أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : تَسَاؤُلَات الْحَدَاثَةِ















المزيد.....



الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : تَسَاؤُلَات الْحَدَاثَةِ


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8289 - 2025 / 3 / 22 - 16:07
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ الْحَدَاثَة كَمَفْهُوم عَامّ

الْحَدَاثَة هِيَ ظَاهِرَةٌ فَكَريَّةِ وَتَارِيخيَّةِ ذَاتَ أبْعَاد مُتَعَدِّدَة تَشْمَل مُخْتَلِفَ جَوَانِبِ الحَيَاةِ الإِنْسَانِيَّةِ. وَيُمْكِن تَعْرِيفُهَا بِأَنَّهَا الِإتِّجَاه الفِكْرِيِّ وَالثَّقَافِيِّ الَّذِي نَشَأَ فِي أُورُوبَّا، إبْتِدَاءً مِنْ عَصْرِ النَّهْضَةِ فِي الْقَرْنِ السَّادِسِ عَشَرَ، وَاَلَّذِي دَعَا إلَى التَّحَرُّرِ مِنْ الْقُيُودِ التَّقْلِيدِيَّة وَالْبَحْثِ عَنْ جَدِيدٍ فِي مُخْتَلَفٍ الْمَجَالَات. مِنَ النَّاحِيَةِ اللُّغَوِيَّة، تُشِير الْحَدَاثَة إلَى نَقِيضِ الْقَدِيم، وَتَعْنِي الشَّيْءِ الْجَدِيدِ وَالْمُسْتَحْدَث. وَقَدْ إرْتَبَطَتْ كَلِمَة "الْحَدَاثَة" فِي اللُّغَاتِ الْأُورُوبِّيَّة الْحَدِيثَة بِكَلِمَة "modernus" اللَّاتِينِيَّة وَالَّتِي ظَهَرَتْ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ الْمِيلَادِيّ لِوَصْف الِإنْتِقَالِ مِنْ الْعُصُور الرُّومَانِيَّة الْقَدِيمَة إلَى الْعَالِمِ الْمَسِيحِيّ الْجَدِيد. مِنَ النَّاحِيَةِ الْمَفْهُومِيَّة، تُعْرَف الْحَدَاثَة بِأَنَّهَا مَنْهَج فِكْرِي وَثَقَافِيّ يَدْعُو إلَى تَحْرِيرِ الْإِنْسَانِ مِنْ الْقُيُودِ التَّقْلِيدِيَّة وَالْمُعْتَقَدَات الدِّينِيَّةِ وَ الِإجْتِمَاعِيَّةِ السَّائِدَة، وَالِإنْفِتَاح عَلَى الْعَالِمِ الْخَارِجِيّ وَ الْبَحْثِ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ جَدِيدٌ فِي مُخْتَلَفٍ مَجَالَاتِ الْحَيَاةِ. وَ تَشْمَل مَظَاهِرِ الْحَدَاثَةِ التَّحَوُّلِ فِي الْبُنَى الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَ الِإقْتِصَادِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّة وَالثَّقَافِيَّة، وَظُهُور التَّيَّارَاتِ الْفِكْرِيَّةِ الْحَدِيثَة كَالْعِلْمِانِيَّة وَاللِّيبْرَالِيَّةَ وَالْمَارُّكِسِيَّة، وَالثَّوَرَات الصِّنَاعِيَّة وَالتِّقْنِيَة، وَإنْتِشَار الْعِلْم وَالعَقْلَانِيَّة. وَ يُعْتَبَر الْفَيْلَسُوفُ الْأَلْمَانِيُّ هِيغِلُ أَوَّلُ مَنْ رَبَطَ مَفْهُوم الْحَدَاثَة بِالتَّطَوُّرَات الْفِكْرِيَّةُ وَالثَّقَافِيَّةُ فِي أُورُوبَّا، حَيْثُ رَأَى أَنَّهَا تُمَثِّلُ إنْتِقَالًا مِنْ عَصْرِ قَدِيمٍ إلَى عَصْرِ جَدِيد أَكْثَر تَطَوُّرًا وَ فَاعِلِيَّة. وَ قَدْ أَثَّرَتْ الْحَدَاثَة بِشَكْلٍ مَلْحُوظٍ عَلَى تَسْمِيَةِ الْعُصُور التَّارِيخِيَّة، فَظَهَرَتْ مُصْطَلَحَات كَعَصْر التَّنْوِير وَعَصْر النَّهْضَة الْأُورُوبِّيَّة. إلَّا أَنْ مَفْهُوم الْحَدَاثَة لَا يَخْلُو مِنْ الْإِشْكَالِيَّات وَ الِإنْتِقَادَات، فَقَدْ وَاجَه الْعَدِيدِ مِنَ الِإعْتِرَاضَات بِسَبَب التَّغَيُّرَات الجِذْرِيَّةِ الَّتِي أَحْدَثْتَهَا فِي الْمُجْتَمَعَاتِ وَالثَّقَافَات التَّقْلِيدِيَّة. وَقَدْ إِتَّهَمَ بَعْض الْمُفَكِّرِين الْحَدَاثَة بِالِإنْحِرَافِ عَنْ الْأُصُولِ الثَّقَافِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَتَجَاهُل الْهِوَيَات الْقَدِيمَةِ وَ التُّرَاث. كَمَا أَنَّ مَفْهُومَ الْحَدَاثَة يَحْمَلُ فِي طَيَّاتِهِ غُمُوضًا وَ إخْتِلَافًا فِي التَّفْسِيرَات وَالتَّصَوُّرَات، مِمَّا جَعَلَ مِنْ الصَّعْبِ إخْضَاعه لِلْقِيَاسِ وَالتَّحْدِيد الدَّقِيقِ. فَهُوَ لَيْسَ مَفْهُومًا مُحَدَّدًا بَلْ يَشْمَلُ مَجْمُوعَةٌ مِنَ السِّمَاتِ وَالْمَبَادِئ الْحَضَارِيَّة الْمُتَدَاخِلَة وَ الْمُتَشَابِكَة فِي مُخْتَلَفٍ مَجَالَاتِ الْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَ نَظَرًا لِهَذِهِ الْخَصَائِص الْمُعَقَّدَة لِلْحَدَاثة، فَقَدْ وَاجَه الْمُفَكِّرُون الْعَرَب صُعُوبَات كَبِيرَةً فِي فَهْمِ هَذَا الْمَفْهُومِ وَتَحْدِيد مَلَامِحِه. فَقَدْ إخْتَلَفَتْ تَفْسِيرًاتِهِمْ وَتَصَوُّرَاتِهِمْ لَهُ، بَيْنَ مَنْ يَرَاهَا ثَوْرَةٌ عَلَى التَّقَالِيدِ وَالتُّرَاث، وَ بَيْنَ مَنْ يُحَاوِلُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ الْأَصَالَة. إذْن، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْحَدَاثَة هِيَ ظَاهِرَةٌ فَكَرْيَّةِ وَ تَارِيخيَّةِ مَعْقدة ذَات أبْعَاد مُتَنَوِّعَة وَمُتَدَاخِلَة فِي مُخْتَلَفٍ جَوَانِبِ الْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَهِي تُشْكِل تَحَوُّلًا جِذْرِيًّا فِي الْبُنَى الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّة وَالِإقْتِصَادِيَّة، مِمَّا أَثَارَ الْكَثِيرِ مِنْ الْجَدَلِ وَالِإنْتِقَادَات مِنْ قِبَلِ الْمُفَكِّرِين وَالْمُثَقَّفِين. وَ لَا يَزَالُ مَفْهُوم الْحَدَاثَة يَحْتَاجُ إلَى مَزِيدِ مِنْ الدِّرَاسَةِ وَ التَّحْلِيل لِلْوُقُوفِ عَلَى مَاهِيَّتِه وَخَصَائِصُه بِشَكْلٍ أَكْثَرَ دِقَّةً.

_ الْمَفْهُوم الْفَلْسَفِيّ لِلْحَدَاثَةِ

الْحَدَاثَةِ هِيَ مَفْهُومُ فَلْسَفِيّ مَعْقِد وَمُرَكَّب يُشِيرُ إلَى سَيْرُورَة الْأَشْيَاءُ وَتَحَوُّلُهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَفْهُومُ يُشِيرُ إلَى جَوْهَرِهَا. أَنَّهَا تَفْرَضُ صُورَة جَدِيدَة لِلْإِنْسَان وَالْعَقْل وَالْهَويَّة، تَتَنَاقَض بِشَكْل جذْرِيّ مَعَ مَا كَانَ سَائِدًا فِي الْعُصُورِ الْوُسْطَى. عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَهَمِّيَّةِ هَذَا الْمَفْهُومِ وَشُيُوعَه فِي الْفِكْرِ الْمُعَاصِرِ، إلَّا أَنَّهُ مِنْ أَكْثَرَ الْمَفَاهِيمَ الَّتِي تَتَّسِمُ بِالغُمُوض وَالتَّعْقِيد، وَذَلِك لِإرْتِبَاطِه بِحُقُول مَعْرِفِيَّة مُتَعَدِّدَة وَإسْتِخْدَامُه فِي مَجَالَاتِ مُخْتَلِفَة. فَالْحَدَاثَةِ تَتَوَازَى مَعَ مَسِيرَةِ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ الْحَدِيثَةِ، الَّتِي أُفْرَزَتْ إشْكَالَيْات رَافَقَت الْحَدَاثَة وَمَا بَعْدَهَا. كَمَا أَنَّ لَهَا أبْعَاد وَ مَدْلُولَات مُتَعَدِّدَة وَتَتَدَاخُل فِيمَا بَيْنَهَا عَلَى مُسْتَوَيَات الْوُجُودِ الْإِنْسَانِيِّ الْمُخْتَلِفَة: الْعِلْمِيَّة وَالتِّقْنِيَة وَالِإقْتِصَادِيَّة وَ السِّيَاسِيَّة وَالْأَدَبِيَّة وَالْفَنِّيَّة وَالفَلْسَفِيَّة. يُنْظَرُ إلَى الْحَدَاثَة بِوَصْفِهَا نَقِيضًا لِلْقَدِيم وَالتَّقْلِيدِيّ. فَهِيَ لَيْسَتْ مَذْهَبًا سِيَاسِيًّا أَوْ تَرِبَويا أَوْ نِظَامًا ثَقَافِيًّا وَإجْتِمَاعِيًّا فَحَسْبُ، بَلْ هِيَ حَرَكَةُ نُهُوض وَتَطْوِير وَإِبْدَاع هَدَفهَا تَغْيِير أَنْمَاط التَّفْكِيرَ وَالْعَمَلَ وَ السُّلُوك. وَهِيَ حَرَكَةُ تَنُويْرِيَّة عَقْلَانِيَّة مُسْتَمِرَّة تَهْدِفُ إِلَى تَبْدِيل النَّظْرَة الْجَامِدَة إلَى الْأَشْيَاءِ وَالْكَوْنِ وَ الْحَيَاةِ إلَى نَظَرة أَكْثَر تَفَاؤُلًا وَحَيَوِيَّة. بِالْمُقَابِل، فَإِنَّ مَفْهُومَ التَّحْدِيث "Modernization" لَهُ مَدْلُولٌ تَارِيخِيّ لَا يُشِيرُ إلَى السِّمَاتُ الْحَضَارِيَّةُ الْمُشْتَرَكَةِ، وَإِنَّمَا إلَى دَيْنٌاميكية التَّحَوُّلَات البِنْيَوِيَّة وَمُسْتَوَيَاتِهَا. إبْتِدَاءً مِنْ الْقَرْنِ السَّادِسِ عَشَرَ، حَدَثَتْ فِي أُورُوبَّا تَحَوُّلَات بنِيويَّةٍ وَحَرَكَات إجْتِمَاعِيَّةٍ وَإقْتِصَادِيَّةٍ وَ دِينِيَّة وَسِيَاسِيَّة، رَافَقَتْهُا إسْتِكْشَافات جُغْرَافِيَّة وَ فُتُوحَات إسْتِعْمَارِيَّة، وَ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ، ثَوْرَة عِلْمِيَّة تِقْنِيَّة رَافَقْت الثَّوْرَة الصِّنَاعِيَّة، الَّتِي فَجَرَتْ فِي نهَايَةِ القَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ الثَّوْرَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ وَالثَّوْرَة الْقَوْمِيَّة-الْبُرْجُوَازِيَّة فِي أُورُوبَّا. هَذِهِ التَّحَوُّلَاتُ البِنْيَوِيَّة الَّتِي تَدَاخَلَتْ بَعْضِهَا مَعَ الْبَعْضِ الْآخَرِ، فِي حَرَكَةِ جَدَلِيَّة، كَانَتْ تَصُبُّ فِي مَجْرَى وَاحِدٍ هُوَ مَسَار الْحَدَاثَة. وَمَنْهَجِيَّا، لَيْسَ مِنْ السَّهْلِ إِخْضَاع الْحَدَاثَة لِلْقِيَاسِ، لِأَنَّهَا لَا تَكْشِفُ عَنْ نَفْسِهَا فِي مَوْضُوعَاتِ مُحَدَّدَة وَمَلْمُوسة وَيُمْكِنُ قِيَاسُهَا وَإخْتِبَارُهَا، وَإِنَّمَا عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَسْتَقْرِئَ أُسِّس الْحَدَاثَة وَمُقَوِّمَاتِهَا بِوَصْفِهَا عَمَلِيَّات تَرَاكُمِيَّة وَ تَحَوُّلًات بِنْيَوِيَّة مَادِّيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّة. وَبِإِيجَاز، يُمْكِنُ فَهْمُ الْحَدَاثَة بِإعْتِبَارِهَا الْمُعْطى الدّورِي وَالتَّحَوُّل الْمُتَسَلْسِل فِي بِنْيَاتِ الْإِنْتَاج وَ التَّوَاصُل وَالْمَعْرِفَة وَالسُّلْطَة وَالْهَوَيات الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ، بِمَا يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ جِذْرِيٍّ فِي الْعَالَمِ الْمَعِيش لِلْإِنْسَانِ. إنَّهَا إذْنٌ حَرَكَة فَلْسَفِيَّة تَنُويْرِيَّة عَقْلَانِيَّة مُسْتَمِرَّة تَهْدِفُ إِلَى إِعَادَةِ تَشْكِيلِ الْوُجُودِ الْإِنْسَانِيِّ وَالْعَلَاقَاتِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ فِي ضَوْءِ التَّحَوُّلَات البِنْيَوِيَّة الْمُخْتَلِفَة.

