|
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : إنْتِقَادَات مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8290 - 2025 / 3 / 23 - 18:11
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ مَفْهُومُ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ
مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ Postmodernism هِيَ حَرَكَةُ فَكَرْيَّة وَاسِعَة نَشَأَتْ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ كَرَدِّ فِعْلٍ عَلَى إدَّعَاءَات الْمَعْرِفَةُ الْقَدِيمَة المُنْتَهِيَة وَالْمُرْتَبِطَة بِحَدَاثَة عَصْرِ النَّهْضَةِ. أَنَّهَا تَسْعَى إِلَى إِنْهَاءِ الِإفْتِرَاضَات المَزْعُوم وُجُودُهَا فِي الْأَفْكَارِ الْفَلْسَفِيَّة الْحَدَاثِيَّة الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَفْكَار وَ الثَّقَافَة وَالْهَوِيَّة وَالتَّارِيخُ، وَتَحْطيم السَّرْدِيُّات الْكُبْرَى وَ أَحَادِية الْوُجُودُ وَالْيَقِين المَعْرِفِيّ. يَنْطَلِقُ الْعَدِيدِ مِنَ مُفَكِّرِي مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ مِنْ إنْكَارِ وُجُود وَاقِع مَوْضُوعَيْ وَمِنْ إنْكَارَ وُجُودِ قِيَمٍ أَخْلَاقِيَّةٍ مَوْضُوعِيَّة وَالتَّشَكُّكُ فِي السَّرْدِيُّات الْكُبْرَى وَ الْبَحْثِ عَنْ خِيَارَاتٍ جَدِيدَة. وَتَشْمَل الْأَهْدَاف الْمُشْتَرَكَة لِنَقْد مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ، الْأَفْكَار الْعَالَمِيَّة لِلْوَاقِع الْمَوْضُوعِيّ وَالْأَخْلَاق وَالْحَقِيقَةُ وَالطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّة وَالْعَقْلُ وَالْعِلْمُ وَاللُّغَة وَالتَّقَدُّم الِإجْتِمَاعِيّ. وَفقَاً لِذَلِك، يَتَمَيَّز الْفِكْرِ مَا بَعْدَ الحَدَاثِي عَلَى نِطَاقٍ وَاسِعٍ بِالْمَيْلِ إلَى الْوَعْي الذَّاتِيّ، وَالْإِحَالَة الذَّاتِيَّة، وَ النِّسْبِيَّة الْمَعْرِفِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة، وَالتَّعْدِدِيَّة، وَعَدَمُ الِإحْتِرَام. وَ يَرْفُض مَنْظُرو مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ وُجُود حَقَائِق مَوْضُوعِيَّة أَوْ قَيِّمٍ أَخْلَاقِيَّة مُطْلَقَة، وَيُشْكَكَوْن فِي إِمْكَانِيَّة تَحْقِيق تَقَدَّم إجْتِمَاعِيّ أَوْ مَعْرِفِيّ بِشَكْل نِهَائِيّ. ظَهَرَ مُصْطَلَح "مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ" لِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي عَامٍ 1934 عَلَى يَدِ الأَكَادِيمِيّ الْإِسْبَانِيّ فْرِيدِّيرِيكُو دِي أُونِيس Federico de Onis، وَلَكِنْ لَمْ يَسْتَخْدِمْ عَلَى نِطَاقٍ وَاسِعٍ إلَّا فِي السَّبْعِينِيَّاتِ وَ الثَّمَانِينَيات مِنْ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ. وَقَدْ تَمَّ إسْتِخْدَامُه لِوَصْف مَجْمُوعَةً مُتَنَوِّعَةً مِنَ الْأَفْكَارِ وَالْمَمَارَسَات الثَّقَافِيَّةِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ كَرَدِّ فِعْلٍ عَلَى الْحَدَاثَة. كَانَ مِنْ أَبْرَزِ رَوَّاد هَذَا التَّيَّارِ الْفِكْرِيّ الْفَيْلَسُوف الْفَرَنْسِيّ جَان فَرَانَسُوا لِيُوَتار Jean-François Lyotard، الَّذِي عَرَفَ حَالَّة مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ بِأَنَّهَا فُقْدَان الْإِيمَان بِالْعُلُوم وَالْمَشَارِيع التَّحَرُّرِيَّةِ الْأُخْرَى الَّتِي بَرَزَتْ فِي إِطَارِ الْحَدَاثَة، مِثْل الْمَارْكِسِيَّة. كَمَا سَاهِم الْمَنْظَر الْمَارْكِسِيّ الأَدَبِيّ فِرِيدْرِيك جِيمسون Fredric Jameson فِي صِيَاغَةِ مَحَاوِر ثَقَافَة مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ، وَاَلَّتِي شَمِلَتْ الِإسْتِعْاضَة عَنْ الْأَدَبِيَّات الْعِلْمِيَّةِ بِالْمُحَاكَاة السَّاخِرَة اللَّاذعة، وَالْمِيلُ لِلنَّوستالْجِيَا Nostalgia (الْحَنَيْن لِلْمَاضِي)، وَالتَّرْكِيزِ عَلَى اللَّحْظَةِ الْآنِيَة وَتَقْدِيسِها عَلَى مَا سِوَاهَا. وَقَدْ إنْتَشَرَتْ أَفْكَار مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ فِي مُخْتَلَفٍ الْمَجَالَات، بِمَا فِي ذَلِكَ الْأَدَبِ وَالْفَنّ وَالْعِمَارَة وَالْفَلْسَفَة وَالنَّقْد الأَدَبِيّ وَالثَّقَافِيّ وَ الِإجْتِمَاعِيّ. فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، ظَهَرَتْ مَلَامِح مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ فِي الْهَنْدَسَةِ الْمِعْمَارِيَّةِ مِنْ خِلَالِ تَأْكِيدِهَا عَلَى الْفَهْمِ الْمُزْدَوِج (السُّخْرِيَة) وَالِإهْتِمَام بِالسِّيَاق وَأسْطح الْأَبْنِيَةُ، بَدَلًا مِنْ الِإهْتِمَامِ بِالْمَعَانِي الْمُتَعَارَف عَلَيْهَا وَالْحَقَائِق الْعَالَمِيَّة. كَمَا سَاهَمَت الفَنَّانَة التَّصْوِيرِيَّة الأَمْرِيكِيَّة بَارْبرا كَرُوجَرْ Barbara Kruger فِي تَجْسِيد أَفْكَار مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ مِنْ خِلَالِ أَعْمَالِهَا الَّتِي إهْتَمَّتْ بِمَنْ يَتَحَدَّث وَمَنْ يَصْمُت، وَبِمَا يُرَى وَمَا لَا يُرَى. وَتُشِير مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ بِشَكْلٍ عَامٍّ إلَى مُسَاءَلَة الْمَفَاهِيم الثَّقَافِيَّةِ الَّتِي اُعْتُبِرَتْ الْحَقِيقَة الْوَحِيدَة، وَ إِلَى فَتْحِ الْبَابِ لِمَجْمُوعَةً مُتَنَوِّعَةً مِنْ الْحَقَائِقِ التَّارِيخِيَّة الْمَقْمُوعَة. عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ مُصْطَلَحَ "مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ" لَا يَزَالُ يُثِير جَدَلًا وَاسِعًا حَوْل دَلَالَتِه وَمَدَى إنْطِبَاقِهِ عَلَى الْوَضْعِ الرَّاهِنِ، إلَّا أَنْ الْأَفْكَار وَالتَّوَجُّهَات الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا أَصْبَحْت حَاضِرَة وَفَاعِلَة فِي مُخْتَلَفٍ الْمَجَالَات الْفِكْرِيَّةُ وَالثَّقَافِيَّةُ الْمُعَاصِرَة. وَ بِغَضّ النَّظَرِ عَنْ الْخِلَافِ حَوْل مُصْطَلَح "مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ"، فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُتَمَثِّلَةِ فِي تَحَوُّلِ الْوَعْي الثَّقَافِيّ وَ الْفِكْرِيّ فِي الْغَرْبِ مُنْذُ مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهَا. مِنْ الْمُسْلِمِ بِهِ إنْ مَفْهُومُ "مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ" هُوَ مَفْهُومُ فَلْسَفِيّ مَعَقَد وَمُتَشَعِّب بِطَبِيعَتِه، حَيْث يَصْعُب تَحْدِيدِه بِتَعْرِيف دَقِيق وَمُبَاشِر. وَمَعَ ذَلِكَ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ تَمَثَّل مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْمُمَارَسَات النَّقْدِيَّة وَ الِإسْتِرَاتِيجِيَّة وَالسِّرْدِيَّة الَّتِي تُوَظِّفُ مَفَاهِيم مِثْلُ الِإخْتِلَافِ وَالتَّكْرَار وَالْأَثَر وَالْمُحَاكَاة وَالْوَاقِعِيَّة الْفَائِقَة بِهَدَف التَّشْكِيكِ فِي بَعْضِ الْمَفَاهِيمِ الْأَسَاسِيَّةَ الَّتِي هَيْمَنَتْ عَلَى الْفِكْرِ الْفَلْسَفِيّ وَالثَّقَافِيِّ فِي عَصْرِ الْحَدَاثَة، مِثْلُ الْحَقِيقَةِ وَالْهَوِيَّةَ وَ التَّقَدُّمُ التَّارِيخِيّ وَالْيَقِين المَعْرِفِيّ وَأَحَادِية الْمَعْنَى. قَدَمَ الْفَيْلَسُوف الْفَرَنْسِيّ جَان فَرَانَسُوا لِيُوَتار (1924-1998) الَّذِي يُعَدُّ مِنْ أَبْرَزِ الْمُنْظَرِين لِمَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ فِي كِتَابِهِ "الْوَضْعِ مَا بَعْدَ الحَدَاثِي" (1979) تَعْرِيفًا مُرَكَّزيا لَهَا بِأَنَّهَا "التَّشْكِيكِ فِي السَّرْدِيُّات الْكُبْرَى" أَيْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ الشَّامِلَة وَالْمُتَكَامِلَة وَ الْمُوَحَّدَةِ الَّتِي أُدَّعَتْ قُدْرَتِهَا عَلَى تَفْسِيرِ الْوَاقِعِ وَالتَّنْبُؤ بِمُسْتَقْبَلٍ الْإِنْسَانِيَّة. وَيَرَى لِيُوَتار إنْ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ تَتَّسِم بِرَفْض هَذِه السَّرْدِيُّات الْكُبْرَى، بِإعْتِبَارِهَا تَفْرَض رُؤْيَة جَامِدَة وَ أَحَادِية لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَعْرِفَة وَالْأَخْلَاق، وَتَحِلُّ مَحَلِّهَا مَفَاهِيم مِثْل التَّعَدُّدِيَّة وَالِإخْتِلَافُ وَالسِّيَاقِيَّة وَالنِّسْبِيَّة. لَقَدْ نَشَأَتْ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ كَرَدِّ فِعْلٍ عَلَى مَا إعْتَبَرَهُ الْمُفَكِّرُون وَالْفَنَانُون وَالْأُدَبَاء قُصُور الْأَفْكَار وَ الْمَقُولَات الْحَدَاثَيَّة الَّتِي إرْتَبَطَتْ بِالتَّقَدُّم وَالعَقْلَانِيَّة وَالْإِيمَان بِالْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالتُّرَاتْبِيَّة وَالْكُلِّيَّةُ. وَقَدْ تَأَثَّرَتْ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ بِنَتَائِج الْعُلُومِ الْحَدِيثَةِ وَالتَّطَوُّرَات التِّكْنُولُوجِيَّة وَالِإجْتِمَاعِيَّة الَّتِي أَدَّتْ إلَى تَفْكِيكِ هَذِهِ الْمَفَاهِيمِ الْحَدَاثَيَّة وَتَفْنيد إدَّعَاءَاتِهَا بِالشُّمُولِيَّة وَالْمَوْضُوعِيَّة وَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ مَفْهُومَ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ يَظَلّ مَحَلَّ جَدَلٍ وَإخْتِلَاف، إلَّا أَنْ هُنَاكَ مَجْمُوعَةً مِنْ السِّمَاتِ الْعَامَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ رَبَطَهَا بِهِ، وَاَلَّتِي تَشْمَل التَّشْكِيكِ فِي الْمَعْرِفَةِ الْمُطْلَقَة وَالْحَقِيقَةُ الْوَاحِدَةُ، وَ التَّأْكِيدِ عَلَى التَّعَدُّدِيَّة وَالِإخْتِلَافُ وَالسِّيَاقيَّة، وَالِإهْتِمَامِ بِالْهُوِيَّة وَالْجَسَد وَالْمَحَلِّيُّ فِي مُقَابِلِ الْكُلِّيّ وَالْعَالَمِيّ، وَالْمَيْلِ إلَى اللَّامركزيَّة وَالتَّفْكِيكِ وَالإِرْجَاء وَالتَّنَاص، وَالِإهْتِمَامِ بِالْمُهْمَش وَالْمَقْصُي وَالْحَذْفُ فِي مُقَابِلِ الْمَرْكَزِيّ وَالْمُهَيْمِن. وَ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ لَا تَمَثَّل مُجَرَّد نَقْد لِلْأَفْكَار وَالْمَقُولَات الْحَدَاثَيَّة، بَلْ تُشَكِل مَشْرُوعًا فَلْسَفِيًّا وَ ثَقَافِيًّا جَدِيدًا لَهُ سِمَات وَأَهْدَاف مُحَدَّدَة، تَتَمَثَّلُ فِي تَفْكِيكِ الْبُنَى الْمَعْرِفِيَّة وَالثَّقَافِيَّة المُهَيْمِنَة وَالتَّشْكِيكُ فِي مَرْجِعِيَّاتِهَا، وَتَقْدِيم رُؤَى بَدِيلَة تَتَّسِم بِالتَّعَدُّدِيَّة وَالِإخْتِلَاف وَالنِّسْبِيَّة وَ التَّفْكِيك. وَقَدْ أَثَّرَ هَذَا الْمَشْرُوعِ بِشَكْل وَاضِحٌ فِي مُخْتَلَفٍ الْمَجَالَات الْفِكْرِيَّة وَالْفَنِّيَّة وَالْأَدَبِيَّة وَالسِّيَاسِيَّةُ وَالِإجْتِمَاعِيَّةُ.
