ابراهيم طلبه سلكها
الحوار المتمدن-العدد: 8291 - 2025 / 3 / 24 - 16:13
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن الجدل حول الحوار بين "الأنا والآخر" هو جدل قديم جداً، يعود جذوره إلى بداية الخلق مع وجود آدم وحواء. ومع تطور الوعي لدى الإنسان، أدرك أنه مُقدّر له أن يواجه الشقاء على هذه الأرض. في واقعنا المعاصر، يتجلى مفهوم الآخر بأشكال متعددة، حيث يفسره كل فرد وفقاً لموقعه ومنطلق تفكيره. هذا الأمر أدى إلى نشوء صراع بين الأنا و"الآخر"، إذ إن فهم حقيقة الذات من خلال "الأنا" يتطلب الوعي بـ"الآخر". وإذا غاب هذا الآخر أو انعدم، يصبح من الصعب الحديث عن إدراك حقيقي للذات أو الأنا بشكل عام.
نناقش فى هذا الفصل مفهوم الحوار ومقوماته .. والحوار يشكل لبنة أساسية في التفلسف ، كما أشار هيدجر، فالتفلسف هو الدخول في محادثة مع الفلاسفة، مما يعني أن الحوار ليس مجرد وسيلة للتواصل، بل هو جوهر العملية الفلسفية نفسها.(1)
بل ان الحوار هو جوهر التفلسف، حيث يخلق مساحات لتبادل الأفكار، ويمنحنا فرصة لفهم أنفسنا والعالم بشكل أعمق. من خلال الحوار، يمكن للفلسفة أن تزدهر وتستمر كعملية حية ومستمرة تسهم في تشكيل الفكر الإنساني.
أولا: تعريف الحوار
الحوار لغة هــو عمليــة تبــادل لوجهــات النظــر قائمــة علــى االانفتاح والاحترام بيــن أشــخاص ومجموعــات مــن أصــول وتراثــات إثنيــة، ثقافيــة، دينيــة، ولغويــة مختلفــة فــي إطــار مــن التفهــم والاحترام المتبادلــن.(2)
أما من الناحية الاصطلاحية فالحوار في معناه العام هو نوع من الحديث بين شخصين أو فريقين، يتمّ فيه تبادل الكلام بينهما بطريقة متكافئة فلا يستأثر به أحدهما دون الآخر، ويغلب عليه الهدوء والبعد عن الخصومة والتعصّب. (3)
بوجه عام : توجد عدة معانٍ لمصطلح "الحوار"، ومن أبرزها
التعريف الأول: الحوار هو محادثة حية بين شخصين أو أكثر، حيث يتم التعرف على الحوار من خلال التواصل الشفهي بين اثنين أو أكثر من المحاورين .
التعريف الثانى: يشير المعنى الثاني لمصطلح "الحوار" إلى الحوار كنوع أدبي أو أداة أدبية. تعد المحاورات الأفلاطونية من أشهر أشكال استخدام الشكل الحواري كنوع أدبي. كتب أفلاطون محاوراته كجزء من تقليد تاريخي للتواصل الشفهي في عصره، حيث كان يهدف إلى التفاعل مع أفكار الآخرين في سياق مناقشات فلسفية حية. وتمثل المحاورات الأفلاطونية الانتقال من التواصل الشفهي إلى التواصل الكتابي، حيث كانت المناظرات الفلسفية تُنقل عبر الحوارات المكتوبة.لم يكن أفلاطون هو الوحيد في استخدام الحوار كأداة أدبية. العديد من المفكرين والفلاسفة استخدموا هذا الشكل الكتابي لإيصال أفكارهم بطرق أدبية مبتكرة، مثل أرسطو، وكبار المفكرين في العصور اللاحقة.
التعريف الثالث: الحوار هو أساس استخدام اللغة: يُنظر إلى الحوار هنا باعتباره الشرط الشامل لاستخدام اللغة بشكل عام، سواء كانت شفهية أو كتابية. ومن هذا المنظور، تُعتبر اللغة، في جوهرها، تواصلًا ذاتيًا ومشتركًا بين الأفراد، وليست مجرد نظام رمزي رسمي أو أداة للتعبير عن الأفكار بشكل آلي.
يتضمن هذا التعريف العناصر التالية:
1- اللغة عملية حوارية: بدلاً من النظر إلى اللغة على أنها مجرد نظام رمزي للتواصل، يُفهم أنها حوار دائم بين المتحدث والمستمع، حيث تتداخل الكلمات والمعاني وتتفاعل باستمرار. هذا النوع من التفاعل يُعطي للغة طابعًا ديناميكيًا يعكس مشاركة نشطة بين الأفراد، وليس مجرد نقل سلبي للمعلومات.
2- اللغة ليست مجرد وسيلة تعبير: من هذا المنظور، يمكن اعتبار اللغة أداة تشاركية، حيث لا يقوم الفرد فقط بنقل المعلومات أو التعبير عن أفكاره، بل يتفاعل مع الآخر، سواء كان ذلك في محادثة شفهية أو كتابة. بمعنى آخر، اللغة تتطور من خلال التفاعل المستمر والمشترك بين الأشخاص، ويعزز هذا التفاعل قدرة الأفراد على فهم الآخر والتفاعل معه في سياقات متنوعة.
3- اللغة وسيلة حية للفهم المشترك: على الرغم من أن اللغة قد تحتوي على قواعد وأشكال ثابتة، إلا أنها في جوهرها تعتمد على الاشتراك والتفاعل. كلما تفاعل الأفراد مع بعضهم، أصبحت اللغة أكثر حيوية ومرونة. هذا يفسر لماذا الحوار لا يقتصر على تبادل الكلمات فقط، بل يمتد ليشمل تفسير المعاني وإعادة تشكيل الأفكار من خلال الفهم المتبادل بين الأطراف.
التعريف الرابع: الحوار شرط أساسى للكائن البشري والوعي الذاتي: هذا التعريف يتجاوز الظواهر اللغوية أو الأدبية ليعرض الحوار باعتباره شرطًا أساسيًا للوجود البشري ذاته. من خلال هذا المنظور، يُعتبر الحوار ليس مجرد تفاعل لغوي أو اجتماعي، بل شرطًا وجوديًا لبنية الإنسان وهويته." أنا أعى نفسى وأصبح نفسى فقط عندما أكشف عن نفسى لآخر ، من خلال آخر ، وبمساعدة شخص آخر". فتحديد أهم الأفعال التى تشكل الوعى الذاتى يتم من خلال العلاقة تجاه وعى آخر ( تجاه أنت .. الانا والأنت).. ان كينونة الانسان ذاتها( سواء الخارجية أم الداخلية)هى أعمق شراكة. أن تكون وسيلة للتواصل ، هو أن تكون لآخر ، ومن خلال الآخر.
يتضمن هذا التعريف العناصر التالية:
1-الوعي الذاتي من خلال الآخر: في هذا السياق، الوعي الذاتي لا يتشكل في عزلة، بل يُكتسب من خلال العلاقة بالآخر. الإنسان لايعرف نفسه إلا عندما يتفاعل مع الآخر. هذه العلاقة الحوارية مع الآخر هي ما يُمكّن الفرد من إدراك ذاته بشكل حقيقي. يُمكن فهم هذا على أنه نموذج فلسفي يظهر في العديد من الفلسفات الحديثة مثل الفلسفة الوجودية،حيث يركز الفلاسفة مثل هيجل وسارتر على أن الآخر ليس مجرد شخص خارجي، بل جزء من تطورالوعي الذاتي للفرد..
2-الكينونة الإنسانية كعملية تواصل: الوجود البشري لا يُفهم بمعزل عن التفاعل مع الآخرين. الإنسان يتشكل من خلال علاقاته، سواء كانت شخصية أو مجتمعية. هذه العلاقات هي التي تُمكّن الفرد من الإدراك الحقيقي لوجوده. يتضح أن الإنسان لا يكون إلا من خلال الآخر، أي أن وجوده يعتمد على هذه العلاقة التواصلية التي تُحاكي الحوار المستمر.
3-الآخر كشرط للوجود: يوضح هذا التعريف أن الآخر ليس مجرد مرآة يُنعكس فيها الفرد، بل هو شرط ضروري لوجود الإنسان ذاته. فالفرد لا يكتمل ويصبح نفسه إلا من خلال التفاعل مع الآخر، سواء كان هذا الآخر إنسانًا آخر أومجتمعًا أو حتى ثقافة. هذا يعكس فكرة التعايش المشترك في العالم، حيث يُعتبر الفرد موجودًا فقط عندما يتواصل مع الآخرين.(4)
وهكذا يمكن القول :
1-انالحوار، في معناه الأعمق، يتجاوز كونه مجرد تبادل للكلمات أو الأفكار؛ فهو عملية جوهرية للتواصل مع الآخر، قائمة على التفاعل الإنساني العميق والمشاركة الحقيقية. التواصل لا يهدف إلى التفوق أو الهيمنة، بل إلى الفهم المتبادل.
1- لذلك فالحوار يتطلب الاهتمام العميق بالآخر، حيث يصبح الآخر شريكًا حقيقيًا في الكشف عن المعنى.
2- الحوار ليس فقط عن الآخر؛ فهو أيضًا رحلة إلى الذات. العودة إلى الذات تتحقق فقط من خلال التفاعل مع الآخر، حيث يُمكننا رؤية أنفسنا في ضوء جديد. الذات تجد اكتمالها في الآخر الشخصي، ليس كامتداد أو مرآة، ولكن ككيان مستقل يشكل وجودنا في علاقة ديناميكية معه.
3- الحوار هو تجربة غير قابلة للانتهاء، لأنه يعكس التفاعل المستمر والمتجدد بين الذات والآخر.(5)
ثانيا: أنواع الحوار
1-حوار الصدام والنزاع الشخصي: يقوم على المواجهة المستندة إلى العنف والتهجّم والصدام، وهو لا يقوم على تقويض الحجج وإبطال الأدلة بل على إثارة الانفعالات والأحاسيس.
2- الحوار التناظري أو المناظرة: ينبني على التعاون القائم على النقاش الهادئ واحترام المتناظرين للقواعد المحددة، فالغرض منه هو دفع الاعتراضات التي يوردها أحد الطرفين على دعوى الطرف الآخر باعتماد أدلة معقولة ومقبولة ومقنعة.
3- الحوار الاقناعي والحوار الاعتراضي: من أهم أنماط الحوار الحجاجي التدليلي، ينبني على اختلاف في الرأي بين متحاورين لكل منهما دعوى يبتغي التدليل عليها تهدف إقناع الآخرين بها ، ويتخذ الإقناع نوعين من الدليل: الداخلي والخارجي .
4-حوار البحث والتقصي: حوار يقوم على التساؤل عن مقدمات قضايا صحيحة وثابتة ومتحققة تستخدم للاقناع تبعا لأدوار البحث والاستعلام، ويعتمد هذا النوع من الحوار للزيادة في اكتساب المعرفة.
5-الحوار التفاوضي: يهدف أساسا إلى تحقيق منفعة أو مصلحة شخصية وفقا لطريقة متفق عليها،ويسمّى أيضا حوار الفائدة القائمة على تصادم المنفعة.
6-الحوار الاستخباري أو الاستعلامي: غايته الحصول على بعض الأخبار والمعلومات، فالغرض منه إعلامي وتبليغي واستكشافي.
7-الحوار التربوي: يخص مجال التربية والتعليم، ويهدف إلى ضبط وتنظيم العلاقات داخل المؤسسات التعليمية والتربوية(6).
8- الحوار الدينى: في ظل التوترات بين الحضارات وتحديات العولمة، أصبح موضوع الحوار بين الأديان ذا أهمية كبيرة لتحقيق التعايش السلمي بين الثقافات والتقاليد المختلفة. من هذا المنطلق، يمكن استعراض القضايا المرتبطة بالحوار الديني والتساؤل حول طبيعة الأديان ودورها في العالم:
1-هل يمكن أن تظل الأديان جزراً معزولة؟
في عالم مترابط حيث تتلاقى الثقافات والمعتقدات بشكل غير مسبوق، من الصعب أن تظل الأديان معزولة أو بعيدة عن التأثير المتبادل. العزلة تعيق الفهم المتبادل وتعمق سوء الفهم، بينما الحوار يفتح المجال لتجاوز الاختلافات وإيجاد نقاط الالتقاء.
2-ادعاءات الأديان كمصدر وحيد للحقيقة اللاهوتية:
إذا كانت الأديان تدّعي احتكار الحقيقة اللاهوتية، فإن ذلك قد يؤدي إلى صدام بين المعتقدات المختلفة. ومع ذلك، يمكن النظر إلى هذه الادعاءات من منظور ديناميكي، باعتبارها جزءًا من التفاعل الإنساني مع الأسئلة الكبرى حول الله والعالم. وقد تكون هذه الادعاءات مدفوعة بالرغبة في التأكيد على هوية معينة، لكنها تحتاج إلى إعادة التفكير في ضوء التعددية الدينية.
3-الحقيقة اللاهوتية كتفاعل بين وجهات النظر المختلفة:
من منظور أكثر انفتاحًا، يمكن اعتبار الحقيقة اللاهوتية ليست حكراً على دين بعينه، بل هي نتيجة للبحث المشترك والجهد المستمر لفهم ما وراء المظاهر الدنيوية. التفاعل بين الأديان يثري فهمنا لله والعالم، ويساعد في الإجابة عن الأسئلة الوجودية التي تشغل الإنسان.
4-دور الحوار بين الأديان:
الحوار ليس وسيلة للتفاهم فقط ، بل أداة لتحقيق السلام وتعزيز الإنسانية المشتركة. الحوار يتيح للأديان فرصة لتبادل الرؤى، واكتشاف القيم المشتركة، وبناء جسور التواصل. في هذا السياق، يمكن للحوار أن:
0يقلل من التوترات الناتجة عن سوء الفهم.
0 يفتح المجال للتعاون في مواجهة تحديات مشتركة مثل الفقر، البيئة، والعدالة الاجتماعية.
0 يساعد في إعادة تفسير النصوص الدينية لتتوافق مع العصر الحالي.
الخلاصة :الحوار بين الأديان ضرورة ملحة في عصر العولمة والتعددية. بدلاً من أن تكون الأديان جزراً معزولة أو متنافسة، يمكنها أن تتبنى مقاربة تعاونية تسعى نحو فهم مشترك للحقيقة اللاهوتية والعمل على تعزيز القيم الإنسانية المشتركة.(7) بالفعل، نحن بحاجة إلى الانخراط في الحوار بين الأديان بروح الاحترام المتبادل.(8)
ثالثا: الفرق بين الحوار والمحادثة
هل الحوار يشمل كل أشكال المحادثة؟ أم أنه يشير إلى نوع معين من التواصل العميق بين الأطراف، حيث يتم تناول موضوعات ذات أهمية وفهم مشترك؟.
حدد نيكولين (Nikulin, 2010) أربعة مكونات أساسية تجعل المحادثة ترتقي إلى مستوى الحوار:
1- وجود شخصية أخرى: الحوار يعتمد على وجود شريك آخر في التفاعل، أي أن الحوار لا يمكن أن يحدث في عزلة.
2- الصوت (Voice): يشير إلى التعبير عن هوية وأفكار كل طرف، بحيث يكون لكل مشارك صوت فريد يُثري الحوار.
3- عدم القدرة على الإنهاء (Unfinalizability): الحوار بطبيعته لا ينتهي بشكل كامل، بل يظل مفتوحًا أمام رؤى جديدة وتفسيرات مختلفة.