_ إرْتِبَاط الْحَدَاثَة بِالنَهْضَة الْعِلْمِيَّةِ و الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْحَدِيثَة

إرْتَبَطَتْ الْحَدَاثَة إرْتِبَاطًا وَثِيقًا بِالنَهْضَة الْعِلْمِيَّةِ وَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة الْحَدِيثَةِ فِي عِدَّةِ جَوَانِب. تُعْتَبَر الْحَدَاثَة جُزْءًا أَسَاسِيًّا مِنْ النَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي شَهِدْتُهَا الْمُجْتَمَعَاتِ الْغَرْبِيَّةِ مُنْذُ عَصْرِ النَّهْضَةِ وَ الْإِصْلَاح الدِّينِيُّ فِي الْقَرْنَيْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ وَ السَّادِسَ عَشَرَ. فَقَدْ إرْتَبَطَتْ الْحَدَاثَة بِصُعُود الْعِلْمِ التَّجْرِيبِيِّ وَ الْمَنْهَج الْعِلْمِيِّ فِي دِرَاسَةِ الطَّبِيعَةِ وَ الْكَوْنِ. فَظُهُور نَظَرِيَّات عِلْمِيَّة جَدِيدَة كَنَظِريَّة كُوبَرْنِيكُوسْ وَالنْيُوتُونِيَّة، وَتَطَوَّرَ التِّقْنِيَّات وَالِإخْتِرَاعَات التِّكْنُولُوجِيَّة كَإخْترَاع الطِّبَاعَة وَالْآلَة الْبُخَارِيَّة، كَانَ لَهُ دُورٌ كَبِيرٌ فِي تَشْكِيلِ مَلَامِح الْمُجْتَمَعَات الْحَدِيثَة. وَالْبُعْدِ عَنْ السُّلْطَة الدِّينِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَحَكُّم الْمُجْتَمَعَاتُ الْأُورُوبِّيَّةُ فِي الْعُصُورِ الْوُسْطَى. كَمَا إرْتَبَطَتْ الْحَدَاثَة بِعَمَلِيَّة التَّحْدِيث وَ الْعَصْرَنَة الَّتِي شَهِدْتُهَا الْمُجْتَمَعَاتِ الْغَرْبِيَّةِ، وَاَلَّتِي تَضَمَّنَتْ إنْتِشَار التَّعْلِيم وَالْمَعَارِف الْجَدِيدَة وَ تَطَوَّر النُّظُمِ السِّيَاسِيَّةِ وَالِإقْتِصَادِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّة. وَأَدَّتْ هَذِهِ التَّحَوُّلَاتُ إِلَى أَضْعَافٍ هَيْمَنَة الْكَنِيسَة وَالسُّلْطَة الدِّينِيَّة وَ ظُهُور مَفَاهِيم جَدِيدَة كَالْعَقْلِانِيَّة وَ الْعِلْمَانِيَّة وَ الْفَرْدِيَّة. مِنْ جَانِبِ آخَرَ قَدْ إرْتَبَطَتْ الْحَدَاثَة بِالْقِيَم الْأَخْلَاقِيَّة الْحَدِيثَة. لَقَدْ أَرْسَتْ الْحَدَاثَة قَيِّمًا أَخْلَاقِيَّة جَدِيدَة تَخْتَلِفُ عَنْ الْقَيِّمِ السَّائِدَةِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ التَّقْلِيدِيَّة. فَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْحَدَاثَة تَأْكِيدًا عَلَى مَبَادِئِ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ وَالدِّيمُقْرَاطِيَّة وَ الْمُسَاوَاة وَ الْحُرِّيَّة الْفَرْدِيَّة. وَتَمَيَّزَتْ الْحَدَاثَة بِالتَّسْلِيمِ بِأَنْ الْإِنْسَانَ هُوَ مَرْكَز الْعَالِمُ وَصَاحِبُ الْكَلِمَة الْعُلْيَا فِي تَنْظِيمِ شُؤُونِ الحَيَاةِ، وَ لَيْسَ اللَّهُ أَوْ السُّلْطَة الدِّينِيَّة. كَمَا إرْتَبَطَتْ الْحَدَاثَة بِتَطْور مَفْهُومُ الْمِلْكِيَّةَ الْفَرْدِيَّةَ وَحُقُوقِ الْفَرْدِ وَتَقَليص دُورٌ السُّلْطَة الْمَرْكَزِيَّة، وَظُهُور مَفَاهِيم جَدِيدَة كَالْقَوْمِيَّة وَ الدَّوْلَةُ الْحَدِيثَة. وَأَدَّى ذَلِكَ إلَى تَقْوِيض السُّلْطَة التَّقْلِيدِيَّة لِلْكَنِيسَة وَ الأَرِسْتُقْرَاطِيَّة، وَتَنَامِي دُور الطَّبَقَةِ البُرْجُوَازِيَّةِ وَ الْحَرَكَات الدِّيمُقْرَاطِيَّة الشَّعْبِيَّة. بِالْإِضَافَةِ إلَى ذَلِكَ، إرْتَبَطَتْ الْحَدَاثَة بِتَحْرر الْمَرْأَةُ وَإِعْطَائِهَا حُقُوقًا جَدِيدَة كَالتَّعْلِيم وَ الْمُشَارَكَة السِّيَاسِيَّة، وَهَذَا كَانَ إنْعِكَاسًا لِظُهُور مَفَاهِيم حَدِيثة حَوْل الْمُسَاوَاة وَالْعَدَالَة الِإجْتِمَاعِيَّة. لِذَلِك، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْحَدَاثَة مَثَّلْت تَحَوُّلًا جِذْرِيًّا فِي النَّظْمِ الْفِكْرِيَّة وَالْقِيمَيَّة وَ الْأَخْلَاقِيَّة لِلْمُجْتَمَعَات الْغَرْبِيَّة، إنْطِلَاقًا مِنْ النَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَ التَّحْدِيث الْحَضَارِيِّ الَّذِي شَهِدَتْهُ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ وَأَثَرَ هَذَا التَّحَوُّلِ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ عَلَى مَسَار التَّطَوُّرَات اللَّاحِقَةُ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْحَدِيثَة.

_ النَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَتَشَكِّل الْحَدَاثَة الْفِكْرِيَّة

