عزالدين محمد ابوبكر
الحوار المتمدن-العدد: 8291 - 2025 / 3 / 24 - 19:59
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
فلسفة الشوارع المصريّة ؛ هي بكل بساطة طريقة تفكير شعبيّة ، ليس لها مرجعيّة نصيّة ، لكنها حاضرة وموجودة بقوة في الحياة اليوميّة ؛ وهي حكمة تمتاز بـ العفويّة ، والسخريّة ، والعمليّة ، لأنها نابعة من التجربة الحياتيّة للبسطاء ، من الناس ؛ وهذه الفلسفة ليست مجرد نظريات أكاديميّة ، ولا يمكن حصرها في إطار تلك النظريّات ؛ لأنها طريقة تعامل ذكية مع المواقف الوجوديّة ، حيث تتدخل الفهلوة ، والسخريّة ، والقدرة على الحياة وسط عبثيّة الحياة ، وهذه الفلسفة هي فلسفة مكانها ، هو الإنسان (لأنها منهُ وإليه) ؛ ويمارسها الناس في الأسواق ، والمواصلات ، والمقاهي ، سواء بوعي أو بدون وعي ؛ وتعبر عنها العبارات المكتوبة على الميكروباصات ، والتكاتك ، وكذلك التعليقات العفويّة التي تُقال في اللحظاتِ الجديّة والهزليّة.
وفلسفة الشوارع المصرية ، هي فلسفة إنسانية مرجعيتها شفويّة ، وليست نصيّة ؛ وهي نوع من الأدب الـ"شفويّ" ، والأدب كما يعرفه الناس ، هو كل ما يصل إلى الإنسان بهيئة رسائل (من إنسان إلى آخر) ، أي أنه شيء ما؟ مكتوب ، أو مطبوع ينتقل من العين إلى الأعصاب ليفسره الدماغ ، إلاّ أن الأدب في هذه الأيام ، قد تغير مع تغير الزمن والأذواق ، حيث إنه يصل إلى الإنسان الفرد الموجود بأوجه متباينة ، من خلال قنوات متنوعة وأعضاء حسيّة مختلفة ؛ حيث يتذوق المرء الفن في عصرنا هذا صوتيًا ، أو بصريًا ، أو نصيًا ، لأن النص إن كان له مقصد أو رسالة فهو فن ؛ ومن هذه النقطة يتبين أن الفلسفة فن للحياة.
وبما أن الفلسفة فن للحياة ، إذن لقراءة الفلسفة متعة ؛ بحكم أنها نتاج فكر وعمل ، وأدب ؛ والقول بـ أن نصًا ما؟ هو نص أدبي ، يعني أنه يقدم لقارئه المتعة ، سواء كان ذلك عن طريق الصياغة أو المعنى أو الدلالة ؛ حيث يمكن تعريف مصادر المتعة ، في الخطاب الأدبي بوصفها مواد القدرة الاتصالية ، وتقدم الكلمات الأدبيّة سواء كانت مكتوبة أو محكيّة ، متعة للقارئ موفرة له فرصة استخدام كامل نطاق قدرته ، في القيام بـ العمليّة التذوقيّة التأويليّة للكلمات والعبارات الأدبيّة ، و وظيفة العلوم الإنسانيّة هي دراسة وتفسير هذه الكلمات والعبارات ؛ حيث يمكن تعريف العلوم الإنسانية بأنها تلك الفروع المكرّسة في الأساس لدراسة النصوص والتراث المحكي ، وكما تركز العلوم الطبيعيّة على ظواهر الطبيعة ، تركز العلوم الاجتماعيّة على سلوك الكائنات الواعيّة ، وترتبط الإنسانيّات باهتمامها المشترك ، بالموضوعات الاتصاليّة أو النصوص ، وفي العلوم الإنسانيّة نجد أن الكائنات البشريّة حيوانات منتجة للنصوص ، وتلك الفروع المسماة «إنسانيّة» تلتزم أساساً بتحليل ، وتأويل ، وتقييم ، وعندما توجد نصوص ، توجد فرص للدراسة البشريّة ، ومن ما سبق يتبين لنا أن كلمات ومقولات ، فلسفة الشوارع المصريّة ؛ يمكن دراستها سيميائياً ، وأنثروبولوجيًا ، وفلسفياً ، وسوسيولوجياً ... لأن بها معارف إنسانيّة.
ومثلما يجب على كل فيلسوف أن يثير قضايا الفكر والوجود لحسابه الخاص ، وكأن الفلسفة تظهر للوجود أول مرة على يدّيه ؛ يجب على فيلسوف الشارع المصريّ أن يقوم بـ ذلك ، عن طريق إعادة استخدام وتداول مقولات سابقيه من الأفراد ، ولا حيّاة للفلسفة إن لم يحاول الإنسان أن يفلسف حياته ، ويحيا فلسفته في وجوده الأصيل ؛ ولا قيام للتفكير الفلسفيّ الحقيقيّ إن لم نجعل نقطة انطلاقنا هي الإنسان نفسه ، بوصفه ذلك الموجود الذي لا يكاد يكف عن وضع نفسه موضع التساؤل ، والإنسان لا يستطيع أن يستغني عن الفلسفة ، هذا ما قالة الفيلسوف كارل ياسبرز ؛ بسبب أنه يجدها (أي: الفلسفة) في كل مكان وزمان ، وبسبب أنها تتخذ لنفسها شكلًا عامّا ، في الأمثال التقليديّة ، وفي صيغ الحِكم الشائعة ، وفي النظريّات العلميّة والسياسيّة ، وبصورة خاصة في الأساطير منذ فجر التاريخ (لأن الأسطورة نتاج من نتائج تفكير الإنسان) ، ويختم ياسبرز قوله هذا بـ جملة "لا مـفـرَّ لـلإنـسـان مـن الـفـلـسـفـة" ، لأن عمليّة التفكير المنظمة أو الرؤية الخاصة للوجود ، هي فلسفة وكل فلسفة تضع الإنسان محوراً لها ؛ هي فلسفة إنسانيّة.