4- الخلاف المستمر (Continuous Disagreement) : وجود اختلافات وتباين في الآراء هو أساس الحوار الحقيقي، حيث يدفع الأطراف نحو تفكير أعمق وتحليل أكثر.(9)
يتميز الحوار عن المناقشة بتنوع المشاركين، وتوزيع السلطة بشكل متساوٍ، بالإضافة إلى خضوع جميع المعلومات للتحقق.(10)
رابعا: الحوار والجدل
الجدل لغة هو مصــدر جــادل، وهــو المناقشــة علــى ســبيل المخاصمــة، ومقابلــة الحجــة بالحجــة. وأصــل المعنــى اللغــوي للجدل يدل على الشدة والقوة .(11) الجــدل اصطلاحا هــو حــوار كلامــي، يتفهــم فيــه كل طــرف مــن الفريقــن المتحاوريــن وجهــة نظــر الطرف الاخر، ويعــرض فيــه كل طــرف منهمــا أدلتــه الــي رجحــت لديــه، واستمســاكه بوجهــة نظــره.(12)
ومن هنا نتبين الفرق بين الحوار والجدل، إذ إنهما يلتقيان في كونهما حديثا أو مراجعة للكلام بين طرفين، ويفترقان في أن الجدال فيه لدد في الخصومة، وشدة في الكلام، مع التمسك بالرأي والتعصّب له. وأمّا الحوار فهو مراجعة للكلام بدون خصومة، بل الغالب عليه الهدوء والبعد عن التعصب. فالحوار أعمّ من الجدل، إذ كلّ جدل حوار لكن ليس كلّ حوار جدلا.(13)
الحوار (المكتوب أحيانًا) هو محادثة متبادلة بين كيانين أو أكثر. الأصول الاشتقاقية للكلمة (لوغوس، كلمة، كلام) هي مفاهيم مثل المعنى المتدفق ولا تنقل بالضرورة الطريقة التي جاء بها الناس لاستخدام الكلمة، مما يؤدي إلى افتراض أن الحوار يكون بالضرورة بين طرفين فقط. الحوار كشكل من أشكال الاتصال له دلالة لفظية. بينما يمكن أن يكون التواصل تبادلًا للأفكار والمعلومات عن طريق الإشارات والسلوكيات غير اللفظية، كما يشير أصل الكلمة، فإن الحوار يعني استخدام اللغة. يتميز الحوار عن طرق الاتصال الأخرى مثل المناقشات والمناقشات.(14)
بينما تعتبر المناظرات تصادمية، تؤكد الحوارات على الاستماع والفهم. طور مارتن بوبر فلسفته حول الطبيعة الحوارية للوجود البشري وطور آثارها في مجموعة واسعة من الموضوعات بما في ذلك الوعي الديني، والحداثة، ومفهوم الشر، والأخلاق، والتعليم، والروحانية، والتفسير الكتابي. لأن الحوار بالنسبة للإنسان هو الشكل الأساسي للتواصل والتفاعل، فقد استخدمت نصوص عديدة من العصور القديمة بنية الحوار كشكل أدبي. استخدمت النصوص الدينية مثل الكتاب المقدس، والسوترا البوذية، والنصوص الكونفوشيوسية والأدب المعاصر شكل الحوار. في الفلسفة، غالبًا ما يكون استخدام أفلاطون للحوار في كتاباته هو الأكثر شهرة.(15)
ولتوضيح ذلك يجب أن نشير الى الطبيعة الانفصالية للتفكير الفلسفى، فمقابل الدعوات الايديولوجية التى تقوم على اغفال التناقضات وخلق الوفاق ، فان الفلسفة ، كما نعلم ، استراتيجية تسعى الى الكشف عن الاختلاف فيما وراء الائتلاف ، وعن التعدد فيما وراء الوحدة . الايديولوجية تجمع وتوحد ، أما الفلسفة فهى تشتت وتفرق. انها استراتيجية لتكريس الانفصال ، وسعى وراء احداث الفجوات ، فى مايبدو متصلا، وخلق الفراغ فى مايبدو ممتلئا ، وزرع الشك فى مايبدو بديهيا ، وتوليد البرادوكس فى ما يعمل دوكسا.لكن هل نستنتج من ذلك أن منهج الفلاسفة ومنطق خطابهم لايتوخيان خلق المفاهيم بقدر مايستهدفان اذكاء روح النقد وخلق سوء التفاهم أوابرازه على الأقل؟.(16)
ان مايجب التأكيد عليه هنا هو النقاط التى يتعثر عندها الحوار ويحار عندها الفكر غالبا ماتكون هى بالضبط نقاط الالتقاء : اى النقاط التى تسوى جهل الجاهلين بمعرفة العارفين .فكأنا المسافة بين المتحاورين تزداد قربا كلما ازداد بعدهم ، لاعن بعضهم البعض ، بل عن ذواتهم. كل متحاور يزداد قربا من الآخر كلما ازداد بعدا عن نفسه. ذلك أن النقاط التى يتبلور عندها التعثر و"يتوقف"الحوار ، أو على الأقل يتأزم، لاتفرق بين المتحاورين ، وانما بين الفكر وبداهاته ، بين الفكر ومسبقاته ، أو لنقل بين الفكر وبين نفسه وهو يسعى للانفصال عنها.فكأن الالتقاء بين أطراف الحوار لايتم الا عند نقاط افتراق ، وكأن الاتصال بينها لايتم الا عند نقاط انفصال : نقاط التأزم والتأزيم التى يتحرر عندها الفكر من يقينياته ويتخفف من "حقائقه". انها النقاط التى يبدو عندها أطراف الحوار "فى الهم سواء"، وليس أى هم بل الهم الفكرى " الذى تتحول فيه الأشياء التى تبدو معروفة الى أشياء تكون أهلا للمسائلة" على حد تعبير هيدجر.؟.(17) وعلى ذلك فان الفلسفة لاتعمل على التفرقة بين المتحاورين ، وانما تقرب فى فيما بينهم بأن تجعل كلا منهم يبتعد عن نفسه ، ويخرج عن عزلته . انها اذن توحد لاتفرق ، تضع الوحدة مكان العزلة.
والحوار القائم على الجدل قد يؤدى الى أزمة فى التواصل مع الآخر.. والأزمة هي أحد المصطلحات التي تتميز في الاستخدام الشائع بحدود دلالية غير واضحة، حيث تحمل معاني متعددة ومتداخلة حسب السياق الذي تُستخدم فيه. ومع ذلك، يمكن النظر إلى الأزمة بوصفها لحظة فاصلة تعكس حالة من التوتر أو التعقيد تتطلب معالجة فورية وإعادة تقييم للوضع الراهن. الأزمة بطبيعتها تنطوي على احتمالية تطور حالة من عدم الاستقرار أو الخطر، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات. وتتنوع أبعادها بين الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والدولية، وقد تكون مرتبطة أيضًا بالجوانب الشخصية والعاطفية.(18)
الأزمة التي تتجلى في التواصل والتفاوض والحوار مع الآخر تعد من أبرز التحديات الإنسانية، وقد تناولها كل من مارتن بوبر، إيمانويل ليفيناس، وجوزيف تيشنر في إطار "فلسفة الحوار . (Philosophy of Dialogue) هذه الفلسفة تركز على العلاقة بين الذات والآخر وتكشف عن التوترات المرتبطة بلقاء الآخر. الأزمة التي نواجهها غالبًا في الحياة تتمثل في أزمة لقاء الآخر، حيث تفرض الاختلافات بين الأفراد تحديات جوهرية في التواصل والتفاهم. هذا اللقاء مع إنسان آخر، بخصائصه الفريدة مثل مظهره الجسدي، تكوينه العقلي، لغته، وسلوكه، يكشف عن انفصال أساسي يجعلنا ندرك أن "الشخص الآخر ليس أنا". رغم أن التفاهم والقبول والتسامح تعد من القيم الإيجابية التي تُعتبر أساسية في بناء مجتمع متماسك، فإن تحقيقها يصبح أمرًا صعبًا في ظل انعدام الثقة والانكماش أمام الآخر. بل قد تبدو هذه القيم في بعض الأحيان مستحيلة التحقق نتيجة لتفاقم التحيزات والصراعات(19).
خلاصة القول: لا شك أن الحوار والديالكتيك يتسمان بطبيعة متأصلة تقوم على التوترات والصراعات بين قوى متعارضة، كما يعكسان التناقضات والأزمات التي تعيشها الأطراف المشاركة فيهما. إن هذه التوترات ليست عوائق، بل هي عنصر جوهري في الحوار، حيث تمثل العلاقات الدرامية بين الناس لحظة أساسية وفعالة تفتقر إلى العمق والفعالية. الحوار الذي يغفل التوترات والتناقضات التي يمر بها المشاركون قد ينزلق إلى حالة شكلية هامدة، القوة الحقيقية للحوار تكمن في مواجهة تلك التوترات، حيث تصبح جزءًا لا يتجزأ من عملية الفهم المتبادل. التناقضات الدراماتيكية في المساحات الحوارية ليست مجرد عائق يجب تجاوزه، بل يمكن أن تكون مصدرًا للنمو والتطوير. هذه التوترات تدفع المشاركين إلى التفكير العميق، إعادة تقييم مواقفهم، والوصول إلى رؤى جديدة لم تكن متوقعة.(20)
تقوم فكرة وجود خلافات غير قابلة للتسوية بين المشاركين في الحوار على تصور متشائم يتسم بهيمنة الاغتراب والعزلة والتشرذم في العلاقات الإنسانية. فعلى الرغم من أن الحوار يُنظر إليه في الأصل كأداة لبناء الجسور والتفاهم بين الأطراف المختلفة، إلا أنه قد يؤدي أحيانًا، في ظل ظروف معينة، إلى إضفاء الشرعية على الانقسامات وتعميق حالة الانفصال بين الأفراد أو الجماعات.(21)
خامسا: شروط نجاح الحوار
1-الاستعداد للبقاء في الحوار:
ينبغي أن يكون لدى الأطراف رغبة صادقة في استمرار الحوار، بدلاً من السعي لفرض الآراء أو تحقيق التفوق الشخصي.
2-رفض الإقصاء:
لا يمكن للحوار أن ينجح إذا كان أحد الأطراف مصممًا على رفض الآخر أو التقليل من شأنه لتحقيق أغراض شخصية مثل إثبات التفوق أو نيل الشرف.
3-التبادلية والمعاملة بالمثل:
الإحسان في الحوار ليس مجرد شعور عابر أو موقف أحادي الجانب، بل هو شرط جوهري يقوم على التبادلية والمعاملة بالمثل. وحتى قبل أن يتضح الحوار بشكل كامل، يتضمن الإحسان قبول الآخر كشريك في الحوار، وهذا القبول الضمني هو أساس التبادلية. كما يعبر الإحسان عن الرغبة في الانفتاح والتفاعل مع الآخر، بحيث يصبح الحوار مساحة مشتركة تُبنى فيها العلاقات القائمة على الاعتراف المتبادل. ولا يمكن للإحسان أن يتحقق إلا إذا كان الآخر مستعدًا بالمثل للانفتاح والاعتراف بنا كشركاء في الحوار . وهكذا فان الإحسان في الحوار يشمل الاعتراف المتبادل، حيث يتم احترام وجود الآخر وقيمته كشخص مستقل له رؤيته الخاصة.(22)
يتطلب الحوار الحقيقي وجود حسن النية بين جميع الأطراف المشاركة. حسن النية هنا يعني أن يكون كل شريك في الحوار مستعدًا للانخراط في التبادل الفكري والاعتراف بالآخر كوجود مستقل يستحق الاستماع والتقدير. الإحسان جوهر حسن النية، فهو يعني أن يكون لدى الأطراف استعداد داخلي للإنصات، وفهموجهة نظر الآخر، والتفاعل معه بصدق واحترام.كما يتطلب الحوار الناجح أن يكون هناك تفاعل متبادل بين المشاركين، حيث يتم الاعتراف بالآخر كشريك كامل في العملية الحوارية، وليس مجرد متلقٍ أو معارض.(23)
ويقوم الحوار على الاعتراف اذ يمكن اعتباره تجربة إنسانية تقوم على المعاملة بالمثل، حيث يكون كل طرف مستعدًا ليس فقط لتقديم رأيه،بل أيضًا للانفتاح على ما يحمله الآخر من أفكار وتجارب. بهذا الشكل، يتحول الحوار إلى مساحة مشتركة تسودها الثقة والاحترام، مما يتيح الفرصة للوصول إلى نتائج بناءة تعكس التفاهم الحقيقي بين الأطراف
سادسا: قواعد الحوار
ولكلّ تبادل حواري أركان تتمثل في المتكلّم والمخاطب وموضوع التخاطب، وهي تتفاعل فيما بينها لتحقيق غرض أو أغراض معينة ظاهرة أو باطنة. فنجاح الحوار يتطلّب الالتزام بقواعد مضبوطة ومحدّدة، منها ما يرتبط بالتنظيم الخارجي للحوار ومنها ما يرتبط بالتنظيم الداخلي، ويمكن إجمال هذه القواعد والمقومات فيما يلي: -
1-المجلس : قد يتخذ المجلس حكما بين المتحاورين، لذا ينصح بتجنّب المجالس التي تعيق الجريان الطبيعي للحوار،كما ينصح بتجنب المجالس التي يسودها الخوف والترهيب والإكراه ولا تستهدف تمييز الحق عن الباطل، وقد استرذل بعض الدارسين جريان الحوار في مجالس خاصة أو عامة(أو في بعضها على الأقل) لكو نها لا تساعد على أن يجري المتحاورون حوارهما على عرف واحد. ولهذا يجب تحديد من تجلس إليه، إذ الناس فئات وطبائع.
2- وجوب أن يكون الكلام لداع يدعو إليه، إما في جلب مصلحة أو درء مفسدة، لهذا يطلب أن تكون أطراف الحوار على دراية بموضوع الحوار والقصد منه، هذا إضافة إلى أن بناء الخطاب يجب أن يستجيب لعنصرين أساسيين: أن يتوجّه المتكلّم إلى المخاطب بكلام، القصد منه إبلاغ الخطاب بطريقة معينة وإعلام المخاطب بأن الخطاب تمّ بتلك الطريقة، وأن يمكّن المخاطب من التعرّف على مقصود المتكلّم، وأنه كان قاصدا ذلك.
3- أن يلزم الحضور والمتحاورين التواضع واحترام بعضهم البعض،وتجنّب الكذب والشبهة والعناد .
4-على العارض التدليل على دعواه ويطلب من المعروض عليه السماح بذلك (24) .
وتتعلق هذه القواعد بمجموعة من الضوابط المهمة للحوار كما يلى:
1-أن يكـون الحـوار متكافئـا، أي تتوافـر فيـه رشوط المسـاواة، وفرصـة المسـاهمة العادلـة بـالاراء الموضوعيـة خـلال إطـار زمـي معقـول.
2-الاستماع بهدف الفهم، وعدم المقاطعة
3-البـدء بنقـاط الاتفاق وليـس نقـاط االختـاف، وذلـك لتأسـيس قاعـدة فهـم مشـتركة ينطلـق منهـا الحوار
4- الانفتاح تجـاه جميـع وجهـات النظر، وعدم الشـعور بالتفوق العنرصي أو الاستعلاء الحضـاري، أو روح الهيمنة الثقافية من قبل اى طرف .وجعـل الهـدف من الحـوار هو إقامـة قيم التسـامح وإذكاء روح التعـارف الثقافي والعلمي
5-المرونة في الحوار، وعدم التشنج، وينبغي مقابلة الفكرة بفكرة، وقبول الاختلاف.
6-حسن الكلام: التعبري بلغة بسيطة غري ملتبسة ولا غامضة .
7-الموضوعية في الحوار: قبول الرأي الاخر، والاعتراف للطرف الاخر.(25)
سابعا : أهمية الحوار
تُعد فكرة الحوار مركزية في الهيرمينوطيقا الفلسفية لدى هانز جورج جادمر، حيث يرى أن الحوار يتجاوز كونه مجرد محادثة بين طرفين حول موضوع مشترك. بل هو عملية تأسيسية ديناميكية تساهم في تشكيل المعاني والأشياء ووجهات النظر والتفاهم المشترك..يرى جادمر أن الحوار ليس مجرد أداة للفهم، بل هو الظاهرة التي تُنتج الفهم ذاته. من خلال الحوار تتكشف الحقائق، وتتغير وجهات النظر، وتتشكل معانٍ جديدة. فهو ليس فقط وسيلة للتواصل، بل إطار للتجربة الإنسانية المشتركة. يوضح جادمر أن اللغة هي وسيط أساسي لكل تجربة مفهومة. الحوار يحدث داخل اللغة، ومن خلاله يتجلى العالم. بالتالي، فإن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي البيئة التي تتشكل فيها الحقائق والمعاني.(26)
والحوار أداة أساسية لاكتساب المعرفة، خاصة في مجالات التفسير، ويبرز دوره بشكل خاص في العلوم الإنسانية والاجتماعية.(27) ويقترح كارل بوبر الحوار العقلانى بدل التغيير الدموى ، وهو يتمثل فى مشروع أمل وحياة يمكنه أن يحقق التغيير ، لكن بشرط احترام الاختلاف بين البشر وعدم المساس بقدسية الحياة البشرية.(28)
ذلك أن التواصل بين الأفراد والشعوب يتأسس على حقيقة علمية قائمة على منهج علمى ، هذا المنهج يرفض فكرة الحقائق المطلقة ، ويرى العلم فى قابليته على التغير والتفنيد ، ومنه يصبح الفكر البشرى أيضا فكرا نسبيا ولايمكن للانسان أن يدعى امتلاك حقائق مطلقة ، تحرضه على اقصاء الآخر ، وبهذا يصبح فكره مفتوحا.(29)
لقد كان و لا يزال الحوار الأسلوب الأمثل لكلّ خطاب فلسفي ينشد الحقيقة، بل هو ما يشكّل ماهية الفلسفة، إنّه الشّرط الأنطولوجيي لكلّ ممارسة فلسفية، و نظرا لقيمة هذا المفهوم و تأسيسه للعديد من المفاهيم مثل الاختلاف والتّسامح، واستبعاده كلّ أشكال التسلّط و الاستبداد و الإكراه المادّي و المعنوي، إضافة إلى امتداداته داخل حقول معرفية متباينة، فإنه شكل موضوع مقاربات متعددة، تتفاوت بشأنه الخلفيات النظرية و الفلسفية المؤطّرة لأبعاده و مستلزماته الفلسفية (المقاربة الفلسفية،المقاربة المنطقية والمقاربة التّداولية ). وإذا كانت الفلسفات التقليدية تعاملت مع الحوار بشكل طوباوي( مثالي)، حيث يتظاهر فيه العارض بإشراك غيره في طلب المعرفة و إنشائها و تشقيقها ويسمّي (طه عبد الرحمن) هذا الشّكل من الحوار بالحوار الشّبيهي (عند أفلاطون، مالبرانش، هيوم، باركلي وليبنتز )، إذ الحوار عندهم "عقيدة" قبل أن يكون ممارسة وسلوكا و قيمته لا تكمن في تحقّقه و انطباقه في الواقع، بل تكمن في مرجعية مجرّدة من المثل و الأخلاقيات التيّ تضبطه و تؤسّسه، فلا سبيل إذن لقياس نجاعة الحوار بحدود تصريفه في الممارسة، وبالعوائق التيّ تعترض تطبيقه، بل بما يكون به منظومة مبادئ مجرّدة متعالية عن الواقع. ولاشكّ أنّ الاعتقاد في الحوار بهذا المنزع الأخلاقي، وبهذه المعيارية المجردة يغيب أبعادا جوهرية ومستلزمات عديدة، تفيد أنّ الحوار ليس منظومة مبادئ و قيم ننشد التّطابق معها خلال ممارسته، فمن يراهن في تجربته الحوارية على تأمين هذا التّطابق السّابق لمجريات الحوار لن يكون منتجا لفعّالية حوارية حقيقية، منفتحة على احتمالات غير محسوبة، وعلى قبول الاختلاف، بل يكون مشاركا في حوار منغلق لا يقصد سوى إعادة إنتاج حقائقه الجاهزة. إن الحوار تفاعل و انفتاح تصغي فيه الأطراف إلى بعضها البعض، ولا مجال فيه لأيّ شكل من أشكال الاحتواء و السّيطرة، إنّه تعرّف متواصل على الذّات و على الآخر في تفاعلهما، ففي الحوار لا تقصد الذّات الحلول في ذات أخرى وتذويب وعيها في وعي الآخر، كما لا تنزع فيه إلى طمس الاختلاف، فانتهاء تجربة حوارية ما إلى التوافق، لا يقوم دليلا على رفض الاختلاف، لأنّ التّوافق لا يرادف أحادية الرّأي، بل هو نتاج علاقة حو ارية يشترك المتحاورون على نحو تفاعلي في نسجها. (30)
يختلف التفاعل بين الذوات باختلاف الأشخاص والموضوع والظروف المحيطة به،كما يتفرع تفاعل ما إلى تفاعلات فرعية متعددة، ومن بين التفاعلات الحوارية الأخرى: التفاوض والمحادثة والمباحثة والمقابلة والمناقشة والمطارحة والمدارسة والتفاكر وتبادل الرأي وتجاذب أطراف الحديث، ورغم نقاط التقاطع بين هذه المفاهيم إلا أن بعضها يتوفّر على خصوصيات محدّدة، فبالنسبة للمجادلة والمناظرة والمحاججة تتم عادة بين طرفين كل لحسابه الشخصي، أما بالنسبة لهذه التفاعلات الحوارية(المحادثة، التفاوض...الخ) ففي أغلبها يتكلم الشخص باسم الآخرين، فهو يمثّل نفسه وينوب في ذات الوقت عن غيره، فهامش المناورة هنا أضيق،كما أن منها تفاعلات تتم بطرق غير مباشرة،كما هو الحال في المفاوضات والحوار الدبلوماسي، حيث يتوسّط طرف ثالث أو أطراف محايدة. يبدو إذن أنه من الصّعب تحديد نمط حواري خالص نتّخذه نموذجا للأنماط الحوارية الأخرى نتيجة وجود خصوصيات تخصّ مسلكا حواريا دون آخر، لذلك يمكن أن تتداخل في لحظة من لحظات التخاطب عدة تفاعلات حوارية فيما بينها وتتشاكل بحيث يصعب معه تحديد الطريقة المعتمدة (31)
والخلاصة: ان أهمية الحوار هى:
1-االتفاعل مع الأفكار : الحوار يسمح بالتفاعل مع الأفكار المختلفة، سواء كانت تلك التي صاغها فلاسفة الماضي أو التي يعبر عنها الفلاسفة المعاصرون. هذا التفاعل يولد رؤى جديدة ويحفز الإبداع الفكري.