_ مَوْقِفُ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق
مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ هِيَ حَرَكَةُ فَكَرْيَة وَاسِعَة نَشَأَتْ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ كَرَدِّ فِعْلٍ عَلَى إدَّعَاءَات الْمَعْرِفَةُ الْقَدِيمَة المُنْتَهِيَة وَالْمُرْتَبِطَة بِحَدَاثَة عَصْرِ النَّهْضَةِ. مُفَكِّرُو مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ يَنْطَلِقُون مِنْ إنْكَارِ وُجُود وَاقِع مَوْضُوعَيْ وَمَنْ إنْكَارَ وُجُودِ قِيَمٍ أَخْلَاقِيَّةٍ مَوْضُوعِيَّة، وَالتَّشْكِيكُ فِي السَّرْدِيُّات الْكُبْرَى وَالْبَحْثُ عَنْ خِيَارَاتٍ جَدِيدَة. فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَوْقِف مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ مِنْ الْعِلْمِ، نَجِدُ أَنَّهَا تَقُوض الِإدِّعَاءَات الْعِلْمِيَّة لِلْوُصُولِ إلَى الْحَقِيقَةِ الْمُطَلَّقَةِ. حَيْثُ يَنْظُرُ مُفَكِّرُو مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ إلَى الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَفْسِير مُتَعَدِّد وَمُتَنَوِّع لِلْوَاقِعِ بَدَلًا مِنْ كَوْنِهِ الْحَقِيقَةَ الْمُطْلَقَةَ. فَهُمْ يُنْكِرُونَ الطَّابَع الْعَامّ وَالْمَوْضُوعَيْ لِلْعِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّة، وَيَرَوْنَ أَنَّهَا تَخْضَع لِلسِّيَاق الثَّقَافِيّ وَالِإجْتِمَاعِيّ وَالسِّيَاسِيّ. مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ تَنْظُرَ إلَى الْعِلْمِ بِشَكْوك وَإنْتِقَادُ عَمِيق. فَهِي تَرْفُض نَظَرَة العَقْلَانِيَّة الْحَدَاثَيَّة الَّتِي تَصَوُّرُ العِلْمِ كَوَسِيلَة لِلْوُصُولِ إلَى الْحَقِيقَةِ الْمَوْضُوعِيَّة وَالْمُطَلَّقَة. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، تَرَى فَلْسَفَة مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْعِلْمِيَّة هِيَ مُجَرَّدُ بِنَاء إجْتِمَاعِيّ وَلُغَوِيّ، وَلَيْسَتْ إنْعِكَاسًا لِلْعَالِم الْخَارِجِيِّ كَمَا تَدَّعِي الْحَدَاثَة. وَفقَاً لِفَلَاسِفَةُ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ، لَا يُوجَدُ حَقِيقَةً أَوْ مَعْرِفَةِ مَوْضُوعِيَّة مُطْلَقَةً، بَلْ إنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْحَقِيقَةِ هِيَ دَائِمًا مَشْرُوطَة بِالسِّيَاق التَّارِيخِيّ وَالِإجْتِمَاعِيّ وَالثَّقَافِيّ. فَالْعِلْمُ لَا يُنْتِجُ حَقَائِقَ ثَابِتَةٍ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ مُمَارَسَة خَطَابِيَّة تُنْتِج مَعْرِفَة نِسْبِيَّة وَأَحَادِية الْوَجْهَةُ. يَنْتَقِدْ مُفَكِّرُو مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة عَلَى أَسَاسِ أَنَّهَا تَخْضَع لِعَلَاقَات الْقُوَّة وَالسُّلْطَة، وَأَنَّ الْحَقِيقَةَ الْعِلْمِيَّة هِيَ فِي الْوَاقِعِ أَدَّاة لِلَّهِيَمْنَة وَالسَّيْطَرَة. فَالْعِلْمُ لَا يَعْكَسُ الْوَاقِعِ كَمَا هُوَ، بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ لِتَشْكِيل الْوَاقِع وَفقَاً لِأَجْنَدَات وَأَيْديولوجيات مُعَيَّنَةٍ. عَلَاوَةً عَلَى ذَلِكَ، تَرْفُضُ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ الْفِكْرَة الْحَدَاثَيَّة الْقَائِمَةُ عَلَى سَرْدِيات كُبْرَى لِلتَّقَدُّم وَالعَقْلَانِيَّة الْعِلْمِيَّة. فَهِي تَرَى أَنَّ هَذِهِ السَّرْدِيُّات الْكُبْرَى قَدْ إنْهَارَتْ، وَأَنَّهُ لَا يُوجَدُ أَيْ أَسَاسٍ ثَابِتٍ أَوْ يَقِينِيٍّ لِلْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، تُؤَكِّدُ عَلَى التَّعَدُّدِيَّة وَالِإخْتِلَافُ وَ التَّشْكِيكُ فِي الْمَعْرِفَةِ السَّائِدَةِ. فِي ضَوْءِ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ النَّقْدِيَّة لِمَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يُنْظَرُ إلَيْهِ كَوَسِيلَة لِلْكَشْفِ عَنْ الْحَقِيقَةِ الْمَوْضُوعِيَّة، بَلْ كَمُمَارِسَة خَطَابِيَّة وَثَقَافِيَّة مُرْتَبِطَة بِعِلْاقَات الْقُوَّةُ وَالسُّلْطَة. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْهَدَفَ الأَسَاسِيّ لِمَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ لَيْس الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَة عِلْمِيَّة دَقِيقة، بَلْ تَحْطِيم الْأُسُس الْمَعْرِفِيَّة لِلْعِلْم الَّتِي تَدَّعِي الْحَدَاثَة. أَمَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَوْقِف مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ مِنْ الْأَخْلَاقِ، فَهِي تُقَوِّضُ الْأُسُسِ الْأَخْلَاقِيَّة التَّقْلِيدِيَّة وَتُنْكِر وُجُود قِيَمٍ أَخْلَاقِيَّةٍ مَوْضُوعِيَّة. وَيَرَى مُفَكِّرُو مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ أَنَّ الْأَخْلَاقَ لَيْسَتْ سِوَى مُمَارَسَات ثَقَافِيَّة نِسْبِيَّة وَلَيْسَتْ ذَاتَ طَابَعٍ عَامٍ أَوْ مَوْضُوعَيْ. فَالْأَخْلَاق فِي نَظَرِهِمْ هِيَ مُجَرَّدُ مُمَارَسَات تَخْتَلِفُ بِإخْتِلَافِ السِّيَاقَات الثَّقَافِيَّة وَالِإجْتِمَاعِيَّة. إنْ فَلْسَفَة مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ تَمَثَّل مَوْقِفًا نَقْدًيا وَجُذَريا تُجَاهَ مَفَاهِيم وَمُنْطَلَقُات الْحَدَاثَةِ الْأَخْلَاقِيَّة. فَالْحَدَاثَةِ كَانَتْ قَدْ أُسِّسَتْ لِسُرْدِيَات وَ مَرَّوَيَات كُبْرَى بِشَأْن الْأَخْلَاق، تَصَوَّرَتْ الْإِنْسَان كَذَات مَرْكَزِيَّة وَ عَقْلَانِيَّة وَقَادِرَةً عَلَى إِنْتَاجِ أنْسَاق أَخْلَاقِيَّة مَوْضُوعِيَّة وَ كَوْنيَّة. لَكِنْ مُفَكِّرِي مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ رَفَضُوا هَذِه السَّرْدِيُّات الْكُبْرَى وَأَكَّدُوا عَلَى نِسْبِيَّة الْمَعْرِفَة وَالْأَخْلَاق وَتَعَدُّدِيَّتها. فَمَنْ مَنْظُور مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ، لَا يُمْكِنُ الْحَدِيثِ عَنْ أَخْلَاقُ عَالَمِيَّة وَ مَوْضُوعِيَّة، بِقَدْرِ مَا هُنَاكَ أَخْلَاقِيَّات مُتَعَدِّدَةٍ وَنَسبيَّة تَتَشَكَّل وَفقاً لِلسِّيَاقِات الثَّقَافِيَّة وَالتَّارِيخِيَّة الْمُخْتَلِفَة. فَالْأَخْلَاق لَيْسَتْ جَوْهَرًا ثَابِتًا وَرَاسخا، وَإِنَّمَا هِيَ بِنَاءٌ ثَقَافِيّ وَلُغَوِيّ يَخْضَع لدِينَامِيات الْقُوَّة وَالصِّرَاع. و يَرَى مُفَكِّرُو مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ أَنَّ الْأَخْلَاقَ التَّقْلِيدِيَّة الَّتِي إرْتَكزت عَلَى الْعَقْلِ وَ العَقْلَانِيَّة الْكَوْنِيَّة كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ وَسِيلَة لِفَرْض هَيْمَنَة الثَّقَافَات الْغَرْبِيَّة وَإِخْضَاع الْآخَرِ. لِذَلِكَ، فَإِنْ نَقْدُهُمْ لِلْأَخْلَاق الْكَلاَسِيكِيَّة هُوَ نَقْدٌ لِهَذِه الْهَيْمَنَة وَالسُّلْطَة. وَقَدْ بَلّْوَرَ الْفَيْلَسُوف الْفَرَنْسِيّ مِيشِيل فَوَكَّو (Michel Foucault), هَذَا التَّوَجُّهِ النَّقْدِيّ مِنْ خِلَالِ تَرْكِيزُه عَلَى عَلَاقَاتِ الْقُوَّة وَ السُّلْطَة الَّتِي تَحْكُمُ تَشَكُل الْأَخْلَاق. فَالْأَخْلَاق، مِنْ مَنْظُورَه، لَيْسَتْ مُجَرَّدَ قَوَاعِد وَأنْساق ثَابِتَةٌ وَمَوْضُوعِيَّة، وَإِنَّمَا هِيَ آلِيَات لِلضَّبْط وَالِإنْضِبَاط الِإجْتِمَاعِيّ تَخْدُم مَصَالِح الْفِئَات المُهَيْمِنَة. وَعَلَيْهِ، فَإِنْ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ تَدْعُو إلَى تَفْكِيكِ هَذِهِ الْأَنْسَاقِ الْأَخْلَاقِيَّة الْكَلاَسِيكِيَّة وَإِحْلَالِ أَخْلَاقِيَّات مُتَعَدِّدَةٍ وَ مُتَنَوِّعَة مَحَلِّهَا. فَالْأَخْلَاق فِي نَظَرِ مُفَكِّرِي مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ هِيَ مُجَرَّدُ تَأْوِيلَات ثَقَافِيَّة وَسِيَاسِيَّة، لَا وُجُودَ لَهَا خَارِجٌ السِّيَاقَات التَّارِيخِيَّة وَالِإجْتِمَاعِيَّة الْمُحَدَّدَة. وَ فِي هَذَا الْإِطَارِ، يَنْتَقِدْ زِيجَمونت باوَّمان Zygmunt Bauman مَفْهُومُ "الْأَخْلَاق الصّلْبَةِ" الَّتِي تَنْتَمِي إِلَى الْحَدَاثَة، وَيَقْتَرِح بَدَلًا مِنْهَا مَفْهُومٌ "الْأَخْلَاق السَّائِلَة" الَّتِي تَتَّسِمُ بِالْمَرْوَنَة وَالنِّسْبِيَّة وَتَجَنُّب الِإلْتِزَامَات الْكُلِّيَّة. فَالْأَخْلَاق السَّائِلَة تُبْنَى عَلَى أَسَاسِ الشَّخْصَنَّة وَالِإسْتِجَابَة لِلسِّيَاقِات الْمُتَغَيِّرَة، بَعِيدًا عَنْ الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة الْمُطْلَقَةِ. بِهَذَا الْمَعْنَى، تُشَكَّك مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ فِي إِمْكَانِيَّة تَأْسِيس أَيُّ أَخْلَاقِ كَوْنِيَّة أَوْ مَوْضُوعِيَّة، وَتُؤَكِّد عَلَى تَنَوُّع الْمُمَارَسَات الْأَخْلَاقِيَّة وَتَعَدُّدِيَّتها بَدَلًا مِنْ الْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ أَخْلَاقِيَّة وَاحِدَةٍ. وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ الْأَخْلَاقِيَّ فِي ظِلِّ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ يُصْبِح مُتَعَدِّد الْمُرَاجِع وَنَسَبِي، مُنْفَتِحًا عَلَى تَأْوِيلَاتٍ مُتَبَايِنَة. لِذَلِكَ، فَإِنْ مَوْقِف مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ مِنْ الْأَخْلَاقِ يَتَسَمّ بِالتَّشْكِيكِ فِي الْأَنْسَاق الْأَخْلَاقِيَّة التَّقْلِيدِيَّة وَ تَفْكِيكُها، وَالدَّعْوَةُ إِلَى أَخْلَاقِيَّات مُتَعَدِّدَةٍ تَتَوَافَقُ مَعَ السِّيَاقَات الْمَحَلِّيَّة وَالشَّخْصُيَّة الْمُتَغَيِّرَة، بَعِيدًا عَنْ الْمَعَايِير الْكُلِّيَّة وَالْمَوْضُوعِيَّة لِلْحَدَاثَةِ وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ تَنْطَلِقُ مِنَ مَوْقِف نِسْبِيّ مَعْرِفِيًّا وَأَخْلَاقِيًّا، حَيْث تَرْفُض الْحَقِيقَة الْمُطَلَّقَةُ وَالْأَخْلَاق الْكُلِّيَّة وَالْعَالَمِيَّة. فَهِي تُؤَكِّدُ عَلَى التَّعَدُّدِيَّة وَالِإخْتِلَافُ وَالنِّسْبِيَّة فِي الْمَعْرِفَةِ وَالْأَخْلَاق. وَهَذَا الْمَوْقِفُ النِّسْبِيّ لِمَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ تُجَاه الْعِلْم وَالْأَخْلَاق قَدْ أثَار إنْتِقَادَات وَاسِعَةٍ مِنْ قِبَلِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُفَكِّرِينَ الَّذِينَ رَأَوْا فِيهِ تَهْدِيدًا لِلْقَيِّم وَالْحَقِيقَة وَالْمَوْضُوعِيَّة. وَمِنْ هُنَا، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ مَوْقِفَ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق يَنْطَلِقُ مِنْ نَقْدِ الْحَدَاثَة وَالْإدْعِاءَات الْمُطَلَّقَةُ لِلْعِلْم وَالْأَخْلَاق، وَيُؤَكِّدُ عَلَى النِّسْبِيَّة وَالتَّعْدِدِيَّة فِي هَذَيْنِ الْمَجَالِين. وَهَذَا الْمَوْقِفُ قَدْ أَثَارَ جَدَلًا وَاسِعًا وَإسْتَقْطَابَات فَكَرْيَّة كَبِيرَةٌ بَيْنَ أَنْصَار الْحَدَاثَة وَ مُنْتَقَدٌيها.