ومن أهم أفكار فلسفة الشوارع المصريّة:
• العبثيّة والقدر : حيث يرى فيلسوف الشارع المصريّ أن الحياة ليست عادلة ، لكنها مستمرة (ماشية) ، وهذا لكي لا يغرق في بحر الحزن والعدميّة ، ويستخدم فيلسوفنا هذا السخريّة والتهكم ، كـ وسيلة أو أداة للتكيف ، وسبق وقلت أن فلسفة الشوارع المصريّة ، هي فلسفة بدون كتب أي ليس لها مرجع أو كتاب ؛ لأن مرجعها هو الإنسان ، وكتابها هو حياة ذلك الإنسان ، ولهذه الفلسفة عبارات/مقولات يقولها الفيلسوف ، من أجل أن يتكيف مع الواقع والوجود ، ومن أمثلة هذه العبارات الأقوال التاليّة : «الدنيا مدرسة ... بس المصاريف غاليه!» ، «اتوكلنا على المولى ، ورمينا الحموله» ، «طول ما احنا بنكبرها ... ربنا بيخلينا ما نعبرها».
• الفهلوة والنجاة : وهنا نجد شعاراً عاماً يؤمن به كل الأفراد ألا وهو " امشي جنب الحيط ، يحتار عدوّك فيك ، وعمره ما يفكر يئزيك" ؛ حيث يشير هذا الشعار او المثل إلى أن الفرد الذي لا يثير انتباه أعدائه في حياته ، يصبح موجوداً بدون ضرر يصيبه ، لكن في هذا المثل إشكال ؛ وهو أن الفرد الذي لا يثير انتباه أعدائه لن يصل إلى هدفه ، ولن يعرف شكل وجوده الأصيل ، بسبب خوفه من من تيقظ عدوه له ، ونعرف من هنا أن الفهلوة ، ليست فقط ذكاء ، بل "وسيلة للبقاء في عالم عبثي" ، والفهلوة هي مزيج بين الحذر والمغامره ، بين القانون ، والالتفاف عليه ، ومن التعبيرات التي تشير إلى الفهلوة والنجاة : «اللي تغلب بيه ، العب بيه» ، «الرزق يحب الخفيه ... وساعات الدلع والحنية» ، «متبصليش يا عبيط ، جايبها بالتقسيط».
• السخريّة من السلطة والتقاليد : حيث يكون الفرد ، مثل الفيلسوف سقراط يسخر من المتحذلقين الذين يدّعون المعرفة ، ليس بسبب معرفته الكبيرة ، لأن أغلب العاملين بفلسفة الشوارع لا يجيدون القراءة ، ولم يأخذوا القدر الكافي من التعليم ، بل بسبب تخلف المتحذلقين عن الواقع وجهلهم بالوجود ، وفرص الإنسان ، ومن مقولات السخريّة : «العقل زينة ... بس إحنا شكلنا بنحطه في الدرج!» ، «اللي يعرف مصلحته ، مش شرط يكون فاهم!» ، وهكذا يظهر لنا طيف سقراط في فلسفة الشوارع المصريّة ، لأنها عمليّة ومرنّه ، وليست بحثاً عن "الحقيقة المطلقة" ، بل هي فن النجاة ، والحياة ، وسط العبث ؛ باستخدام الذكاء ، والسخريّة ، والفهلوة ، وفلسفة الشوارع المصريّة ، هي فلسفة شعبيه تحيا بين المقاومة والانكسار ، وشعارها منهاضة العبثية "إحنا عارفين إن الدنيا خرابه ... بس هنعيشها بطريقتنا!" ، إنها فلسفة الشارع ؛ فلسفة ليس لها كتاب ، وليس لها أكاديميّة ؛ لأنها فلسفة إنسانية ، لكن لديها فلاسفة مَن هم؟ إنهم البروليتاريين المصريين!
يتبع...
مصادر تم استخدامها في بناء المقال :
- صـ ٢٠ ، ١٣٠ ، ١٣١ ، السيمياء والتأويل ، تأليف روبرت شولز ، ترجمة سعيد الغانمي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، الطبعة الأولى–١٩٩٤ ، بيروت.
- صـ ٥١٥٢ ، فلسفة الحياة : دراسة الفكر والوجود ، تأليف أنس عبده شكشك ، دار الشروق للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى–٢٠٠٩ ، الأردن.
- صـ ١٥١٦ ، مدخل إلى الفلسفة ، تأليف كارل يسپرز ، ترجمة جورج صدقني ، الناشر مكتبة أطلس ، طبعة أولى–.... ، دمشق.
- بعض الكتابات المدونة على زجاج ميكروباصات المانشية والهانوڤيل ، وكلمات من رجال الشارع.
#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