2- اختبار الحجج: من خلال الحوار، يمكن للمرء أن يختبر مدى قوة أفكاره وحججه. فالتفاعل مع الآخرين يكشف نقاط القوة والضعف في الفكرة المطروحة، مما يؤدي إلى تحسينها أو تعديلها.
3-توسيع الأفق الفكري: الحوار مع الآخرين يفتح المجال لفهم وجهات نظر مختلفة. هذا لا يعني بالضرورة القبول بها، ولكنه يمنحنا فرصة لتوسيع منظورنا الخاص.
4-إحياء الفكر: كما قال هيدجر، الحوار مع الفلاسفة هو وسيلة لإحياء أفكارهم. قراءة أفلاطون أو ديكارت، على سبيل المثال، ليست مجرد استرجاع لأفكار قديمة، بل هي استدعاء لهذه الأفكار إلى سياقنا الحالي وإعادة تفسيرها بما يناسب العصر.
5-العمل المشترك:كل موقف فلسفي يمكن أن يُفهم على أنه جانب من جوانب الحوار. المواقف الفلسفية ليست انعزالاً بل هي مشاركة في حديث طويل ومستمر حول أسئلة أساسية تهم الإنسانية.
ثامنا:سمات الحوار الفلسفي :
1-حركة فكرية ممتعة للقارئ:
الحوار الفلسفي ليس مجرد نقاش جاف أو تحليلي، بل هو تجربة فكرية تشد انتباه القارئ وتدعوه للمشاركة في استكشاف الأفكار بعمق.
2-التحايل على الرقابة:
بفضل البنية الأدبية للحوار، يتمكن المؤلف من التعبير عن وجهات نظر غير تقليدية أو مثيرة للجدل عبر شخصيات متعددة.والمسافة بين المؤلف والشخصيات الأدبية تُتيح للمؤلف مناقشة قضايا شائكة بحرية أكبر.
3-المرونة في اتخاذ المواقف:
يساعد الحوار الفلسفي المؤلفين على تبني وجهات نظر مختلفة أو متعارضة حول القضايا المطروحة دون التورط في التناقض، مما يثري النقاش ويوسع نطاق الفهم.
4-توسيع الفهم الفلسفي:
بدل الوقوع في الخطأ أو الشك عند تناول القضايا الفلسفية، يسمح الحوار بالتوسع في استيعاب الأفكار المتنوعة وفهم تعقيداتها، ما يؤدي إلى تعزيز الإدراك الفلسفي.(32)
هذه السمات تجعل الحوار الفلسفي أكثر من مجرد وسيلة تعبير عن الأفكار؛ إنه أداة للتأمل، والنقاش البناء، والتواصل الفكري، كما أنه وسيلة لتجاوز القيود السياسية والاجتماعية التي قد تعيق حرية الفكر
وللحوار أهداف متعددة، فقد يكون وسيلة للتدريس، أو لاختيار وجهة نظر بين رؤيتين متعارضتين، أو لمعالجة قضية معينة بالتعاون مع الآخرين، أو لتبادل الآراء، أو إقناع الآخرين، أو الوصول إلى قرار مشترك. وبالتالي، يمكن للحوار أن يتخذ أشكالًا متعددة مثل التعليم، أو النقاش العام، أو المناقشة الرسمية، أو استكشاف الأفكار في المحادثة. أما الحوار الفلسفي، على وجه الخصوص، فيتميز بهدفه الأساسي: الوصول إلى رؤية مشتركة بين المتحاورين. وهذا يعني أن وظيفته تتسم بطابع معرفي يهدف إلى تحقيق الفهم المتبادل والتعمق في المفاهيم المشتركة.(33)
وهكذا يمكن تحديدأهداف الحوار وأبعاده المختلفة كما يلى:
أولا: الأهداف العامة للحوار:
1-التعليم: يُستخدم كوسيلة لتوضيح الأفكار ونقل المعرفة
2-الاختيار بين وجهتي نظر متعارضتين: أداة لتحديد الخيار الأنسب من بين مواقف متعارضة
3-التعاون: يُسهم في معالجة وجهة نظر معينة بالتعاون بين الأطراف.
4-تبادل الآراء: وسيلة لتوسيع الأفق من خلال مشاركة الأفكار والمواقف المختلفة.
5-الإقناع: يستهدف التأثير على الآخر وتغيير وجهة نظره.
6-التوصل إلى قرار: يستخدم كأداة للتفاهم وحسم القضايا.
ثانيا:تنوع أدوار الحوار:
يمكن أن يتخذ الحوار صوراً مختلفة مثل:
1-التعليم.
2-المناقشة العادية أو الرسمية.
3-استكشاف المحادثة والتعبير الحر.
ثالثا:الفرق بين الحوار العام والحوار الفلسفي:
1-الحوار العام: يهدف إلى تحقيق التفاهم، التوافق، أو حل النزاعات.
2-الحوار الفلسفي: غايته الأساسية الوصول إلى رؤية مشتركة بين المتحاورين.و يُركز على الوظيفة المعرفية، أي فهم وتوضيح الحقيقة أو الفكرة بعمق.
الخلاصة: الحوار الفلسفي يتجاوز الوظائف الاجتماعية العامة ليصبح وسيلة معرفية تبحث عن الحقيقة، وتشكل أداة رئيسية للوصول إلى فهم مشترك قائم على التفكير العقلاني والتحليل النقدي.
تاسعا: الحوار فى الفلسفة
الكتابات الفلسفية الأولى في العالم الغربي تجسدت في صيغ شعرية وأمثال حكيمة أو أقوال مأثورة، لكنها لم تستطع أن تؤسس للفلسفة كفرع منظم ومستقل. هذه المهمة قام بها الحوار الفلسفي، الذي أصبح النوع الأدبي الذي يُميز الفلسفة كحقل معرفي. الشعر الفلسفي ظهر عند فلاسفة مثل بارمنيدس وأمبيدوقليس. الحكم والأقوال المأثورة وُجدت عند هيراقليطس وديموقريطس.أما أفلاطون كان أول من وضع نموذجًا مثاليًا للحوار الفلسفي في صيغة أدبية مميزة، محولًا الحوار إلى أداة تعليمية ومعرفية، تجمع بين الجدل والتأمل..واستمر الحوار الفلسفى عبر العصور، ففى العصور القديمة: ظهر الحوار عند فلاسفة مثل شيشرون كوسيلة لنقل الأفكار الفلسفية.وفى العصور الوسطى: استخدمه مفكرون مثل بوثيوس وأنسيلم وأوغسطين لنقاش القضايا اللاهوتية والفلسفية.وفى عصر النهضة أوائل العصر الحديث: تألق الحوار في كتابات مفكرين مثل جاليليو وجيوردانو برونو، حيث ساعد على نشر الأفكار العلمية والفلسفية في وجه السلطات التقليدية. في الفلسفة الحديثة، أعاد فلاسفة مثل ليبنتز،باركلى،فولتير ، ديدرو وهيوم استخدام الحوار كأداة للتعبير عن القضايا الفلسفية،وهكذا يتضح أن الحوار الفلسفي، منذ أفلاطون وحتى الفلاسفة الحديثين، يعكس ديناميكية الفكر الفلسفي. إنه وسيلة للتفاعل الفكري، وطرح الأسئلة، وتقديم الرؤى، مما جعله أداة مركزية في تطور الفلسفة عبر الزمن.(34) ويمكن بيان ذلك كما يلى :
1- الحوار فى الفلسفة اليونانية
الحوار في بداياته كان متداخلاً بشكل وثيق مع جميع أشكال الخطاب العام الأخرى. فقد شكل أحد أنماط البلاغة والخطابة التي كانت تُستخدم في مختلف منتديات المجتمع اليوناني، مثل المحاكم، والتجمعات السياسية، والمسرح. برزت بدايات الحوار كنوع أدبي مميز في أعمال هيرودوت (Herodotos) وثيوسيديدس (Thucydides) في الروايات التي كتبها هؤلاء المؤلفون، ظهرت الحوارات الفلسفية كمناظرات بين شخصيات، سواء كانت حقيقية أو خيالية، مما أضفى على النصوص طابعًا جدليًا وفلسفيًا يُظهر تعدد وجهات النظر.(35)
هيرودوت، المعروف بـ"أبي التاريخ"، قدّم في رواياته مشاهد حوارية تسلط الضوء على التفاعلات الثقافية والسياسية بين الشعوب المختلفة، مما جعلها أداة لإبراز التنوع الفكري والتقاليد المتنوعة. أما ثيوسيديدس، فتميز بتقديم مناظرات فلسفية وسياسية عميقة في كتابه عن الحرب البيلوبونيسية، حيث صاغ نقاشات بين القادة والمفكرين تعكس صراعات القوة والقيم الأخلاقية والسياسية.
تُظهر هذه الحوارات المبكرة كيف أن التعبير الجدلي ساهم في استكشاف الأفكار المختلفة بعمق، مما وضع الأساس لاستخدام الحوار لاحقًا كأداة فلسفية وأدبية، لا سيما في أعمال أفلاطون التي طورت هذا الأسلوب ليصبح جوهرًا للفكر الفلسفي.
ومن أبرز الحوارات اليونانية الحوار السقراطى ، وسقراط شخصية غامضة في تاريخ الفلسفة، حيث لم يترك وراءه أي كتابات توثق أفكاره بشكل مباشر. كل ما نعرفه عن حياته وأعماله وصل إلينا من خلال روايات معاصريه، وخاصة تلميذه أفلاطون. وصف أفلاطون سقراط بأنه المعلم النهائي، الذي لم يعتمد على التلقين، بل ركز على إثارة التفكير النقدي من خلال الحوار. كما قدمه كـخالق للحجة والبلاغة الحديثة، حيث استطاع من خلال منهجه السقراطي أن يمزج بين التفكير الفلسفي والجدل المنطقي لإرشاد تلاميذه إلى اكتشاف الحقيقة بأنفسهم.(36)
والحوار السقراطي (Socratic Dialogue) هو أداة أساسية تُستخدم لمساعدة الأفراد، خصوصًا المرضى، في استكشاف حياتهم بشكل أعمق، وتحدي الأفكار غير القابلة للتكيف، ومعالجة العقبات التي تواجههم، وتطوير مهارات التفكير النقديcritical thinking . يستمد هذا الأسلوب جذوره من أعمال الفيلسوف اليوناني سقراط، ويُعرف اليوم باسم "المنهج السقراطي" في التدريس. يتميز هذا المنهج بالاعتماد على التساؤل الموجه الذي يحفز التفكير والتحليل العميق، مما يساعد على فتح آفاق جديدة لفهم الذات والواقع، وتعزيز الوعي النقدي لدى الأفراد.(37)
عاش الفيلسوف اليوناني سقراط ملتزماً بمبدأ أساسي مفاده أن الطريق إلى الحقيقة يمر عبر طرح الأسئلة. كان سقراط، في محاوراته مع تلاميذه وأتباعه، يسعى إلى استكشاف أصول آرائهم وأفكارهم من خلال سلسلة من الأسئلة الدقيقة والموجهة، بهدف الكشف عن تناقضاتها وتسليط الضوء على أوجه القصور في منطقهم. هذه الطريقة الحوارية المميزة أصبحت تُعرف لاحقاً باسم المنهج السقراطي، وهي تُمثل أسلوباً نقدياً ومنهجياً يسعى للوصول إلى الحقيقة عن طريق الحوار والتحليل العميق للأفكار، مع التركيز على أهمية التفكير الذاتي والنقدي.(38)
كان سقراط يعتقد أن دور المعلم في التعليم لا يتمثل في إخبار الطلاب بما هي "الحقيقة"، بل في مساعدتهم على اكتشافها بأنفسهم من خلال عملية تعاونية لطرح الأسئلة. اعتمد سقراط على منهجه في الحوار عبر طرح سلسلة من الأسئلة المصممة لكشف التناقضات المنطقية في مواقف الطلاب أو في الأدلة التي يستندون إليها لدعم أفكارهم. هذا النهج السقراطي يهدف إلى مساعدة الطالب على اكتشاف الحقيقة بنفسه، بدلاً من أن يتلقاها بشكل مباشر من المعلم. كان سقراط يرى أيضًا أن هذه الطريقة تتيح للطلاب تعلم مهارة التفكير النقدي، وهي مهارة أساسية يمكن أن يستخدموها طوال حياتهم. ميزة أخرى بارزة لهذه الطريقة هي أن المعرفة المكتشفة ذاتيًا تكون أكثر قيمة للطلاب، حيث إنهم يميلون إلى تقديرها وفهمها بعمق أكبر مقارنة بالمعرفة التي تُلقَّن لهم. وبهذا، يصبح التعليم تجربة تفاعلية وشخصية تمكّن الطلاب من تحقيق النمو الفكري والاستقلالية.(39)
وهكذا يتطلب العلاج باستخدام المنهج السقراطي من المعالج أن يكون نشيطًا للغاية في طرح الأسئلة الصعبة على المريض عند التعرف على أفكار غير قابلة للتكيف، أو معالجة النقاط العالقة، أو تحديد الأخطاء المنطقية في تفكير المريض. ومع ذلك، فإن المهارة الأساسية التي يجب أن يتقنها المعالج هي مساعدة المريض على اكتشاف الأسباب الكامنة وراء تلك الأفكار غير القابلة للتكيف وأماكن الأخطاء المنطقية من خلال سلسلة من الأسئلة المدروسة بعناية. تُستخدم هذه الأسئلة لتعليم المرضى كيفية تطبيق الاستجواب السقراطي بأنفسهم، بحيث يتعلمون تحليل أفكارهم بشكل مستقل. وبعبارة أخرى، يهدف المعالج إلى تدريب المريض ليصبح "المعالج المعرفي" الخاص به، مما يعزز استقلاليته في التعامل مع تحدياته العقلية والعاطفية. هذا النهج لا يساعد فقط في علاج المشكلات الحالية، بل يزوّد المريض بأدوات معرفية طويلة الأمد لتحليل تفكيره وتطويره بشكل مستمر.(40)
الخلاصة: الحوار السقراطي هو شكل منظم من الحوار يعتمد على المشاركة النشطة لجميع الأطراف. يتميز هذا النوع من الحوار بإنشاء مساحة حرة ومفتوحة، حيث يُشجع المشاركون على المساهمة بشكل فعّال مع الالتزام بالانضباط الفكري والاستماع النشط لبعضهم البعض. يهدف هذا النوع من الحوار إلى توفير بيئة آمنة تتيح للمشاركين التحقيق بعمق في جوهر آرائهم الخاصة، كما تمنحهم الفرصة لفهم وجهات نظر الآخرين حول الموضوع قيد النقاش. بهذه الطريقة، يعزز الحوار السقراطي التفكير النقدي، ويشجع على البحث المشترك عن الحقيقة، بدلاً من فرضها بشكل أحادي.(41) وأصبح هذا الأسلوب سقراطى حجر الزاوية في الفلسفة الجدلية وأسهم في وضع أسس الحوار النقدي والتحليل العقلاني للأفكار.(42)
ظهر الحوار بأشكاله المختلفة (السياسية والفلسفية والدرامية) تاريخيًا في العصور القديمة عند اليونان، حيث ارتبط ارتباطًا وثيقًا بسياق دولة المدينة (Polis) كمجتمع من المواطنين المشاركين. تُعد حوارات أفلاطون أول روايات حوارية مكتوبة في تاريخ البشرية، وقد تشكلت في هذا السياق الثقافي والسياسي المميز لدولة المدينة القديمة.(43)
وبوجه عام :اتخذت الحوارات في العصور القديمة شكل المحادثات الفلسفية التي كانت تمثل تفاعلات حية بين المفكرين وأتباعهم أو بين المفكرين أنفسهم. وكانت تستخدم هذه الحوارات كوسيلة لاستكشاف الأفكار الفلسفية والنظريات الاجتماعية والأخلاقية.ومن أمثلة تلك الحوارات:
1-حوارات أفلاطون (Plato) : تعتبر الحوارات الأفلاطونية من أشهر وأهم الأعمال التي شكلت الفكر الفلسفي الغربي. تتراوح الحوارات بين النقاشات حول العدالة، المعرفة، الفضيلة، المجتمع، الحب وغيرها. أشهر حواراته هي "الجمهورية"، "الفيدو"، "المناظرة" وغيرها.