_ الْعِلْمُ : وَجِهَات نَظَر مُفَكِّرِي مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ
مُفَكِّرُو مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ يَنْظُرُونَ إلَى الْعِلْمِ بِشَكْلٍ مُخْتَلَف جِذْرِيًّا عَنْ طَرِيقَة النَّظَر التَّقْلِيدِيَّة لَهُ. بَدَلًا مِنْ النَّظَرِ إلَى الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِلْحَقِيقَة الْمَوْضُوعِيَّة وَالْمَعْرِفَة الْقَطْعِيَّة، يَرَى مُفَكِّرُو مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ مُجَرَّدُ نَسَق ثَقَافِيّ وَ أَيْديولُوجِيّ تَفْرِضُه الْحَدَاثَة وَالثَّقَافَة الْغَرْبِيَّة. وَاحِدٍ مِنْ أَبْرَزِ مُفَكِّرِي مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ الَّذِين تَطْرُقُوا إلَى هَذَا الْمَوْضُوعِ . مِيشِيل فُوكُّو Mechil Foucault : فِي كِتَابِهِ "حَفْرِيَّاتِ الْمَعْرِفَةِ"، شَكَّك فُوكُّو فِي الْمَزَاعِم الْمَوْضُوعِيَّة لِلْعِلْم، وَ رَأَى أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ نِظَام لِلسَّيْطَرَة وَالتَّحَكُّمُ يَقُومُ عَلَى إِخْضَاع الْأَفْرَاد وَتَأْدِيبِهِمْ. فَالْعِلْمُ فِي نَظَرِ فُوكُّو لَيْسَ بَرِيئًا أَوْ مَحَايدا، بَلْ هُوَ أَدَاةٌ لِلْقُوَّة وَالهَيْمَنَة الَّتِي تَمَارِسَهَا الطَّبَقَاتِ المُهَيْمِنَة فِي الْمُجْتَمَع. وَتَذْهَب النَّظَرِيَّة النَّقْدِيَّة لِمَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ إلَى أَنْ الْعِلْمَ لَيْسَ مُجَرَّدَ إكْتِشَاف لِلْحَقَائِق الْمَوْضُوعِيَّة، بَلْ هُوَ نِتَاجُ لِسَيِّاقَات ثَقَافِيَّة وَإجْتِمَاعِيَّة وَسِيَاسِيَّة مُحَدَّدَة. فَالْعُلُوم الطَّبِيعِيَّة مَثَلًا لَا تَنْبَثِقُ مِنْ فَرَاغِ، بَلْ تَتَشَكَّلُ فِي إِطَارِ الثَّقَافَة الْغَرْبِيَّة الْحَدِيثَة وَأَيْديولوجيَاتِهَا الْخَاصَّةِ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ الْعِلْمِيَّة لَيْسَتْ مُحَايِّدَة أَوْ عَالِيَةً فَوْق السِّيَاقُ الِاجْتِمَاعِيّ، بَلْ هِيَ مَحْمَلَة بِالسُّلْطَة وَالْإِيدَيُولُوجْيَا. إنْ فَكَرة فَوَكَّو عَنْ الْعِلْمِ تُعْتَبَرُ جُزْءًا أَسَاسِيًّا مِنْ فَلْسَفَتُه الشَّامِلَة حَوْل السُّلْطَة وَالْمَعْرِفَة. فُوكُّو لَا يَنْظُرُ إلَى الْعِلْمِ بِالطَّرِيقَة التَّقْلِيدِيَّة الَّتِي تَرَى فِيهِ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْحَقَائِق الْمَوْضُوعِيَّة الْمُسْتَقِلَّة عَنْ السِّيَاقِ الِإجْتِمَاعِيّ وَالسِّيَاسِيّ. بَلْ يَرَى فُوكُّو إنْ الْعِلْمِ هُوَ أَيْضًا أَدَّاة لِلْمُمَارَسَة السُّلْطَةَ وَإِنْتَاج الْمَعْرِفَةِ الَّتِي تَخْدُمُ مَصَالِح الْمَجْمُوعَات الْحَاكِمَة. فَالْعِلْم، بِالنِّسْبَةِ لَهُ، لَيْسَ حَيًّاديا أَوْ مَوْضُوعِيًّا بِالصُّورَةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا، بَلْ هُوَ مُرْتَبِطٌ بِعِلْاقَات الْقُوَّةُ السَّائِدَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ. وَ يَسْتَشْهِدُ فُوكُّو بِمِثَالٍ تَطَوُّر عِلْمَ الطِّبِّ وَالْعَلَاقَة بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْظِمَة السُّجُون وَالْعِقَابُ فِي الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ. فَالْطب لَمْ يَنْشَأْ كَمُجَرَّد عَلِم يَهْدِفُ إِلَى عِلاَجٍ الْمَرْضَى، بَلْ كَانَ أَدَّاة فِي يَدِ السُّلُطَات لِتَصْنِيف الْأَفْرَاد وَتَحْدِيد الطَّبِيعِيِّ مِنْ اللَّاطبيعي، وَالسَّلِيمِ مِنْ الْمُنْحَرِف. وَ بِالتَّالِي فَإِنَّ تَطَوَّرَ هَذَا الْعِلْمِ جَاء مُتَلَازِمًا مَعَ ظُهُورِ مُؤَسَّسَات الضَّبْط وَالسَّيْطَرَة كَالسُّجُون وَالْمُسْتَشْفَيَات النَّفْسِيَّةِ الَّتِي هَدَفًتْ إلَى إصْلَاحِ وَتَأْهِيل الْإِفْرَادُ الْمُنْحَرِفِينَ عَنْ الْمَعَايِير الْمُرْعِبَّة إجْتِمَاعِيًّا. كَمَا أَنَّ فُوكُّو يَنْتَقِدْ الِإدِّعَاءَات الْكَوْنِيَّة لِلْعِلْم وَالعَقْلَانِيَّة الَّتِي تَزْعُمُ أَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى الْوُصُولِ إلَى حَقَائِقِ مُطْلَقَة وَشَامِلَة عَنْ الْعَالِمِ. فَهُوَ يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْأَفْكَارِ تَنْطَوِي عَلَى أَيْدُيُولُوجْيَا أَلْمَانِيَّة مُتَأَصِّلَة تَهْدِفُ إِلَى السَّيْطَرَةِ وَ التَّحَكُّمُ فِي الْوَاقِعِ. وَيَرْفُض فُوكُّو التَّقْسِيمُ الْكِلاَسِيكِيّ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْإِيدَيُولُوجْيَا، مُعْتَبَرًا أَنْ الْعِلْمِ هُوَ نَفْسُهُ شَكْلٍ مِنَ أشْكَال الْأَيْدُيُولُوجِيَّا. وَعَلَيْهِ، فَإِنْ نَقَدَ فُوكُّو لِلْعِلْمِ يَنْطَلِقُ مِنْ رُؤْيَتِهِ لِلْعَلَاقَةِ بَيْنَ السُّلْطَةِ وَالْمَعْرِفَة. فَالْعِلْم بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ لَيْسَ مُجَرَّدَ نَشَاط مَحَايِّد يَهْدُفُ إِلَى الْكَشْفِ عَنْ الْحَقِيقَةُ، بَلْ هُوَ أَدَاةٌ تَسْتَخْدِمَهَا السُّلْطَة لِإِنْتَاج مَعَارِف وَهُوَيات تَخْدُمُ مَصَالِحِهَا. وَمِنْ ثَمَّ، يَدْعُو فُوكُّو إلَى إِخْضَاع الْعِلْم وَمُمَارَسَاته لِلنَّقْدِ وَالمُسَاءَلَة لِكَشْف الْأَيْدُيُولُوجِيَّات وَالْعَلَاقَات السَّلْطَوِيَّة الْمُضْمَرَة فِيهِ. وَ هَذِهِ الرُّؤْيَة لِعَلَاقَة السُّلْطَة بِالْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة تَجْعَلُ مِنْ فُوكُّو أَحَدُ أَهَمّ الْمُنْظَرِين النَّقْدَيْين لِلْعِلْمِ فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، حَيْث سَاهَمَ فِي تَحْرِيكِ النَّقَّاش حَوْل دُور الْمُؤَسَّسَات وَالْمَمَارَسَات الْعِلْمِيَّةِ فِي إنْتَاجِ وَتَشْكِيل الْوَاقِع الِإجْتِمَاعِيّ. وَتَظَلّ أُطْرُوحَاتِه فِي هَذَا الصَّدَدِ مَحَلّ نَقَّاش وَ جَدَل وَاسِعٌ بَيْنَ الْفَلَاسِفَة وَالْعُلَمَاءِ حَتَّى يَوْمِنَا هَذَا وَ ذَهَبَ بَعْضُ مُفَكِّرِي مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ إلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، حَيْثُ أَنْكَرُوا وُجُودَ أَيْ "حَقَائِقِ مَوْضُوعِيَّة" أَوْ "مَعْرِفَةِ مُؤَكَّدَةٌ" عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَمِنْ بَيْنِ هَؤُلَاءِ الْمُفَكِّر الْفَرَنْسِيّ جَان فَرَانَسُوا لِيُوَتار. . جَان فَرَانَسُوا لِيُوَتار Jean-François Lyotard : الَّذِي اُعْتُبِرَ أَنْ كُلَّ الْمَعَارِف وَ الْحَقَائِق هِيَ مُجَرَّدُ "سَرْدِيات كُبْرَى" أَوْ " لُعْبَاتْ لُغَوِيَّةٌ " لَا أَسَاسَ لَهَا فِي الْوَاقِعِ. فَفِي نَظَرِهِ، لَا يُوجَدُ أَيْ أَسَاسٍ مَتِينٍ لِلْمَعْرِفَة، وَ كُلُّ مَا نَعْتَبِرُه حَقِيقَةً هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَعْبِيرٌ عَنْ وَجِهَات نَظَر وَ سَيَاقَات ثَقَافِيَّة مُحَدَّدَة. رَفْضُ جَان فَرَانَسُوا لِيُوَتار الْعِلْمُ وَالتِّقْنِيَة كَمَشْرُوع حَدًّاثي إسْتِعْلَائِيّ وَ شُمُولِيّ، وَ إعْتَبَرَهُمَا مِنْ أَبْرَزِ مُظَاهِر الْفِكْر الْإِجْمَاعِيّ الحَدَاثِي الَّذِي طَالَمَا سَعَى إلَى تَحْقِيقِ الْوَحْدَة وَ الْإِجْمَاع. فَبِالنِّسْبَةِ إلَى لِيُوَتار، إنْ الْعِلْمِ الْحَدِيثَ، بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ مَوْضُوعِيَّة وَإكْتِشَاف لِلْحَقِيقَةِ المُطْلَقَةِ، هُوَ تَعْبِيرٌ عَنْ حُلُمٍ التَّنْوِير الَّذِي سَعَى إلَى تَحْقِيقِ الْوَحْدَة وَالشُّمُولِيَّة وَالتَّحَكُّم الْكَامِلِ فِي الطَّبِيعَةِ وَالْمُجْتَمَع. وَمِنْ هُنَا، فَإِنَّ نَقْد لِيُوَتار لِلْعِلْمِ يَنْطَلِقُ مِنْ مُسْلِمَةٍ أَسَاسِيَّة مُفَادُهَا أَنَّ مَشْرُوعَ الْعِلْمِ الحَدَاثِي هُوَ مَشْرُوعٌ أَحَادِيّ الْجَانِبِ، يَسْعَى إلَى فَرَضَ هَيْمَنته عَلَى الْوَاقِعِ وَيَعْمَلُ عَلَى إِخْضَاع كَافَّة الظَّوَاهِر وَالْمَعَارِف لِمَنْطقه الْأَقْصَائِيّ. لَقَدْ اُعْتُبِر لِيُوَتار إنْ الْعِلْمِ الْحَدِيثَ يَنْتَمِي إلَى "الْخِطَابَات الْكُبْرَى" الَّتِي تَسْعَى إِلَى إِنْشَاءِ إنْسَاق فَكَرْيَّة شُمُولِيَّة وَنَظَرِيَّات عَامَّة، تَدَّعِي الْقُدْرَةِ عَلَى تَفْسِيرِ كُلٍّ شَيْءٍ وَ تَوْحِيد كَافَّة الْمَعَارِف فِي إِطَارِ وَاحِدٍ. وَفِي هَذَا الصَّدَدِ، فَإِنَّ نَقْد لِيُوَتار لِلْعِلْمِ الْحَدِيث يَنْطَلِقُ مِنْ رُؤْيَتِهِ الْمَعْرِفِيَّة الْقَائِمَةِ عَلَى تَقْدِيس الِإخْتِلَاف وَالتَّفَرُّد وَالتَّنَوُّع، وَالرَّفْض الْقَاطِع لِكُلّ أشْكَال الْإِجْمَاع وَالشُّمُولِيَّة، سَوَاءٌ كَانَتْ سِيَاسِيَّة أَوْ مَعْرِفِيَّة أَوْ ثَقَافِيَّة. وَ يَرَى لِيُوَتار إنْ مَشْرُوعِ الْعِلْمِ الْحَدِيثَ، بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ مَوْضُوعِيَّة وَنَزَعَة إلَى الشُّمُولِيَّة وَالْحَقَائِق الْمُطْلَقَةِ، هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَعْبِيرٌ عَنْ "فَلْسَفَة الْقُوَّةِ" الَّتِي تَسْعَى إِلَى السَّيْطَرَةِ عَلَى الْوَاقِعِ وَإِخْضَاعِه لِنِسَق مَعْرِفِيّ مُعَيَّنٍ. وَمِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ، فَإِنْ نَقَدَ لِيُوَتار لِلْعِلْمِ الْحَدِيث يَنْطَلِقُ مِنْ إدْرَاكِهِ لِخُطُورَة هَذَا الْمَشْرُوعِ الَّذِي يَهْدِفُ إِلَى إِلْغَاءِ الِإخْتِلَاف وَ التَّنَوُّع، وَفَرْض هَيْمَنَة مَنْطِق الْإِجْمَاع وَالتَّوْحِيد عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَالثَّقَافَة. وَ لِلتَّغْلِب عَلَى هَذَا الْإِشْكَالِ، إقْتَرِحْ لِيُوَتار مَشْرُوعًا فَلْسَفِيًّا يَقُومُ عَلَى تَقْدِيس الِإخْتِلَاف وَالتَّفَرُّد وَالتَّنَوُّع، وَتَبَنِي مَنْطِق اللاَّمَرْكَزَيَّة وَالتَّعْدِدِيَّة الْمَعْرِفِيَّة. فَبِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، إنْ الْحَلِّ لَا يَكْمُنُ فِي رَفْضِ الْعِلْمِ وَالتِّقْنِيَة بِشَكْل مُطْلَقٍ، بَلْ فِي إعَادَةِ صِيَاغَتِهِمَا وَفقَاً لِمَنْطق مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ الَّذِي يَرْفُضُ الِإدِّعَاءَات الشُّمُولِيَّةِ وَالكُلِّيَّةِ، وَيُؤَكِّدُ عَلَى قِيمَةِ الِإخْتِلَاف وَتَعَدَّد الْمَنَاهِج وَالْوَجْهُات الْمَعْرِفِيَّة. وَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ نَقْدَ لِيُوَتار لِلْعِلْمِ الْحَدِيث يَنْطَلِقُ مِنْ رُؤْيَتِهِ النَّقْدِيَّة لِلْحَدَاثة وَ مَشْرُوعِها التَّنْوِيري الْقَائِمُ عَلَى الْوَحْدَةِ وَالشُّمُولِيَّة وَالسَّيْطَرَةَ عَلَى الْوَاقِعِ. فَهُوَ يَرْفُض الْعِلْم كَمَشْرُوع مَعْرِفِيّ أَحَادِيّ الْجَانِبِ، وَيَدْعُو إلَى إعَادَةِ صِيَاغَتِه وَفَقَاً لِمَنْطق مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى تَقْدِيس الِإخْتِلَاف وَالتَّنَوُّع وَ التَّعْدِدِيَّة الْمَعْرِفِيَّة. وَيَرَى آخَرُون مِثْل جَاكُ دِرِيدَا أَنَّ اللُّغَةَ نَفْسِهَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُعَبِّرَ بِدِقَّة عَنْ الْوَاقِعِ، وَبِالتَّالِي فَإِنَّ أَيَّ مُحَاوَلَة لِلْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَةِ مَوْضُوعِيَّة مَحْكُومَة بِحُدُود اللُّغَة وَمَحْدُودٌيَاتِهَا. . جَاكُ دِرِيدَا : Jacques Derrida : الْفَيْلَسُوف الْفَرَنْسِيّ الْمُؤَثِّر، كَانَ لَهُ مَوْقِفُ نَقْدِيّ قَوِيّ تُجَاه الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّة. دِرِيدَا شَكَّك فِي الِإدِّعَاءَاتِ التَّقْلِيدِيَّة لِلْعِلْم بِإعْتِبَارِه مَصْدَرًا مَوْثُوقًا لِلْمَعْرِفَة الْمَوْضُوعِيَّة وَ الْحَقِيقَة الْمُطْلَقَة. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، رَكَز عَلَى كَشْفِ الِإفْتِرَاضَات الْخَفِيَّةُ وَالتَّنَاقُضَات الدَّاخِلِيَّة فِي الْمُمَارَسَات الْعِلْمِيَّة وَخِطَابًاتُهَا. أَحَدُ أَهَمّ إنْتِقَادَات دِرِيدَا لِلْعِلْمِ هُوَ رَفَضَه لِمَبْدَإ "الْحُضُور الْمَيتَافِيزِيقِيّ"، أَيْ الِإعْتِقَادُ بِوُجُودِ أَسَاسٍ ثَابِتٍ وَمَرْجِعِيّ لِلْمَعْنَى وَالْحَقِيقَة. بِالنِّسْبَةِ لَهُ، لَا يُوجَدُ مَصْدَر أَصِيلٍ أَوْ أَصْلٍ لِلْمَعْنَى؛ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، الْمَعْنَى هُوَ نِتَاجُ الْعَلَاقَات وَالْفُرُوقات بَيْنَ الْعَلَامَاتِ اللُّغَوِيَّة. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ إدَّعَاءَات الْعِلْمُ بِالْوُصُولِ إلَى حَقَائِقِ مَوْضُوعِيَّة نِهَائِيَّة هِيَ مَحَلُّ شَكّ. دِرِيدَا أَيْضًا إنْتَقَد الِإفْتِرَاض الأَسَاسِيّ لِلْعِلْمِ بِوُجُودِ "مُؤَلَّف" أَوْ "ذَاتَ" مُسَيْطِرَة وَمَرَّكزية بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، رَأْى إنْ الذَّات مُتَّفَككة وَمَشَتتة، وَ إِنْ الْمَعْنَى يَنْشَأُ مِنْ دُونِ مَرْكَز أَوْ مَنْبَعِ أَصِيل. هَذَا يَعْنِي أَنَّ النُّصُوصَ الْعِلْمِيَّة وَالْخَطَابَات لَا تَعْكِس حَقِيقَة مُسْتَقِلَّةً عَنْ السِّيَاقِ الِإجْتِمَاعِيّ وَالثَّقَافِيّ الَّذِي أَنْتَجَهَا. بِالْإِضَافَةِ إلَى ذَلِكَ، إنْتَقَد دِرِيدَا الْمَيْل الْعِلْمِيِّ إلَى تَهْمَيش وَتَهْميش الْكِتَابَةُ لِصَالِح الْكَلَامِ الْمَنْطُوقِ. فَالْكِتَابَة بِالنِّسْبَةِ لَهُ هِيَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ تَمْثِيل ثَانَوِيٌّ لِلْكَلَامِ، بَلْ هِيَ الشَّرْطُ الأَسَاسِيّ لِلُّغَة وَالْمَعْنَى. وَبِالتَّالِي، لَا يُمْكِنُ لِلْعِلْمِ أَنْ يَدَّعِيَ الْوُصُولِ إلَى الْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَةِ دُونَ الِإعْتِرَافِ بِدُور الْكِتَابَةِ فِي إنْتَاجِ الْمَعْرِفَة. فِي مُقَابِلِ إدَّعَاءَات الْعِلْمُ بِالمَوْضُوعِيَّة وَالْحَيَاد، يَرَى دِرِيدَا أَنَّ الْخِطَابَ الْعِلْمِيّ مُشَبَّعْ بِالِإفْتِرَاضِات الْأَيْدُيُولُوجِيَّة وَالسِّيَاسِيَّةِ. فَالْعِلْمُ لَيْسَ مَشْرُوعًا مَحَايدا لِلْكَشْفِ عَنْ الْحَقِيقَةِ، بَلْ هُوَ مُمَارَسَة إجْتِمَاعِيَّة مُتَأَثِّرَة بِالْقِوَّى السِّيَاسِيَّة وَالثَّقَافِيَّة. وَمِنْ ثَمَّ، يَنْبَغِي فَحَص النُّصُوص الْعِلْمِيَّة بِعِنَايَة لِكَشْفِ هَذِهِ الِإسْتِحْوَاذُات الْخَفِيَّةُ. فِي النِّهَايَةِ، لَا يَنْكَرُ دِرِيدَا أهَمِّيَّةَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّة، وَلَكِنَّه يَدْعُو إلَى نَهْج أَكْثَر تَوَاضُعًا وَإنْفِتَاحًا تُجَاه حُدُود الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَ إدِّعَاءَاتُهَا. فَالتَّفْكِيك بِالنِّسْبَةِ لَهُ هُوَ طَرِيقَةُ لِإِعَادَة التَّفْكِيرِ فِي الْعِلْمِ وَمُمَارَسَاته بِطُرُقٍ جَدِيدَة، بِمَا يَحْفِز عَلَى التَّفْكِيرِ النَّقْدِيّ وَالِإبْتِكَار. وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ مُفَكِّرِي مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ يَرْفُضُون الْإِيمَان بِالْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَةِ أَوْ الْمَعْرِفَةِ الْقَطْعِيَّة، وَيَنْظُرُونَ إلَى كُلِّ مَا نَعْتَبِرُه حَقِيقَةً عَلَى أَنَّهُ مُجَرَّدُ بِنَاءَات لُغَوِيَّة وَثَقَافِيَّة نِسْبِيَّة. . جِيل دَوْلَوز Gilles Deleuze وَ فِيليكس غوَاتَارِي Félix Guattari : إنْتَقَدَ دَوْلَوز وَغَوْاتاري فَكَرة الْعِلْم بِإعْتِبَارِه مَنْظُومَة مُوَحَّدَة لِلْمَعْرِفَة. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، إقْتَرَحَا رُؤْيَة لِلْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة بِإعْتِبَارِهَا "مَجْمُوعَات مُتَعَدِّدَةٍ" مِنْ الْمُمَارَسَات وَ الْخَطَابَات الْمُتَنَوِّعَةِ. وَ أَكَّدَا عَلَى أَهَمِّيَّةِ الِإخْتِلَاف وَ التَّعْدِدِيَّة فِي إنْتَاجِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة، وَ الرَّفْض لِأَيّ مُحَاوَلَات لِتَوْحِيدِها أَوْ إخْضَاعِهَا لِمَعَايِير مُوَحَّدَة. جِيل دَوْلَوز الْمُؤَرَّخِ و فَيَلْيكس غَوَتْاري الْمُحَلِّلُ نَفْسِي تَحَالَفَا عَلَى مُعَارَضَةِ وَ تَوْسِيع التَّصَوُّر السَّائِد لِلْعِلْمِ فِي فَلْسَفَتُهُمَا الْمُشْتَرَكَةِ. مِنْ خِلَالِ مُؤَلَّفَاتِهُمَا الْمُشْتَرَكَةِ كـ "أَلْف هَضْبَة" و "مُكَافَحَة الْعُقَدِ النَّفْسِيَّةِ"، إنْتَقدا إلَى حَدِّ كَبِير النَّمُوذَج التَّقْلِيدِيّ لِلْعِلْم الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِالمَوْضُوعِيَّة وَ الْحَيَاديَّة وَالْمِنْهَجِيَّة. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، إقْتَرَحَا فَهْمًا لِلْعِلْم كَمُمَارِسَة دَيْنٌامَيَّة وَ غَيْرُ مُتَجَانِسَة تَتَأَثَّر بِالْقِوَّى السِّيَاسِيَّةِ وَ الإجْتِمَاعِيَّةِ وَ الثَّقَافِيَّة. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، فِي "أَلْفٍ هَضْبَة"، إنْتَقَد دَوْلَوز وَ غَوْتَارِي فَكَرة الْعِلْمِ بِوَصْفِهِ مِنْطَقَة مُوَحَّدَة لِلْمَعْرِفَة الْمَوْضُوعِيَّة. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، أَكَّدَا عَلَى تَعَدُّدِ أَنْمَاط الْمَعْرِفَة وَ التَّفْكِير الَّتِي تُشَكِّلُ مَا يُسَمَّى بِـ "الْعِلْم"، وَاَلَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُتَنَاقِضَة أَوْ مُتَنَافِرَة فِيمَا بَيْنَهَا. وَإدَّعَيَا أَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ نَشَاطًا مَحَايدا، بَلْ هُوَ مَغْرُوس فِي شَبَكَةٍ مِنْ الْقِوَّى الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَ الِإقْتِصَادِيَّة الَّتِي تَوَجَّهَ مَسَارِه وَ تَحَدُّد أَهْدَافِه. كَمَا إنْتَقَد دَوْلَوز وَغَوْتَارِي الْفِكْرَةِ الشَّائِعَة بِأَنَّ الْعِلْمَ يَتَقَدَّم بِشَكْل خَطِّي وَتَرَاكُمِيّ نَحْوُ الْحَقِيقَةَ الْمُطْلَقَةَ. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، إعْتَبَرَا أَنْ تُطَوِّرَ الْعِلْم يَتَسَمّ بِالتَّقَطُّع وَ التَّنَوُّع وَ التَّغْيِير الْجِذْرِيّ، حَيْثُ تَظْهَرُ طُرُقٍ جَدِيدَةٍ لِلتَّفْكِير وَ الْبَحْث وَ تَحِلّ مَحَلّ الْأَسَالِيب الْقَدِيمَة. وَنَادَوْا بِضَرُورَة إعَادَةِ النَّظَرِ فِي التَّصْنِيفات وَالتَّخَصُّصَات الْعِلْمِيَّة التَّقْلِيدِيَّة بِإعْتِبَارِهَا حَوَاجِز صِنَاعِيَّة تُعِيق الِإبْتِكَار وَالتَّطَوُّر. عِلَاوَةً عَلَى ذَلِكَ، إقْتَرِحْ دَوْلَوز وَغَوْتَارِي إنْ الْعِلْمَ لَيْسَ مُجَرَّدَ وَصْفٍ مَوْضُوعَيْ لِلْوَاقِعِ، بَلْ هُوَ أَيْضًا مُمَارَسَة إبْدَاعِيَّة تُشَكِّلُ الْوَاقِع وَتُعِيد إنْتَاجِه. فَالْمَفَاهِيم وَالنَّظَرِيَّات الْعِلْمِيَّة لَيْسَتْ إنْعِكَاسِات سَلْبِيَّة لِلْعَالِم الْخَارِجِيَّ، بَلْ هِيَ أَدَوَاتُ فَاعِلة تُسَاهِمُ فِي إنْتَاجِ الْوَاقِع الِإجْتِمَاعِيّ وَالْمَادِّيّ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالنِّسْبَةِ لَهُمَا هُوَ نَشَاط سِيَاسِيّ وَأَخْلَاقِيّ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهُ عَنْ الْقَيِّمِ وَ الْمُصَالَح الِاجْتِمَاعِيَّة. فِي مُجْمَلِهَا، تُشْكِل مُسَاهِمًات دَوْلَوز وَ غَوْتَارِي نَقْدًا جِذْرِيًّا لِلنَّظْرَة التَّقْلِيدِيَّة لِلْعِلْم بِإعْتِبَارِه مَجَالًا مَحَايدا وَ مَوْضُوعُيا لِلْمَعْرِفَة. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، قَدَمَا رُؤْيَة جَدِيدَة تَرَى الْعِلْم كَمُمَارِسَة إجْتِمَاعِيَّة وَمَادِّيَّة مُتَعَدِّدَة الْأَوْجَه وَ مُلْتَبِسة بِالقِوَّى السِّيَاسِيَّة وَالثَّقَافِيَّة. وَأَكَّدَا عَلَى ضَرُورَةِ إعَادَةِ النَّظَرِ فِي الِإفْتِرَاضَات الْأَسَاسِيَّةِ وَالْمَمَارَسَات الْمُؤَسَّسَيَّةِ لِلْعِلْمِ مِنْ أَجْلِ الْكَشْفِ عَنْ دَوْرِهِ فِي إنْتَاجِ وَتَشْكِيل الْوَاقِع الِإجْتِمَاعِيّ فِي مُجْمَلِهَا، تُشْكِل مُسَاهِمًات دَوْلَوز وَغَوْتَارِي نَقْدًا جِذْرِيًّا لِلنَّظْرَة التَّقْلِيدِيَّة لِلْعِلْم بِإعْتِبَارِه مَجَالًا مَحَايدا وَ مَوْضُوعُيا لِلْمَعْرِفَة. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، قَدَمَا رُؤْيَة جَدِيدَة تَرَى الْعِلْم كَمُمَارِسَة إجْتِمَاعِيَّة وَمَادِّيَّة مُتَعَدِّدَة الْأَوْجَه وَمُلْتَبِسة بِالْقِوَّى السِّيَاسِيَّة وَ الثَّقَافِيَّة. وَأَكَّدَا عَلَى ضَرُورَةِ إعَادَةِ النَّظَرِ فِي الِإفْتِرَاضَات الْأَسَاسِيَّةِ وَالْمُمَارَسَات الْمُؤَسَّسَيَّةِ لِلْعِلْمِ مِنْ أَجْلِ الْكَشْفِ عَنْ دَوْرِهِ فِي إنْتَاجِ وَتَشْكِيل الْوَاقِع الِإجْتِمَاعِيّ . جَان بِودِريار Jean Baudrillard : شَكَّكَ بُودْرْيَّار فِي إِمْكَانِيَّة الْوُصُولِ إلَى حَقِيقَةِ مَوْضُوعِيَّة عَبَّر الْعِلْمِ. فَهُوَ يَرَى أَنَّ الْوَاقِعَ قَدْ أَصْبَحَ مُجَرَّد "مُحَاكَاة" أَوْ "شَبِيهٌ" لِلْحَقِيقَة، وَ إِنَّ الْعِلْمَ لَا يُعْكَسُ الْوَاقِع بِشَكْل مَوْضُوعَيْ، بَلْ يُنْتِجُ "الْوَاقِع الِإفْتِرَاضِي". لِذَا، فَإِنَّ بُودْرْيَّار يَرْفُضُ فَكَرة الْعِلْم بِإعْتِبَارِه وَسِيلَة لِلْوُصُولِ إلَى الْحَقِيقَةِ الْمَوْضُوعِيَّة. بُودْرْيَّار اُعْتُبِرَ أَنْ الْعِلْمِ وَ الْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّةِ قَدْ أدَتْ إِلَى تَزْيِيفِ الْوَاقِع وَ إِخْفَاء الْحَقِيقَة الْحَقِيقِيَّة وَرَاء مَظَاهِر وَاقِع مُصْطَنع. بِدَايَة، يَرْفُض بُودْرْيَّار الْفِكْرَةِ السَّائِدَة بِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْأَدَاةُ الْمُثْلَّى لِلْكَشْفِ عَنْ الْحَقِيقَةِ الْمَوْضُوعِيَّة لِلْعَالِم. فَبِالنِّسْبَة لَهُ، الْعِلْمُ لَا يُمَكِنُنَا مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْحَقِيقَةِ الْكَامِنَة وَرَاء الظَّوَاهِر، بَلْ عَلَى الْعَكْسِ، فَهُوَ يُنْتِج وَاقِعًا مُصْطَنَعًا وَ يُغِيب الْحَقِيقَة الْحَقِيقِيَّة. فَالْعِلْم، بِحَسَب بُودْرْيَّار، لَا يَكْشَفُ عَنْ الْوَاقِعِ كَمَا هُوَ، بَلْ يُنْتِجُ وَاقِعًا جَدِيدًا يَخْتَلِفُ عَنْ الْوَاقِعِ الْأَصْلِيِّ. وَ بالتالي هَذَا مَا يُفَسِّرُ، فِي نَظَرِه حَقِيقَةً إنْ "حَرْبٌ الْخَلِيج" لَمْ تَقَعْ فِي الْوَاقِعِ، بَلْ كَانَتْ مُجَرَّدَ مَشْهَد تَمْثِيلِيّ أَنْتَجَتْه وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ وَ الْخِطَابِ السِّيَاسِيّ. فَالْحَقِيقَة الْحَقِيقِيَّة إخْتَفَتْ وَرَاءَ هَذَا الْمَشْهَدِ المُصْطَنَع الَّذِي إسْتَحْوَذَ عَلَى الْوَاقِعِ. وَ هَذَا مَا يَنْطَبِقُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْدَاثِ وَ الظَّوَاهِرُ فِي الْمُجْتَمَعُ الْمُعَاصِر. وَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، يَنْتَقِدْ بُودْرْيَّار الْمَنْطِقُ الْوَضْعِيِّ فِي الْعُلُومِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، وَ اَلَّذِي يَسْعَى إلَى إكْتِشَافِ الْقَوَانِين وَ الْعَلَاقَات السَّبَبِيَّة الْمَوْضُوعِيَّة لِلظَّوَاهِر الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ. فَهَذَا الْمَنْطِق، بِحَسَب بُودْرْيَّار، يُنْتِجُ مَعْرِفَة مُزَيَّفَة عَنْ الْوَاقِعِ الِإجْتِمَاعِيّ، وَيُخْفِي حَقِيقَةً أنْ هَذَا الْوَاقِعِ هُوَ فِي الْأَسَاسِ وَاقِع مُصْطَنع وَمُشَوَّه. وَ مِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ، يُطَالَب بُودْرْيَّار بِضَرُورَةٍ التَّخَلِّي عَنْ الْمَنْهَجِيَّة الْعِلْمِيَّةِ الْوَضْعِيَّةُ فِي دِرَاسَةِ الْمُجْتَمَعِ وَالثَّقَافَة، وَ إسْتِبْدَالُهَا بِمَنْهَجِيَّة نَقْدَيَّة تَكْشِفُ عَنْ الطَّبِيعَةِ الْمُصْطَنَعَة وَالْمُزَيَّفَةِ لِلْوَاقِع الِإجْتِمَاعِيّ. فَالْمُجْتَمِع الْمُعَاصِر، بِحَسَب بُودْرْيَّار، هُوَ مُجْتَمِعٌ الصُّوَر وَالْمُحَاكَاة وَ الشَّبِيهَات، حَيْثُ تَغِيبُ الْحَقِيقَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَرَاء مَظَاهِر وَاقِع مُصْطَنع. وَهُنَا، يُرَكِّز بِوَدِريار عَلَى مَفْهُومِ "الشَّبِيه" ، (Simulacre) بِإعْتِبَارِه الْمَفْهُوم الْمَرْكَزِيّ فِي فَلْسَفَتُه النَّقْدِيَّة. فَالْشْبِيه هُوَ الصُّورَةُ أَوْ التَّمْثِيلِ الَّذِي يَحِلُّ مَحَلَّ الْوَاقِع الْأَصْلِيّ وَيُغَيِّبُه. وَهَذَا الشَّبِيه لَا يُمَثِّلُ الْوَاقِع فَحَسْبُ، بَلْ يُنْتِجُ وَاقِعًا جَدِيدًا مُغَايِرًا لَه. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ نَقْد بُودْرْيَّار لِلْعِلْمِ يَتَجَاوَز مُجَرَّدُ الشَّكِّ فِي قَدْرَة الْعِلْمِ عَلَى الْكَشْفِ عَنْ الْحَقِيقَةِ الْمَوْضُوعِيَّة، لِيَصِلَ إلَى إتِّهَام الْعِلْم بِإِنْتَاج وَاقِع مُصْطَنع وَتَزْيِيفِ الْوَاقِع الْأَصْلِيِّ. وَهَذَا النَّقْد يَمْتَدّ لِيَشْمَلَ كُلَّ أشْكَالٍ الْمَعْرِفَة وَالْخَطَابَات المُهَيْمِنَة فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُعَاصِر، بِمَا فِي ذَلِكَ الْخِطَابِ السِّيَاسِيّ وَالْإِعْلَامِيّ وَالْفَنِّيّ. وَ مِنْ هُنَا، يُطَالَب بُودْرْيَّار بِضَرُورَةٍ تَطْوِير أشْكَال جَدِيدَة لِلْمَعْرِفَة وَالنَّقْد تَكُونَ قَادِرَةً عَلَى كَشْفِ الطَّبِيعَة الْمُصْطَنَعَة لِلْوَاقِعِ الْمُعَاصِر، وَ عَلَى إعَادَةِ إكْتِشَاف الْحَقِيقَة الْكَامِنَة وَرَاءَ هَذَا الْوَاقِعِ الْمُزَيَّف. وَهَذَا يَتَطَلَّبُ، فِي نَظَرِهِ، التَّخَلِّي عَنْ الْمَنْطِق الْعِلْمِيّ الْوَضْعِيّ وَإعْتِمَاد مُقَارَبَات نَقْديَّة وَتَحْلِيليَّة جَدِيدَةٍ تَسْتَطِيع الْوُلُوج إلَى أَعْمَاقِ الْوَاقِع الِإجْتِمَاعِيّ وَ الثَّقَافِيّ. وَبِهَذَا، يُقَدَّم بُودْرْيَّار رُؤْيَةُ فَلْسَفِيَّة جِذْرِيَّة تَنْتَقِد الْعِلْم بِإعْتِبَارِه أَدَّاة لِلتَّزْيِيف وَ التَّضْلِيلِ، وَتَدْعُو إِلَى تَطْوِيرِ أشْكَال جَدِيدَة لِلْمَعْرِفَة وَالنَّقْد قَادِرَةً عَلَى الْكَشْفِ عَنْ الْحَقِيقَةِ الْمُسْتَتِرَة وَرَاء الْوَاقِع المُصْطَنَع لِلْمُجْتَمَع الْمُعَاصِر. وَهَذِه الرُّؤْيَة تُشْكِل تَحْدِيا كَبِيرًا لِلْفِكْر الْعِلْمِيّ التَّقْلِيدِيّ وَلِلْمُعَرِّفَة المُهَيْمِنَة فِي عَصْرِنَا.
