أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العدل الإلهي بين التنزيه والمسؤولية: قراءة معتزلية في قوله تعالى (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)















المزيد.....

العدل الإلهي بين التنزيه والمسؤولية: قراءة معتزلية في قوله تعالى (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8290 - 2025 / 3 / 23 - 08:03
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
تمثل قضية العدل الإلهي واحدة من أعقد المسائل الكلامية التي أثارت جدلًا واسعًا بين الفرق الإسلامية، وجاءت آية "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ" (الأنبياء: 23) لتكون محورًا لهذا الجدل، حيث اختلفت التأويلات حول معناها ودلالتها على طبيعة أفعال الله وعلاقته بالإنسان.

وقد قدّم المعتزلة قراءة عقلانية عميقة لهذه الآية، انطلاقًا من مبدأي العدل والتنزيه، حيث أكدوا أن الله لا يُسأل ليس لأن سلطته مطلقة بلا قيد، بل لأنه لا يفعل إلا الخير والحكمة، في حين يُسأل العباد لأنهم مسؤولون عن أفعالهم باختيارهم الحر.

تُمثل هذه الآية الكريمة من سورة الأنبياء إحدى أعمدة الجدل الكلامي في الفكر الإسلامي، خاصة في سياق مناقشات العدل الإلهي ومسؤولية الإنسان عن أفعاله. وقد شغلت هذه الآية فكر المعتزلة بعمق، لأنهم وجدوا فيها مرتكزًا لتأكيد رؤيتهم العقلية للدين، القائمة على مبدأي التوحيد والتنزيه والعدل الإلهي.

وفي تفسيرهم لهذه الآية، لم يكتفِ المعتزلة بتقديم قراءة لغوية أو تفسيرية سطحية، بل انطلقوا إلى تأسيس منظومة متكاملة من الفكر الكلامي، تمزج بين التأصيل العقلي والفهم النصي، مما جعل تفسيرهم لهذه الآية محوريًا في الرد على المدارس العقائدية المخالفة، وخاصة الأشاعرة والجبرية.

المحور الأول: معنى الآية عند المعتزلة بين العدل والتنزيه

يرى المعتزلة أن قوله تعالى: "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ" لا يُفهم بمعزل عن المبادئ الكبرى للعقل والعدل الإلهي، بل يجب أن يُقرأ في سياق يؤكد تنزيه الله عن الظلم أو العبث. فالله، عندهم، لا يُسأل ليس لأنه فوق العدل أو لأن سلطته مطلقة بمعزل عن أي معيار، وإنما لأنه لا يفعل إلا الخير والحكمة، فلا يُتصور وقوع القبيح منه حتى يُسأل عنه.

وبذلك، فإن هذه الآية تؤكد عندهم قاعدة عقلية محورية: الله مُنزّه عن الظلم، وكل أفعاله قائمة على العدل المطلق، ولذلك لا يُسأل كما يُسأل العباد الذين قد يظلمون أو يفسدون في الأرض.

ويعتمد المعتزلة على هذا الفهم في تفنيد المذهب الأشعري، الذي يرى أن الله يفعل ما يشاء بلا تقييد عقلي، حتى لو بدا للبشر ظلمًا أو عبثًا. ويرد المعتزلة على ذلك بأن العدل ليس مجرد اسم يطلق على أفعال الله، بل هو مقياس موضوعي يدركه العقل، ولو جاز أن يفعل الله الظلم، لما استحق الحمد والثناء، بل ولأصبح الشر والخير أمرين اعتباطيين، وهو ما يرفضه العقل السليم.

المحور الثاني: تفنيد نظرية الأشاعرة في أفعال الله

ذهب الأشاعرة إلى تفسير الآية بأن الله لا يُسأل عن أفعاله لأنه المالك المطلق، فله أن يُعذّب الطائع ويدخل الكافر الجنة لو شاء، ولا يُمكن الاحتجاج عليه أو مساءلته عن أي تصرف، لأن أفعاله لا تُعلل بحكمة، بل تصدر عن مشيئته الخالصة.