2-أرسطو (Aristotle): في حين أن أرسطو لم يكتب حوارات بالمعنى التقليدي، فإن العديد من أعماله تُظهر مناقشات فلسفية حول الموضوعات المتعلقة بالمنطق، الأخلاق، و الفيزياء. أبرز أعماله تشمل "الأخلاق النيقوماخية" و"السياسة".
3-شيشرون (Ciceron) : كان شيشرون أحد أبرز الفلاسفة الرومانيين، وكتب العديد من الحوارات الفلسفية، مثل "الأحلام"و "حول الواجبات". كان عمله يدمج بين الفلسفة اليونانية والتقاليد الرومانية.
4-سينيكا (Seneca): سينيكا كان من أبرز فلاسفة الرواقيين الذين استخدموا الحوارات كوسيلة لشرح مفاهيم مثل الحكمة، الفضيلة، و التأمل في الموت. كانت حواراته تُعرض الأفكار الأخلاقية السلبية وتعليمات حياة الراحة الداخلية.
5-الأوبنشاد الهندي (Indian Upanishads): تعد الأوبنشاد مجموعة من النصوص الهندية القديمة التي تناولت الأسئلة العميقة المتعلقة بالطبيعة البشرية، الوجود، والروحانية. العديد من الأوبنشادات تتخذ شكل الحوارات بين المعلم والتلميذ مثل "بريهاندارانيا"، "تاتيا"، و"شفيتاشفيتارا".
6-مختارات كونفوشيوس (Confucius) : في فلسفة كونفوشيوس، توجد العديد من الحوارات التي تتناول الأخلاق، العدالة، وحكم الدولة. أهم كتب "مختارات كونفوشيوس" هي عبارة عن مجموعة من محادثاته مع تلاميذه حول الفضائل الاجتماعية.
7-منسيوس (Mencius): منسيوس، أحد المفكرين المهمين في الفلسفة الصينية، استخدم الحوارات في أعماله مثل "منجزي" لشرح معتقداته حول الإنسانية و الطبيعة الأخلاقية للإنسان.(44)
ومن أهم خصائص الحوار في الثقافة الهليلينية:
أولا: النزعة المناهضة للدوجمائية:
الحوار كان أداة لتفكيك المفاهيم الراسخة التي تؤدي إلى القمع الاجتماعي أو الجمود الفكري.ويتمثل في تحدي الأعراف والنظم السائدة، مما يُبرز رغبة في التحرر من التقاليد الجامدة.
ثانيا: الارتباط بالحياة الاجتماعية:
لعب دوراً محورياً في المحاكم، التجمعات السياسية، المسرح، النقد، وفنون الأداء المختلفة.وكان وسيلة للحفاظ على التبادل الشفهي ذي الأهمية البالغة في مجتمع يعلي من قيمة النقاش والتفاعل.
ثالثا: الارتباط بالديمقراطية:
ازدهر الحوار في الفترات التي كانت فيها الديمقراطية هي القوة المهيمنة على النظام السياسي.ويعكس الحوار مجتمعات تتمتع بقدر كبير من الحرية الفكرية والسياسية.
رابعا: متعدد الجوانب :
البحث عن الحقيقة: جعل الحوار وسيلة للوصول إلى جوهر الأفكار والمفاهيم ،النقد الساخر: القدرة على السخرية من الأعراف الراسخة ومناقضتها بذكاء. وقبول الحدود الاجتماعية: رغم نزعة التحدي، ظل الحوار محكوماً بإطار العقوبات العرفية والدينية التيتحدد طبيعة الحرية الفردية.(45)
الخلاصة: الحوار الهيليني يمثل مزيجاً مدهشاً من الفكر الإبداعي، والجرأة في الطرح، والالتزام بالقيم الاجتماعية، مما جعله فناً أدبياً وفكرياً يعكس روح الحضارة الهيلينية في أوج ازدهارها.
2-الحوار فى المرحلة الحديثة والمعاصرة
التقليد الأوروبي في الحوار، الذي بدأ مع الكتابات ذات الطبيعة اللاهوتية في العصور الوسطى واستمر بعد عصر النهضة، أخذ منحى مختلفًا عن التقليد اليوناني للحوار. في حين ركز الحوار اليوناني على المحادثة الجدلية المفتوحة والتفاعل الحر بين المحاورين بهدف البحث عن الحقيقة، فإن الحوار في التقليد الأوروبي تحول إلى شكل أكثر تنظيمًا ومنهجية. اتسم هذا التقليد بتقسيم الخطبة إلى "أجزاء من الكلام" مثل:
1- المقدمة (introduction) لتقديم الموضوع وجذب انتباه المستمعين.
2- السرد (narrative) لتوضيح الوقائع أو السياق.
3- البيان أو العبارة(statement) لعرض الفكرة أو الفرضية المركزية.
4- البراهين (proofs) لتقديم الأدلة والحجج لدعم الفرضية.
5- الخاتمة (epilogue) لتلخيص النقاط الأساسية وإقناع المستمع.
هذا التحول يعكس الطابع الخطابي والهيكلي الذي سيطر على الفكر الأوروبي خلال تلك الفترات، حيث كان الهدف من الحوار غالبًا هو الإقناع أو التعليم بدلًا من البحث الحر عن الحقيقة كما في التقليد اليوناني.(46)
شهدت الفلسفة الأكاديمية الغربية ، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تحولًا ملحوظًا في توجهاتها الفكرية، حيث تزايد الميل إلى رفض الديالكتيك الذي كان يرمز إلى تقاليد الفكر الجدلي المتأصلة في الفلسفة الهيجلية والماركسية.(47)
وهكذا حدثت تحولات فى الفلسفة الأكاديمية منها
1- تراجع الديالكتيك
0مع ظهور تيارات فكرية جديدة، بدأت الفلسفة الجدلية تفقد شعبيتها تدريجيًا في الأوساط الأكاديمية الغربية.
0تم النظر إلى الديالكتيك باعتباره نهجًا غامضًا وغير علمي في معالجة المشكلات الفلسفية، خاصة في ظل التركيز المتزايد على التحليل الدقيق والمنهجي.
2-ظهور الاتجاهات الجديدة:
أ-الكانطية الجديدة
0أعادت الكانطية الجديدة تفسير فلسفة إيمانويل كانط بطريقة تتماشى مع روح العلم الحديث.
0ركزت على النظرية المعرفية والأسس العلمية للفكر، متجنبةً التأملات الميتافيزيقية الجدلية.
ب- فلسفة الحياة
0مع فلاسفة مثل فريدريك نيتشه وهنري برغسون، ظهرت فلسفة تركز على الحياة كظاهرة حيوية وتدفق ديناميكي بدلًا من التفكير الجدلي القائم على العقل والمفاهيم الثابتة.
0دعت إلى فهم العالم من خلال التجربة الحية والمباشرة بدلًا من المجردات الجدلية.
ج-الوضعية
0أصبحت الوضعية، بقيادة أوجيست كونت في البداية ومن ثم تيار الوضعية المنطقية، القوة السائدة في الفلسفة الأكاديمية.
0ركزت الوضعية على العلم والتجربة كوسائل وحيدة للمعرفة، رافضةً ما اعتبرته مضاربات لا يمكن اختبارها علميًا، مثل الديالكتيك.
3- نقد الديالكتيك:
قوبل الديالكتيك بانتقادات على عدة جبهات:
- من الكانطيين، الذين رأوه غير متماسك معرفيًا.
- من الوضعيين، الذين اعتبروه بعيدًا عن المنهجية العلمية.
- من أنصار فلسفة الح
ياة، الذين وجدوا أنه يتجاهل التجربة الحية ويركز بشكل مفرط على مفاهيم مجردة.
اهتم العديد من الفلاسفة في العصر الحديث والمعاصر بفكرة الحوار والتعليم، حيث قدموا رؤى عميقة في هذا المجال. من بين هؤلاء الفلاسفة: مارتن بوبر Martin Buber، ميخائيل باختين ، ليف فيجوتسكي Lev Vygotsky، حنه أرندت Hannah Arendt، إيمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas، موريس ميرلو بونتي Maurice Merleau-Ponty, ، سيمون ويل Simone Weil، مايكل أوكشوت Michael Oakeshott، ويورغن هابرماس Jürgen Habermas. لقد ساهم هؤلاء المفكرون في صياغة وجهات نظر اجتماعية وسياسية حول الحوار والتعليم، ضمن إطار التقليد الأوروبي للفلسفة الحوارية. وقد ركزت أعمالهم على أهمية التفاعل الإنساني، دور الحوار في تعزيز الفهم المتبادل، وأثر التعليم في تشكيل المجتمع الديمقراطي والمتحضر.(48)
يشير مفهوم "الحوار" إلى أشكال مختلفة من التواصل الإنساني التي ترتبط بالعلاقة بين الفرد والآخر، كما يتضح في مقاربات الفلاسفة الثلاثة: مارتن بوبر، وإيمانويل ليفيناس، وجوزيف تيشنر. والفلاسفة الثلاثة، يقدمون رؤى ومناهج مختلفة في معالجة التحديات التي يواجهها البشر عند لقاء الآخر وجهًا لوجه.(49)
1- الحوار عند مارتن بوبر (1878 – 1965 )
تستند فلسفة الحوار بشكل رئيسي إلى أفكار الفيلسوف مارتن بوبر، الذي اشتهر بكتابه الكلاسيكي "أنا وأنت" الذي صدر عام 1923. بالنسبة لبوبر، فإن الحقيقة الأساسية للوجود البشري، والتي غالبًا ما تُغفل من قبل العقلانية العلمية والفكر الفلسفي المجرد، تكمن في "الإنسان مع الإنسان". يحدث هذا الحوار في "المجال بين". وقد اختار الفيلسوف الوجودي مارتن بوبر الحوار كوسيلة للتعامل مع الكوارث التي شهدتها أوروبا والعالم في تلك الحقبة.
يشتهر مارتن بوبر بمفهوم الوجود الحواري الذي قدمه في كتابه "أنا وأنت" (1923)، حيث يعرض علاقة "أنا-أنت" باعتبارها علاقة متبادلة وحقيقية بين كائنين. هذه العلاقة ليست مجرد تفاعل أو تبادل عابر، بل هي لقاء أصيل وملموس يعبّر عن وجود حقيقي ومباشر بين الأفراد. استخدم مارتن بوبر في كتابه "أنا وأنت" مجموعة من الأمثلة اليومية لتوضيح مفهوم علاقة "Ich-Du" أو "أنا وأنت"، وهي علاقة حوارية تتسم بالوجود المتبادل والتفاعل الأصيل بين الأفراد. هذه الأمثلة تنطوي على أنواع مختلفة من التفاعلات الإنسانية التي تظهر فيها اللقاء والحوار والتبادل. بعض الأمثلة التي استخدمها بوبر تشمل:
1-الحبيبان: العلاقة بين شخصين في حالة حب، حيث يعبّر كل منهما عن وجود الآخر ويشترك في تجربة مشتركة من التواصل والتفاهم.
2-المراقب والقطة: علاقة المراقب مع القطة، حيث يتفاعل الشخص مع الكائن الآخر (القطة) ويشعر بوجوده ككائن حي مستقل.
3-المؤلف والشجرة: العلاقة بين المؤلف والشجرة التي قد تمثل تفاعلًا شخصيًا أو وجودًا حقيقيًا يتم إدراكه من خلال التأمل أو الارتباط بالعالم الطبيعي
شخصان غريبان في القطار: حتى في التفاعلات العابرة بين شخصين غريبين في مكان عام (مثل القطار)، يمكن أن يتم إدراك هذا اللقاء كوجود حقيقي وحوار حتى لو كان مؤقتًا أو غير مستمر.
في جميع هذه الأمثلة، تبرز فكرة أن العلاقة بين "أنا" و"أنت" هي لقاء حقيقي يتجاوز التواصل العابر، ويتم فيها التبادل المتبادل للفهم والتجربة الحياتية.(50)
2- الحوار عند أرندت(1906-1975)
قدمت حنة أرندت (Hannah Arendt) مفهومًا عميقًا للحوار يعتمد على ثلاثة محاور رئيسية:
1-الفعل (Action): اعتبرت أرندت الفعل مرتبطًا بالقدرة البشرية على المبادرة وخلق أشياء جديدة، وهو ما يتحقق من خلال الحوار. الفعل دائمًا علني، ويحدث في الفضاء العام حيث يلتقي الأفراد ويتفاعلون.
2-الكلام: (Speech) يمثل الكلام وسيلة البشر الأساسية للتعبير عن أنفسهم وتوضيح هويتهم للآخرين. من خلال الحوار والكلام، يتم بناء العلاقات الاجتماعية والسياسية التي تشكل جوهر الحياة العامة.
3-التفكير الداخلي: (Inner Thinking) يشير إلى التأمل الذاتي والحوار الداخلي الذي يُمكّن الفرد من تقييم أفكاره وأفعاله قبل عرضها في المجال العام.(51)
تناولت حنه أرندت في كتاباتها القضايا المتعلقة بسياسة التعليم في ظل التحديات المعاصرة، مثل الخصخصة، التسويق، والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في البلدان التي تتأثر بالعولمة. ورأت أرندت أن هذه التحولات تشكل تهديدًا خطيرًا يجب مواجهته. أكدت أرندت أهمية أن تحافظ المدارس والجامعات على جانبها المزدوج، حيث تنتمي إلى المجال الخاص من حيث رعاية الأطفال وتربيتهم، وإلى المجال العام باعتبارها أدوات لتأهيلهم للمشاركة في الحياة العامة.ورأت أرندت أن الأطفال ينتمون بطبيعتهم إلى المجال الخاص للعائلة، ولكن مهمة التعليم هي إعدادهم وإكسابهم المهارات والمعارف ليصبحوا أدوات فاعلة في المجال العام، أي أن يتحولوا إلى أفراد قادرين على المساهمة في المجتمع بشكل إيجابي.و أشارت إلى أن الاتجاه نحو خصخصة التعليم وربطه بالربح الاقتصادي قد يؤدي إلى تراجع دوره كمساحة تجمع بين التربية الفردية والمسؤولية المجتمعية، مما يجعل من الضروري حماية جوهر التعليم كوسيلة لخلق توازن بين الأهداف الشخصية والمصلحة العامة.(52)
تؤكد حنة أرندت في رؤيتها للتعليم أهمية دوره في تنمية المجتمع البشري وتحقيق الاستمرارية الثقافية فى ضؤ النقاط التالية:
1-دور الأجيال الجديدة في الابتكار والتغيير:
تعتقد أرندت أن كل جيل يجلب معه ابتكارات وتغيرات تساهم في دفع المجتمع البشري إلى الأمام. فكلجيل يساهم بشكل فريد في تجديد الحياة الثقافية والاجتماعية.
2-أهمية التعليم في الحفاظ على الاستمرارية:
مع هذا التغيير، تبرز أهمية التعليم في كل جيل. إذ يساعد التعليم في تشكيل الوعي الثقافي وتقديرالماضي، مما يضمن التماسك المجتمعي على مر العصور. من دون هذا التقدير للماضي، قد يكون منالصعب الحفاظ على الهوية الثقافية.
3-التعليم كجسر بين الخاص والعام:
تعتبر أرندت أن التعليم هو جسر يربط بين المجال الخاص (الأسرة والخصوصية الفردية) والمجالالعام (المجتمع والمشاركة العامة). من خلال هذا الجسر، يتمكن الأفراد من التنقل بين احتياجاتهمالشخصية والمسؤولية المجتمعية.