كَان لِلنَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ فِي أُورُوبَّا خِلَالَ الْقَرْنَيْنِ السَّادِسَ عَشَرَ وَ السَّابِعَ عَشَرَ أَثَرٍ كَبِيرٍ فِي تَشَكِّل الْفِكْر الحَدَاثِي الَّذِي بِلَّوْر مَفَاهِيم جَدِيدَة حَوْلَ الْإِنْسَانِ وَالطَّبِيعَةِ وَالْمُجْتَمَع. فَالِإكْتِشَافَات الْعِلْمِيَّةِ وَالتَّطَوُّرَات التِّقْنِيَّة أَفَضْت إلَى تَحَوُّلِ جِذْرِيٍّ فِي نَظَرَة الْإِنْسَان الْأُورُوبِّيّ إلَى الْعَالِمِ وَالْكَوْن، وَ أسْست لِنَظَرَة عَقْلَانِيَّة جَدِيدَة قِوَامُهَا التَّجْرِبَةَ وَالْمُلَاحَظَةَ بَدَلًا مِنْ الِإعْتِمَادِ عَلَى السُّلْطَة الدِّينِيَّة وَالتَّقْلِيدِيَّة. فَمِنْ جَانِبِ، أُفْرَزَتْ هَذِه النَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ مَفَاهِيم مَرْكَزِيَّة لِلْحَدَاثة مِثْلُ الثِّقَة بِالْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ وَقُدْرَتِهِ عَلَى إدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ، وَتَحْرِيرِ الْإِنْسَانِ مِنْ قُيُودِ الْجَهْلِ وَالْخُرَافَة، وَإِعْلَاء قَيِّم الْإِنْسَانِيَّة وَ التَّقَدُّم الْمَادِّيّ. وَمِنْ جَانِبِ آخَرَ، أَسْهُمت الِإكْتِشَافَات الْجُغْرَافِيَّة وَالْعِلْمِيَّةِ فِي إزَالَةِ الْحَوَاجِز الْمَعْرِفِيَّة وَتَعْزِيز الْمَنْظُور الْعَالَمِيّ، مِمَّا فَتَحَ الْبَابُ أمَام ظُهُور مَفَاهِيم حَدًّاثيَّة جَدِيدَةٍ كَالْعِلْمِانِيَّة وَاللِّيبْرَالِيَّةَ وَالقَوْمِيَّة. لَعِبَتْ الْبَعَثَات الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي أَرْسَلَهَا رَوَّاد النَّهْضَةِ فِي الْبُلْدَانِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ، مِثْلُ مُحَمَّدِ عَلِي فِي مِصْرٍ، دُورًا حَاسِمًا فِي نَقْلِ وَإنْتِشَار الْأَفْكَار الْحَدَاثَيَّةِ. فَهَذِهِ الْبَعَثَات الَّتِي بَعَثْتُ بِالطَّلَاب إلَى أُورُوبَّا لِلتِّخصص فِي مُخْتَلَفٍ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ الْحَدِيثَة، مَكَّنَتْ مِنْ إسْتِيعَابِ الْمَنْهَجِيات الْعِلْمِيَّةِ وَالتِّقْنِيَة الْغَرْبِيَّة وَإنْتِقَال هَذِهِ الْمَعَارِفُ إلَى بُلْدَانِهِمْ. وَ كَانَ مِنْ بَيْنِ هَؤُلَاءِ الطُّلَّاب الْمُبْتَعَثين رِفَاعَةُ الطَّهطاوي، الَّذِي عَادَ لِيُؤسس فِي مِصْرٍ مَدْرَسَة جَدِيدَةٍ قَائِمَةٍ عَلَى الْمَنَاهِجِ الْحَدِيثَة، وَنَشْر أَفْكَارًا وَأرَاء حَوْل ضَرُورَة التَّجْدِيد وَالتَّحْدِيث عَلَى طَرِيقَةِ الْغَرْب. وَأَدَّى هَذَا الِإنْفِتَاحِ عَلَى التُّرَاث الْفِكْرِيّ الْأُورُوبِّيّ إلَى إحْدَاثِ نَقَلَة نَوْعيَّةُ فِي الْحَيَاةِ الْفِكْرِيَّةُ وَالثَّقَافِيَّةُ فِي الْعَالَمِ الْعَرَبِيِّ. بِحَيْث لَعِبَتْ النَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ فِي أُورُوبَّا دُورًا مُحَوَّريا فِي إعَادَةِ تَشْكِيل الْبُنَى الْمَعْرِفِيَّة وَالثَّقَافِيَّة، فَفِي مُقَابِل السُّلْطَة التَّقْلِيدِيَّة لِلْكَنِيسَة وَالْعَقِيدَة الدِّينِيَّة، أَصْبَح الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ هُمَا المَصْدَرَان الْأَسَاسِيان لِلْمَعْرِفَة. وَقَدْ إرْتَبَط ذَلِك بِإنْتِصَار مَفَاهِيم حَدًّاثيَّةِ كَالنَّزْعَة الْعِلْمَانِيَّةِ وَالنَّزْعَة الْإِنْسَانِيَّة وَالعَقْلَانِيَّة. كَمَا أَنَّ التَّقَدُّمَ الْعِلْمِيَّ وَالتِّقْنِيّ الْهَائِل أَفْرَز ظَوَاهِر إجْتِمَاعِيَّة وَثَقَافِيَّة جَدِيدَة كَتَنَامي الصِّنَاعَةِ وَالتَّحَضُّر وَالْفَرْدِيَّة، مِمَّا أَدَّى إلَى تَغْيِيرِ جِذْرِيٍّ فِي بُنْيَّة الْمُجْتَمَعَاتُ الْأُورُوبِّيَّةُ وَأَنْمَاط الْحَيَاةِ فِيهَا. وَ قَدْ عُكِسَتْ هَذِهِ التَّحَوُّلَاتُ فِي الْوَاقِعِ الِإجْتِمَاعِيّ وَالحَضَارِيّ رَوْح عَصْر الْحَدَاثَةِ بِمَا يُمَثِّلُه مِنْ قِيَمٍ عَصْرَيَّة كَالتَّقَدُّم وَ الْحُرِّيَّة وَالعَقْلَانِيَّة. وَ رَغْم هَذَا الِإرْتِبَاطَ الوَثِيقِ بَيْنَ النَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفِكْر الحَدَاثِي، إلَّا أَنْ هُنَاكَ تَنَاقُضَات وَأَزَمَات بَرَزَتْ نَتِيجَة لِهَذَا التَّفَاعُل. فَالْجَوَانِب السَّلْبِيَّةِ لِلْحَدَاثة الَّتِي أَفْرَزَتِهَا النَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ، كَالِإسْتِغْلَال وَالهَيْمَنَة الِإسْتِعْمَارِيَّة وَالنِّزَعَات الْقَوْمِيَّة وَالْفَرْدُانِيَّة، أَدَّتْ إلَى ظُهُورِ حَرَكَات نَقْدَيَّةِ لِلْحَدَاثة مِثْلُ مَا بَعْدَ الْحَدَاثَة. كَذَلِكَ، فَإِنَّ مُحَاوَلَات نَقَل النَّمُوذَج الحَدَاثِي الْأُورُوبِّيّ إلَى سِيَاقَات ثَقَافِيَّة وَحَضَارِيٍّة مُخْتَلِفَةٌ فِي الْعَالَمِ الْعَرَبِيِّ وَالْإِسْلَامِيِّ، أَفَضْت إلَى إشْكَالَيْات وَأَزَمَات هَوَياتِيَّة وَثَقَافِيَّةٌ عَمِيقَة. فَالصِّرَاعُ بَيْنَ الْقَيِّمِ التَّقْلِيدِيَّة وَ الْمُتَطَلَّبَات الْحَدَاثَيَّة أَنْتَجَ حَالَةٍ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالتَّفَكُّك فِي الْمُجْتَمَعَاتِ، أَعَاق فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْيَانِ مَسَار النَّهْضَة وَ التَّحْدِيث. فِي الْخُلَاصَةِ، نَسْتَنتج إنْ النَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ فِي أُورُوبَّا لَعِبَتْ دُورًا مُحَوَّريا فِي تَشْكِيلِ وَتَطَوَّر الْفِكْر الحَدَاثِي، مِنْ خِلَالِ الْمَفَاهِيمِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي أَرْسَتِهَا حَوْلَ الْإِنْسَانِ وَ الطَّبِيعَةِ وَالْمَعْرِفَة، وَإسْتِنْبَاطِهَا لِمَنْهجيات عِلْمِيَّةٍ وَتِقْنِيَّة أَثَّرَتْ عَمِيقًا فِي بُنَى الْمُجْتَمَعَاتُ الْأُورُوبِّيَّةُ. وَلَكِنَّ هَذَا التَّأْثِيرِ لَمْ يَكُنْ خَالِيًا مِنْ التَّنَاقُضَات وَالْإِشْكَالَيْات الَّتِي بَرَزَتْ فِي مُحَاوَلَات نَقَلَ هَذَا النَّمُوذَجَ الحَدَاثِي إلَى سِيَاقَات ثَقَافِيَّة مُغَايِرَة.

_ ظُهُور الْحَدَاثَة وَتشَكِّل الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْحَدِيثَة

عَصْر الْحَدَاثَة شَهِد تَغْيِيرَات جِذْرِيَّة فِي مَفْهُومِ الْأَخْلَاقِ وَ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّة. قَبْلَ عَصْرِ الْحَدَاثَة، كَانَتْ الْأَخْلَاقُ مُسْتَمَدِّة بِشَكْلٍ رَئِيسِيٍّ مِنْ السُّلْطَةِ الدِّينِيَّة وَالتَّقَالِيد الْمُجْتَمَعِيَّة. لَكِنْ مَعَ ظُهُورِ الْحَدَاثَة فِي الْقَرْنِ السَّابِعِ عَشَرَ وَالْقَرْن الثَّامِنَ عَشَرَ، شَهِدْنَا إنْفِصَال الْأَخْلَاقِ عَنْ السُّلْطَة الدِّينِيَّة التَّقْلِيدِيَّة وَإنْبِثَاق نَظَرِيَّات أَخْلَاقِيَّة جَدِيدَة مُتَأَثِّرَة بِالْعَقْلِانِيَّة وَالْفَرْدانِيَّة. أَحَد أَهَمّ التَّحَوُّلَات الْفِكْرِيَّة فِي عَصْرِ الْحَدَاثَة كَانَ تَرَاجُعُ الْهَيْمَنَة الدِّينِيَّةِ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَبُرُوز مَفْهُوم الْأَخْلَاق العَقْلَانِيَّة وَ الْمُسْتَقِلَّة عَنْ السُّلْطَة الدِّينِيَّة. مُفَكِّرُون مِثْلُ إيمَانْوِيل كَانَتْ أَرْسَوا أَسَاسًا لِأَخْلَاق عَقْلَانِيَّة تَسْتَمَدّ مَشْرُوعِيَّتِهَا مِنْ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ بَدَلًا مِنْ الْوَحْيِ الدِّينِيِّ. كَمَا سَاهِم ظُهُور الْفَلْسَفَات الْوَضْعِيَّةُ فِي إزَاحَة الْأُسُس الْمَيتَافِيزِيقِيَّة لِلْأَخْلَاق وَ إسْتِبْدَالُهَا بِمَنْظُور عِلْمِي وَتَجْرِيبِيّ. جَنْبًا إِلَى جَنْبِ مَعَ هَذَا التَّحَوُّلِ الْفِكْرِيّ، شَهِدَتْ الْحَدَاثَة تَعَاظَم دُور الْفَرْدِ فِي الْمُجْتَمَعِ وَتَنَامِي الفَرْدَانِيَّة. لَمْ يَعُدْ الْفَرْد مُجَرَّد جُزْءٍ مِنْ نَسِيج إجْتِمَاعِيّ مَحْكُوم بِالتَّقَالِيد وَالهَيَاكِل السَّلطويَّة التَّقْلِيدِيَّة، بَلْ أَصْبَحَ مُتَمَتِّعًا بِمِسَاحَة أَوْسَعُ مِنْ الحُرِّيَّات الْفَرْدِيَّة. هَذَا التَّحَوُّلِ عَزَّز مَفَاهِيم جَدِيدَة لِلْأَخْلَاق مِثْلُ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ وَ الْحُرِّيَّة الْفَرْدِيَّة. وَ مَعَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّحَوُّلِ فِي مَفْهُومِ الْأَخْلَاق سَلِسًا أَوْ خَالِيًا مِنْ التَّوَتُّرِات وَالأَزَمَات. فَقَدْ أَدَّى ضَعْف سَلَّطَة الْمُؤَسَّسَات التَّقْلِيدِيَّة وَصُعُود الْفَرْدِيَّة إلَى حَالَةٍ مِنْ "الْأَزْمَة الْأَخْلَاقِيَّة" فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْغَرْبِيَّةِ. ظَهَرَتْ حَرَكَاتٌ إجْتِمَاعِيَّة جَدِيدَة تُطَالِب بِحُقُوق أَقَلَّيات وَقَضَايَا هَوياتِيَّة، كَحَرَكَات الدِّفَاعِ عَنْ الْمِثْلِيَّةِ الْجِنْسِيَّة وَحُقُوق الْأَقَلِّيَّاتِ الْعِرْقِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّة. كَمَا بَرَز نَقَّاش فَلْسَفِيّ حَوْل طَبِيعَة الْأَخْلَاق الْحَدِيثَة وَمَدَى قُدْرَتِهَا عَلَى تَوْجِيهِ السُّلُوكُ فِي ظِلِّ غِيَابِ الْمَرْجِعِيَّات التَّقْلِيدِيَّة. فِي مُوَاجَهَةِ هَذِهِ الْأَزْمَةِ، طَرَحَ بَعْضَ الْمُفَكِّرِين مُقَارَبَات فَلْسَفِيَّة مُخْتَلِفَة لِإِعَادَة صِيَاغَة الْأَخْلَاقِ فِي عَصْرِ الْحَدَاثَة. فَالْبَعْض سَعَى إلَى إعَادَةِ رَبَط الْأَخْلَاق بِالْجُذُور الْمَيتَافِيزِيقِيَّة وَالدَّيْنِيَّةُ، بَيْنَمَا آخَرُون حَاوَلُوا تَأْسِيس أَخْلَاق عَقْلَانِيَّة جَدِيدَةٍ قَائِمَةٍ عَلَى مَفَاهِيمِ الْحُرِّيَّةِ وَ الْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. كَمَا طَرْح الْبَعْض مُقَارَبَات وُجُودِيَّة تُرَكِّزُ عَلَى تَحْقِيقِ الذَّات وَإعَادَة التَّفْكِيرِ فِي مَاهِيَّةِ الْإِنْسَانِ. فِي السِّيَاقِ الْإِسْلَامِيّ، رَأَى بَعْضَ الْمُفَكِّرِين أَنَّ هَذِهِ الْأَزْمَةِ الْأَخْلَاقِيَّة فِي الْغَرْبِ تُعَبِّرُ عَنْ تَبَايُنِ جِذْرِيّ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَ مَنْظُومِتِه الْقِيَمِيَّة وَبَيْن الْأَخْلَاق الْحَدِيثَة. فَالْإِسْلَام يُقَدَّم رُؤْيَة مُخْتَلِفَة لِلْإِنْسَان وَالْمُجْتَمَع وَالنِّظَام السِّيَاسِيّ لَا تَتَوَافَقُ مَعَ الْأُسُسِ الْفِكْرِيَّة لِلْحَدَاثة. وَبِالتَّالِي، لَا يُمْكِنُ إعْتِبَارُ الْأَزْمَة الْأَخْلَاقِيَّة فِي الْغَرْبِ مُجَرَّد أَزْمَة عَابِرَة، بَلْ هِيَ تَجْسِيد لِرُؤْيَة لِلْعَالِم مُخْتَلِفَةٌ عَنْ رُؤْيَةِ الْإِسْلَام. فِي مُجْمَلِ الْقَوْلَ، شَهِدَ عَصْر الْحَدَاثَة تَحَوُّلَات جِذْرِيَّة فِي مَفْهُومِ الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّة، إنْعَكَسَتْ فِي إنْفِصَالِ الْأَخْلَاقِ عَنْ السُّلْطَة الدِّينِيَّة التَّقْلِيدِيَّة، وَظُهُور مَفَاهِيم أَخْلَاقِيَّة جَدِيدَة مِثْل الفَرْدَانِيَّة وَ حُقُوقُ الْإِنْسَانِ. لَكِنْ هَذَا التَّحَوُّلِ لَمْ يَكُنْ سَلَسًا وَأنْتج أَزَمَاتِ أَخْلَاقِيَّة وَإجْتِمَاعِيَّة طَرَحَتْ تَحَدِّيَات فِكَرْيَّة وَفَلَسَفِيَّة جَدِيدَةٍ، خَاصَّةً مِنْ مَنْظُورٍ الْإِسْلَام التَّقْلِيدِيّ.

_ النَّهْضَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَتَشَكِّل الْحَدَاثَة الْفِكْرِيَّة فِي الْوَطَنِ الْعَرَبِيِّ

النَّهْضَةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَمَا تُعْرَفُ بِإسْمِ "الْيَقَظَة الْعَرَبِيَّةَ" أَوْ "حَرَكَةٍ التَّنْوِير الْعَرَبِيَّةِ"، هِيَ الْحَالَةُ الْفِكْرِيَّة وَالِإجْتِمَاعِيَّة الَّتِي سَادَتْ أَسَاسًا فِي مِصْرٍ وَلُبْنَان، وَإمْتَدَّتْ لِتَشْمَل عَوَاصِم عَرَبِيَّةً أُخْرَى كَدِمَشْق، بَغْدَاد، وَفَاس وَمَرَّاكش، وَحَتَّى فِي الْمَهجِّر، خِلَال الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَر. بَدَأَتْ النَّهْضَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مُسْتَهَلِّ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، وَيَرْجِعُ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ مِثْل الْبَرت حَوْرَانِي تَارِيخ بَدْئِهَا إِلَى عَامٍ مَعَ الْحَمْلَة الْبَونَابَرْتِيَّة. مِنْ أَبْرَزِ مَظَاهِر النَّهْضَةِ الْعَرَبِيَّةِ إنْتِشَار الطِّبَاعَة، وَظُهُور الصَّحَافَة وَدُور النَّشْر، وَالتَّوَسُّعِ فِي إنْشَاءِ الْمَدَارِسِ وَالْجَامِعَاتِ، وَإِحْيَاء التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ وَتَحْقِيقُه، وَنُهُوض اللُّغَةِ مِنْ كَبَوْتها الَّتِي عَانَتْ مِنْهَا فِي عَصْرِ الِإنْحِطَاط، وَتَفَاعَل الأَدَبِ الْعَرَبِيِّ مَعَ الْادَابِ الْغَرْبِيَّة تَفَاعُلًا عَمِيقًا أَدَّى إلَى ظُهُورِ فُنُون أَدَبِيَّة جَدِيدَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ وُجُودِ مَنْ قَبِلَ، كَالْأقْصُوصَة وَالرِّوَايَةُ وَ الْمَسْرُحِيَّة. هَذِهِ النَّهْضَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ تَتَزَامَن مَع النَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّة الَّتِي شَهِدْتُهَا أُورُوبَّا فِي عَصْرِ التَّنْوِيرِ وَ الْحَدَاثَة. فَقَدْ شَهِدَ هَذَا الْعَصْرِ تَطَوُّرَاتٍ هَائِلَةٍ فِي الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالرِّيَاضِيَّات وَالْفَلْسَفَة، تَرْجِعُ فِي جُذُورُهَا إِلَى الْقَرْنِ السَّادِسِ عَشَرَ وَمَا بَعْدَه. أَبْرَز مَلَامِح هَذِه النَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَ الْفِكْرِيَّة فِي أُورُوبَّا كَانَتْ:
. التَّحَوُّل نَحْو الْمَنْهَج التَّجْرِيبِيّ وَالْعِلْمِيّ فِي الْمَعْرِفَةِ، بَدَلًا مِنْ الِإعْتِمَادِ عَلَى الْأَرِسْطِيَّةِ وَالتَّفْكِيرَ الْمَيتَافِيزِيقِيّ وَالدِّينِيّ السَّائِد فِي الْعُصُورِ الْوُسْطَى. وَقَدْ جَاءَ هَذَا التَّحَوُّلِ عَلَى يَدِ عُلَمَاءَ مِثْل فَرَانْسِيس بِيكُون وَدِيكَارَتّ.
. ظُهُورُ مَفَاهِيمِ وَمَبَادِئِ جَدِيدَةً فِي الْفَلْسَفَةِ وَالْعِلْمِ، كَمَفْهُوم الْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْفَرْدانِيَّة وَالتَّقَدُّمُ وَالْعِلْمَانِيَّة. وَقَدْ بَرَزَ هَذَا فِي أَعْمَالِ فَلَاسِفَة التَّنْوِير أَمْثَال كَانَط وَلَوْك وَمُونتسكيو وَ فَوْلتير.
. التَّحَوُّلُ فِي النَّظْرَةِ إِلَى الطَّبِيعَةِ وَالْكَوْنِ، مِنْ نَظَرة مِيتَافِيزِيقِيَّة دِينِيَّةٍ إلَى نَظَرة عِلْمِيَّة تَجْرِيبِيَّة. وَقَدْ سَاهَمَ فِي ذَلِكَ عُلَمَاءُ مِثْل جَالِيلْيُو وَدِيكَارَتّ وَكَبَّلر وَنِيُوتِنْ.
. ظُهُورُ مَبَادِىء جَدِيدَةً فِي السِّيَاسَةِ وَالِإقْتِصَادِ، كَمَبِادىء الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ وَالْحُرِّيَّة وَالْمِلْكِيَّة الْخَاصَّة وَالرَّأْسِمَالِيَّة. وَقَدْ بَرَزَ ذَلِكَ فِي أَعْمَالِ مُفَكِّرِي السِّيَاسَةِ وَالِإقْتِصَادِ فِي عَصْرِ التَّنْوِير.
. التَّحَوُّلِ فِي النَّظْرَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، مِنْ كَائِن مُتَعَال إِلَى كَائِنٍ مَادِّيّ مَحْدُود بِالطَّبِيعَة. وَقَدْ سَاهَمَ فِي ذَلِكَ الْفَلَاسِفَة وَالْعُلَمَاء الطَّبِيعِيُّون.
هَذِهِ التَّحَوُّلَاتُ الْفِكْرِيَّة وَالْعَلَمِيَّة الْكُبْرَى فِي أُورُوبَّا خِلَال عَصْرِ التَّنْوِيرِ وَالْحَدَاثَة شَكَّلَتْ نَوَاة لِلنَّهْضَة الْفِكْرِيَّة وَالْعَلَمِيَّة الَّتِي إمْتَدَّتْ أثَارِهَا إلَى الْعَالِمِ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ.
فَقَدْ تَأَثَّر الْمُفَكِّرُون وَالْمُثْقَفون الْعَرَبُ بِهَذِهِ الْأَفْكَارِ وَالْمنَاهِج الْحَدِيثَةِ، وَسَعَوْا إِلَى نَقَلَهَا وَتَطْبِيقِهَا فِي وَاقَعهم. وَكَانَ مِنْ أَبْرَزِ دَعَاة النَّهْضَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي هَذَا الْمَجَالِ رِفَاعَة الطَّهطاوي وَ خيِّرَ الدَّيْن التُّونُسِيّ وَسلَيْم الْبُسْتَانِيّ وَغَيْرِهِمْ. وَيَرَى الْبَاحِثُونَ أَنَّ هَذِهِ النَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّة فِي الْعَالَمِ الْعَرَبِيِّ أَدَّتْ إلَى تَحَوُّلَات فَكَرْيَّة وَثَقَافِيَّة وَإجْتِمَاعِيَّة كُبْرَى، مِنْ أَهَمِّهَا:
. إِحْيَاءِ التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ وَالْإِسْلَامِيِّ وَتَحْقِيقُه وَدِرَاسَتِه بِطُرُق عِلْمِيَّة حَدِيثة.
. ظُهُور أَدَب عَرَبِيّ مُعَاصِر لِلْمَرَّةِ الْأُولَى مُنْذُ قُرُونٍ، مُتَأثَر بِالْأدَاب الْغَرْبِيَّة.
. إنْتِشَارُ الطِّبَاعَة وَالصَّحَافَة، وَظُهُورُ دُورِ النَّشْرِ وَالجَمْعِيَّات الثَّقَافِيَّة.
. إنْشَاء الْمَدَارِسِ وَالْجَامِعَاتِ الْحَدِيثَة وَالتَّوَسُّعِ فِي التَّعْلِيم.
. طَرْح قَضَايَا إصْلًاحِيَّة وَإجْتِمَاعِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّة جَدِيدَة، كَالْمُسَاوَاة وَالْحُرِّيَّة وَالدِّيمُقْرَاطِيَّة.
وَعَلَيْهِ، فَإِنْ النَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّة فِي أُورُوبَّا خِلَال عَصْرِ التَّنْوِيرِ وَالْحَدَاثَة كَانَ لَهَا أَثَرٌ بَالِغٌ فِي تَشْكِيلِ مَلَامِح الْحَدَاثَة الْفِكْرِيَّة فِي الْعَالَمِ الْعَرَبِيِّ خِلَال الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ. فَقَدْ تَبَنَى الْمُثَقَّفُون الْعَرَبِ الْكَثِيرُ مِنْ الْأَفْكَارِ وَالْمُنَاهِج الْغَرْبِيَّةِ الْحَدِيثَةِ، وَسَعَوْا إِلَى نَقَلَهَا وَتَطْبِيقِهَا فِي وَاقَعهم الِإجْتِمَاعِيِّ وَالثَّقَافِيّ وَالسِّيَاسِيّ. وَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ النَّهْضَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَمْ تَتَطَوَّرُ إلَى نَهْضَة شَامِلَة بِنَفْس قُوَّة النَّهْضَة الْأُورُوبِّيَّة، إلَّا أَنَّهَا أَحْدَثَتْ تَحَوُّلَات فَكَرِيَّة وَثَقَافِيَّة مُهِمَّةٌ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْعَرَبِيَّةِ أنَذَاكَ، مُمَهَّدَة الطَّرِيقِ نَحْوُ تَبَنِي مَفَاهِيم وَمُمَارَسَات الْحَدَاثَة الْغَرْبِيَّةِ فِي مَرَاحِلَ لَاحِقَة.