لكن المعتزلة رأوا في هذا القول هدما لمفهوم العدل الإلهي، لأنه يؤدي إلى تجويز الظلم على الله، وهو أمر باطل عقلاً وشرعًا، فالله عندهم لا يملك أن يظلم، ليس لأنه مقيد بقوة خارجية، بل لأن ذاته الكاملة تستحيل معها أي صورة من صور الظلم أو العبث.

ويؤكدون أن الحكم على الأفعال بالحسن والقبح لا يعتمد فقط على الوحي، بل هو سابق له، أي أن العقل قادر على إدراك أن العدل حسن والظلم قبيح حتى قبل نزول الشرائع. فلو قيل إن الله قد يعذّب البريء بلا ذنب، فهذا يستلزم نفي العدل عنه، وهو ما ينافي كماله.

ويستدلون بقوله تعالى: "وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ" (فصلت: 46)، ليؤكدوا أن نفي الظلم عنه يعني أنه ملزم بفعله الأصلح لعباده، لأنه لو لم يكن كذلك، لكان ظالمًا، وهو محال.

المحور الثالث: الجدل مع الجبرية ومفهوم الاختيار الإنساني

في الطرف الآخر، نجد الجبرية الذين رأوا أن الإنسان مسير تمامًا في أفعاله، ولا يملك من أمره شيئًا، فالله هو الفاعل الحقيقي لكل شيء، حتى المعاصي والذنوب، ومع ذلك يُحاسب الإنسان عليها. وهذا يعني، في نظر المعتزلة، أن سؤال العباد عن أفعالهم يصبح ضربًا من العبث، لأنهم مجبرون عليها مسبقًا.

ويرى المعتزلة أن هذه العقيدة تجعل الحساب الإلهي فاقدًا لمعناه العادل، لأن العبد لا يستحق الثواب أو العقاب إذا لم يكن مختارًا، فالعدل يفترض وجود حرية حقيقية في الفعل، وإلا كان التكليف ظلمًا، والله منزّه عن ذلك.

وعليه، فإن تفسيرهم للآية يرتبط بفكرة أن الله لا يُسأل لأنه لا يظلم، بينما العباد يُسألون لأنهم يملكون الاختيار، ولذلك يُحاسبون وفقًا لمسؤوليتهم الحقيقية عن أفعالهم.

المحور الرابع: البعد الفلسفي لموقف المعتزلة من الآية

لم يكن تفسير المعتزلة لهذه الآية مجرد جدل لاهوتي، بل امتد ليؤسس لرؤية فلسفية عميقة حول طبيعة العلاقة بين الله والإنسان، إذ إنهم:

1. حفظوا تنزيه الله وكماله المطلق، فلم يسمحوا بأي تصور ينسب إليه العبث أو الظلم.

2. أسسوا لمفهوم الحرية الإنسانية، فجعلوا الإنسان مسؤولًا عن أعماله، وليس مجرد كائن خاضع للجبر.

3. أكدوا على العقل كأداة لفهم الدين، فلا يمكن، عندهم، قبول أي تأويل يتناقض مع بداهة العقول.

وهذا الفهم جعل المعتزلة من أكثر الفرق الكلامية التي ربطت العقيدة بالفلسفة، بل وجعلت الأخلاق معيارًا حاكمًا في تفسير النصوص، وهو ما ميّزهم عن غيرهم من المدارس الكلامية الأخرى.

لماذا يُعد تفسير المعتزلة للآية الأكثر عقلانية وشمولًا؟

إن تفسير المعتزلة لقوله تعالى: "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ" يتجاوز الفهم التقليدي الذي يجعل الله مجرد قوة مطلقة تتصرف بلا قيد، بل يقدم رؤية قائمة على العقل والعدل والتنزيه.

فهم يرون أن الله لا يُسأل لأنه لا يفعل إلا الخير والحكمة، بينما العباد يُسألون لأنهم يملكون الإرادة والاختيار، مما يجعلهم مسؤولين عن أفعالهم.

وبهذا، فإن هذا التفسير لا يحطّ من قدسية الله بجعله يُسأل كالبشر، ولا يُطلق سلطته دون ضابط كما فعل الأشاعرة، ولا ينفي مسؤولية العباد كما فعلت الجبرية، بل يوازن بين عدل الله وحرية الإنسان في آن واحد، وهو ما يجعله التفسير الأقرب إلى المنطق والعقل والفطرة السليمة.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدين بين العقل والنقد: رحلة الفلسفة الأوروبية من التفكيك إل ...
- فلسفة اللذة بين العقل والرغبة: جدلية السعادة والمعاناة في ال ...
- حدود العلم وأفق الوعي: فيزياء الكون بين الإدراك والواقع
- الوعي في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة: جدلية الإدراك ...
- حرب الثلاثين عامًا (1618-1648): الصراع بين الكاثوليك والبروت ...
- مابعد الحداثة: تفكيك اليقين وإعادة تشكيل الفكر في عالم بلا ث ...
- الصادق النيهوم: تفكيك المقدس والبحث عن المعنى في متاهات العق ...
- التعلق المرضي: كيف نكسر قيود الاعتماد العاطفي ونستعيد ذواتنا ...
- إعادة تشكيل الإنسان في العالم الرقمي: مقاربات أنثربولوجية مع ...
- الرضا النفسي: فن التوازن والطمأنينة في عالم متغير
- ألبرت كامو وثورة العبث: جدلية المعنى واللاجدوى في الفكر الأو ...
- البنيوية وما بعدها: تفكيك الأنساق وبناء المعنى الجديد
- نحو فلسفة بيئية معاصرة: بين النقد الحداثي والرؤى المستقبلية
- انهيار الحلم الماركسي: كيف تحول شعار العدالة إلى سلطة شمولية ...
- العلمانية الدينية: ازدواجية المفهوم بين الحداثة والتلاعب الس ...
- الجواهر الفردة: فلسفة الذرة في علم الكلام بين العقيدة والعقل
- فلسفة العقل: المفهوم، القضايا، والتأثير في الفكر الفلسفي الم ...
- تحليل الخطاب: تفكيك السلطة والمعرفة في اللغة وصناعة المعاني
- متاهات المعنى: جدلية العدمية والوجودية والعبثية في الفكر الف ...
- العلمانية العسكرية وتداعياتها على الواقع السياسي العربي


المزيد.....




- وزارة الصحة في غزة تكشف عن أحدث حصيلة للقتلى منذ 7 أكتوبر 20 ...
- لماذا يصوم الفقير وهو جائع طوال العام؟
- مجلس أوروبا يدعو تركيا للإفراج عن إمام أوغلو وزيدان
- تقارير: إقالة قيادين في مركز دراسات الشرق الأوسط بهارفارد
- هيئة البث الإسرائيلية: -حماس- تبحث الإفراج عن رهائن مقابل وق ...
- الدفاع الروسية: تحرير بلدتين جديدتين في دونيتسك وزابوروجيه خ ...
- الخارجية البريطانية تطلب من مواطنيها مغادرة سوريا بأي وسيلة ...
- مشاهد خاصة لـRT تظهر آثار القصف الإسرائيلي على الضاحية الجنو ...
- ما خيارات نتنياهو أمام دعوات العصيان داخل الجيش؟ محللان يجيب ...
- صور وفيديوهات تهاني عيد الفطر 2025 بالذكاء الاصطناعي


المزيد.....

- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العدل الإلهي بين التنزيه والمسؤولية: قراءة معتزلية في قوله تعالى (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)