4-التوازن بين التفكير الداخلي والحوار العام:
من الضروري للتعليم أن يحقق التوازن بين التفكير الداخلي الذي يساعد على تطوير الأفراد علىالصعيد الشخصي، والحوار العام الذي يسمح لهم بالمشاركة الفعالة في الحياة المجتمعية والسياسية.(53)
وتؤكد أرندت ضرورة أن يتم تعليم الطلاب القدرة على التفكير الناقد والاستعداد للمشاركة في الساحة العامة. وهي تعتبر هذه العملية جزءًا أساسيًا من تكوين الإنسان المواطن في المجتمع الديمقراطي. في نظرها، لا يقتصر التعليم على اكتساب المعرفة بل يجب أن يمتد ليشمل تطوير مهارات التفكير الذاتي والقدرة على التعبير عن الرأي والمشاركة في القرارات المجتمعية. و ترى أن التفكير الناقد هو أداة أساسية لتحليل المعرفة والأفكار السائدة. يشمل ذلك القدرة على التشكيك في المعتقدات السائدة أو المواقف المقبولة من قبل الآخرين، بما في ذلك نقد السلطة، والسياقات الاجتماعية والسياسية. ولكن، التفكير الناقد لا يتوقف عند مجرد التساؤل أو التشكيك، بل يتطلب أيضًا صياغة مقترحات جديدة يمكنها تحدي الوضع القائم أو تقديم حلول جديدة.وترى أنه يمكن الكشف عن الذات في الساحة العامة ، فالتفاعل في المجال العام يتطلب أن يكون الأفراد مستعدين للكشف عن أنفسهم ،و الإفصاح عن أفكارهم وآرائهم بحرية ودون خوف من الرقابة أو التجريح.وتكون القدرة على المشاركة الفعالة في النقاشات المجتمعية، وهو ما يعزز من الفضاء العام كمساحة للتبادل الفكري والاجتماعي.(54)
والمشاركة في المجال العام لا تعني مجرد التواجد فيه، بل تتطلب أن يكون الفرد قادرًا على تقديم رأيه والدفاع عنه. هذا يتضمن المشاركة في النقاشات السياسية والاجتماعية والفلسفية، مما يعزز الشعور بالمسؤولية المشتركة ويعمق الفهم الجماعي.(55)
تناولت أرندت مفهوم الحوار في عدة أعمال لها، مثل "الوضع البشرى" و "أيخمان في القدس". وهي طورت مفاهيم ترتبط بتفاعل الأفراد داخل الفضاء العام وكيفية تأطير هذه التفاعلات لتصبح وسيلة للمشاركة الفعالة في المجتمع. ترى أن الفعل و القول هما الوسيلتان الرئيسيتان اللتان يمكن من خلالهما أن يتفاعل الأفراد مع بعضهم البعض كأعضاء في المجتمع. الفضاء الذي يحدث فيه هذا التفاعل هو الفضاء العام، الذي يسمح للأفراد بالكشف عن آرائهم وأفكارهم والعمل الجماعي. يتيح هذا الفضاء التنسيق بين الأفراد الذين قد يتشاركون نفس الفكر أو يختلفون فيه، مما يؤدي إلى إقامة علاقات بين الأفراد وتشكيل المجتمع بناء على ذلك.وطورت أرندت مفهوم التفكير الداخلي الشخصي، وهو عملية تفكير موجهة نحو الذات تمكن الأفراد من التفاعل بفعالية في الحوار عبر المجال العام. هذا التفكير الداخلي، الذي يتضمن التأمل والنقد الذاتي، يسمح للأفراد بتكوين آرائهم الخاصة ويعزز قدرتهم على مقابلة الآخرين في الفضاء العام والنقاش معهم.(56)
و استخدمت أرندت أدولف أيخمان كمثال على غياب التفكير الداخلي كأداة لفهم الشر ، ففى كتابها "أيخمان في القدس"، جادلت بأن غياب الحوار الداخلي وعدم القدرة على التفكير النقدي يمكن أن يؤدي بالأفراد إلى ارتكاب أعمال غير أخلاقية، حتى لو لم تكن لديهم نوايا شريرة. وفقًا لها، فإن الشر لا ينبع بالضرورة من الأشخاص ذوي النوايا الخبيثة، بل من الأشخاص الذين لا يستطيعون التفكير في تصرفاتهم. وقد أطلقت على هذا الظاهرة اسم "تفاهة الشر" ("the banality of evil")، مشيرة إلى أن الشر يمكن أن يكون سمة من سمات الروتين واللامبالاة في التعامل مع القضايا الأخلاقية.(57)
الخلاصة: وفقًا لأرندت، إن تعليم الطلاب ليس فقط اكتساب المهارات الأكاديمية أو المعلوماتية، بل يشمل تعزيز القدرة على التفكير النقدي والاستعداد للكشف عن الذات في الساحة العامة. هذا يعزز مشاركة فعالة في المجتمع ويخلق أجيالًا قادرة على مواجهة التحديات وتحقيق التغيير.وترى أرندت أن الحوار هو عملية أساسية لتفاعل الأفراد مع بعضهم البعض في المجتمع، وأن التفكير الداخلي الشخصي هو الأساس الذي يمكن أن يتيح القدرة على المشاركة الفعالة في الحوار والنقاشات العامة. كما أن غياب هذا الحوار الداخلي يؤدي إلى اللامبالاة والشر، وهو ما حذرته في مفهوم "تفاهة الشر" الذي يعكس كيف يمكن أن يؤدي عدم القدرة على التفكير إلى ارتكاب الأعمال الشريرة دون وعي.
3-الحوار عند ايمانويل ليفيناس(1906-1995)
خصّص ليڤيناس حيّزاً واسعاً من فلسفته للكتابة بشكل متميّز عن أخلاقيات التّعامل مع الآخر، وحرص في ذلك على غرس فكرة التسامح ونبذ فلسفة العنف والقتل. مستهجناً حرُوب البشر التي تأتي على الأخضر واليابس. مُطالباً من خلال ما كتبه وألقاه من محاضرات وما عقده من مؤتمرات، بإعادة الاعتبار في تعاملنا مع الآخر، وفي مسؤوليتنا تجاهه، وفي الحق بالاعتراف به، وفي احترامه كآخر مختلف عني، والإصغاء إليه والحوار معه؛ فمن غير الأخلاق إقصاء الغير أو تهميشه أو إدماجه في سياج الذاتية.(58)
يعد إيمانويل ليفيناس أحد أبرز المفكرين الذين أعادوا صياغة القيم الأساسية التي تقوم عليها الحداثة الأوروبية. بينما ركزت الثورة الفرنسية على ثلاثية "الحرية، والمساواة، والأخوة"، قام ليفيناس بقلب هذا الترتيب من خلال وضع "الأخوة" في المقدمة، معتبرًا إياها الشرط الأساسي لإنسانيتنا المشتركة والأساس الذي يمكن أن تنبني عليه الحرية والمساواة. يرى ليفيناس أن الأخوة ليست مجرد قيمة اجتماعية، بل هي العمود الفقري للوجود الإنساني. بدون أخوة، تصبح الحرية والمساواة مجرد شعارات. من خلال إعطائه الأولوية للأخوة، يقدم ليفيناس نفسه كمفكر يعمل على تقويض الفكر الحديث السائد من الداخل، ليعيد النظر في الأسس التي تقوم عليها القيم الغربية.، إذ إن العلاقات الإنسانية الحقيقية تبدأ بالاعتراف بالآخر كأخ، وهو ما يشكل أساس الكينونة الأخلاقية. هذا الانقلاب الفكري لا يسعى فقط إلى النقد، بل إلى إثراء الفكر الحديث وتوسيعه ليشمل بُعدًا أخلاقيًا أعمق.(59)
يدافع ليڤيناس عن مفهوم الآخر الذي أسس عليه فلسفته الأخلاقية، ويبرز القيمة الأخلاقية للمسؤولية التي تتحملها الذات تجاه الآخرين. تعتبر المسؤولية بمثابة اختيار، حيث إن واجبي عند لقائي بالآخر هو عدم الهروب أو التملص من مسؤوليتي تجاهه، مما يجعلني مديناً له.(60)
يطالب ليفيناس بحوار نقدي ويقظ يتناول العلاقات البشرية والمجتمعية من منظور أخلاقي وميتافيزيقى .هذا الحوار يتطلب إعادة النظر في كيفية تعاملنا مع الآخر، ليس كموضوع أو كفرد منعزل، بل ككائن يحمل في ذاته معنى أخلاقيًا يستحق الاحترام والاهتمام.وهكذا فان ليفيناس هو بحق مفكر المستقبل، حيث يضع تصورًا جديدًا للعلاقات الإنسانية مبنيًا على التضامن، والتفاعل الأخلاقي، والاعتراف المتبادل. في عالم يواجه تحديات كبيرة تتعلق بالعدالة والحرية، تظل رؤيته إعادة صياغة الجوانب الأخلاقية لعلاقاتنا بالآخر والبحث عن معانٍ أعمق لإنسانيتنا المشتركة نقطة انطلاق لمستقبل أفضل.(61)
تحمل مسؤولية الذات أمام الغير دلالات المحبة والسلام، هي مناداة للاعنف في وجه الحروب التي تفتك وتسفك دماء البشر وتحصد الأرواح وتنشئ المدافن. السلام ليس نهاية للحرب أو ختاماً للاقتتال، أو انصياع الخاسر للمنتصر."على السلام أن يكون سلامي أنا، بعلاقة تنطلق من الذات نحو الآخر، بالرغبة والطيبة حيث الأنا تقوم وتستمر من دون أنانية."(62)" أنْ تتكلم هو- في الوقت ذاته - أن تتعرف على الآخر وأن تعرفه بذاتك... هذا التعاطي الذي يتطلبه الكلام هو بالتحديد العمل من دون عنف".(63)
4-الحوار عند أوستن(1911-1960)
يرتبط الحوار عند أوستن بنظريتين أساسيتين هما:
أ-نظرية المنطوقات
يبدأ أوستن كتابة "كيف نصنع الأشياء بالكلمات"How to do things with words بالتمييز بين المنطوقات التقريرية constative utterances والمنطوقات الأدائيةperformative utterancesعلى أساس أن الأولى قد تكون صادقة أو كاذبة بينما الثانية لايمكن أن تكون صادقة أو كاذبة(64).
ويرجع هذا التمييز الى ايمان أوستن بوجود منطوقات لا تقوم بوصف العالم الخارجى ولا صلة لها مطلقا بالصدق والكذب. ولذلك نجده يقول: "لقد اصبح مدركا مؤخرا أن كثيرا من المنطوقات التى أخذت على أنها عبارات هى فى الواقع ليست وصفية, ولا هى عرضة لأن تكون صادقة أو كاذبة. لكن متى تكون العبارة لا عبارة؟ عندما تكون صيغة فى حساب التفاضل والتكامل, وعندما تكون منطوقا أدئيا, وعندما تكون حجة قيمة, وعندما تكون تعريفا definition, وعندما تكون جزءا من عمل قصصى, وهناك إجابات كثيرة مقترحة كهذه. وببساطة ليس عمل هذه المنطوقات هو " التطابق مع الوقائع".(65)
ولهذا يشير أوستن الى وجود منطوقات تشبه المنطوقات التقريرية ولا تقرر شيئاً فى العالم الخارجى, ومع ذلك لا يمكن وصفها بأنها زائفة. ومن هذه المنطوقات ما يستخدم فى مراسم الزواج مثل " إننى أتخذ من هذه المرأه زوجة شرعية لى", ومنها ما يستخدم فى الوصية مثل "اننى أورث ممتلكاتى لأخى", ومنها ما يستخدم فى المراهنة مثل " اننى أراهنك على مبلغ كذا وكذا من المال أنه سوف يحدث غدا كذا ", ومنها مايستخدم فى التسمية مثل "إطلاق اسم على مكان معين".. الخ. ومع أن هذه المنطوقات ليست صادقة وليست كاذبة, فانها ذوات معنى. ويقترح أوستن تسمية أى منطوق من هذه المنطوقات باسم "المنطوق الأدائى"(66).
ويضع أوستن عدة قواعد يؤدى عدم الالتزام بها الى الوقوع فى المخالفات وبالتالى وجود منطوقات غير ملائمة كما يلى:
1- لابد من وجود أجراء عرفى conventional procedure ذات أثر معين ويمكن قبوله, وأن يتضمن كلمات محددة يتم التلفظ بها من قبل أشخاص معينون فى ظروف معينة .
2- لابد أن يتلائم الأشخاص مع الظروف لكى ينفذ الأجراء المحدد.
3- لابد أن يقوم كل المشاركين فى الأجراء بتنفيذه بشكل صحيح وبصورة كاملة.
4- لابد أن يكون لدى المشاركين أفكار أو مشاعر أو نوايا محددة واهتمام بتوجية ذواتهم.(67)
ولكن هل المنطوقات التي هي عبارات تنطبق فكرة المخالفة عليها؟, يرى أوستن في إجابته عن هذا السؤال أن "المخالفة" هي أهم ما يميز المنطوق الأدائي على أنه مغاير للعبارة. وأن المنطوقات الأدائية من حيث هي أفعال متميزة عن غيرها. فالأفعال بصفة عامة قد تتم عن طريق الإكراه, أو الضغط, أو الصدفة. وفى هذه الحالات لا ينبغي القول أن الفعل قد أنجز, بل هو فعل عاجز نظرا للإكراه, وترتبط مثل هذه الأفعال ب "الظروف المخففة" أو ب"الغاء مسئولية الفاعل"...الخ(68).
ومن أمثلة المخالفات للقاعدة الأولى والتى تجعل المنطوق الأدائى غير مقبول: قول الزوج المسيحى لزوجته "أننى أطلقك" فرغم هذا القول لا يقع الطلاق لأن هذا الأمر لا يتعلق بأى اجراء مطلقاً حيث إنه مع الزواج لايوجد انفصال. ومن المخالفات للقاعدة الثانية "إذا كنا فى صحراء جرداء وتقول لى اذهب وأفعل كذا" وأقول "أنا لا أتلقى أوامرى منك" أو "لست أنت الذى يصدر لى الأوامر", وهذا مخالف ولاشك للحالة التى تكون فيها رباناً على سفينة لأنك فى هذه الحالة تكون لك سلطة حقيقية. ومن المخالفات التى تقع للقاعدة الثالثة "استخدام, الصيغ اللغوية بطريقة غير صحيحة كأن نستخدم صيغ غامضة واشارات ملتبسة". أماالمخالفات الخاصة بالقاعدة الرابعة فترتبط بالمشاعر والأفكار والنوايا. ذلك أن مشاعر الأفراد المشاركين فى الأجراء ليست واحدة, فالمنطوق "أنا أهنئك" قد يقال وأنا غير شاعر بالرضا أو وأنا أشعر بالغضب, كما أن الأفكار لدى الأشخاص المشاركين فى الاجراء قد لا تكون واحدة, وكذلك قد تغيب النية لدى المشاركين فتقع المخالفة.(69)
وهكذا يناقش أوستن فى عرضه لقواعد المنطوقات أفكاراً عديدة من أهمها فكرة "القبول" و"الملامة" و"الأهلية" و"الظروف" و"المشاعر" و"النوايا" وهلم جرا.. ولذلك فإن من الأسئلة الهامة فى مجال دراسة أفعال الكلام السؤال عما اذا كان الفرد قام بأداء الفعل بطريقة صحيحة أم خاطئة, وما إذا كان يمتدح أو يلام بسبب طريقة الأداء.. وهناك سؤال آخر "هل يستطيع أن يؤدى مرة ثانية؟", "هل يمكن فعل شئ آخر غير الذى قام به؟" بلا شك كلنا نجيب بالإثبات فى معظم الأحوال. فربما يظل اللص فى أحد المنازل يشاهد التلفزيون بدلاً من السرقة, وأنا يمكن أن أقوم بأعمال الحديقة بدلاً من لعب الجولف, ولا يهم فعلاً ما الذى أقوم به .. وهكذا. والذى يشكل المشكلة هنا هو أنه على الرغم من الميل الطبيعى لافتراض أن الناس قادرون على فعل أشياء غير التى يفعلونها, فان معظم الفلاسفة يقولون أن هناك بعض الأسس التى عليها يمكننا أن نقول أن لا شئ يمكن أن يحدث سوى ذلك الذى يحدث الآن ولذلك من بين الأشياء التى لايمكن للبشر أن يقوموا بها أثناء أداء أشياء أخرى ولا يستطيعون فى أى الحالات على الإطلاق أن يقوموا بها. ولتوضيح ذلك يبدأ أوستن حديثة بذكر بعض ملاحظات مور فى الفصل السادس من كتابة "مبادئ علم الأخلاق".(70)
يبدأ مور بالملاحظة التالية: هب أننى اقضى فترة الصباح فى العمل على مكتبى. اذن يبدو أن هذين الشيئين يمكن قولهما عنى: أننى فى هذا الصباح أستطيع أن أمشى ميلاً واحداً فى عشرين دقيقة (رغم أننى لم أفعل, وبالعكس, أننى لا أستطيع أن أجرى ميلين فى خمس دقائق). ونلاحظ أن هذه من الملاحظات الخاصة بالقدرات الجسمية – مشى ميل فى عشرين دقيقة هى شئ فى حالة الصباح يمكننى أن أفعله ولكن لا أنا ولا أحد غيرة يمكنه أن يغطى ميلين فى خمس دقائق. ولو كان الأمر كذلك, فهناك على الأقل حاسة – أيا كانت- يكون بها صحيحاً عن أحد الأفراد أنه يمكنه أن يفعل شيئا لم يقم بفعله فى الواقع.(71)
ولكن المعترض أو ما نسميه بـ"الحتمي" لا يرضى بهذا دعنا نتفق على أن شيئاً لم أفعله حقاً هذا الصباح كان يوجد ضمن قدراتي الجسمية فى ذلك الوقت وبهذا كان شيئاً يمكننى القيام به, وربما لا تزال نفس الحالة التى لا يمكننى فعلها والقيام بها. لأنه يمكن أن نفهم – فى وجود كل الظروف كما كانت فى الصباح – عدد الأنشطة التى تمت ويمكن أن تحدد بطريقة عادية بمعرفة الظروف الموجودة وقوانين الطبيعة, فلا يمكن أن يحدث شئ سوى ما قد حدث فعلاً. وبهذا لا يمكن ادراك حركة المشى فأنا لا أستطيع القيام بها فى وجود تلك الظروف, رغم أن هذا شئ عادى وهو ضمن قدراتى الجسمية.(72)
ويعتقد مور أن هناك سبباً للقول فى هذه الحالة بأن كلمة "يمكن" تعنى "يمكننى لو أن لدى الاختيار" أو – كما يقترح- "كان على لو أننى أخترت". ولكن لو كان هذا حقاً فان الحتمي ربما يوافق تماماً على أننى استطيع فعل ذلك رغم أننى لم أفعله. لأنه لابد أن يعترف بأن شيئاً يمكن أن يكون قد حدث لم يحدث فعلاً لو أن الظروف مختلفة عما هى عليه, وأنه لو كان لدى الاختيار فربما كان على أن أسير الميل فى عشرين دقية هذا الصباح. وهذا يعنى أن "يمكننى" و "احتمال" على الأقل فى هذه الحالات هى "شرطية" وترتبط بالفعل بما يقوله الحتمي فى وجود الظروف الفعلية فى أى مجال آخر مختلف بأن شيئاً يمكن أن يحدث فى حين أنه لم يحدث بالفعل.(73)
بعد أن عرض أوستن هذا الموقف تجادل أو أجرى حواراً مع مور حول المثال الأول كما يلي:
أولا: يتساءل أوستن: ماذا عن "يمكنني" و"يجب أن أكون قد"؟. لقد أقترح مور أنه ربما "يمكنني" تعنى "يمكنني لو أنا اخترت"، ولكنه يستمر ليقول أنه كان من الأفضل أن نقول "كان يجب على لو أنا اخترت". ولكن في الواقع هذا يبدو كقول شيء مختلف تماماً: "فالذي يستطيع الفرد أن يفعله يختلف عما يمكن أن يفعله: ربما يستطيع أن يطلق عليك الرصاص ولكن هذا ليس ضرورياً من أجل أن يقوم بذلك". ويقول أوستن: لو أنا اخترت حالة مور نفسه "كان يمكنني أن أمشى ميلاً في عشرين دقيقة لو أنا اخترت "نجد أنها ليست مرادفه ("كان على أن أمشى ميلا في عشرين دقيقة لو أنا اخترت " ربما يكون صواباً عندي ولكنهما لا يقولان الشيء نفسه. فالطريقة المثلى في قراءة الأولى ربما تكون إدعاء أو على الأقل تأكيداً لقدرتي الجسمية, أما الثانية فإنما هى شيء عن قوة شخصيتي: لو أنا أخترت أن أمشى ميلاً فى عشرين دقيقة هذا الصباح, إذن فعلى أن أمشى. ولهذا فان اقتراح مور من وجهة نظر أوستن غير مبرر بالتأكيد.
