أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الدين بين العقل والنقد: رحلة الفلسفة الأوروبية من التفكيك إلى البحث عن المعنى














المزيد.....

الدين بين العقل والنقد: رحلة الفلسفة الأوروبية من التفكيك إلى البحث عن المعنى


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8290 - 2025 / 3 / 23 - 08:03
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
تطوَّر مفهوم الدين في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة ضمن سياقات فكرية متباينة، حيث تعرَّض لفحص نقدي عميق بدأ مع عصر النهضة واستمر حتى يومنا هذا. فمنذ أن شهدت أوروبا انفتاحًا ثقافيًا وعلميًا في القرون الوسطى المتأخرة، وبدأت سلطة الكنيسة في التراجع أمام العقلانية والعلم، أصبح الدين موضع إعادة تفكيك وتحليل من قبل الفلاسفة، خاصة مع انبثاق الفكر الحداثي الذي أعاد تعريف العلاقة بين الإيمان والعقل.

في عصر التنوير، مثلت الفلسفات العقلانية عند ديكارت وسبينوزا وكانط نقلة نوعية في فهم الدين، حيث ركَّز ديكارت على ثنائية العقل والجسد، وجعل الإيمان مسألة تنسجم مع العقل وليس مجرد تسليم تقليدي. أما سبينوزا، فقد قدَّم تفسيرًا بانثيستيًا (وحدة الوجود) للدين، معتبرًا أن الله ليس كيانًا شخصيًا منفصلًا عن الطبيعة، بل هو الطبيعة ذاتها. وكانط بدوره لم يرفض الدين، لكنه حاول تأسيسه على أسس أخلاقية عقلانية، فطرح مفهوم "الدين في حدود العقل وحده"، معتبرًا أن القيم الدينية لا بد أن تكون متوافقة مع مبادئ العقل الأخلاقي.

مع هيغل، اكتسب الدين بعدًا جدليًا، إذ رأى أنه تطور تاريخي يعكس تجلي "الفكرة المطلقة"، ما يعني أن الدين والفكر الفلسفي يتكاملان في مسيرة الوعي البشري. لكن هذه النظرة لم تدم طويلًا مع صعود الفلسفات النقدية، حيث وجَّه ماركس نقدًا جذريًا للدين، واعتبره أداة أيديولوجية تُستخدم لإضفاء الشرعية على الهياكل الاجتماعية الظالمة، مما جعل الدين في نظره "أفيون الشعوب". أما نيتشه، فقد جاء بهدم أكثر جذرية لفكرة الإله والدين، فأعلن "موت الإله" كتعبير عن تحرر الإنسان من الوصاية الدينية والأخلاقية التقليدية، داعيًا إلى تجاوزها لصالح قيم إرادة القوة والإنسان الأعلى.

أما في الفلسفات المعاصرة، فقد انتقل النقاش حول الدين من نقده كمؤسسة اجتماعية إلى تحليله بوصفه بُعدًا أنثروبولوجيًا ومعرفيًا. فمثلاً، رأى هايدغر أن الدين التقليدي فقد قدرته على تزويد الإنسان بالمعنى في العصر الحديث، إذ حلّت التكنولوجيا والعلمنة محل أنماط الإيمان السابقة، مما خلق "فراغًا وجوديًا". وعلى النقيض، أعاد بعض الفلاسفة مثل ليفيناس ودريدا مساءلة الدين من منطلقات أخلاقية وتأويلية، حيث أكدا على البعد الأخلاقي للدين وليس على بنائه الميتافيزيقي.

تداعيات هذه الرؤى على المجتمعات المعاصرة

أدى هذا التحول الفلسفي في النظر إلى الدين إلى تداعيات عميقة على المجتمعات الحديثة. فمن جهة، عزَّزت العلمنة والتقدم العلمي والتكنولوجي الاتجاهات التي تقلل من مركزية الدين في المجال العام، مما أدى إلى نشوء أنظمة اجتماعية وقانونية تفصل بين الدين والدولة. وقد انعكس ذلك في صعود مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي لا تعتمد على أسس دينية بقدر ما تعتمد على فلسفات الوضعية والعقلانية.

لكن من جهة أخرى، أدى هذا التحول أيضًا إلى ظهور أزمات وجودية، حيث بات كثير من الأفراد يعانون من فقدان المعنى، وهو ما دفع بعض الفلاسفة إلى الحديث عن "فراغ روحي" في المجتمعات الحديثة. فكما لاحظ كارل يونغ، فإن الإنسان الحديث، رغم تقدمه العلمي والتكنولوجي، يظل بحاجة إلى بُعد روحي يمنحه شعورًا بالانتماء والهدف. ولعل هذا ما يفسر عودة بعض مظاهر التدين، سواء في أشكالها التقليدية أو في أنماط جديدة مثل الروحانيات الفردية، التي تمزج بين الدين والفلسفات الوجودية الحديثة.