_ الْعَلَاقَةُ الْوَثِيقَة بَيْن النَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالثَّوْرَة الصِّنَاعِيَّة

النَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي شَهِدْتهَا أُورُوبَّا الْغَرْبِيَّةِ فِي الْقَرْنَيْنِ السَّادِسَ عَشَرَ وَالسَّابِعَ عَشَرَ كَانَ لَهَا تَأْثِيرٌ كَبِير وَحَاسم فِي قِيَامِ الثَّوْرَة الصِّنَاعِيَّة فِي الْقَرْنِ الثَّامِنِ عَشَر. فَقَبْل الثَّوْرَة الصِّنَاعِيَّة، كَانَتْ أُورُوبَّا الْغَرْبِيَّةِ تَعِيشُ فِي حَالَةِ رُكُود تَارِيخِيّ وَتَخَلَّف عِلْمِي، حَيْثُ كَانَ الِإعْتِمَادُ الأَسَاسِيّ عَلَى الْإِنْتَاجِ وَ الِإسْتِهْلَاك الزِّرَاعِيّ. وَ لَكِنْ مَعَ بِدَايَةِ الْقَرْنِ السَّادِسِ عَشَرَ، شَهِدَتْ هَذِهِ الْمِنْطَقَةُ نَهْضَةٌ عِلْمِيَّة شَامِلَة، تَنَوَّعَتْ فِيهَا الْأَبْحَاث وَالتَّجَارِب لِتَشْمَل مُخْتَلَف فُرُوعِ الْعِلْمِ كَالْفِيزْيَاء وَ الرِّيَاضِيَّات وَالْكِيمْيَاء وَالطِّبّ وَالْفُلْك وَغَيْرِهَا. هَذِهِ النَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ أَدَّتْ إلَى إكْتِشَافَات وَإخْتِرَاعات مُهِمَّةٌ، كَانَ لَهَا الْأَثَرُ الْمُبَاشِرُ فِي قِيَامِ الثَّوْرَة الصِّنَاعِيَّة. فَقَدْ سَاهَمَت هَذِه الِإكْتِشَافَات الْعِلْمِيَّةِ فِي تَطْوِيرِ التِّقْنِيَّات الْإِنْتَاجِيَّة، وَظُهُور الَآتٍ وَأَدَوَاتٍ جَدِيدَة مِثْلِ الْآلَةِ الْبُخَارِيَّة الَّتِي إخْتَرَعَهَا جِيمْس وَات James Watt كَمَا أَنَّ التَّطَوُّرُ الْعِلْمِيُّ وَ التِّكْنُولُوجِيّ فِي مَجَالَاتِ الْفِلِزَّات وَالْمَوَادّ الْخَام وَتَوْلِيد الطَّاقَة شَكْل الْقَاعِدَةِ الْمَادِّيَّةِ للثَّوْرَة الصِّنَاعِيَّة، حَيْثُ إنَّ إكْتِشَاف طُرُقٍ جَدِيدَةٍ لِصِهْر الْحَدِيد بِإسْتِخْدَام فَحمّ الْكوك، وَ تَطْوِيرِ مُحَرِّكَات بُخَارِيَّة قَوِيَّة وَفعَالَة، كَانَ لَهُ الْأَثَرُ الْحَاسِمُ فِي إحْدَاثِ التَّحَوُّل الصِّنَاعِيّ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ النَّهْضَةَ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي سَبَقَتْ الثَّوْرَة الصِّنَاعِيَّة زَوَّدَت هَذِهِ الْأَخِيرَةِ بِالأسس الْمَعْرِفِيَّة وَالتِّقْنِيَة اللَّازِمَة لِحُدُوثِهَا. فَالِإكْتِشَافَات وَ الِإخْتِرَاعَاتِ الْعِلْمِيَّة مَهَّدَتْ الطَّرِيقَ أَمَامَ التَّطَوُّرَات التِّكْنُولُوجِيَّة الَّتِي شَكَّلَتْ الْقُوَّة الْمُحَرِّكَة للثَّوْرَة الصِّنَاعِيَّة. وَ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، أَدَّى إخْتِرَاع الْمُحَرِّك الْبُخَارِي إِلَى ثَوْرَة صِنَاعِيَّة شَامِلَة أَسْهَمَت فِي زِيَادَةِ الْإِنْتَاج، وَتَرَاكُم رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنْشَاء الْمَصَانِع وَتَوْسِيع خُطُوطَهَا، وَإنْتِقَال الْفَلَّاحِينَ مِنْ قُرَاهُمْ إلَى الْمُدُنِ الَّتِي كَانَتْ مَصَانِعِهَا الْجَدِيدَة بِحَاجَةٍ إِلَى أَيْدِي عَامَلَة. وَ هَكَذَا كَانَ لِلنَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ الْأُورُوبِّيَّة فِي الْقَرْنَيْنِ السَّادِسَ عَشَرَ وَالسَّابِعَ عَشَرَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ فِي تَهْيِئَةِ الْبِيئَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِقِيَام الثَّوْرَة الصِّنَاعِيَّة فِي الْقَرْنِ الثَّامِنِ عَشَرَ. فَالتَّرَاكُم المَعْرِفِيّ وَالتَّطَوُّرِ التِّقَنِيِّ كَان الْبَذْرَة الَّتِي نَمْت وَ تَحَوَّلَتْ إلَى ثَوْرَة صِنَاعِيَّة هَزَّتْ أَرْكَانِ الْمُجْتَمَعِ الْأُورُوبِيِّ وَ غَيَّرَتْ مَلَامِح الْحَيَاة الِإقْتِصَادِيَّة وَالِإجْتِمَاعِيَّة وَالثَّقَافِيَّة فِي أُورُوبَّا بِشَكْل جِذْرِيّ.

_ عَصْرٍ التَّنْوِير و الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْحَدِيثَة

الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي أَفْرَزَهَا عَصْرِ التَّنْوِيرِ كَانَتْ مُتَعَدِّدَةً وَ شَمِلَتْ جَوَانِب هَامَّةٌ فِي الْفِكْرِ وَ الْمُمَارَسَة الْأَخْلَاقِيَّة. مِنْ أَهَمِّ إِنْجَازَات عَصْرِ التَّنْوِيرِ الْأُورُوبِّيّ تَحْقِيق ثَوْرَة جِذْرِيَّة فِي مَفْهُومِ وَفَلْسَفَة الْأَخْلَاق، وَ اَلَّتِي تَمَثَّلَتْ فِي تَأْسِيسِ الْأَخْلَاقِ عَلَى الْعَقْلِ وَ التَّجْرِبَة وَ تَحْرِيرُهَا مِنَ الْأَسَاسِ الدِّينِيّ السَّابِق فَقَدْ رَفَضَ التَّنْوِيرِيُّون الْأَسَاسِ الدِّينِيّ لِلْأَخْلَاق وَاَلَّذِي كَانَ سَائِدًا فِي الْعُصُورِ السَّابِقَةِ، وَآسْتَبْدَلوه بِأَسَاسِ عَقْلَانِيّ وَ تَجْرِيبِيّ. وَبِذَلِك أَصْبَحْت الْأَخْلَاق قَائِمَةً عَلَى الْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّة وَالعَقْلَانِيَّة بَدَلًا مِنْ الْوَحْيِ الدِّينِيِّ. مِنْ أَهَمِّ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي دَافِعٍ عَنْهَا عَصْرِ التَّنْوِيرِ هِيَ قِيَمُ الْفَرْدِيَّة وَالِإسْتِقْلَالِيَّة. فَقَدْ شَدَدْت قَيِّم التَّنْوِيرِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ إسْتِخْدَامِ الْعَقْلِ وَالْمَنْطِقِ فِي تَوْجِيهِ تَصَرُّفَات الْفَرْد، وَأَكَّدَتْ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الِإسْتِقْلَالِ الذَّاتِيِّ وَالْقُدْرَةُ عَلَى إتِّخَاذِ الْقَرَارَات بِنَفْسِهِ بِدُونِ الْخُضُوع لِسُلْطَة خَارِجِيَّة كَالْكَنِيسَة. وَ بِذَلِكَ إنْتَقَل التَّرْكِيز مِنْ الْجَمَاعَةِ وَالطَّاعَةِ لِلسُّلطَة الدِّينِيَّةِ إِلَى الْفَرْد وَالِإعْتِمَادُ عَلَى قُدُرَاتِه الْعَقْلِيَّة. كَمَا رَكَزَتْ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ لِلتَّنْوِير عَلَى مَفْهُومِ الْإِنْسَانِيَّة وَالعَقْلَانِيَّة، فَدَافَع التَّفْكِير التَّنْوِيري عَنْ قَيِّمِ مِثْل العَقْلَانِيَّة وَالْفَرْدِيَّة وَالْإِنْسَانِيَّة. فَالتَّنْوِير أَعْطَى لِلْإِنْسَان مَكَانَة مَرْكَزِيَّة وَقِيمَة ذَاتِيَّة مُسْتَقِلَّةً عَنْ اللَّهِ أَوْ الطَّبِيعَة، وَإعْتَبَر الْعَقْل الْأَدَاة الْأَسَاسِيَّة لِإِدْرَاك الْحَقِيقَة وَالتَّقَدُّم الْأَخْلَاقِيّ. مِنْ الْقَيِّمِ الْأَخْلَاقِيَّة الْبَارِزَةِ فِي عَصْرِ التَّنْوِيرِ أَيْضًا إنْتِشَار أَفْكَار الْعَدَالَةِ وَالْمُسَاوَاةِ وَالْحُرِّيَّة وَحُقُوقُ الْإِنْسَانِ. فَقَدْ أَدَّتْ أَفْكَار التَّنْوِيرِ إلَى تَقْيِيدِ الْحُكْمِ الْمُطْلَقِ وَتَأْسِيس الْمِلْكِيَّة الدُّسْتُورِيَّة مِمَّا عَزَّز مَبَادِئ الْعَدَالَةِ وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْبَشَر. كَمَا شَهِدَ عَصْرِ التَّنْوِيرِ تَحَوُّلًا فِي مَفْهُومِ تَنْظِيم الْعَلَاقَاتِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ، حَيْثُ حَلَّ الْقَانُون مَحَلّ الْأَخْلَاق الدَّيْنِيَّةِ فِي هَذَا الدَّوْرِ، وَ حَلَّتْ المُوَاطَنَة التَّعَاقُدِيَّة مَحَلّ الأُخُوَّةِ الإِيمَانِيَّةِ. وَ بِذَلِكَ أَصْبَحْت الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ مُنَظَّمَة بِمُوجِب قَوَانِين عَقْلَانِيَّة بَدَلًا مِنْ الْأَوَامِرِ الدِّينِيَّة. بِشَكْلٍ عَامٍّ، لَعِب عَصْرِ التَّنْوِيرِ دُورًا مُحَوَّريا فِي إحْدَاثِ تَحَوَّل جِذْرِيٍّ فِي الْأَخْلَاقِ الْغَرْبِيَّة، حَيْثُ إنْتَقَلَتْ مِنْ الْأَسَاسِ الدِّينِيّ إلَى الْأَسَاسِ الْعَقْلَانِيّ وَالتَّجْرِيبِيّ، وَمَنْ التَّرْكِيزِ عَلَى الْجَمَاعَةِ إلَى التَّرْكِيزِ عَلَى الْفَرْدِ وَحُقُوقِه، وَمِنْ الِإلْتِزَامِ بِالْأَوَامِر الدِّينِيَّةِ إِلَى الِإلْتِزَامِ بِالْقَوَانِين العَقْلَانِيَّة. وَ بِذَلِك شَكَّلَتْ هَذِهِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْجَدِيدَة أَسَاسًا لِتَطَوُّر الْفِكْر وَالْمُمَارَسَة الْأَخْلَاقِيَّة فِي الْغَرْبِ فِي الْعُصُورِ اللَّاحِقَة.