ثانياً: من المزايا الهامة لاقتراح مور أن جملة "كان يمكنني" وجملة "يمكنني":" أو "يحتمل" كلاهما شرطيتان. ويبدو أن هذا هو الذى يعنيه , وهو هدفه اللغوى وهو المطلوب فى جداله مع الحتمى. فالذى حدث فعلاً هو الذى يمكن أن يحدث" ولكنه مستعد جداً ليعترف بأن –شيئاً آخر يمكن أن يكون قد حدث لو أن الظروف اختلفت عما كانت عليه. وافترض مور أن جملة "أنا أستطيع لو أنا اخترت" هى جملة شرطية" ولكن هل هي شرطية فعلاً؟ ربما نقول نعم لو أن هذا يعنى أنها تحتوى على جملة مساعدة تبدأ بـ"اذا" . ولكن من وجهة نظر أخرى كما يود أستن أن يقول فهى تختلف كثيرا عن الشرطيات العادية. فعن طريق القواعد العادية، لو أن لدينا الصيغة "لوكانت أ- إذن تكون ب" فإن الأولى تمكننا من استنتاج أنه "لو لم تكن أ" إذا لم تكن ب-" والثانيه بالطبع لا تمكننا من استنتاج (ب) عن طريق ذاتها. ومن خلال "لو كان يمشى فسوف يتاخر" يمكننا استنتاج "لو لم يتاخر فهو لم يكن يمشى" ولكن، بالطبع، "هو لن يكون متاخراً". ولنأخذ مثالاً عن "يستطيع" من خلال "هو يستطيع أن يفعل ذلك الشىء لو كان مستعداً له" يمكننا استنتاج "لا يمكنه فعله لو لم يكن مستعداً له" ولكن ليس "هو يستطيع فعله .. ولكن "أستطيع لو أنا اخترت" تتفق مع هذه القاعدة العادية. فنحن لايمكن أن نقوم بالاستنتاج الدقيق "لو لم أستطع ، لن أختار أن .. "ولكن يبدو أننا يمكن أن نستنتج "أنا استطيع سواء اخترت أم لا" وكذلك ببساطة "أستطيع" بدون أى شروط. (فقدرتى على فعل شىء غير مشروطه بأى شىء آخر) فهذه الاحتمالات غير موجوده وليست عامة كما يقول أوستن. فعبارة "يوجد بعض البسكويت على المنضدة اذا كنت تريده" تعنى "أن هناك بعض البسكويت" ولا تعنى "لايوجد بسكويت إذن فانت لا تريده". وعبارة "ولقد دفعت لك أمس لو كنت تتذكر تعنى "أننى دفعت لك أمس لو أنت تذكرت أم لا ولا تعنى "أننى لم أدفع لك لو لم تتذكر أننى دفعت" رغم ان هذا قد يكون صحيحاً(74)
وهكذا فإن عبارة "أنا استطيع لو أنا اخترت" و" كان يمكننى لو أنا استطعت الاختيار" ليست شرطيات طبيعية، بل ليست شرطيات على الإطلاق كما هو واضح عند مور. فماذا عن "يجب على لو أنا اخترت؟" وهذا مختلف تماماً. فنحن لانستطيع أن نستنتج من "يجب على لو أنا اخترت" انه يجب على لو أنا اخترت أم لا.وكذلك هذه الجملة" يجب على لو أنا اخترت" تبدو شرطية بصورة طبيعية. ولكن ماذا عن "لو لم تكن أ ولا ب؟ هل نستطيع استنتاج "لو لم أستطع أن أختار ذلك" وهذا غريباً حقاً ويرفضه أوستن. إذ يرى أن "يجب على لو أنا اخترت" تعنى "يجب على ليست حقاً بل تأكيداً أن شيئاً ما سوف يتحقق ولكنه إعلان للنية والقصد وهو القيام به لو كنت أستطيع الاختيار.ولكن هذا غير واضح فعبارة "لم يجب على" ماذا يمكن أن تعنى؟ إذا كانت تعنى نفى كلمة "يجب على "فهى لن تكون افتراضاً لشىء ما سوف يحدث فى المستقبل، ولكن إذا لم تكن كذلك، ماذا يمكنها أن تكون أيضاً. أعتقد أنه إذا ما حاولنا فحصها من أجل الاستنتاج نجد أنفسنا أمام تغيير فى الكلمات: "جدك سوف يغضب منك لو أنت تزوجت هذا الرجل"، "سأتزوجه لو أنا اخترت"، "أنت بالتأكيد لن تفعلى هذا لو أنت علمت شعور جدك"، "لو أنا لم أفعل فهذا فقط سيكون بسبب أننى لا أستطيع الاختيار". فى هذا الجزء من المحادثة نلاحظ أن جملة "أنا سوف" متبوعة بـ"لو أنا لم" وهذا كاف جداً ولكن ربما لم يكن النفى الجازم لجملة "أنا سوف" فى الجملة السابقة (75).
ويرى أوستن أن جملة "يمكننى أن" لها صورتين متماثلتين ولكنهما مختلفتان فى القواعد النحوية. فإحداهما شرطية: "يمكننى أن أفعل هذا الشىء لو كنت مستعدا له" تقول بالفعل أنه كان بإمكانى أن أفعله لو توافرت الظروف وخاصة كونى مستعداً. والأخرى غير شرطية " كان يمكننى أن أفعله – ليس يمكننى أن أفعله لو...، ولكن أننى كنت قادراً أن "... وبالنسبة لجملة "أنا أستطيع لو أنا اخترت" فيقول أوستن أن هناك ثمانية اختلافات وتفسيرات بسيطة ويلاحظ أن الشىء المشترك فيها جميعاً هو التأكيد الإيجابى الكامل على أن "أنا أستطيع" ترتبط بوجود السؤال عما إذا كنت أنا اخترت والذى يتعلق بما نحن فيه بمجموعة من الطرق(76).
كما يذكر أوستن بعض الملاحظات على كتاب "الأخلاق"(1954) لـ"نويل – سميث، P. H. Nowell- Smith الذى قدم فى البداية اقتراحه بأننا عندما نقول إن "فلان قد استطاع أن يفعل كذا وكذا" فذلك يتضمن أنه لم يقم بالفعل نفسه. فهذا الاقتراح لا يؤكد الفعل نفسه، أو أن الفعل قد تم بالفعل مباشرة، وهذا يبدو معقولاً. فإذا قلنا إنه "ارتكب جريمة" أو "قد يرتكب الجريمة" فهل هذا يعنى أنه ارتكبها بالفعل أم لا؟. ويرى أوستن أن الفعل "يستطيع" يؤكد لنا القدرة على إنجاز الفعل فى الواقع. ولكن ماذا إذا استخدمته لتقول أنه استطاع أن يفعل شيئاً وأنا متأكد أنه لم يفعله أبداً؟ فهذه الجملة ليست مباشرة مما يعنى أن هناك بعض الحالات التى تناسب الإدعاء الذى قام به "نويل – سميث". فما يكون الشخص قد فعله لا يعنى بالضرورة أنه قد فعله فعلاً. فحقيقة الفعل المباشر هذه قد تكون خاصة ببعض الحالات من دون الأخرى. ولذا فنحن لا نندهش بالحقيقة العامة عندما تقول "قد فعل" عندما تعنى "ربما فعل" بما فيها من قدرات معينة. ولذلك فإن عبارة "هو قد فعلها" ليست قاطعة لسببين هما: أولاً أننى لم أره يفعلها وثانياً ليس هناك ما يثبت أنها وقعت بالفعل أى أنها أمر قاطع. وهذا يتضمن أن جملة "قد فعلها" نفسها ليست جملة قاطعة وباتة(77).
إذن ماذا عن تحليل كل من "يستطيع" و"قد فعل"؟ يقول نويل- سميث أن هناك ارتباطاً للعوامل بطريقة "شاذة منطقياً". فعندما نقول أن الشخص "يستطيع" أن يعمل كذا وكذا نعنى أن لديه الفرصة ولديه الدافع لفعل ذلك ولكنه لم يفعله بعد. لكن هل يعد ذلك منطقياً؟ يقول أوستن إن هذا لا يبدد النتيجة التى وصل إليها نويل سميث. وهذا أيضاً يثير الدهشة لأنه فى الواقع وضع لنا مثالاً معاكساً لذلك يفسر هذا الغموض. فالارتباط بين القضايا يكون "شاذاً منطقياً" معناه ببساطة أنها لا يمكن أن تكون كلها صحيحة معاً. لتوضيح ذلك يمكننا أن نسوق القضايا التالية:
1- يمكننى أن أفعل كذا.
2- عندى فرصة أن أفعل كذا.
3- عندى دافع أن أفعل كذا.
4- أفشل فى عمل كذا.
ويرى أوستن فى تعليقه على ذلك أنه لا يوجد ما يسميه نويل بـ"الشاذ" "منطقياً" فعندما أحاول وأفشل فى محاولتى لا يجب أن أستنتج أننى لم أفعل ذلك. وحقيقة ما قاله نويل عن وجود ارتباط بين هذه القضايا أو اعتقاده بأن هذه العلاقة شاذة منطقياً ينطوى على خطأوهو: إذا افترضنا صحة ما يستطيع الفرد عمله فهذا يتضمن صحة محاولاته للعمل نفسه بعد ذلك. وقد يكون شاذاً فعلاً أن اللاعب وأنا قد نحاول بجهد ثم نفشل ولكنه ليس شاذاً منطقياً أو حتى مستحيل منطقياً logically impossible(78).
وإذا اعتقدنا أن نويل – سميث على حق فيما قاله عن الارتباط "الشاذ منطقياً" فلن نجد علاقة بين "يستطيع" و"قد يستطيع أن يفعل". "فهو يستطيع" تعنى أنه إذا واتته الفرصة والدافع فقد يفعل وسوف يفعل. ولكن أوستن ينكر ذلك لسببين:
الأول: أن الارتباط بين القضايا الأربع السابقة غير محتمل ومن هنا يمكننا الظن بأن واحدة منها تعنى صحة اثنتين وتؤدى إلى عدم صحة الرابعة. فعندما أقول"هو يريد أن..." تعنى أنه يستطيع ولكن ليس لديه الفرص لذلك. وعندما أقول "هو لا يفعل..." تعنى أنه يستطيع ولديه الفرصة ولكنه لا يفعل. وكلها كما يقول أوستن مجرد "اقتراحات خيالية" Fantasti suggestions مثال: إذا لم أقضى أجازتى الصيفية فى أيسلندا فيكون صحيحاً أننى يمكننى ذلك ولكن لا أريده.
الثانى: أن أوستن يوضح ما قاله نويل سميث فى تحليله لكلمة "يستطيع" بما قد يقوم به الفاعل أو ما لا يفعله وذلك بالرجوع إلى الدوافع أو كما قال بالرجوع إلى ما يريده. فلا يمكننى إذن أن أقول ما يفعله الفرد أو ما سوف يقوم بفعله بدون الرجوع إلى الدوافع لمثل هذا الفعل. قد يكون هذا صحيحاً إذا تحدثنا عما يستطيع الفرد عمله ونجد أن ذكر الدوافع هنا ليس لها ارتباط بالموضوع. وتبدو النظرية مرفوضة بناء على هذين السببين(79).
وهنا يبدو من المهم جداً الرجوع إلى ما قاله أوستن بشأن "المقدرة" و"الفرصة" و"المهارة" و"الاستطاعة" حتى ندرك أهمية مدى اختلاف القضايا رغم اشتراكها فى نفس الموضوع. تعبر "الاستطاعة" عن "القدرة الجسمية" أو "القدرة العقلية" أو "القدرة المهارية" أو ما يسميه بـ"القدرة الشرعية أو الحق الشرعى legal power and right.. إلخ. فإذا وضعنا نصب أعيننا حالة مثل "القدرة الجسمية" كـ"تحريك اليد": فنحن نعتقد خطأ أن "هو يستطيع" لا يمكن أن تعنى "أنه فعل ذلك حقاً وأنها قد تكون ضربة حظ فقط... ويمكننا إذن أن نقول كما اعتقد أوستن أن المقدرة هى عائق أو احتمال ورائى لا يتضمن دائماً النجاح". وإذا عدنا مرة أخرى إلى سؤالنا عما هو مطلوب لكى نحدد ما يمكن للفرد أن يفعله وما قد يفعله حقاً نجد مرة أخرى أن القضايا مختلفة فيما بينها. إذا أردت معرفة هل قرأت القصة مثلاً يجب على أولاً أن أعرف هل يمكنك القراءة بالإنجليزية أم لا؟ وهل يمكنك القراءة أم لا؟ كل هذه المقدمات لا تؤكد قدرتك على الفعل عند المحاولة(80).
ولهذا يرى أوستن أن المرء يمكنه أن يستخدم عدة وسائل لغوية لتوضيح فعله الذى ينجزه مثل: الصيغة mood، والنغمة toon، والظروف, والعبارات الظرفية وأدوات الربط ولواحق المنطوق وظروف التلفظ به وهذا كما يلى:
أولاً: الصيغة:
الصيغة الطلبية مثلاً التى تجعل المنطوق "أمراً" أو "نصيحة" أو "رخصة" أو "تصريح.. إلخ لها استعمالات عدة فالمرء يمكنه أن يستعم عبارة "اغلق الباب" كما يلى: "اغلق الباب إذا طاب لك" تشبه المنطوق الأدائى "أنا أجيز لك أن تغلق الباب", "حسن" جداً إذن أغلق الباب "تشبه المنطوق الأدائى "أنى أوافقك على إغلاق الباب". هذا فضلاً عن إمكانية استعمال الأفعال المساعدة من أجل الغرض نفسه، فالصيغة "يجوز لك أن تغلقه" تقوم على الفعل المساعد "يجوز" وتشبه المنطوق الأدائى "أنا أعطيك إذناً لأن تغلقه" أو المنطوق الأدائى" أنا أوفقك على أن تغلقه". والصيغة "يجب أن تغلقه" تشبه المنطوق الأدائى "أنا أمرك بأن تغلقه"، والصيغة "ينبغى أن تغلقه" تشبه المنطوق الأدائى "أنا أنصحك بأن تغلقه".
ثانياً: النغمة:
يمكن استعمال نغمة الصوت أو النغمة الختامية أو التضخيم لتوضيح قوة المنطوق، ومن أمثلة لك: المنطوق "إنه يشرع فى الهجوم" هو تحذير و"أيشرع" فى الهجوم؟ "استفهام و"يشرع فى الهجوم" الترخى.
ثالثاً: الظروف والعبارات:
يعول المرء فى اللغة المكتوبة – وإلى حد ما فى اللغة المنطوقة – على الظروف والعبارات الظرفية، والتالى يستطيع أن يحدد قوة المنطوق "أنا سوف أقابلك غداً" عن طريق إضافة الظرف "على الأرجح" مثل "أنا سوف أقابلك غداً على الأرجح"، أو بمعنى معارض عن طريق إضافة الظرف "حتماً" إلى المنطوق نفسه: "أنا سوف أقابلك غداً حتماً".
رابعاً: أدوات الربط:
قد تستخدم أداة الربط مع قوة المنطوق، فمثلاً، نستخدم الأداة "ومع ذلك"، "أنا أصر على" "ولذلك" مع قوة المنطو.
خامساً: لواحق المنطوق:
قد نتبع نطق كلمات بالإيماءة أو الغمز أو هز "الكتفين أو العبوس أو نرفقه بالأفعال الشعائرية غير اللفظية كالتصنيف مثلاً، وقد تكفى هذه اللواحق أحياناً بدون النطق بالكلمات.
سادساً: ظروف التلفظ بالمنطوق:
بدون معرفة الظروف التى يتم فيها التلفظ بالمنطوق نقع حتماً فى الخلط فى عملية فهمنا للمنطوقات موضوع الدراسة(81).
