاكان .. من اننا ننشأ في حضن اللغة ونرتضع الأحرف مع الحليب الدافئ .. وان اللغة تتكلمنا عوض ان
نتكلمها
نحن هنا امام بحث و تحليل عميق للتاريخ. يجعلنا شهودا على الهوية و هي تتخلق في ارحام الجماعات الإثنية المختلفة و تواريخها و مناطقها و ترحلاتها، هذه الترحلات التي ليست ترحلات مكانية فحسب بل ثقافية و رؤيويه و تغييرات و تفاعلات حية و راهنة في اي هوية او كيان ثقافي. تظهر في ملامح وجهه و تتبين جليا في وعيه بذاته و صياغته له
هذه التغيرات و التجددات و التعددات و الترحلات التي تصوغ هوية الجماعة و تنعكس على روح الفرد و تجعله هو الأخر "متغيرا متجددا متعددا" كما قال هو نفسه في نص طباق الى ادوارد سعيد " انا المتعدد في داخلي المتجدد".
و عن المرأة مثلا فدرويش كان واعيا بمسألة عقلية المرأة و تقلباتها و مشاكلها فلم يعاملها بتبجيل الشعر الكلاسيكي
و "بكاؤهم و عويلهم" لو اعرضت المحبوبة او تمنعت و خير مثال لذلك قصيدته "لم تأت" و في خاتمتها التي يقول فيها
فهي لا تستحق قصيدة حتى و لو مسروقة.
بل و إستحالة الانسجام الكامل و الاتفاق بين "عقلية" المرأة و عقلية الرجل كما يقول في نص طباق الى ادوارد سعيد حين يقول :
هل كتبتَ الروايةَ؟
حاولتُ... حاولت أن أستعيد بها
صورتي في مرايا النساء البعيدات،
لكنهن توغَّلْنَ في ليلهنَّ الحصين
وقلن : لنا عالم مستقلٌّ عن النصّ
لن يكتب الرجلُ المرأةَ اللغزَ والحُلْمَ
لن تكتب المرأةَ الرجل الرمز والنجمَ
لا حُبَّ يشبه حباً
ولا ليل يشبه ليلاً
دعونا نُعدِّدْ صفات الرجال ونضحكْ عليهم!
المرأة في نظر درويش تأخذ صورة "الطفلة قليلة الوعي" فظل يدللها بقصائد ك "الجميلات" او "انتظرها" لكنه لم يأخذها على محمل الجد ابدا و لم ينذر على اطلالها "اشعاره" و درويش له تجاربه مع النساء التي تمخضت عنها زيجتين
و طلاقين مما جعله "واعيا" بأن المفهوم الكلاسيكي لها قد ضيع اطنانا من الشعر "في الفارغة" و في ذات الوقت سجنها في نظرة نمطية تقديسيه تجعلها فوق النقد او المحاسبة.
و عن الحب نفسه فدرويش يحيل معنى الحب لا الى الغرام و الهيام و السهر بل الى معاني أكثر "عمقا و حكمة" نابعة من ادراكه لقدره الحتمي في الوحدة لإن الحب في نظر درويش "تجربة قابلة للفشل" كما يقول في نصه الايروسي البارع "ياسمين على ليل تموز" حين يقول :
هكذا يترك العاشقان وداعهما فوضوياً, كرائحة الياسمين على ليل تموز...
في كل تموز يحملني الياسمين إلى
شارع, لا يؤدي إلى هدف،
بيد أني أتابع أغنيتي:
يا سمين على ليل تموز ......
الحب في نظر درويش "حنين و ذكرى" "ينسجها الخيال هذا الخيال الانتقائي الذي يتعامى عن مجريات الوقائع الفعلية و يتعقلها و يحلل أسبابها و منطقية نهاية الحب كما قال عنه في نصه " الحنين" :
الحنين انتقائي كبستاني ماهر
وهو تكرار للذكرى وقد صُفيت من الشوائب
وللحنين أعراض جانبية منها
إدمان الخيال النظر الى الوراء
واحدا أيضا من "فتوحات النص الدرويشي" حديثه عن "القضية الوطنية الفلسطينة " حينما يقول :
نحن في الفصل الإضافي طبيعيون..عاديون
لا نحتكر الله ولا دور الضحية
و هنا مرة أخرى يخرج درويش من أسر ثنائية قابيل و هابيل ليرينا ان في الخير ثمة شر و في الشر ثمة خير و انه على الرغم من عدالة قضيته فهي قضية إنسانية و تاريخية تكررت حتى مع اليهود نفسهم كما يقول في قصيدته طباق الى ادوارد سعيد :
هل أستطيع الكلام عن
السلم والحرب بين الضحايا وبين ضحايا
الضحايا، بلا جملة اعتراضيّةٍ؟
بهذا المنطق الواقعي يتجاوز درويش كل خطابات القومية النرجسية و الحادة و خطابات الاسلاموية الجهادية التي تريد استعادة نموذج صلاح الدين و جهاد الميركافا و ال F35 على ظهور الخيول و "صليل السيوف"!
و حتى في حديثه عن عن الوطن و الوطنية نجده ينفك "من هذه الروح النرجسية المتعصبة و التي تجعل من الوطن "رمزا مطلقا و مغلقا" حين يقول :
وطنيون كما الزيتون لكنا مللنا صورة النرجس في ماء المياه الوطنية
درويش ضربته كمثل حي للفكاك من مأزق النظرية الشعرية الكلاسيكية او البوهيمية كما قال لي الصحفي حسين خوجلي ذات لقاء يتيم معه "شعر تناكحت الثعابين" عانيا قصائد ما يسمي نفسه بالتيار الجديد او "الحداثي" و هو لا جديد لإن غلاة المتصوفه و مشاهيرهم سبقوهم لهذه التهويمات غير المفهومة ولا حداثي لإنه لم يفهم من الحداثة سوى الرفض و الهدم لا البناء و التشييد و النقد.
يطرح درويش نفسه بوصفه قد افتك الوعي الشعري من اسر المقاصد "المعطاة و الجاهزة" ليجعل الشعر حوارا و حديثا جماليا مع تلك الدينميات و التفاعلات الحية في كنه المقصد الشعري، فتتحول القصيدة لحظتها من "أنس و كلام حلو" الى خطاب ثقافي جاد و قوي و معبر و ذو سلطة.. و ديوانا "للحداثة العربية".
#الطيب_عبد_السلام (هاشتاغ)
Altaib_Abdsalam#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