_ الْأَخْلَاقِ: وَجِهَات نَظَر مُفَكِّرِي مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ
مِنْ أَبْرَزِ الْمُفَكِّرِينَ الْبَارِزَيْن فِي مَجَالِ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ الَّذِينَ تَنَاوَلُوا مَوْضُوع الْأَخْلَاق : . مِيشِال فَوَكَّو Mechil Foucault : رَكَّزَ فَوَكَّو عَلَى نَقْدٍ الْأَخْلَاق التَّقْلِيدِيَّة وَبَحَثَ عَنْ أشْكَالٍ جَدِيدَة لِلْأَخْلَاق تَتَجَاوَز الْأَخْلَاق الْمِعْيَارِيَّة، مِثْلَ "أَخْلَاقِ الِإهْتِمَام بِالذَّات". مِيشِيل فَوَكَّو هُوَ وَاحِدٌ مِنْ أَبْرَزِ الْمُنْظَرِين الْفَرَنْسِيِّين فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ الَّذِينَ قَامُوا بِنَقْد الْأَخْلَاق التَّقْلِيدِيَّة وَالعَقْلَانِيَّة الْأُورُوبِّيَّة. فَوَكَّو وَضَعَ تَحْت الْمَجهر مَفَاهِيمُ كَالسُّلْطَة وَ الْمَعْرِفَةِ وَعَلَاقَاتِهِمْا بِالْحَقِيقَةِ وَالْجَسَد وَالْجِنْسانِيَة، مَا مَكَّنَهُ مِنْ الْكَشْفِ عَنْ الْبُنَى السَّلطويَّة وَالقَمْعيَّة الَّتِي تَكْمُن خَلَفَ مَا يَبْدُو طَبِيعِيًّا وَبَدِيهِيٌّا فِي الْمَجَالِ الْأَخْلَاقِيّ. بِالنِّسْبَة لِفَوَكو، تُشَكِّلُ الْأَخْلَاق مَجَالًا لِلصِّرَاع وَالتَّفَاوَض بَيْنَ مُخْتَلِفِ أشْكَال السُّلْطَة وَالْمُقَاوَمَة. فَالْأَخْلَاق لَيْسَتْ مُجَرَّدَ قَوَاعِد وَمَبَادِئ ثَابِتَة تَسْمُو فَوْقَ التَّارِيخِ وَالسِّيَاق، بَلْ هِيَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْمُمَارَسَات وَالتِّقْنِيَّات الَّتِي تَنْشَأُ فِي سِيَاقَات تَارِيخِيَّة مُحَدَّدَة وَتَخْضَع لِصَرِاعَات السُّلْطَةَ. وَهُوَ مَا دَفَعَهُ إلَى إعَادَةِ النَّظَرِ فِي مَفْهُومِ الذَّات الْأَخْلَاقِيَّة الْمُسْتَقِلَّة وَالْمُوَحَّدَة الَّتِي كَرَّسَتْهَا الْفَلْسَفَةِ الْحَدِيثَة مُنْذ دِيكَارْتْ. فَوَكَّو يُبَيِّنُ أَنَّ الذَّاتَ الْأَخْلَاقِيَّة لَيْسَتْ جَوْهَر ثَابِتٍ أَوْ طَبِيعَةٍ جَاهِزَة، بَلْ هِيَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْمُمَارَسَات الَّتِي يَتِمُّ إنْتَاجِهَا وَالتَّحَكُّم بِهَا مِنْ خِلَالِ آلْيَات السُّلْطَة وَالْمَعْرِفَة. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ لَا تَسْتَنِدُ إلَى أَسَاسٍ رَاسِخ وَمُطْلَق، بَلْ هِيَ نِتَاجُ تَارِيخِيّ لِمُمَارَسَات وَ تَقَنِّيَّات سُلْطَويَّةِ مُخْتَلِفَةٌ. وَتَجَلَّتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ بِشَكْل وَاضِحٌ فِي دِرَاسَات فَوَكَّو عَنْ تَارِيخِ الْجِنْسَانِيَّة وَالمُؤَسَّسَات الإِصْلَاحِيَّة كَالسُّجُون وَالْمُسْتَشْفَيَات النَّفْسِيَّةِ. فَقَدْ بَيَّنَ كَيْفَ أَنَّ مَجْمُوعَة مِنْ الأَنْظِمَة الْمَعْرِفِيَّة وَالْمَمَارَسَات الطِّبِّيَّةُ وَ الْقَانُونِيَّة شَكَّلَتْ طُرُق مُحَدَّدَة لِلتَّفْكِيرِ فِي الْجَسَدِ وَالرَّغْبَة الْجِنْسِيَّة وَ إِخْضَاعِهِمَا لِسُلْطَة الْمُؤَسَّسَات. وَبِذَلِك فَضَحّ فَوَكَّو الطَّبِيعَةِ السِّيَاسِيَّة لِلْأَخْلَاق وَالْأَسَاس التَّارِيخِيّ وَالِإجْتِمَاعِيّ لِلْمَفَاهِيم الْأَخْلَاقِيَّة الظَّاهِرَة بِالْحَيَاد وَالْعُمُومِيَّة.وَلَمْ يَكْتَفِ فَوَكَّو بِنَقْدٍ الْأَخْلَاق التَّقْلِيدِيَّة، بَلْ سَعَى إلَى إسْتِشْرَاف إمْكَانِيَّات جَدِيدَة لِلْأَخْلَاق وَالذَّات. فَإِذَا كَانَتْ الْأَخْلَاقُ نِتَاج تَارِيخِيّ لِتَقْنِّيَّات السُّلْطَةَ، فَإِنْ ذَلِكَ يَعْنِي أَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلتَّغْيِير وَ الِإخْتِرَاع. وَهُوَ مَا حَدًّا بِهِ إلَى التَّرْكِيزِ عَلَى مُمَارَسَات الْحُرِّيَّةُ وَالْمُقَاوَمَة كَأَسَاس لِأَخْلَاق جَدِيدَة. وَبِالتَّالِي، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ نَقْدَ فَوَكَّو لِلْأَخْلَاق التَّقْلِيدِيَّة قَادَهُ إلَى إعَادَةِ صِيَاغَة مَفْهُوم الذَّات الْأَخْلَاقِيَّة وَ رَبَطَهَا بِإِمْكَانِات المُقَاوَمَة وَالتَّحَرُّرِ مِنَ أشْكَال السُّلْطَة الْمُخْتَلِفَة. فَالْأَخْلَاق بِالنِّسْبَةِ لَهُ لَا تَكْمُنُ فِي الِإلْتِزَامِ بِقَوَاعِد ثَابِتَةً، بَلْ فِي مُمَارَسَات الْحُرِّيَّةُ وَالِإبْتِكَار الَّتِي تَتَحَدَّى الْهَيْمَنَة وَالْقَهْر. . جَانٍ-فْرَانْسْوَّا لِيُوَتار Jean-François Lyotard : إنْتَقَدَ لِيُوَتار الْأَخْلَاقِ الْكُلِّيَّة وَالْمَوْضُوعِيَّة، وَدَعَا إلَى أَخْلَاقِ تَعَدَّدِيَّة وَنَسَبيَّة تَسْتَنِدُ إلَى "لِعَبْات" الْمُتَخَاطِبِين. وَبَلَوَرَة مَفْهُومُ "الْخِطَابِ الْمُتَطَرِّف". فِي كِتَابِهِ "حَالِة مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ" يُنَاقَش لِيُوَتار كَيْفَ أَنَّ الْمَنْظُومَة الْأَخْلَاقِيَّة الْحَدِيثَة قَدْ فَقَدْتُ شَرْعِيَّتِهَا وَكَيْفَ يُمْكِنُ لِلْخِطَاب الْمُتَطَرِّف أَنْ يَكُونَ بَدِيلًا لَهَا. لِيُوَتار يَنْتَقِدْ الْحَدَاثَة لِأَنَّهَا أَنْشَأَتْ مَنْظُومَة أَخْلَاقِيَّة عَالَمِيَّة تَسْعَى إِلَى تَحْقِيقِ الْحَقِيقَةُ الْمُطْلَقَة وَالشُّمُول. وَفَقاً لَهُ، فَإِنْ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ الْأَخْلَاقِيَّة الْكُبْرَى قَدْ فَقَدْت مَصْدَاقِيتِهَا فِي عَالَمِ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ، حَيْث تَزَايَد التَّنَوُّع وَالْخُصُوصِيَّة. لِيُوَتار يَقْتَرِح أَنَّ الْخِطَابَ الْمُتَطَرِّف، أَيْ الْخِطَابِ الَّذِي يُنْبَذُ الْمَنْطِق وَ الرَّشَاد وَالشُّمُول، يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَدِيلًا لِلْمَنْظُومَة الْأَخْلَاقِيَّة الْحَدِيثَة. فَالْخِطَاب الْمُتَطَرِّف يَسْمَح بِتَعَدُّد وِجْهَاتِ النَّظَرِ وَ الْخُصُوصِيَّات الْمُتَنَوِّعَة، بَدَلًا مِنْ الْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ مُطْلَقَة. . إيمَانْوِيل لِيفِينَاسَ Emmanuel Levinas : رَكَز لِيفِينَاس عَلَى أَخْلَاقِيَّات التَّعَامُلُ مَعَ الْآخَرِ، وَأَهَمِّيَّة التَّسَامُح وَالْمَحَبَّة وَ الْمَسْؤُولِيَّة الْمُتَبَادَلَة. وَلَكِنْ كَانَ تَرْكِيزُه مُنْصَبًّا عَلَى الْآخَرِ الْيَهُودِيّ فَقَطْ. مِنْ أَهَمِّ أَفْكَار لِيفِينَاس فِي نَقْدِهِ لِلْأَخْلَاق التَّقْلِيدِيَّة. رَفَض الْأَخْلَاق الْقَائِمَةِ عَلَى الْمَبَادِئ الْعَامَّةِ أَوْ الْقَوَانِين الْمُجَرَّدَة، وَاَلَّتِي تَتَجَاهل الْخُصُوصِيَّةُ وَالْفَرْدِيَّة. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، يُؤَكِّدُ لِيفِينَاس عَلَى الْأَخْلَاقِ الْقَائِمَةِ عَلَى الْمُوَاجَهَةِ الْمُبَاشَرَةِ مَعَ الْآخَرِ وَالِإلْتِزَام تُجَاهَه. إنْتِقَاد الْأَخْلَاق البِنْيَوِيَّة الَّتِي تَنْظُرُ إلَى الْفَرْدِ بِإعْتِبَارِه جُزْءًا مِنْ نِظَامِ أَوْ كِيَانٍ أَكْبَرُ (مِثْلُ الْمُجْتَمَعِ أَوِ الدَّوْلَةِ). لِيفِينَاس يَرَى أَنَّ هَذَا يَهْمِش دُور الْفَرْد وَخُصُوصِيَّتُه. التَّرْكِيزِ عَلَى الِإلْتِزَامِ وَالْمَسْؤُولِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة تُجَاهَ الْآخَرِ، حَيْثُ يَرَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَسَاسُ الْحَقِيقِيّ لِلْأَخْلَاق وَلَيْس الْمَصَالِح الذَّاتِيَّة. رَفَضَ لِيفِينَاس فِكْرَةَ الْأَخْلَاق كَنِظَام مَوْضُوعَيْ أَوْ مُجَرَّدُ قَوَاعِدَ وَقَوَانِينَ. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، يَرَى الْأَخْلَاق كَتَجْرِبَة حَيَّةً فِي مُوَاجَهَةِ الْاخَر. بِشَكْلٍ عَامٍّ، يَنْتَقِدْ لِيفِينَاس الْأَخْلَاق التَّقْلِيدِيَّة بِإعْتِبَارِهَا تَجَاهَلَتْ الْآخَرُ وَتَرَكزت بِشَكْلٍ مُفَرِّط عَلَى الذَّاتِ. وَهُوَ يَدْعُو إلَى أَخْلَاقِ جَدِيدَةٍ قَائِمَةٍ عَلَى الْمَسْؤُولِيَّة وَالِإلْتِزَام تُجَاه الْإخَر. . تَشَارلز تَايّْلُور Charles Taylor : حَاوَلَ تَايّْلُور إيجَادِ أُسِّس أَخْلَاقِيَّة جَدِيدَةً فِي مُوَاجَهَةِ نَقَدَ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ لِلْأَخْلَاق التَّقْلِيدِيَّة. تَشَارلز تَايّْلُور هُوَ فَيْلَسُوف كَنَدِيّ مُعَاصِر لَدَيْه إِسْهَامًات مُهِمَّةٌ فِي الْفَلْسَفَةِ السِّيَاسِيَّة وَفَلْسَفَة الْعُلُومِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ. فِي كِتَابِهِ "أَخْلَاقِيَّات الْأَصَالَةُ"، يُقَدَّم تَايّْلُور مُقَارَبَةُ نَقْدَيْة مُمَيِّزَة لِلْحَدَاثة وَمَا بَعْدَهَا، حَيْثُ يَنْتَقِدْ طُغْيَان نَزَعَات الفَرْدَانِيَّة وَالنَّرْجِسِيَّة فِي تَحْقِيقِ الذَّات، وَإنْتِزَاع الطَّابَع الرُّوحِيّ عَنْ الْعَالِمِ فِي ظِلِّ سِيَادَة عَصْر عَلِمَانِيّ مُتَنَام وَالِإنْتِقَالِ مِنْ تَقْدِيس الْعَقْلِ إلَى الْمَنْفَعَةِ. يُرَكِّز تَايّْلُور فِي نَقْدِهِ عَلَى كَيْفِيَّةِ فُقْدَان الإِنْسَانُ الْحَدِيثَ لِلْمَعْنَى وَالْقَيِّم السَّامِيَةِ الَّتِي كَانَ مُعَلَّقًا بِهَا، وَإنْهِيَار النِّظَام البِيئِيّ بِسَبَب جَشَعْ الِإسْتِنْزاف، وَ ضَيَاعُ الْحُرِّيَّةِ فِي زَحْمَة تَسَيُّدْ الِإسْتِبْدَادُ النَّاعِم. فَهُوَ لَا يُعْجِبُهُ نَقْد الْحَدَاثَة بِشَكْلٍ عَامٍّ، بَلْ يَمِيلُ إلَى إسْتِدْرَاج الْحَدَاثَة إِلَى مَوَاقِعِ وِلَادَتِهَا، مُحَاوِلًا تَحْرِيرِهَا مِنْ الصِّيغَةِ الْوَاحِدِيَّةِ الَّتِي فَرَضْتَهَا عَلَى فَهْمِ الذَّات الْحَدِيثَة. بِالنِّسْبَة لِتَايّْلُور فَإِنْ الْحَدَاثَة كَمَا ظَهَرَتْ فِي الْقَرْنِ السَّابِعِ عَشَرَ مَثَّلْت نَقلَة نَوْعيَّةِ فِي تَصَوُّرِ النِّظَام الْأَخْلَاقِيّ، حَيْثُ ظَهَرَتْ نَظَرِيَّات قَانُون الطَّبِيعَة الْجَدِيدَة كَرَدِّ فِعْلٍ عَلَى إضْطِرَابٍ الْحُرُوب الدِّينِيَّةِ. وَقَدْ مَثَّلْت هَذِه النَّظَرِيَّات - كَمَا طَرَحَهَا غُرُوتُيُوس Grotius وَ لُوْك Locke - رُؤْيَةُ جَدِيدَة لِلْمُجْتَمَع السِّيَاسِيّ مُؤَسَّسَةً عَلَى طَبِيعَةِ الْأَفْرَاد الْمُكَوِّنِيْن لَهُ بِإعْتِبَارِهِمْ كَائِنَات عَقْلَانِيَّة إجْتِمَاعِيَّة تَتَعَاوَن لِتَحْقِيق الْمَنْفَعَة الْمُتَبَادَلَة. وَمِنْ وَجْهَة نَظَر تَايّْلُور، فَإِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ الْجَدِيدَة لِلْمُجْتَمَع السِّيَاسِيّ كَانَتْ تَتَضَمَّنُ بِالضَّرُورَة تَصَوُّرًا جَدِيدًا لِلنَّظَّام الْأَخْلَاقِيّ، حَيْثُ أَصْبَحَتْ الْأَخْلَاق مُرْتَبِطَة بِالْمَنْفَعَة وَ التَّعَاوُنِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ مِنْ أَجْلِ تَحْقِيق الصَّالِح الْعَامّ، بَدَلًا مِنْ إرْتِبَاطِهَا بِالْقِيَم الدِّينِيَّةِ أَوْ الْمُطَلَّقَةِ. وَ هَذَا مَا يُفَسِّرُ حَسَب تَايّْلُور الِإنْتِقَالُ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْمُرْتَبِطَة بِالْقِدَاسَة وَالِإلْتِزَامُ الِإجْتِمَاعِيّ إِلَى الْأَخْلَاقِ الْمُرْتَبِطَة بِتَحْقِيق الْمَصْلَحَة وَ الْحُرِّيَّات الْفَرْدِيَّة. وَ يَرَى تَايّْلُور إنْ هَذَا التَّحَوُّلِ فِي النِّظَامِ الْأَخْلَاقِيّ قَدْ أَدَّى إلَى مُشْكِلَات وَتَحَدِّيَات جَدِيدَة، تَمَثَّلَتْ فِي فُقْدَانِ الإِنْسَانُ الْحَدِيثَ لِلْمَعْنَى وَ الْقَيِّم السَّامِيَة، وَبُرُوز نَزَعَات الفَرْدَانِيَّة وَ النَّرْجِسِيَّة فِي تَحْقِيقِ الذَّاتِ عَلَى حِسَابِ الِإلْتِزَام الِإجْتِمَاعِيّ وَ الثَّقَافِيّ. وَقَدْ تَفَاقَمَت هَذِهِ الْمُشْكِلَاتِ مَع سَيْطَرَة العَقْلَانِيَّة الْآلْيَة النَّفْعِيَّة وَالْعِلْمَانِيَّة عَلَى الْحَيَاةِ الْمُعَاصِرَةِ، مِمَّا أَدَّى إلَى إنْهِيَار النِّظَام البِيئِيّ وَتَأْكُل الحُرِّيَّات الْحَقِيقِيَّة. لِذَلِك، يَرَى تَايّْلُور إنْ الْخُرُوجِ مِنْ هَذِهِ الْأَزْمَةِ يَتَطَلَّب إعَادَةِ النَّظَرِ فِي طَرِيقة فَهْمْ الذَّات الْحَدِيثَة، وَ الِإسْتِفَادَةِ مِنْ التُّرَاث الْفِكْرِيّ وَ الْأَخْلَاقِيّ الْمَهمش مِنْ قِبَلِ الْحَدَاثَةِ، بِمَا فِي ذَلِكَ الْأبْعَادَ الرُّوحِيَّة وَالْجَمَاعَاتٌيَة لِلَّهِوية الْإِنْسَانِيَّةِ. وَهَذَا مَا يُمَثَّلُ جَوْهَر نَقْد تَايّْلُور لِلْأَخْلَاق الْحَدِيثَة وَ سَعْيِه لِإِعَادَة تَأْسِيس قَيِّم الْإِنْسَانِ وَمَفْهُومُ الْهُوِيَّة عَلَى أُسُسٍ أَكْثَرَ إتِّسَاعًا وَعُمْقًا. بِشَكْلٍ عَامٍّ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ نَقْدَ تَايّْلُور لِلْأَخْلَاق الْحَدِيثَة يَنْطَلِقُ مِنْ رُؤْيَتِهِ لِلْأَخْلَاق بِوَصْفِهَا مُرْتَبِطَةٌ بِالْجَمَاعَةِ وَالتُّرَاث الثَّقَافِيّ، لَا مُجَرَّدُ نِظَامٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْفَرْدِيَّة. فَهُو يَرْفُض الِإخْتِزَال الَّذِي مَارًّسته الْحَدَاثَةِ عَلَى مَفْهُومِ الذَّات وَالْهَوية، وَيَسْعَى إِلَى إِعَادَةِ رَبْطِهِمَا بِسَيَاقَاتِهِمْا الثَّقَافِيَّة وَالِإجْتِمَاعِيَّة الْأَوْسَع. وَهَذَا مَا يجْعَلُ نَقَدَه لِلْأَخْلَاق الْحَدِيثَة جُزْءًا مِنْ مَشْرُوعَه الْفَلْسَفِيّ الْأَوْسَع الهَادِفِ إِلَى إِعَادَةِ إكْتِشَاف الْإِنْسَانِ فِي عَصْرِ الْحَدَاثَة وَمَا بَعْدَهَا. . أَفِيخَايْ مُورْغَلِّيتْ אביחי מרגלית : طَرَحَ مُورْغَلِّيتْ مُقَارَبَةُ أَخْلَاقِيَّة فِي مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ تَقُومُ عَلَى "أَخْلَاقِ الْإِحْسَان" وَالِإهْتِمَام بِالْآخَر. أَفِيخاي مُورْغَلِّيتْ هُوَ فَيْلَسُوف أَخْلَاقِيّ إسْرَائِيلِيّ مُعَاصِر، وَقَدْ كَتَبَ الْعَدِيدِ مِنَ الأَعْمَالِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي مَجَالِ نَقْد الْأَخْلَاق وَالْفَلْسَفَة السِّيَاسِيَّة.مُورْغَلِّيتْ هُوَ مُمَثَّل بَارَز لِمَا يُسَمَّى بِـ "الْوَاقِعِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة" فِي الْفَلْسَفَةِ الْمُعَاصِرَة. وَهَذَا الْمَنْهَجُ الْفَلْسَفِيّ يَرْفُض الْفِكْرَة الْقَائِلَةِ بِأَنَّ الْأَخْلَاق هِيَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ أَوْ الْمَبَادِئ الْمُطْلَقَة وَالثَّابِتَة وَبَدَلًا مِنْ ذَلِكَ يَرَى أَنَّ الْأَحْكَامَ الْأَخْلَاقِيَّة هِي نِتَاج لِلسِّيَاق الِإجْتِمَاعِيّ وَ التَّارِيخِيّ وَ الثَّقَافِيّ. وَ بِالتَّالِي، فَإِنَّ مُورْغَلِّيتْ يَنْتَقِدْ الْأَخْلَاق الْكِانطيَّة وَ النَّظَرِيَّات الْأَخْلَاقِيَّة الْمِعْيَارِيَّة الْأُخْرَى الَّتِي تَزْعُمُ وُجُود مَبَادِئَ أَخْلَاقِيَّةٍ كَوْنِيَّة وَ قَطْعِيَّة بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، يُرَكِّز مُورْغَلِّيتْ عَلَى دِرَاسَة الْمُمَارَسَات الْأَخْلَاقِيَّة الْفِعْلِيَّة لِلْبَشَرِ فِي مُخْتَلَفٍ السِّيَاقَات الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَ الثَّقَافِيَّةِ. وَهُوَ يَرَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمَنْطِقِيَّةِ أَوْ الْقَرَارَات العَقْلَانِيَّة، بَلْ هِيَ مُمَارَسَة إجْتِمَاعِيَّة مُعَقَّدَة تَتَأَثَّر بِالْعَوَامِل السِّيَاسِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ وَ الْعَاطِفِيَّة. وَ مَنْ هَذَا الْمَنْظُورِ، يُؤَكِّد مُورْغَلِّيتْ عَلَى أَهَمِّيَّةِ فَهمَ كَيْفِيَّةً تَطَوُّر الْأَحْكَام الْأَخْلَاقِيَّة وَ كَيْف يَتِمّ تَدَاوَلَهَا وَ تَطْبِيقِهَا فِي الْحَيَاةِ الْيَوْمِيَّة. فِي كِتَابِهِ الشَّهِير "عَلَى الْحَرْبِ" (2006)، يُطْبِق مُورْغَلِّيتْ هَذَا الْمَنْظُورِ النَّقْدِيّ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْعَسْكَرِيَّة وَ السِّيَاسِيَّة. فَهُو يَنْتَقِدْ الِإدِّعَاءَات الْأَخْلَاقِيَّة الْمُطْلَقَة لِلْحَرْب الْعَادِلَة وَالْمَسْؤُولِيَّةِ الْجَمَاعِيَّةِ، وَيُحْاجج بِأَنْ الْأَخْلَاقِ فِي سِيَاقِ الْحَرْب وَالصِّرَاع السِّيَاسِيّ هِيَ أَكْثَرُ تَعْقِيدًا وَتَنَاقُضّاً مِمَّا تَصَوُّرِه النَّظَرِيَّات الْأَخْلَاقِيَّة التَّقْلِيدِيَّة. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، يَقْتَرِح مُورْغَلِّيتْ نَهْجًا أَكْثَر وَاقِعِيَّة وَ تَارِيخيَّة لِفَهْمِ الْمُمَارَسَات الْأَخْلَاقِيَّة فِي السِّيَاسَةِ وَالْحَرْب. بِشَكْلٍ عَامٍّ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ نَقْدَ مُورْغَلِّيتْ لِلْأَخْلَاق يَسْتَنِدُ إلَى رَفَضَه لِلْفِكْرَة الْقَائِلَة بِوُجُود مَبَادِئَ أَخْلَاقِيَّةٍ مُطْلَقَة وَعَالَمِيَّة. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، يُؤَكِّدُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ فَهُمْ الْأَخْلَاق كَمُمَارِسَة إجْتِمَاعِيَّة مُعَقَّدَة تَتَأَثَّر بِالسِّيَاق التَّارِيخِيّ وَالثَّقَافِيّ. وَهَذَا النَّهْج النَّقْدِيّ لَهُ أثَارٌ هَامَةٌ عَلَى كَيْفِيَّةِ فَهُمْ وَتَقَييم الْقَضَايَا الْأَخْلَاقِيَّة فِي مَجَالَاتِ مِثْل السِّيَاسَة وَالْحَرْب. هَؤُلَاءِ الْمُفَكِّرُونَ هُمْ مِنْ أَبْرَزِ الَّذِين نَاقِشوا قَضَايَا الْأَخْلَاقِ فِي سِيَاقِ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ، مَعَ تَبَايُنِ مُقَارِبًاتهم وَأرَائِهِمْ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ. .جَاكُ دِرِيدَا Jacques Derrida : طِيلَة مَسَارِه الْفِكْرِيّ. فَقَدْ حَاوَلَ دِرِيدَا إعَادَةِ النَّظَرِ فِي فَهْمِ الْأَخْلَاق وَتَأْوِيلُهَا مِنْ خِلَالِ مَنْهَجِه التَّفْكِيكِيّ الَّذِي يَنْتَقِدْ الْأَسَاس الْمَيتَافِيزِيقِيّ لِلْفِكْر الْأَخْلَاقِيّ الْغَرْبِيّ التَّقْلِيدِيّ. دِرِيدَا يَنْطَلِقُ مِنْ فِكْرة أَنَّ الْأَخْلَاقَ التَّقْلِيدِيَّة تَقُومُ عَلَى مَرْكَزِيَّة "اللُّوغُوس" أَوْ الْعَقْلِ وَالْحُضُور الذَّاتِيّ لِلذَّاتِ. وَهَذَا مَا جَسُّدِه بِشَكْل وَاضِحٌ فِي الْفَلْسَفَةِ الْأَخْلَاقِيَّة الْكَانْطِيَّة الَّتِي تُؤَسَّسُ لِلْأَخْلَاق عَلَى أَسَاسِ الْأَمْر الْعَقْلِيّ الْمُطْلَق. بِالْمُقَابِل، يَرَى دِرِيدَا أَنَّ هَذَا الْأَسَاسِ الْمَيتَافِيزِيقِيّ لِلْأَخْلَاق يَحْجُب الطَّابَع اللَّامتنَاهِي وَ الِإخْتِلَافِي لِلْحَيَاةِ الْأَخْلَاقِيَّة. مِنْ هُنَا، يَسْعَى دِرِيدَا إلَى إعَادَةِ صِيَاغَة مَسْأَلَة الْأَخْلَاق بِشَكْل يَتَجَاوَزُ هَذَا الْأَسَاسِ الْمَيتَافِيزِيقِيّ. فَالْأَخْلَاق مِنْ وَجْهة نَظَرُه لَيْسَتْ مُجَرَّدَ نَسَق مِنْ الْقَوَاعِدِ وَ الْمَبَادِئ الْمَنْطِقِيَّة الثَّابِتَة، وَإِنَّمَا هِيَ تَجْرِبَة مَفْتُوحَة وَغَيْر مُحَدَّدَة سَلَفًا بِقَوَاعِد مُحَدَّدَة. إنَّهَا تَجْرِبَةٌ تَفْكِيكِيَّة تَتَمَيَّز بِالِانْفِتَاح وَالِإخْتِلَاف وَالتَّعَدُّد وَالتَّجَاوُز الْمُسْتَمِرّ لِلْمُعْطِيات الثَّابِتَةِ. فِي هَذَا السِّيَاقِ، يُحَاوِل دِرِيدَا إعَادَةِ قِرَاءَةِ التُّرَاث الْفَلْسَفِيّ الْأَخْلَاقِيّ بِمَا فِي ذَلِكَ أَفْكَار كَانَط وَالتَّقَالِيد الْأَخْلَاقِيَّة الْأُخْرَى. فَهُوَ لَا يَرْفُضُ هَذِهِ الْأَفْكَارِ بِشَكْل مُطْلَقٌ، وَ لَكِنْ يُحَاوِل تَفْكِيكُهُا وَإعَادَة صِيَاغَتِهَا بِمَا يَتَوَافَقُ مَعَ مَنْهَجِه التَّفْكِيكِيّ. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، يَرَى دِرِيدَا أَنَّ الْأَمْرَ الْأَخْلَاقِيّ الْكَانْطِي يَكْتَسِبُ طَابَعًا أَكْثَر إخْتِلَافِيَّة وَ إنْفِتَاحًا عِنْدَمَا يُنْظَرُ إلَيْهِ مِنْ خِلَالِ مَفْهُومِ "الِإخْتِلَاف" و "التَّأْجِيلُ" الَّذِي يُمَيِّزُ الْكِتَابَة. وَبِالتَّالِي، تَرْتَكِز الرُّؤْيَة الْأَخْلَاقِيَّة لَدَى دِرِيدَا عَلَى مَفَاهِيمِ مَرْكَزِيَّة مِثْلُ "الِإخْتِلَافِ" و"التَّأْجِيلِ" وَ"عَدَمُ الْحُضُورِ" و"التَّنَاقُض" و"التَّعَدُّدِ"، بِمَا يُشْكِل بَدِيلًا عَنِ الْأَسَاس الْمَيتَافِيزِيقِيّ لِلْأَخْلَاق التَّقْلِيدِيَّة. أَنَّهُ يُحَاوِلُ إظْهَارَ أَنَّ الْأَخْلَاقَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ نَسَق ثَابِتٌ مِنْ الْمَبَادِئِ وَالْقَوَاعِد، وَ إِنَّمَا هِيَ تَجْرِبَة مَفْتُوحَة وَغَيْر مُحَدَّدَة سَلَفًا تَتَّسِم بِالِإخْتِلَاف وَ اللَّامِتِنَاهي. فِي هَذَا السِّيَاقِ، تَبْرُز إشْكَالِيَّة مَرْكَزِيَّة فِي فَلْسَفَةِ دِرِيدَا، ألَّا وَهِيَ "إِمْكَانِيَّة الْأَخْلَاق" ذَاتِهَا. فَهُوَ لَا يَقْتَرِحَ أَخْلَاقًا بَدِيلَة، بَلْ يطْرَحُ إشْكَالِيَّة الْأَخْلَاقِ فِي حَدِّ ذَاتِهَا. فَالْأَخْلَاق مِنْ وَجْهة نَظَرُه لَيْسَتْ أَمْرًا مُسَلَّمًا بِهِ، بَلْ هِيَ تَجْرِبَة مُسْتَحِيلَة وَ مَفْتُوحَة عَلَى الِإخْتِلَافِ وَالتَّعَدُّد. وَهَذَا مَا يُفَسِّرُ تَشْكِيكِه الْمُسْتَمِرَّ فِي إِمْكَانِيَّة الْأَخْلَاق وَتَأْسِيسِها عَلَى أَسَاسِ ثَابِت. وَ بِالتَّالِي، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ جَاكُ دِرِيدَا قَدْ نَجَحَ فِي إثَارَةِ جَدَل كَبِير حَوْل مَسْأَلَة الْأَخْلَاقِ مِنْ خِلَالِ مَنْهَجِه التَّفْكِيكِيّ. فَهُوَ لَمْ يُقَدِّمْ أَخْلَاقًا بَدِيلَة، وَلَكِنَّهُ عَمَلٌ عَلَى تَفْكِيك الْأَسَاس الْمَيتَافِيزِيقِيّ لِلْفِكْر الْأَخْلَاقِيّ التَّقْلِيدِيّ وَإعَادَة طَرْح إشْكَالِيَّة الْأَخْلَاق ذَاتِهَا. وَهَذَا مَا جعِلَ مَسْاهمَّتُه فِي هَذَا الْمَجَالِ مَحَلَّ جَدَلٍ وَاسِعٌ بَيْنَ الْفَلَاسِفَة
_ الْخُلَاصَةُ