وهكذا يمكن القول أن أوستن قد كرس اهتماماً كبيراً لما أسماه "المنطوقات الأدائية" وتنوعها وخصائصها. وكانت آراؤه حول هذه المنطوقات مثمرة، فقد قدمت نموذجاً لذلك النوع من البحث الخاص بحقائق الكلام واللغة والتى بدت وكأنها قد تم البحث فيه منذ القدم وتم تطويرها بصورة شديدة. ولا شك أن العديد من المشكلات التقليدية فى الفلسفة تم توضيحها من خلال هذا النوع من البحث(82).
ب-نظرية أفعال الكلام
يجمع كثير من الباحثين على أن عدم اطمئنان أوستن إلى تفسيراته وتحليلاته المختلفة للمنطوقات والحالات الخلافية لها، وكذا وسائل توضيحها هو الذى دفعه أساساً إلى تقديم نظريته حول أفعال الكلام. ومنهم على سبيل المثال، "أرامسون" J. O. Urmson، و"ألبرت بروجمان" Albert Borgmann و"وارنوك"G. J. Warnock .
يرى أرامسون أن أوستن قد أسس أولاً فى كتابه "كيف نصنع الأشياء بالكلمات؟" مذهبه حول "المنطوقات الأدائية" غير أنه عندما تبين له أنه غير مرضى تماماً عمل على استبدال التمييز بين "المنطوقات الأدائية" و"المنطوقات التعبيرية" بالتمييز بين ثلاثة أنواع من الأفعال هى: الفعل التعبيرى locutionary act، والفعل الغرضى illocutionary act والفعل التأثيرى Perlocutionary act، وتلك الأفعال الثلاثة هى مكونات تجريدية من الفعل الكلامى التام compelte speech - act. وكان لهذا المذهب تأثيره القوى على الأعمال التى دارت فيما بعد حول فلسفة اللغة(83).
ويرى ألبرت بروجمان أن الاكتشاف الشهير لأوستن ربما هو تمييزه بين "الجملة التقريرية" و"الجمل الأدائية" فقد أوضح أن "الجمل الأدائية" محكومة بقواعد محددة ومعقدة وأننا نستطيع قياسها بمعيار النجاح والفشل. وبهذا التمييز قدم رؤية واضحة حول نمطين من الكلام، ولكنه واجه كذلك مشكلات عديدة... وقد هاجم أوستن هذه المشكلات بتمييزه بين ثلاثة نماذج ممكنة من الفعل هى: الفعل التعبيرى والفعل الغرضى والفعل التأثيرى(84).
ويرى وارنوك أن أوستن عندما وجد أنه لا يمكننا دائماً التمييز بين "المنطوقات الأدائية و"المنطوقات التقريرية" آثر أن يبحث فى الأسس العميقة للعديد من الطرق التى يكون فيها قول شىء ما "هو" is فعلاً لشىء ما، أو "فى" in قول شىء ما نؤدى شيئاً ما، أو "بواسطة" by قول شىء ما نؤدى شيئاً ما وذلك بعد اكتشاف البعد الأدائى perfornative dimension للمنطوق –بوجه عام – وهذا على النحو التالى:
أولاً: قد نتقيد بالكلام الحرفى، أو نتفق على أن قول شىء هو دائماً فعل نطق أصوات معينة يطلق عليه أوستن اسم "الفعل الصوتى" a phonetic act .
ثانياً: الفعل الصوتى للمتكلم هو، بطبيعة الحال، دائماً فعل نطق ألفاظ أو تعبير عن أصوات أو كلمات من أنماط معينة تنتمى إلى مفردات لغوية vocabulary معينة، وفى نظام محدد طبقاً لنحو معين، وبتنغيم intonation معين.. إلخ. ويطلق أوستن على هذا الفعل اسم "الفعل الصرفى التركيبى"aphaitc act ،والمنطوق الذى يكون فعلاً للنطق هو "الوحدة الصرفية التركيبية" pheme. إن ما يريد أن يؤكده أوستن هنا هو أن المتكلم فى الكلام (أو فى أداء الفعل الصوتى) ينتج، بصورة نموذجية، جمل اللغة وكلماتها فى نوع معين من التركيب النحوى.. إلخ.
ثالثاً: المتكلم فى الطريقة العادية لا يعبر بدقة عن جملة اللغة. إنه يعبر عنها فى "القول" أو لكى "يقول" شىء ما أو آخر. وهذا الأداء التعبيرى يسميه أوستن "الفعل الدلالى" rhetic act. ولكى نحصل من "الفعل الصرفى التركيبى" على "الفعل الدلالى" نحتاج إلى شيئين يسميهما أوستن: "المغزى" أو "الفحوى" sense و"الإشارة" reference وهما يساويان عنده "المعنى" meaning(85).وهذه الأفعال الثلاثة وهى "الفعل الصوتى والفعل الصرفى التركيبى والفعل الدلالى" تشكل معاً الفعل التعببيرى عند أوستن(86).
وبهذا يوضح أوستن أن أداء الفعل الصرفى التركيبى يتطلب بالضرورة أن نؤدى الفعل الصوتى، بمعنى أن أداء أولهما أداء للآخر، ولكن العكس ليس صحيحاً. كما أن تعريف الفعل الصرفى التركيبى يجمع بين أمرين معاً: المفردات اللغوية والنحو(87).ولذلك نجد أوستن فى تمييزه بين الفعل التعبيرى والفعل الغرضى يقول: "من البديهى، بالطبع، أن أداء الفعل الغرضى هو بالضرورة أداءاً للفعل التعبيرى، فعلى سبيل المثال (فعل التهنئة) هو بالضرورة قول ألفاظ معينة(88).
وهكذا فقد شعر أوستن بضرورة البحث عن بديل للتمييز ما بين المنطوقات الأدائية والمنطوقات التقريرية، فوضع نظرية القوى الغرضية the theory of illocutionary forces. ورأى أن المرء عندما يقول شيئاً ما فإنه يؤدى عدداً من الأفعال التى يمكن التمييز بينها مثل "الفعل الصوتى" وهو أداء نطق أصوات معينة، و"الفعل الصرفى التركيبى" وهو نطق كلمات محددة وفقاً لنحو محدد. وأراد أوستن أن يميز بين ثلاثة أنواع أخرى من الأفعال نؤديها عندما نقول شيئاً ما وهى أولاً: "الفعل التعبيرى" وهو أداء منطوق بـ"مغزى محدد تقريباً و"إشارة" محددة مثل قولنا "الباب مفتوح"، ثانياً: "الفعل الغرضى" وهو الفعل الذى نؤديه فى أدائنا للفعل التعبيرى، ثالثاً: "الفعل التاثيرى" وهو الفعل الذى تنجح فى أدائه عن طريق وسائل فعلنا الغرضى(89).
كما أوضح أوستن أوجه الخلاف بين هذه الأفعال الثلاثة وطرق أدائها بالأمثلة التالية:
أ- التعبير locution:
1- قال لو "صوب هنا". He said to me "shoot her"
2- قال لى "إنك لا تستطيع أداءه". He said me "you can t do that".
ب- الغرض: illocution:
1- "أمرنى أن أصوب هنا" He ordered me to shoot her
2- "اعترض على أدائى له: He proctested aginst my doing it.
جـ- التأثير perlocution
1- "حثنى أن أصوب هنا": He persuaded me shoot her
2- "لقد صدنى، لقد ردنى، لقد منعنى، لقد أوقفنى".
He stopped me(90).
وفى تصنيفه المبدئى للقوى الغرضية قدم أوستن تفسيراً يتضمن "الأفعال التقريرية" constiative acts. ورأى أننا فى أدائنا للفعل التعبيرى يمكننا أن: نؤكد، ننكر، نصف، نقرر، نوافق، نثبت، نريد.. إلخ، كما يمكننا أن نؤدى الفعل بـ"القوة الإلزامية أو قوة الإلزام" Ccommissive force وذلك عندما: نعد، نراهن، ننذر، نتبنى أو نقبل، أو بـ"القوة الإحكامية أو قوة الإحكام": verdictive force وذلك عندما: نبرئ، نضمن، نلزم أو نرفض أو بـ"القوة السلوكية أو قوة السلوك" behabitive force وذلك عندما: نعتذر، نشكر أو نلعن(91).
وربما يحدث المتكلم فى قوله لشىء ما تأثيرات معينة على مشاعر المستمع وأفكاره وسلوكه كنتيجة لما يقول، على سبيل المثال، ربما يقنع شخصاً معيناً أن شيئاً ما حقيقة واقعية، أو يحث شخصاً معيناً لأداء شىء ما، وهكذا يفعل المرء شيئاً ما عن طريق القول، فقد يعبر به رؤية شخص معين حول موضوع ما، أو يخدعه، أو يرعبه، أو يدهشن.. إلخ. ويسمى أوستن هذا النوع من الأداء بـ"الأفعال التأثيرية"(111).كما يقول: "أن الأفعال الغرضية هى أفعال عرفية conventional acts: بينما الأفعال التأثرية ليست عرفية.. وتجب ملاحظة أن الفعل الغرضى هو فعل عرفى أى فعل مفعول وفقاً لعرف. وأننا نؤدى أيضاً الأفعال الغرضية مثل الأعلام، والأمر، والتحذير، والتعهد.. إلخ، أعنى المنطوقات التى لها قوة عرفية معينة(92).
وركز أوستن كذلك فى تمييزه بين الفعل التعبيرى والفعل الغرضى والفعل التأثيرى على ببيان مدى تعارض الفعل الغرضى مع النوعين الآخرين. فالفعل الغرضى رغم وجود نزعة ثابتة فى الفلسفة لاستبعاده لصالح أى فعل من الفعلين الآخرين إلا أنه يظل متميزاً عنهما. وإذا كان "استعمال اللغة"، ربما يولد مشكلات تحول دون التمييز بين الفعل التعبيرى والفعل الغرضى فكذلك الحال بالنسبة للكلام عن استعمال اللغة. ذلك أن الكلام عن استعمال اللغة للإثبات أو التخويف يبدو تماماً مثل الكلام عن استعمال اللغة للإقناع والإفزاع. ومع هذا فإن الأول ربما يكون عرفياً أى يمكن توضيحه بواسطة "الصيغة الأدائية" وأما الآخر فلا يمكن أن يكون كذلك(93).
وموجز القول: أن أفعال الكلام speech acts تتشكل عندما نتحدث بالكلمات أو نتلفظ بها. ولقد اعتقد أوستن أن أفعال الكلام تنقسم ببساطة إلى:
1- الفعل التعبيرى (قول كلمات) وهو يتضمن فعل صوتى (نطق أصوات) وفعل صرفى تركيبى (استعمال النحو)، وفعل دلالى (استعمال كلمات بمعنى).
2- الفعل الغرضى (أداء فعل فى كلمات منطوقة، على سبيل المثال، للوعد أو الإعلان).
3- الفعل التأثيرى ويكون عندما نحدث تأثيرات معينة فى الآخرين عن طريق كلماتنا.
واعتقد أوستن أن دراسة "أفعال الكلام" قد توضح المشكلات الخاصة بالمعنى والإشارة.. إلخ(94).
5-الحوار عند هابرماس(1929- )
اعتمد يورجن هابرماس Jürgen Habermas ،الفيلسوف والمفكر الألمانى، بشكل كبير على الدراسات اللغوية الحديثة لتطوير نظرية الفعل التواصلي، حيث أولى اهتمامًا خاصًا لأعمال اللغويين مثل "جون أوستن" (1911-1960) و"جون سيرل" (1932-). ويشير هابرماس إلى ذلك بقوله: "أنا مدين لكل الاتجاهات التداولية والتحليلية في النظرية اللغوية... إن هدف الفهم المتبادل متجذر في الاتصال اللغوي". واقترح مفهومي "الفعل التواصلي" و"الإجماع من خلال النقاش والجدل".
يدعو هابرماس إلى تعزيز ثقافة الحوار والتعايش والتواصل بين جميع الفئات والطوائف، في زمن تزايدت فيه الطائفية والطبقية وتباينت الأيديولوجيات. يسعى إلى تقديم فكر جديد يؤمن بالكونية والعالمية، ويجعل من الحوار سلوكًا اجتماعيًا يوميًا ونمط حياة وطريقة للتفكير.. ويعرّف الفعل التواصلي بأنه إنشاء تفاعلات اجتماعية بين اثنين أو أكثر من الفاعلين الاجتماعيين بهدف التفاهم المتبادل والاتفاق. ووفقا له، فإنه ينطوي على دعوة إلى العمل باستخدام اللغة اليومية، مثل القول أو الكتابة. أبسط الأفعال قد تكون إيماءات ذات معنى، مثل المصافحة أو تحية شخص ما.(95)
وهكذا فان الحوار الأصيل يستند إلى الأعمال الفلسفية العميقة لهابرماس ، حيث تعكس وجهة نظره حول العقلانية التواصلية . أسهمت أعمال هابرماس في تطوير مفاهيم التنوع والترابط ونظرية الحوار الحقيقي. يُعتبر الحوار أداة أساسية في التعلم التنظيمي، إذ تُستخدم المحادثات كوسيلة لتبادل الأفكار و"تطوير تفاهمات مشتركة". إن تبادل الأفكار وزيادة الفهم المتبادل بين الأطراف المعنية يعزز التعاون، وهو تفاعل اجتماعي بالغ الأهمية. لذا، يُعتبر الحوار الحقيقي أداة قيمة من منظور القيادة الاجتماعية/العلاقاتية، حيث يتيح للقادة والتابعين تبادل الأفكار وخلق تفاهمات مشتركة لتعزيز التعلم على المستويين الفردي والتنظيمي.(96)
حدد هابرماس ثلاثة أنواع من الفعل التواصلي، وهي: نقل المعلومات، بناء العلاقات مع الآخرين، وتمكين الأفراد من التعبير عن أنفسهم. وبعبارة أكثر دقة، فإن الفعل التواصلي يتميز بأنه معرفي وتفاعلي ومعبر، مما يشير إلى إمكانية حدوثه بين فرد أو مجموعة.(97)
التواصل الفردي عند هابرماس هو العنصر الأكثر أهمية في بنية المجتمع. من المستحيل فهم المجتمع دون فهم التواصل الفردي أولاً. ولذلك يحلل هابرماس النمو المجتمعي، وكذلك الصراع المجتمعي، في المجتمع الحديث، معتمدا على الفعل التواصلي. ووفقا له، تحدث الأزمات عندما يفشل المجتمع الحديث في تلبية الرغبات الفردية وعندما تؤثر المؤسسات الاجتماعية على الأفراد. ويجادل بأن الناس ينخرطون من أجل الاستجابة للأزمة، وهو ما يشير إليه بـ "الفعل التواصلي" "communicative action.".(98)
وفقًا لهابرماس، ينبغي أن تكون العقلانية حوارية أو "تواصلية"، حيث يقوم المشاركون بتقديم الحجج والردود عليها. عندما يؤكد أن العقلانية التواصلية هي القوة التي تساهم في الوصول إلى إجماع من خلال الخطاب الجدلي، فإنه يوضح مبرراته للعقل التواصلي. ويشير إلى أن القوة الوحيدة التي يمكن أن تؤدي إلى استنتاجات توافقية هي الحجة الأكثر إقناعًا، وأنه في نهاية العملية التداولية، تكون جميع الأطراف المعنية مقتنعة بالقرارات التي تم التوصل إليها وتعتبرها عقلانية.(99)
التواصل الفعّال يشكل جوهر هذا النهج في الديمقراطية السياسية. وفقًا لهابرماس، يُعتبر "المجال العام" "public sphere"مكانًا للحوار حيث يشارك المواطنون ويتفاعلون من خلال النقاش والخطاب. يدافع هابرماس عن نموذج إجرائي للديمقراطية يرتكز على العناصر الخطابية في المجال العام، مؤكدًا أنه لتعزيز المشاركة العامة وتوسيع أو تعميق الديمقراطية، يجب فهم السياسة كحوار عام يستند إلى إضفاء الشرعية على الإجراءات والعقل. في رؤية هابرماس، تشكل المداولات الديمقراطية العقل التواصلي. ويشير إلى أنه بينما يقوم العمل الاستراتيجي بتنسيق التفاعل الاجتماعي من خلال التأثير أو القوة الخارجية، فإن العقل التواصلي يحقق ذلك من خلال "الموافقة"، التي تتطلب التوصل إلى اتفاق يمكن تبريره فقط بناءً على المصالح العامة للأطراف المعنية من خلال التواصل الجدلي.(100)
نموذج هابرماس للكلام يعتمد على نظرية الحوار الأصلي من خلال تحديد مفاهيم العقلانية. وفيما يلي الشروط الأربعة للكلام وفقًا لهابرماس كما هو موضح في الجدول التالي(101):
نموذج هبرماس للتواصل العقلانى
**الشرط الأول: الإخلاص** - المناقشات تتم بشكل مباشر.
- تضم مجموعة متنوعة من المشاركين.
- يجب أن تكون الكلمات صادقة ومشروعة.
**الشرط الثاني: القدرة على الفهم**
- يجب أن تكون الرسالة:
. واضحة لجميع الأطراف المعنية.
. مدعومة بأدلة منطقية.
**الشرط الثالث: التفسير**
- يجب أن تُمارس السلطة بشكل متساوٍ بين جميع الأطراف.
- المعلومات يجب أن تكون متاحة للجميع.
**الشرط الرابع: القبول المعياري**
- جميع التصريحات تخضع للتدقيق والمراجعة.
- الحجة الأقوى (المبنية على الأدلة) هي التي تُعتبر السائدة.