كما أن تأثير هذه الرؤى الفلسفية امتد إلى الحركات السياسية والاجتماعية، إذ باتت بعض الأيديولوجيات الحديثة تحاول الاستعاضة عن الدين بمفاهيم بديلة مثل القومية، والمادية الجدلية، والعلموية، مما أدى إلى جدالات عميقة حول مكانة الدين في المجال العام. وبينما تبنّت بعض الدول سياسات علمانية صارمة، شهدت دول أخرى ردود فعل دينية، إما على شكل حركات أصولية متشددة، أو على هيئة تجديد ديني يسعى للتكيف مع العصر دون التخلي عن الأسس الروحية.

في النهاية، يكشف تحليل الدين من منظور الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة عن مسيرة طويلة من النقد وإعادة البناء، حيث لم يعد الدين يُنظر إليه كحقيقة مطلقة، بل كظاهرة اجتماعية ونفسية وفلسفية معقدة. وقد أدى هذا التطور إلى تحولات جوهرية في المجتمعات، بين نزعة نحو العلمنة المتزايدة من جهة، وبحث مستمر عن المعنى من جهة أخرى، مما يجعل الدين، رغم كل التحولات، لا يزال عنصرًا فاعلًا في تشكيل الوعي الإنساني المعاصر.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فلسفة اللذة بين العقل والرغبة: جدلية السعادة والمعاناة في ال ...
- حدود العلم وأفق الوعي: فيزياء الكون بين الإدراك والواقع
- الوعي في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة: جدلية الإدراك ...
- حرب الثلاثين عامًا (1618-1648): الصراع بين الكاثوليك والبروت ...
- مابعد الحداثة: تفكيك اليقين وإعادة تشكيل الفكر في عالم بلا ث ...
- الصادق النيهوم: تفكيك المقدس والبحث عن المعنى في متاهات العق ...
- التعلق المرضي: كيف نكسر قيود الاعتماد العاطفي ونستعيد ذواتنا ...
- إعادة تشكيل الإنسان في العالم الرقمي: مقاربات أنثربولوجية مع ...
- الرضا النفسي: فن التوازن والطمأنينة في عالم متغير
- ألبرت كامو وثورة العبث: جدلية المعنى واللاجدوى في الفكر الأو ...
- البنيوية وما بعدها: تفكيك الأنساق وبناء المعنى الجديد
- نحو فلسفة بيئية معاصرة: بين النقد الحداثي والرؤى المستقبلية
- انهيار الحلم الماركسي: كيف تحول شعار العدالة إلى سلطة شمولية ...
- العلمانية الدينية: ازدواجية المفهوم بين الحداثة والتلاعب الس ...
- الجواهر الفردة: فلسفة الذرة في علم الكلام بين العقيدة والعقل
- فلسفة العقل: المفهوم، القضايا، والتأثير في الفكر الفلسفي الم ...
- تحليل الخطاب: تفكيك السلطة والمعرفة في اللغة وصناعة المعاني
- متاهات المعنى: جدلية العدمية والوجودية والعبثية في الفكر الف ...
- العلمانية العسكرية وتداعياتها على الواقع السياسي العربي
- التحرر من سجن العقل: فن إيقاف التفكير الزائد واستعادة صفاء ا ...


المزيد.....




- وزارة الصحة في غزة تكشف عن أحدث حصيلة للقتلى منذ 7 أكتوبر 20 ...
- لماذا يصوم الفقير وهو جائع طوال العام؟
- مجلس أوروبا يدعو تركيا للإفراج عن إمام أوغلو وزيدان
- تقارير: إقالة قيادين في مركز دراسات الشرق الأوسط بهارفارد
- هيئة البث الإسرائيلية: -حماس- تبحث الإفراج عن رهائن مقابل وق ...
- الدفاع الروسية: تحرير بلدتين جديدتين في دونيتسك وزابوروجيه خ ...
- الخارجية البريطانية تطلب من مواطنيها مغادرة سوريا بأي وسيلة ...
- مشاهد خاصة لـRT تظهر آثار القصف الإسرائيلي على الضاحية الجنو ...
- ما خيارات نتنياهو أمام دعوات العصيان داخل الجيش؟ محللان يجيب ...
- صور وفيديوهات تهاني عيد الفطر 2025 بالذكاء الاصطناعي


المزيد.....

- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الدين بين العقل والنقد: رحلة الفلسفة الأوروبية من التفكيك إلى البحث عن المعنى