رُؤْيَةُ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ لِلْعِلْم وَالْأَخْلَاق يَنْطَلِقُ مِنْ رَفْضِ الْحَدَاثَة وَإرِثُهَا التَّنْوِيري، وَتُرَكِّزُ عَلَى النَّقْدِ وَالتَّفْكِيك لِمَرَكزيَّة الْعَقْلُ وَالْمَوْضُوعِيَّة وَالْحَقِيقَة الْمُطْلَقَةِ الَّتِي أَمَّنَتْ بِهَا الْحَدَاثَة. تَنْطَلِق مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ مِنْ مَبْدَأِ رَفَض الْكُلِّيَّات وَ النَّظَرِيَّات الشُّمُولِيَّة، وَتَرَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ نِسْبِيَّة وَإِنَّ الْعِلْمَ وَ الْأَخْلَاق بِمَثَابَة مُؤَسَّسَات إجْتِمَاعِيَّة مُرْتَبِطَة بِسَيْاقَات ثَقَافِيَّة وَتَارِيخيَّة مُحَدَّدَة. . التَّشْكِيكَ فِي مَوْضُوعِيَّة الْعِلْم: تَنْظُرَ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ إلَى الْعِلْمِ بِإعْتِبَارِه نِسْبِيًّا وَمُرْتَبِطٌأ بِسَيْاقَات ثَقَافِيَّة وَسِيَاسِيَّة مُحَدَّدَة، مِمَّا يَجْعَلُهُ بَعِيدًا عَنْ الْمَوْضُوعِيَّة الْمُطْلَقَةِ الَّتِي إدَّعَاهَا الْعِلْم الحَدَاثِي. تَشَكَّك مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ فِي قَدْرة الْعِلْمِ عَلَى الْوُصُولِ إلَى حَقَائِقِ مُطْلَقَةً أَوْ مَوْضُوعِيَّة بِسَبَب تَأَثُّرِه بِالْمَصَالِح وَالْإِيدَيُولُوجِيَّات السَّائِدَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ. . نَقْد عَالَمِيَّة الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة: تَرْفُضُ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ فَكَرَة عَالَمِيَّة الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة، وَتَرَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَيْسَتْ سِوَى تَمْثِيلَات ثَقَافِيَّة مُحَدَّدَة، وَإِنْ الِإدِّعَاء بِكَوْنِهَا عَالَمِيَّة هُوَ مُحَاوَلَةُ لِفَرْض هَيْمَنَة ثَقَافِيَّة غَرْبِيَّة عَلَى الْعَالِمِ. تُؤَكِّدُ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ عَلَى تَعَدُّدِ الْحَقَائِق وَالْمَعَارِف وَ عَدَم إِمْكَانِيَّة الْوُصُولِ إلَى حَقِيقَةِ وَاحِدَة مُتَعَالِيًة. . التَّأْكِيدُ عَلَى دُورِ اللُّغَةِ فِي بِنَاءِ الْمَعْرِفَة: تُؤَكِّدُ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ عَلَى دُورِ اللُّغَةِ فِي بِنَاءِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَإِنْتَاجِهَا، وَتَرْفُض النَّظْرَةِ الَّتِي تَرَى أَنْ اللُّغَة مُجَرَّدُ وَسِيلَةٍ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ الْوَاقِعِ الْمَوْضُوعِيّ. تُعْتَبَرُ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ أَنَّ اللُّغَةَ هِيَ الَّتِي تُشَكِّلُ وَتَبْنِي الْوَاقِع الِإجْتِمَاعِيّ وَالْمَعْرُفِيّ، وَلَيْسَتْ مُجَرَّدَ إنْعِكَاس لَهُ. . نَقْدٌ سُلْطَّة الْعِلْم وَإرْتِبَاطِه بِالهِيمْنَة: تَرَى مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ أَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ نَشَاطًا مَحَايدا، وَإِنَّمَا هُوَ مُرْتَبِطٌ بِمُمَارَسَات السُّلْطَةَ وَالهَيْمَنَة الِإجْتِمَاعِيَّة وَ السِّيَاسِيَّةِ. تُشَكَّكَ فِي إدَّعَاءَات الْعِلْمُ بِالْحَيَاديَّةِ وَالمَوْضُوعِيَّةُ، وَتَرْبَط بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَصَالِح الْأَنْظِمَةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالِإقْتِصَادِيَّةِ المُهَيْمِنَة. . نَقْد رُؤْيَةِ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ لِلْأَخْلَاق . رَفَض الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة الثَّابِتَة: تَرْفُضُ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ وُجُود مَعَايِير أَخْلَاقِيَّة ثَابِتَة وَعَالَمِيَّة، وَتُؤَكِّد عَلَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ نِسْبِيَّة وَتَخْتَلِفُ بِإخْتِلَافِ السِّيَاقَات الثَّقَافِيَّة وَالتَّارِيخِيَّة. تَرَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ لَيْسَتْ سِوَى مُمَارَسَات وَتَمْثِيلُات إجْتِمَاعِيَّة تَخْدُم مَصَالِح الْجَمَاعَات المُهَيْمِنَة. . التَّرْكِيزِ عَلَى التَّعَدُّدِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة: تُؤَكِّدُ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ عَلَى تَعَدُّدِ الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة وَعَدَم إِمْكَانِيَّة الْوُصُولِ إلَى أَخْلَاقِ عَالَمِيَّة مُوَحَّدَة. تَدْعُو إلَى تَقَبُّل التَّنَوُّع الْأَخْلَاقِيّ وَالِإعْتِرَاف بِشَرْعِيَّة كُلَّ نِظَامٍ قِيَمِيّ مَحَلِّي . نَقْدٍ الْأَخْلَاق كَأَدَاة لِلَّهِيَمْنَة: تَرَى مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ أَنَّ الْأَخْلَاقَ قَدْ اُسْتُخْدِمَتْ كَأَدَاة لِلَّهِيَمْنَة وَالسَّيْطَرَة الِاجْتِمَاعِيَّة، وَإِنْ الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة الْكُلِّيَّةِ هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ تَعْبِيرٌ عَنْ مَصَالِحِ الْجَمَاعَات المُهَيْمِنَة. تَدْعُو إلَى تَفْكِيكِ هَذِهِ الْمَعَايِيرَ وَأَعَادَة بِنَائِهَا وَفَقَأ لِسَيِّاقَات مُحَدَّدَة. . رَبَط الْأَخْلَاق بِالسِّيَاق وَالسُّلْطَة: تَرْتَبِط الْأَخْلَاقِ فِي رُؤْيَةِ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ بِالسِّيَاقَات الثَّقَافِيَّة وَالسِّيَاسِيَّةُ وَالِإجْتِمَاعِيَّةُ الْمُحَدَّدَة. وَتَرَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ قَوَاعِدَ عَامَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مَعَايِير مُتَغَيِّرَة تَخْدُم مَصَالِح السُّلْطَة وَالمُؤَسَّسَات المُهَيْمِنَة. رُؤْيَةُ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ لِلْعِلْم وَالْأَخْلَاق تَنْطَلِقُ مِنَ نَقْد الْحَدَاثَة وَ رَفَض مَرْكَزِيَّة الْعَقْل وَالْمَوْضُوعِيَّة وَالْحَقِيقَة الْمُطْلَقَة. تَرْفُضُ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ فَكَرَة عَالَمِيَّة الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَتُؤَكِّد عَلَى تَعَدُّدِ الْحَقَائِق وَالْمَعَارِف. كَمَا تَرْفُض وُجُود مَعَايِير أَخْلَاقِيَّة ثَابِتَة وَ تُؤَكِّد عَلَى التَّعَدُّدِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة. إلَّا أَنْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ تُثِير الْكَثِيرِ مِنْ التَّسَاؤُلَات حَوْل إِمْكَانِيَّة وَضَعَ أَيْ أُسِّس أَخْلَاقِيَّة أَوْ مَعْرِفِيَّة، وَتَنْتَهِي إِلَى نَوْعٍ مِنْ النِّسْبِيَّة الْمُطْلَقَةِ الَّتِي قَدْ تَقُوض أَيْ أَسَاس لِلنَّقْدِ أَوِ لِلتَّغْيِير الِاجْتِمَاعِيّ. هَذَا التَّشْكِيكِ الْجِذْرِيّ فِي إِمْكَانِيَّة الْمَعْرِفَة الْمَوْضُوعِيَّة أثَار رُدُود فَعَل حَادَّةٍ مِنْ قِبَلِ الْمُدَافِعِين عَنْ الْعِلْمِ وَالعَقْلَانِيَّة. فَالْبَاحِث الأمريكي آلآن سُوكَالْ Alan Sokal مَثَلًا اُعْتُبِرَ أَنْ هَذِهِ الْآرَاءِ مَا هِيَ إلَّا "هُرَاء بِلاَ مَعْنَى" يُسِيء إسْتِخْدَام الْمَفَاهِيم الْعِلْمِيَّة، وَيُحَاوِل تَقْوِيض أُسُسَ الْمَعْرِفَةِ التَّحْلِيليَّة وَالتَّجْرِيبِيَّة. كَمَا إنْتَقَد آخَرُون مِثْل رِيتَشَارِد دَوْكًينز Richard Dawkins فَلْسَفَةُ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ بِشِدَّة بِإعْتِبَارِهَا هُجُومًا عَلَى الْعَقْلِ وَالْمَنْهَج الْعِلْمِيّ. وَلَكِنْ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذِهِ الِإنْتِقَادَات، فَإِنَّ جَوْهَرَ رُؤْيَة مُفَكِّرِي مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ لِلْعِلْمِ لَا يَزَالُ لَهُ تَأْثِيرٌ وَاسِع الْمَدَى. فَهُمْ لَا يَنْظُرُونَ إلَى الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مَحَايِّد لِلْحَقِيقَةِ، بَلْ كَأَدَاة لِلسُّلطَة وَالهَيْمَنَة الثَّقَافِيَّة. كَمَا أَنَّهُمْ يَرْفُضُون الْإِيمَان بِالْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَةِ أَوْ الْمَعْرِفَةِ الْقَطْعِيَّة، وَيَرَوْنَ أَنَّ كُلَّ مَا نَعْتَبِرُه حَقِيقَةً هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَعْبِيرٌ عَنْ وَجِهَات نَظَر وَ سَيَاقَات ثَقَافِيَّة مُحَدَّدَة. وَهَذَا التَّشْكِيك الْجِذْرِيّ فِي إِمْكَانِيَّة الْمَعْرِفَة الْمَوْضُوعِيَّة أَثَارَ جَدَلًا وَاسِعًا فِي الْأَوْسَاطِ الْفِكْرِيَّة وَ الْأَكَادِيمِيَّة.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : تَسَاؤُلَات الْحَدَاثَةِ
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : تَشْكِيلَات الْحَضَارَةُ
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق: الْمَنْظُور الْفَلْسَفِيّ التَّارِي
...
-
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق: رَمَزَيات الْمَيثولُوجْيَا
-
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق: جُذُور الْمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة
-
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : تَجَاوُزَات الْأَيْدُيُولُوجِيَّا
-
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق فِي الْحِكْمَةِ الْغَنُوصِيَّة
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْحِكْمَةِ الْهَرْمُسِيَّة
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ مَبَاحِث الْآكْسِيُّولُوجْيَا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ إشْكَالَيْات الْكُوسْمُّولُوجْيَا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي سِيَاقِ الثَّيُولُوجْيَا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ تَصَوُّرَات الِأنْطولُوجْيَا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ مُقَارَبَات الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّةِ
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق سَطْوَة الْمَيِّتُافِيزِيقِيَا
-
نَقْد فَلْسَفِيّ لِلْخِطَاب الْعِلْمِيّ و الْأَخْلَاقِيّ
-
الْمَشْرُوع الْفَلْسَفِيّ الشَّامِل لِلْوُجُود الْإِنْسَانِي
...
-
أَخْلَاقِيَّات الْعِلْمُ وَ عِلْمِيَّة الْأَخْلَاق
-
حِوَارٌ مَعَ صَدِيقِي الشَّيْطَانُ الْأَكْبَرُ
المزيد.....
-
وزارة الصحة في غزة تكشف عن أحدث حصيلة للقتلى منذ 7 أكتوبر 20
...
-
لماذا يصوم الفقير وهو جائع طوال العام؟
-
مجلس أوروبا يدعو تركيا للإفراج عن إمام أوغلو وزيدان
-
تقارير: إقالة قيادين في مركز دراسات الشرق الأوسط بهارفارد
-
هيئة البث الإسرائيلية: -حماس- تبحث الإفراج عن رهائن مقابل وق
...
-
الدفاع الروسية: تحرير بلدتين جديدتين في دونيتسك وزابوروجيه خ
...
-
الخارجية البريطانية تطلب من مواطنيها مغادرة سوريا بأي وسيلة
...
-
مشاهد خاصة لـRT تظهر آثار القصف الإسرائيلي على الضاحية الجنو
...
-
ما خيارات نتنياهو أمام دعوات العصيان داخل الجيش؟ محللان يجيب
...
-
صور وفيديوهات تهاني عيد الفطر 2025 بالذكاء الاصطناعي
المزيد.....
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
المزيد.....
|