6- الحوار عند ميخائيل باختين(1895-1975)
وبعد كسوف طويل في تاريخ الفكر الإنساني، وُلد الحوار من جديد في القرن العشرين على يد ميخائيل باختين (Mikhail Bakhtin)، الفيلسوف والمنظِّر الأدبي الروسي، الذي أعاد صياغة مفهوم الحوار وجعل منه أداة مركزية لفهم النصوص والظواهر الثقافية والاجتماعية. طور باختين نظرية حوارية متعددة الأوجه تقوم على مجموعة من المفاهيم الأساسية، منها: الحوار (Dialogue) ، المونولوج (Monologue) ، التعددية الصوتية (Polyphony) ،المنطوقات (Utterances) ،الصوت (Voice) ، تنوع الملفوظات Heterology وأنواع الكلام ..الخ. ألهمت كتابات ميخائيل باختين العديد من العلماء والممارسين لتطوير وتطبيق أساليب حوارية متعددة في مجالات متنوعة، أبرزها: علم أصول التدريس (Pedagogy)، علم النفس (Psychology)، العلاج النفسي (Psychotherapy) والدراسات الثقافية .(Cultural Studies)(102)
يعتبر ميخائيل باختين أحد أبرز المفكرين الروس في القرن العشرين، وارتبط اسمه ارتباطًا وثيقًا بمفهومي الحوار والحوارية. يرى باختين أن الحوار ليس مجرد وسيلة للتواصل، بل هو النموذج الأساسي للغة والتفاعل البشري. في الحوار، يكون تسلسل الكلام استطراديًا، حيث تستجيب الأصوات أو الموضوعات لما قيل من قبل وتترقب ما سيقال لاحقًا. بالنسبة لباختين، الحوارية تعني أن اللغة ليست ثابتة أو مغلقة، بل هي دائمًا في حالة تفاعل مستمر بين الأطراف المتحدثة. كل كلمة أو تعبير يتأثر بما سبق من سياق، ويهيئ الطريق لما سيأتي.(103)
ومن ناحية أخرى لايقتصر الحوار عند ميخائيل باختين فقط على التواصل الخارجي بين الأشخاص، بل يمتد إلى التفاعل الداخلي داخل الذات. وهناك ثلاثة عوامل رئيسية تُحدد بنية الكلام وفقًا لباختين:
1-المحتوى والمعنى: يتضمن الموضوع الذي يتحدث عنه الفرد، والمفهوم الذاتي الذي يُبنى حول هذا الموضوع. هذا العامل يحمل بُعدًا موضوعيًا (الموضوع الذي يتم تناوله) وبُعدًا ذاتيًا (الطريقة التي يفهم بها المتكلم الموضوع ويصوغه ).
2-التعبير والقيمة العاطفية: لا يمكن للكلام أن يكون محايدًا، فهو دائمًا يحمل علاقة عاطفية وقيمية تجاه المحتوى. هذه العلاقة ليست مجرد انعكاس فردي، بل تتأثر بالخطابات السابقة والسياقات الاجتماعية المحيطة.
3-الحوارية في الجوهر: يرى باختين أن كل خطاب حواري بطبيعته، حيث يتضمن مواجهة بين أصوات مختلفة. هذه الأصوات يمكن أن تكون أصواتًا خارجية أو أصواتًا داخلية تتفاعل في ذهن المتكلم.(104)
فالحوار حركة ديناميكية بين الأصوات، فهو لا ينحصر في كونه تبادلًا للكلام بين شخصين، بل هو ديناميكية مستمرة بين: الماضي (ما قيل سابقًا)، الحاضر (ما يُقال الآن)، و المستقبل) ما يُتوقع قوله أو الرد عليه).ويؤكد باختين البعد الاجتماعي للكلام، فالكلام لا ينشأ في فراغ؛ فهو دائمًا نتاج اجتماعي. كل كلمة تُقال تتأثر بما قاله الآخرون من قبل، وهي بدورها تؤثر على ما سيُقال لاحقًا. هذه الطبيعة الاجتماعية تُبرز كيف أن اللغة هي حوار مستمر بين الأفراد والثقافات.(105)
والحوار ليس مجرد وسيلة لتبادل الأفكار أو الرسائل بين الأشخاص ، بل هو عملية أعمق تتخلل وجود الذات وعلاقتها بالآخرين والعالم المحيط. وليس مجرد مبادرة فردية ،على العكس، وجود الذات ذاته مشروط بالحوار مع الآخر. الذات موجودة دائمًا في حالة حوار مستمر مع "كلمة الآخر"، سواء أدركت ذلك أم لا. هذا الحوار لا يقتصر على التواصل اللفظي، بل يمتد ليشمل كل أشكال التفاعل مع العالم والآخرين. كلمة الآخر ليست مجرد كلام منطوق، بل تشمل: الأفكار والمعتقدات التي تتفاعل معها الذات , التقاليد الثقافية والاجتماعية التي تؤثر عليها والردود المحتملة من الآخرين، سواء كانت حاضرة أم غائبة.(106)
لذلك ينفي باختين فكرة أن الحوار ينشأ عن قرار إرادي من الذات (الأنا) لاحترام الآخر أو الإنصات إليه. الحوار، في نظره، يُفرض على الذات كحالة وجودية لا يمكن تجنبها ، هو حالة دائمة من الانفتاح، حيث لا يمكن للذات أن تغلق نفسها تمامًا أمام الآخر. كل محاولات الانغلاق أو تجاهل الآخر تؤدي إلى ظهور التناقضات، مما يجعل الإغلاق غير قابل للتحقق. عندما تحاول الذات أن تكون غير مبالية تجاه الآخر، فإنها تفشل في تحقيق ذلك فعليًا. اللامبالاة تبدو ظاهريًا كرفض للتواصل، لكنها في جوهرها اعتراف ضمني بوجود الآخر وتأثيره. محاولات الإغلاق أو اللامبالاة تتحول إلى حالة كوميدية تراجيدية، لأنها تتناقض مع الطبيعة الحقيقية للوجود الحواري. التراجيديا تظهر في فشل الذات في تحقيق عزلتها، بينما الكوميديا تتجلى في عبثية هذا الفشل.(107)
الخلاصة: الحوار عند باختين ليس خيارًا، بل هو حالة وجودية تفرضها طبيعة الذات وعلاقتها بالعالم. استحالة الإغلاق أو اللامبالاة تعكس الطابع الأساسي للحوار، حيث يكون الانفتاح على الآخر والتفاعل معه أمرًا حتميًا. محاولات تجنب الحوار تؤدي إلى مفارقات عبثية تبرز الطبيعة الكوميدية التراجيدية لهذه المحاولات.
ان فهم الطبيعة الحوارية للوعى يمكن من اظهار مرايا المعرفة والنزعة العلمية. حيث يرى مايكل باختين "أن الحقيقة لا تُعتبر شيئًا ثابتًا أو ثابتًا داخل عقل فردي، بل هي نتاج تفاعل جماعي بين الأفراد الذين يبحثون عن الحقيقة معًا. بناءً على هذا المنظور، يصبح الحوار هو الوسيلة التي يتم من خلالها اكتشاف الحقيقة، وليس مجرد تبادل المعلومات.".. وهكذا يؤكد باختين على أن الحوار يتيح تعدد الأصوات وتعدد الرؤى. الحقيقة لا تأتي من وجهة نظر فردية واحدة، بل من خلال تفاعل هذه الأصوات المختلفة.(108)
الهوامش
1-Oleksandr Kulyk: On the Possibility to Teach Doing Philosophy, ASIANetwork Exchange A Journal for Asian Studies in the Liberal Arts, December 2018,p-10
2-هيفاء أحمد السامرائي: الحوار العربي الاوروبي، دراسات / وزارة الثقافة والاعلام، العراق ، 1982 ،ص 25.
3-يحيى بن محمد حسن بن أحمد زمزمي : الحوار آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسنة،دار المعالي،الأردن،الطبعة الثانية.2002.ص.2
4-Manolis Dafermos: Relating dialogue and dialectics: a philosophical
perspective, Dialogic Pedagogy: An International Online Journal http://dpj.pitt.edu DOI: 10.5195/dpj.2018.189 | Vol. 6 (2018),pp3-4
5-Bradley S. Warfield: Dialogue as the Conditio Humana: a Critical Accountof Dmitri Nikulin’s Theory of the Dialogical, CambridgeUniversity Press.2019,p-5
6-سرير أحمد بن يوسف : اشكالية الحوار فى الفكر الغربى المعاصر(الفلسفة الفرنسية والفلسفة الالمانية) ، رسالة دكتوراة ، اشراف د.عبداللوى عبدالله ، قسم الفلسفة ، كلية العلوم الاجتماعية ، جامعة وهران2 ، 2017/2018 ، ص ص 24 – 25
7-Mirosław Patalon: The Philosophical Basis of Inter-religious Dialogue, Cambridge Scholars Publishing, Mirosław Patalon,2009,p-1
8-Ibid,p-5
9-Manolis Dafermos: Relating dialogue and dialectics: a philosophical
perspective, Dialogic Pedagogy: An International Online Journal http://dpj.pitt.edu DOI: 10.5195/dpj.2018.189 | Vol. 6 (2018),p-3
10-Jorja Wright: Authentic Dialogue: The Communication of Collaborative Leadership. Advances in Social Sciences Research,2017,p-114
11-مها فتحة: مهارات التواصل وأساليب الاقناع ، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1 ،2016 ،ص 31.
12-عبد الرحمن الميداني: ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة ، دارالقلم، بريوت، ط2 ،1981 ،ص 281.
13- يحيى بن محمد حسن بن أحمد زمزمي : مرجع سابق ، ص 22
14-د. زهير الخويلدى : الحوار الفلسفى والتفكير الايجابى ، ديوان العرب ، منبر حر للثقافة والفكر والادب ، شبكة المعلومات الدولية "النت"، 18مايو 2022
15- المرجع نفسه
16-عبدالسلام بنعبد العالى : الفلسفة أداة للحوار ، دار توبقال ، الدار البضاء ، المغرب ، ط1، 2011، ص8
17-المرجع نفسه ، ص ص 8-9
18-Marta Gibinska: Crisis: Meeting the Other and the Philosophy of Dialogue, https://shs.hal.science/halshs-02145012v1, Pre-print- submitted on 31 May 2019,p-1
19-Ibid,pp-1-2
20-Manolis Dafermos: Op-cit,p-17
21-Ibid,p-16
22-Bradley S. Warfield: Dialogue as the Conditio Humana: a Critical Accountof Dmitri Nikulin’s Theory of the Dialogical, CambridgeUniversity Press.2019,pp-1-4
23-Ibid,p-1
24-حسان الباهي:الحوار ومنهجية التفكير النقدي،أفريقيا الشرق،المغرب،الطبعة الاولى 2004 ، ص46
25-عماد أبوصالح : فن الحوار، وزارة الشئون السياسية والبرلمانية ، ص 27
26-Hans-Herbert Kögler: A Critique of Dialogue in Philosophical Hermeneutics, Cambridge: The MIT Press,1999,p-47
27-Ibid,p-58
28-د.كريمة مقاوسى واخرون : فلسفة الحوار والسلم عند كارل بوبر ، مجلة السراج فى التربية وقضايا المجتمع ، العدد الرابع ديسمبر 2017م ، ص 242
29-المرجع نفسه ، ص 254
30-حسان الباهي:الحوار ومنهجية التفكير النقدي،أفريقيا الشرق،المغرب،الطبعة الاولى 2004.ص.22.
31-الموضع نفسه
32-HILARY PUTNAM: PHILOSOPHY AS DIALOGUE, Edited by MARIO DE CAROandDAVID MACARTHUR, Copyright © 2022 by the President and Fellows of Harvard College, -print-ed in the United States of America, First -print-ing,p-1
33-Karel L. van der Leeuw: PHILOSOPHICAL DIALOGUE AND THE SEARCH FOR TRUTH, New York, Columbia Univ. Pr., 1997,p-2
34-HILARY PUTNAM: Op-cit, p-1
35-Morrison, Karl F. The Mimetic Tradition of Reform in the West. New Jersey: University of Princeton, 1982,p-55
36-Morris B Kaplan, The Socratic Dialogues, February 3, 2009,p-1
37-Loc-Cit
38- -Loc-Cit
39- Ibid,p-2
40- Loc-Cit
41-EllieSweetnam: What is a Socratic Dialogue? , England and Wales, 23/04/2024 ,p-1
42-Morrison, Karl F. The Mimetic Tradition of Reform in the West. New Jersey: University of Princeton, 1982,p-57
43-Manolis Dafermos: Op-Cit, p-3
44-Karel L. van der Leeuw: PHILOSOPHICAL DIALOGUE AND THE SEARCH FOR TRUTH, New York, Columbia Univ. Pr., 1997,p-2
45-Morrison, Karl F. Op-Cit,pp-59-60
46-Ibid,,p-58
47-Manolis Dafermos: Op-Cit ,p-6
48- Alexandre Guilherme, W. John Morgan: Philosophy, Dialogue, and Education Nine Modern European Philosophers, Published September 5, 2019 by Routledge,p-1
49-Marta Gibinska Crisis: Meeting the Other and the Philosophy of Dialogue, https://shs.hal.science/halshs-02145012v1, Pre-print- submitted on 31 May 2019,p-3
50- Loc-Cit
51-W. John Morgan: Hannah Arendt: On Public Education and Public Dialogue , Wales, United Kingdom. [email protected],p-10
52-Ibid,11
53-Ibid,p-12
54- Loc-Cit
55-- Loc-Cit
56-54- Loc-Cit
57-54- Loc-Cit
58-محمد بكاى: أخلاقيات التعامل مع الآخر، تأملات فى فلسفة الغيرية عند ايمانويل ليفيناس،مجلة التفاهم،ص 280
59-Roger Burggraeve: The Awakening to the Other: A Provocative Dialogue with Emmanuel Levinas, Peeters, 2008,p-5
60-Emmanuel Levinas, Humanisme de l autre homme, Paris, Le Livre de Poche, Biblio-Essais 1994, p. 53.
61-Roger Burggraeve: Op-cit,p-5
62-Emmanuel Levinas, Totalite et infini, (Essai sur l’exteriorite) Ed: Livre de Poche, 1971 ,P-342
63-Emmanuel Levinas, Difficile liberte, Paris, Le Livre de Poche, Biblio-essais, 1990, p.21
64-Ausin, J. L, philosophical papers, p- 131.
قارن أيضاً د/ صلاح إسماعيل عبد الحق: التحليل اللغوى عند مدرسة أكسفورد ص140.
65-Austin, J. L., How To Do Things with words, edited by Mrnson, Oxford University press, New York, 1970, pp- 5-6.
66-Ibid, pp- 14- 16.
67-Ibid, pp- 16-18.
68-Ibid, pp- 37- 40.
وكذلك د/ صلاح إسماعيل : مرجع سابق ص ص148- 149
69-Warnock, G. J: J. L., Austin, p- 80.
70-Ibid, pp- 80- 81.
71-Loc-cit.
72-Loc-cit.
73-Ibid, pp- 81-83.
74-Loc-cit.
75-Ibid, pp- 83- 85.
76-Ibid. p- 90.
77-Ibid, pp-90- 91.
78-Ibid, p. 93.
79- Loc-cit.
80-Ibid, pp- 93- 94.
81-Austin, J. L: How To Do Things with words pp- 73- 76
راجع أيضاً: د. صلاح إسماعيل عبد الحق،: مرجع سابق، ص ص163- 167.
82-Warnock, G. L: English philosophy since 1900, p- 154.
83-Urmson, J. O: op- cit, p. 38.
103-Borgmann, A: The philosophy of language, Historical foundations and contemporary Issues, Martinus Nijhof, The language 1974, p-116.
84-Warnock, G. J: J. L., Austin, pp- 119- 121.
راجع أيضاً: د. صلاح إسماعيل عبد الحق، : المرجع السابق ص184.
85-Ibid, p- 122.
86-Austin, J. L: How To Do Things with words, p- 95.
87-Edwards (paul): op- cit, p- 313.
88-Warnock, G. J: J. L., Austin, P- 122.
89-Borgman, A, op. cit, pp- 116-117.
90-Edwards (Pual), op.cit. p- 313.
91-Warnoc, G. J: J. L. Austin, p.- 122.
92-Ibid, p- 127.
راجع كذلك د/ صلاح إسماعيل: مرجع سابق ص198.
93-Austin, J. L: How To Do Things with wards, p- 103.
94-Flew, Antony, A Dictionary of philosophy, Macmillan Reference Books, 1984, p- 333.
95-Jorja Wright: Authentic Dialogue: The Communication of Collaborative Leadership. Advances in Social Sciences Research,2017,p-208
96-Jorja Wright: Authentic Dialogue: The Communication of Collaborative Leadership. Advances in Social Sciences Research,2017,p-297-Aborisade Olatomiwa Olasunkanmi,“ Jürgen Habermas Theory Of Communicative Action And The Quest For Peace Building In Africa”, Journal of Philosophy and Ethics, Volume 4, Issue 1, 2022,p-2
98-Loc-Cit
99- Loc-Cit
100- Loc-Cit
101- Loc-Cit
102-Manolis Dafermos: Relating dialogue and dialectics: a philosophical perspective, Dialogic Pedagogy: An International Online Journal | http://dpj.pitt.edu DOI: 10.5195/dpj.2018.189 | Vol. 6 (2018),p-3
103-Aies Vaupotic:Philosophy of Mikhail Bakhtin :The concept of dialogism and mystical thought ,prenovo spletne strain V letu 2022 jeomogocila Iavna agencija za kniigo Rs.p-1
104- Loc-Cit
105-Ibid.p-3
106-Augusto Ponzio: Otherness, Intercorporeity and Dialogism inBakhtin’s Vision of the Text, Language and Semiotic Studies, The University of Bari Aldo Moro, Italy, Autumn 2016,p-1
107- Loc-Cit
108- Loc-Cit
09
#ابراهيم_طلبه_سلكها (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