_ الْعَلَاقَاتُ البِنْيَوِيَّة بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي فَلْسَفَةِ الْحَدَاثَة

أَنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي فَلْسَفَةِ الْحَدَاثَة تَتَّسِم بِالتَّعَقُّيد وَالتَّشَابُك. فَقَدْ كَانَ هُنَاكَ مُحَاوَلَات مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ قِبَلِ فَلَاسِفَة الْحَدَاثَة لِتَأْسِيس بِنْيَّة عَلَاقَات مُتَمَاسِكَة بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَجَالِين الْمَعْرِفَيَّيْن، بِيَدِ أَنَّهَا كَانَتْ تَنْطَوِي عَلَى إشْكَالَيْات وَ نَقَاشَات جَدَلِيَّة لَمْ تُحْسَمْ بَعْد. يُعْتَبَرُ رِينِيهْ دِيكارت (1596-1650) أَحَدُ أَبْرَز فَلَاسِفَة الْحَدَاثَة الَّذِين طَرَحُوا مُقَارَبَة مُحَدَّدَةٍ لِهَذِهِ الْعَلَاقَةِ. فَقَدْ قَامَ دِيكًارت بِفَصْلِ الْعِلْم وَ الرِّيَاضِيَّات عَنْ الْأَخْلَاقِ وَالْمَيِّتُافِيزِيقَا، مُعْتَبَرًا أَنْ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ لَدَيْهِ قُدْرَةً عَلَى إِنْتَاجِ مَعْرِفَة عِلْمِيَّة مَوْضُوعِيَّة قَائِمَةً عَلَى الْبُرْهَانِ وَالضَّرُورَة الرِّيَاضِيَّة. وَ قَدْ إرْتَبَطَتْ هَذِهِ الْمُقَارَبَةِ الدِّيكَارَتيَّة بِمَفْهُومِ الذَّات الْمُفَكِّرَة وَالْمَوْجُودَة بِشَكْل مُسْتَقِلٌّ عَنْ الْعَالِمِ الْمَادِّيِّ. فَالْفَصْلُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ عِنْد دِيكًارت أَنْتَجَ صُورَة لِلْعَالِم الطَّبِيعِيّ بِإعْتِبَارِه مُجَرَّدُ آلَةٍ خَاضِعَة لِلْقَوَانِين الْمِيكَانِيكِيَّة، بَيْنَمَا الذَّات الْفَاعِلَةِ هِيَ الرُّوحُ الْمُفَكِّرَة وَ بِالتَّالِي، فَقَدْ حَصَلَ الْفَصْلُ بَيْنَ حَقْل الْأَخْلَاق وَالسُّلُوك الْإِنْسَانِيِّ مِنْ جِهَةِ، وَحَقْل الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالرِّيَاضِيَّات مِنْ جِهَةِ أُخْرَى. فَأَصْبَحَ الْعِلْمُ مُوَجِّهًا نَحْو التَّفْسِير الْمَيكانِيكِيّ لِلطَّبِيعَة، بَيْنَمَا الْأَخْلَاق تُحَدِّدُهَا الْمِيتَافِيزِيقَا وَ صِفَاتُ الذَّاتِ الْمُفَكِّرَة. فِيمَا بَعْدَ جَاءَ الْفَيْلَسُوف إيمَانْوِيل كَانَط (1724-1804) لِيُقَدِّمَ تَصَوُّرًا أَكْثَر تَكَاملا لِعَلَاقَةِ الْعِلْم بِالْأَخْلَاق فِي فَلْسَفَةِ الْحَدَاثَة. فَقَدْ رَفَضَ كَانَط الِإنْفِصَالُ الدِّيكَارتي بَيْنَ الذَّاتِ الْمُفَكِّرَة وَالْعَالِم الْمَادِّيّ، مُعْتَبَرًا أَنْ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ يُسَاهِمُ فِي بِنَاءِ مَعْرِفَتِنَا عَنْ الْعَالِمِ الْخَارِجِيّ. وَ بِالتَّالِي فَإِنَّ مَعْرِفَتِنَا الْعِلْمِيَّةِ لَا تَعْكِس الْوَاقِع الْخَارِجِيّ بِشَكْل مُطْلَقٍ، بَلْ هِيَ نِتَاجُ تَفَاعُلٌ بَيْنَ الذَّاتِ الْمُدْرَكَة وَالْمَوْضُوع الْمُدْرَك. وَ هَذَا يَعْنِي أَنَّ الذَّاتَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مُرَاقِب مَحَايد، بَلْ لَهَا دَوْرٌ فُعَالٌ فِي إنْتَاجِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة. فِي الْمُقَابِلِ، يَرَى كَانَط إنْ الْأَخْلَاق تَنْطَلِقُ مِنَ مَبَادِئ عَقْلِيَّة كُلِّيَّة وَضَرُورِيَّة، وَلَيْسَتْ مُجَرَّدَ إنْعِكَاس لِلرَّغَبَات الشَّخْصِيَّةُ أَوْ الْعَادَات الِإجْتِمَاعِيَّة. فَهُنَاك قَوَانِين أَخْلَاقِيَّة عَامَّة وَمَوْضُوعِيَّة تَحَكُّم السُّلُوكِ الْإِنْسَانِيِّ، وَ تَرْتَبِط بِصِفَات الْإِرَادَة الْحُرَّة وَالْعَقْل الْعَمَلِيّ لِلذَّات. وَ بِالتَّالِي، فَإِنَّ كَانَط حَاوَلَ تَأْسِيس عَلَاقَةٌ عُضْوِيَّةٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاق، عَلَى أَسَاسِ أَنَّ كِلَيْهِمَا يَنْبُعُ مِنْ القُدُرَات الْعَقْلِيَّة لِلْإِنْسَان. فَالْعِلْم يَسْتَنِدُ إلَى الْعَقْلِ النَّظَرِيّ فِي إدْرَاكِ الْعَالِم الطَّبِيعِيّ، بَيْنَمَا الْأَخْلَاق تَسْتَنِدُ إلَى الْعَقْلِ الْعَمَلِيُّ فِي تَحْدِيدِ الْقَوَانِين الْأَخْلَاقِيَّة. فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، جَاء الْفَيْلَسُوفُ الْأَلْمَانِيُّ يُورَغن هَابَرْمَاس (1929-) لِيُعِيدَ طَرْح إشْكَالِيَّة الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي سِيَاقِ فَلْسَفَة مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ. فَقَدْ إنْتَقَدَ هَابَرْمَاس النَّزَعَةِ الَّتِقنوقْرَاطِيَّة الَّتِي سَادَتْ فِي الْعُلُومِ الْحَدِيثَةِ، وَاَلَّتِي فُصِّلَتْ الْعِلْمِ عَنْ الْإِبْعَاد الْأَخْلَاقِيَّة وَ الِإجْتِمَاعِيَّة. وَ يَرَى هَابَرْمَاس إنْ الْعِلْمِ الْحَدِيثَ إكْتَسَب طَابَعًا أَدَاتيا وَتَقَنيا، بِحَيْثُ أَصْبَحَ مُوَجِّهًا نَحْو السَّيْطَرَة وَالتَّحَكُّمُ فِي الطَّبِيعَةِ وَالْمُجْتَمَع، وَلَيْسَ نَحْوُ تَحْقِيقِ الْفَهْمِ وَالتَّوَاصُلِ بَيْنَ الْبَشَرِ. وَهَذَا مَا أَدَّى إلَى تَقْلِيصِ دَوْرِ الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ فِي تَوْجِيهِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة. وَلِذَلِكَ، دَعَا هَابَرْمَاس إلَى إعَادَةِ رَبَط الْعِلْم بِالْأَخْلَاقِ مِنْ خِلَالِ مَا أَسْمَاهُ "أَخْلَاقِيَّات الْمحاجاة". فَهُنَاكَ حَاجَةَ إلَى إنْشَاءِ مَجَال عَامّ لِلتَّفَاعُل والْحِوَار بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْجِهَات الْفَاعِلَة (الْعُلَمَاء وَ الْمَوَّاطِنِين وَالسِّيَاسِيِّين)، بِهَدَفِ إِخْضَاع الْعِلْم لِنَقْاش دِيمُوقْرَاطِيّ وَأَخْلَاقِيّ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ هَابَرْمَاس حَاوَلَ إنْشَاءَ مَشْرُوع أَخْلَاقِيّ كُونِي يَقُومُ عَلَى إشْرَاك الْجَمِيعِ فِي تَقْيِيمِ وَ تَوْجِيه الْعَمَلِيَّة الْعِلْمِيَّة، بِمَا يَضْمَنُ إحْتِرَام الْحُقُوقِ وَالْحُرِّيَّاتِ الأَسَاسِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ. وَهَذَا يَعْنِي إعَادَة النَّظَرُ فِي الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق عَلَى أُسُسٍ دِيمُوقْرَاطِيَّة وَتَوَاصُلِيَّة. يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ فَلَاسِفَة الْحَدَاثَة قَدْ طَرَحُوا رُؤَى مُتَبَايِنَة حَوْل الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق. فَبَيْنَمَا سَعَى دِيكارت إلَى فَصْلُهُمَا، حَاوَل كَانَط وَهَابرماس إقَامَةُ عَلَاقَةٌ عُضْوِيَّةٌ بَيْنَهُمَا، إنْطِلَاقًا مِنْ إعْتِبَارِ أَنَّ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ هُوَ الْمَصْدَرُ الْمُشْتَرَك لِلْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة. وَبِذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمُنَاقَشَاتِ الْفَلْسَفِيَّةِ لَا تَزَالُ تُثِير جَدَلًا وَاسِعًا حَوْل كَيْفِيَّة ضَبْط الْمُمَارَسَة الْعِلْمِيَّة بِمَعْايِير أَخْلَاقِيَّة وَدِيموقرَاطِيَّة.

_ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق فِي الْفِكْرِ الحَدَاثِي الْمُعَاصِر :

لَقَدْ تَطَرَّق الْفِكْر الحَدَاثِي الْمُعَاصِر إِلَى عَلَاقَةِ الْعِلْم بِالْأَخْلَاقِ مِنْ خِلَالِ عِدَّةِ نَظَرِيَّات وَمُقَارَبَات هَامَة:
. نَظَرِيَّة الْعَلْمَنَّة (Secularization Theory)
مِنْ أَبْرَزِ النَّظَرِيَّاتِ الَّتِي تَنَاوَلَتْ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ نَظَرِيَّة الْعَلِمَنَّة، وَاَلَّتِي تَفْتَرَض أَنْ التَّحْدِيث وَالْعَلْمَنَة سَيُؤيَان إلَى تَرَاجُعِ دَوْرَ الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ التَّقْلِيدِيَّة فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُعَاصِر. وَفْقَ هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ، فَإِنَّ التَّقَدُّمَ الْعِلْمِيَّ وَالتِّكْنُولُوجِيّ يَفْتَرَض أَنْ التَّحْدِيث وَالْعَلْمَنَة سَيُؤدِيَان إلَى تَرَاجُعِ دَوْرَ الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ التَّقْلِيدِيَّة فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُعَاصِر. وَفْقَ هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ، فَإِنَّ التَّقَدُّمَ الْعِلْمِيَّ وَالتِّكْنُولُوجِيّ سَيَقُودُ إِلَى هَيْمَنَة العَقْلَانِيَّة وَ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة عَلَى حِسَابِ السُّلْطَة وَالنُّفُوذ التَّقْلِيدِيّ لِلدَّيْن وَالْأَخْلَاق. وَقَدِ إنْتَقَدَ بَعْضُ الْمُفَكِّرِين هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ بِإعْتِبَارِهَا تَبَسَّيطيَّةِ وَتَجَاهَلَ الدَّوْر الْمُتَنَامِي لِلْأُصُولِيَّة الدِّينِيَّةُ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيث.
. نَظَرِيَّة الْحَدَاثَة الْمُتَأَخِّرَةِ (Late Modernity Theory)
فِي الْمُقَابِلِ، جَاءَتْ نَظَرِيَّة الْحَدَاثَة الْمُتَأَخِّرَة لِتُؤَكِّدَ عَلَى تَوَاصُل الدَّوْرُ الْهَامُّ لِلْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْحَدِيثَة، بَلْ وَ عَلَى ضَرُورَة إعَادَة تَأْسِيس التَّرْبِيَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ فِي ظِلِّ التَّغَيُّرَات الِإجْتِمَاعِيَّة وَالتِّقْنِيَة المُتَسَارِعَة. وَقَدْ بَرَزَ هَذَا التَّوَجُّهِ فِي أَعْمَالِ عَدَدٍ مِنْ الْمُفَكِّرِين الْبَارِزَيْن مِثْل أنْتَوني غَيْدَنز Anthony Giddens, وَ أَوْلِيَفِرّ رُوِي Olivier Roy.
. مُقَارَبَة مَاكَس فَيَبَرّ (Max Weber)
كَمَا تَنَاوَلَ مَاكَس فَيَبَرُّ فِي نَظَرِيَّتِهِ الشَّهِيرَة "نَزَع السِّحْرِ عَنْ الْعَالِمِ" (Disenchantment of the World) عَلَاقَة الْعِلْم بِالْأَخْلَاق، مُؤَكَّدًا عَلَى أَنَّ التَّحْدِيث وَالْعَقْلنة سَيُؤَدِّي إِلَى تَرَاجُعِ الْأَخْلَاق التَّقْلِيدِيَّة الْقَائِمَةِ عَلَى الدَّيْنِ وَالتَّقَالِيد، وَظُهُور أَخْلَاقِيَّات جَدِيدَةٍ قَائِمَةٍ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْفَرْدِيَّةِ وَالعَقْلَانِيَّة الْوَسَائِليَّة. وَإنْتَقَدَ فَيَبَرّ هَذَا التَّطَوُّرُ بِإعْتِبَارِه يُهَدَّد بِتَقْويض الْأُسُسِ الْأَخْلَاقِيَّة لِلْمُجْتَمَع.
. نَظَرِيَّة الْأَخْلَاق التَّوَاصُلِيَّة (Communicative Ethics)
وَفِي السِّيَاقِ ذَاتِه، جَاءَتْ نَظَرِيَّة الْأَخْلَاق التَّوَاصُلِيَّة لَهَابْرْمَاسْ Habermas كَمُحْاوَّلة لِإِعَادَةِ تَأْسِيس الْأَخْلَاقِ عَلَى أُسُسٍ عَقْلَانِيَّة جَدِيدَة تَتَجَاوَز الْأَخْلَاق التَّقْلِيدِيَّة. وَتُؤَكِّد هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ عَلَى ضَرُورَةِ تَأْسِيس أَخْلَاق قَائِمَةً عَلَى الْحِوَار وَ التَّفَاهُم الْمُتَبَادَل بَيْنَ الْأَفْرَادِ، بِمَا يَكْفُلُ التَّوَافُق الْأَخْلَاقِيَّ فِي ظِلِّ التَّعَدُّدِيَّة وَالِإخْتِلَافُ
. النَّقْد الْأَخْلَاقِيّ لِلْعِلْمِ (Ethical Critique of Science)
إِلَى جَانِبِ ذَلِكَ، بَرَزَ فِي الْفِكْرِ الحَدَاثِي الْمُعَاصِر إتِّجَاه يَنْتَقِدْ الْحِيَاد الْأَخْلَاقِيّ لِلْعِلْم، وَيُطَالَب بِضَرُورَةِ رَبْطِ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ بِالْقِيَم الْأَخْلَاقِيَّة. وَيُمَثِّل هَذَا الِإتِّجَاهَ مُحَاوَلَات فَلَاسِفَة الْعِلْمِ مِثْلُ مِايكل بَوْلاَنِيّ Polányi Mihály وَ بَوْلُ فَايرابند Paul Feyerabend وَ النَّقْدُ الْأَخْلَاقِيّ لِلْعُلُومِ الَّتِي قَامَ بِهَا عَدَدُ مَنْ الْمُفَكِّرِين البِيئِيِّيْن وَالْأَفْيُميونيَيْن.
لَقَدْ تَنَوَّعَتْ النَّظَرِيَّات وَالْمَقَارَبَات الْحَدَاثيَّة الْمُعَاصَرَةُ فِي تَحْلِيلِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق، مَا بَيْنَ التَّشْكِيكِ فِي إِمْكَانِيَّة الْحُفَّاظُ عَلَى الْأَخْلَاقِ التَّقْلِيدِيَّة فِي ظِلِّ التَّحْدِيث الْعِلْمِيّ وَالتِّكْنُولُوجِيّ، وَمُحَاوَلَاتُ إعَادَة بِنَاء أَخْلَاقِيَّات جَدِيدَةٍ تَتَنَاسَبُ مَعَ طَبِيعَةِ الْمُجْتَمَعَات الْمُعَاصِرَة. وَظَلَّتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مَحَلَّ جَدَلٍ وَنَقَاش وَاسِع بَيْن الْمُفَكِّرِين وَالْفَلَاسِفَة فِي الْفِكْرِ الحَدَاثِي الْمُعَاصِر.

_ الْأثَار السَّلْبِيَّة لِلْحَدَاثَة عَلَى الْأَخْلَاق؟

أَبْرَز النَّظَرِيَّاتِ الَّتِي تَنَاوَلَتْ أثَار الْحَدَاثَة السَّلْبِيَّةِ عَلَى الْأَخْلَاقِ فِي الْفِكْرِ الْمُعَاصِرِ هِي:
. نَظَرِيَّة الْعَلِمَنَّة (Secularization Theory)
هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ تَفْتَرَض إنْ تَقَدَّمَ الْعِلْمُ وَالتِّكْنُولُوجْيَا فِي الْحَدَاثَة سَيُؤَدِّي إِلَى تَرَاجُعِ دَوْرَ الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ التَّقْلِيدِيَّة فِي الْمُجْتَمَعِ، مِمَّا يُؤَدِّي إلَى هَيْمَنَة العَقْلَانِيَّة وَالْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة عَلَى حِسَابِ السُّلْطَة الْأَخْلَاقِيَّة وَالدِّينِيَّة. هَذَا يُهَدَّد بِتَقْويض الْأُسُسِ الْأَخْلَاقِيَّة لِلْمُجْتَمَع.
. نَظَرِيَّة الْحَدَاثَة الْمُتَأَخِّرَة (Late Modernity Theory)
هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ تُؤَكِّدُ أَنَّ الدُّورَ الْهَام لِلْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ لَا يَزَالُ مُسْتَمِرًّا فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْحَدِيثَة، وَتَدْعُو إِلَى إِعَادَةِ تَأْسِيس التَّرْبِيَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ فِي ظِلِّ التَّغَيُّرَات الِإجْتِمَاعِيَّة وَالتِّقْنِيَة.
. نَقْد مَاكَس فَيَبَرّ (Max Weber)
مَاكَس فَيبَرّ إنْتَقَد كَيْفَ أَنَّ التَّحْدِيث وَالْعَقْلُنَة سَيُؤَدِّي إِلَى تَرَاجُعِ الْأَخْلَاق التَّقْلِيدِيَّة الْقَائِمَةِ عَلَى الدَّيْنِ وَالتَّقَالِيد، وَظُهُور أَخْلَاقِيَّات جَدِيدَةٍ قَائِمَةٍ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْفَرْدِيَّةِ وَالعَقْلَانِيَّة الْوَسَائِليَّة. وَهَذَا يُهَدَّد بِتَقْويض الْأُسُسِ الْأَخْلَاقِيَّة لِلْمُجْتَمَع.
. النَّقْد الْأَخْلَاقِيّ لِلْعِلْم Ethical Critique of Science
بَرَز إتِّجَاه يَنْتَقِدْ الْحِيَاد الْأَخْلَاقِيّ لِلْعِلْم، وَيُطَالَب بِرَبْط الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ بِالْقِيَم الْأَخْلَاقِيَّة. هَذَا يُمَثِّلُ مُحَاوَلَات فَلَاسِفَة الْعِلْمِ مِثْلُ مِائَكل بَوْلاَنِيّ وَبَوْلُ فَايرابند لِلنَّقْدِ الْأَخْلَاقِيّ لِلْعُلُوم.
بِشَكْلٍ عَامٍّ، تَنَوَّعَتْ النَّظَرِيَّات فِي تَحْلِيلِ أَثَر الْحَدَاثَة السَّلْبِيِّ عَلَى الْأَخْلَاقِ، مَا بَيْنَ التَّشْكِيكِ فِي إِمْكَانِيَّة الْحُفَّاظُ عَلَى الْأَخْلَاقِ التَّقْلِيدِيَّة فِي ظِلِّ التَّحْدِيث، وَجْهود إعَادَةُ بِنَاء أَخْلَاقِيَّات جَدِيدَةٍ تَتَنَاسَبُ مَعَ الْوَاقِعِ الْمُعَاصِر. وَبَرَز النَّقْد الْأَخْلَاقِيّ لِلْعِلْم وَالتَّطَوُّرِ التِّقَنِيِّ كَأَحَد أَهَمّ تَدَاعَيَات الْحَدَاثَةِ عَلَى الْمَنْظُومَة الْأَخْلَاقِيَّة.

_ كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْحَدَاثَة أنْ تُؤَثِّرُ عَلَى فَهِمْنَا لِلْأَخْلَاقِ فِي ظل التَّعَاطِي مَع الْعِلْم وَمُمَارَسَتِه


الْحَدَاثَة لَهَا تَأْثِيرٌ كَبِيرٌ عَلَى فَهِمْنَا لِلْأَخْلَاقِ فِي مُمَارَسَةِ الْعِلْمَ. هُنَاكَ عِدَّةِ طُرُقٍ يُمْكِنُ أَنْ تُؤَثِّرَ بِهَا الْحَدَاثَةَ عَلَى هَذَا الْمَجَال:
. تَغْيِير دُور الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْحَدِيثِ : فِي عَصْرِ الْحَدَاثَة، إرْتَفَع دُور الْعِلْم وَالنَّزْعَة العَقْلَانِيَّة بِشَكْلٍ كَبِيرٍ فِي الْمُجْتَمَعِ. حَيْثُ أَصْبَحَ الْعِلْمِ هُوَ الْمَصْدَرُ الشَّرْعِيّ لِلْحَقِيقَة وَ الْمَعْرِفَة، بَدَلًا مِنْ الدَّيْنِ وَالْمُعْتَقَدَات التَّقْلِيدِيَّة. وَأَصْبَحَتْ العَقْلَانِيَّة وَالْمَوْضُوعِيَّة الْعِلْمِيَّة هُمَا الْمِعْيَار لِلْحُكْمِ عَلَى الْأُمُورِ بَدَلًا مِنْ الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ الدِّينِيَّةِ. هَذَا التَّغْيِيرِ فِي دُورِ الْعِلْمِ وَ الْعَقْلِ أَدَّى إلَى إضْعَاف دُور الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ الدِّينِيَّةِ فِي صِنَاعَةٍ الْقَرَار الْعِلْمِيّ. فَأَصْبَح الْبَاحِث الْعِلْمِيّ أَكْثَر إنْشِغَالَا بِالْحَقَائِق وَالْبَيَانَات التَّجْرِيبِيَّة، وَأَقَلّ إهْتِمَامًا بِالْآثَار الْأَخْلَاقِيَّةُ وَالِإجْتِمَاعِيَّةُ لِبُحُوثِه وَتَطْبِيقِاتِهَا
. الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الْعِلْمِيَّة وَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة : أَدَّى الِإنْفِصَالِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الْعِلْمِيَّة وَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة إِلَى بُرُوزِ مُشْكِلَات أَخْلَاقِيَّة فِي مُمَارَسَةِ الْعِلْم. فَالْحدَاثَة نَادَتْ بِفَصْل الْحَقِيقَة الْعِلْمِيَّة عَنْ النَّظَّامِ الْأَخْلَاقِيّ وَالدِّينِيّ السَّائِد، وَإعْتِبَار الْعِلْم مَجَالًا قَائِمًا بِذَاتِهِ لَهُ مَعَايِيرِه الْخَاصَّةِ. وَ هَذَا أَدَّى إلَى ظُهُورِ قَضَايَا أَخْلَاقِيَّة شَائِكَة فِي الْعُلُومِ، كَالتِّجَارِب عَلَى الْكَائِنَاتِ الْحَيَّةِ، وَإسْتِخْدَامِ التِّكْنُولُوجْيَا فِي التَّحَكُّمِ الْبَيُولُوجِيّ بِالْإِنْسَان، وَالْبُحُوث الْعَسْكَرِيَّة ذَات الْأثَار الْمُدَمِّرَة. فَالْعُلَمَاء أَصْبَحُوا قَادِرِينَ عَلَى إجْرَاءِ بُحُوث وَتَجَارِب دُونَ الِإلْتِزَامِ بِالْأَطْر الْأَخْلَاقِيَّة التَّقْلِيدِيَّة
. الِإنْغِمَاسِ فِي النَّزْعَةَ الْمَادِّيَّةَ وَالْفَائِدَة التَّطْبِيقِيَّة : أَدَّتْ الْحَدَاثَة إلَى سَيْطَرَة النَّزْعَةَ الْمَادِّيَّةَ وَالنَّفْعِيَّة عَلَى مُمَارَسَةِ الْعِلْمِ. حَيْثُ أَصْبَحَتْ الْغَايَةِ مِنْ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ هِيَ تَحْقِيقٌ الْمَنْفَعَة الْمَادِّيَّة وَالتَّطْبِيقَات التِّكْنُولُوجِيَّة الْعَمَلِيَّة، بَدَلًا مِنْ الْبَحْثِ عَنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْحَقِيقَةِ لِذَاتِهَا. وَهَذَا أَدَّى إلَى إهْمَالِ الْأبْعَاد الْقِيَمِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة لِلْعِلْم، وَالتَّرْكِيزِ عَلَى الْفَائِدَةِ الْمُبَاشَرَة وَالْأَرْبَاح الْمَادِّيَّة. فَأَصْبَح الْعُلَمَاء أَكْثَر إنْشِغَالَا بِالْعَوَائِد التِّجَارِيَّة وَالصِّنَاعِيَّة لِبُحُوثِهِمْ، وَأَقَلّ إهْتِمَامًا بِالْأثَار الِإجْتِمَاعِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة الْمُتَرَتِّبَة عَلَيْهَا.
. الِإنْتِقَالِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ إِلَى السُّلْطَةِ وَ الهَيْمَنَة : إرْتَبَطَتْ الْحَدَاثَة بِتَنَامي دُورٌ الدَّوْلَة وَالسُّلْطَة السِّيَاسِيَّةِ فِي إدَارَةِ الْعِلْم وَ التِّكْنُولُوجْيَا. فَأَصْبَحَ العِلْمُ وَسِيلَة لِلسَّيْطَرَة وَالهَيْمَنَة عَلَى الطَّبِيعَةِ وَ الْمُجْتَمَع، بَدَلًا مِنْ وَسِيلَة لِلْوُصُولِ إلَى الْحَقِيقَةِ وَ الْمَعْرِفَة. هَذَا الرَّبْطَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالسُّلْطَة أَدَّى إلَى تَبَنِي أَجْنَدات سِيَاسِيَّة وَأَيْديولُوجِيَّة فِي الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ، عَلَى حِسَابِ الِإعْتِبَارَات الْأَخْلَاقِيَّة وَالْقِيمَيَّة. فَأَصْبَحَ الْعُلَمَاء أَكْثَر إنْصِيَاعًا لِمُتَطَلَبَات السُّلْطَةَ وَالمُؤَسَّسَات الْقَوِيَّة، وَأَقَلّ حُرِّيَّةٍ فِي مُمَارَسَةِ نَقْد أَخْلَاقِيّ لِبُحُوثِهِمْ وَتَطْبِيقِاتِهَا.
وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْحَدَاثَة قَدْ أَثَّرَتْ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ عَلَى فَهِمْنَا لِلْأَخْلَاقِ فِي مُمَارَسَةِ الْعِلْمِ، مِنْ خِلَالِ تَغْيِير دُور الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الْعِلْمِيَّة وَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة، وَالِإنْغِمَاسِ فِي النَّزْعَةَ الْمَادِّيَّةَ وَالْفَائِدَة التَّطْبِيقِيَّة، وَالِإنْتِقَالُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ إِلَى السُّلْطَةِ وَالهَيْمَنَة. وَهَذَا يَسْتَدْعِي إعَادَةَ النَّظَرُ فِي الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي ظِلِّ تَحَدِّيَات الْحَدَاثَة

_ تَسَاوَق الْعِلْم وَالْحَدَاثَة

الْحَدَاثَة وَثِيقَة الصِّلَة بِالثَّوْرة الْعِلْمِيَّةِ وَالتِّقْنِيَة الْهَائِلَةِ الَّتِي شَهِدَهَا الْغَرْبِ، حَيْثُ غَيَّرَتْ هَذِهِ الثَّوْرَةِ جِذْرِيًّا نِظَام الْمَعَارِف وَ حَوَّرت وَقُلِبَتْ الْوَضْع الْإِنْسَانِيِّ بِمَا وَفْرَتِه مِنْ أَدَوَاتِ تَحكُّم وَ تسَيطر عَلَى الْوَسَطِ الطَّبِيعِيّ. تَرْتَبِط الْحَدَاثَة بِالنَّمُوذَج الرِّيَاضِيّ التَّجْرِيبِيِّ الَّذِي أَعَادَ بِنَاءَ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ عَلَى مِعْيَارٍ الْقَابِلِيَّة لِلتَّحَقُّق التَّجْرِيبِيّ، وَإعْتِبَار الطَّبِيعَةُ مِنْ هَذَا الْمَنْظُورِ مَخْزُون طَاقَة يَسْتَغِلّ لِتَكُريس سَيْطَرَةَ الْإِنْسَانِ. لِذَلِكَ فَإِنْ الْحَدَاثَة حوِّلَتْ الْمَعْرِفَة إلَى وَظِيفَةٍ نَفْعِيَّة أَدَاتيَّة لَيْسَتْ فِي ذَاتِهَا مَقُولَة عِلْمِيَّة، وَإِنَّمَا مُصَادَرَة مِيتَافِيزِيقِيَّة يَقْتَضِيهَا مِعْيَار "الْيَقِين الْعِلْمِيّ". وَبِالتَّالِي فَإِنَّ ظُهُورَ الْحَدَاثَة إرْتَبَط بِالثَّوْرة الْعِلْمِيَّةِ وَالتِّقْنِيَة الَّتِي أُحْدِثَتْ تَغْيِيرَات جِذْرِيَّة فِي نَظَرة الْإِنْسَان لِلْعَالِم وَالطَّبِيعَة. فَعلم الرِّيَاضِيَّات وَالفِيزْيَاء وَ الْكِيمْيَاء أَصْبَحْت الْمَعَايِير الْحَاكِمَة لِفَهْم الْوَاقِع وَالتَّعَامُلِ مَعَهُ، بِحَيْثُ أَصْبَحَ الْعَقْلِ الْإِنْسَانِيِّ قَادِرًا عَلَى السَّيْطَرَة وَالتَّحَكُّمُ فِي الطَّبِيعَةِ وَإسْتِغْلَال مَوَارِدِهَا. وَهَذَا مَا أَثَّرَ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ فِي تَشْكِيلِ مَلَامِح الْحَدَاثَة وَأَسَّس التَّطَوُّرِ المَادِّيِّ وَالتِّقْنِيّ لِلْمُجْتَمَعَات الْغَرْبِيَّة. وَ لَمْ تَقْتَصِرْ الْحَدَاثَةَ عَلَى الْمَجَالِ الْعِلْمِيِّ وَالتِّقْنِيِّ فَحَسْبُ، بَلْ شَمِلَتْ أَيْضًا الْجَوَانِب الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَ السِّيَاسِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّة. فَظَهَرَتْ الدَّوْلَةِ الْمَدَنِيَّةِ الْحَدِيثَة بِنَظْمِهَا الْمُؤَسَّسَيَّةِ وَعَقْلَانِيَتُهُا الْبِيرُوقْرَاطِيَّة وَشَرْعِيَّتُهَا الْمُجْتَمَعِيَّة، فِي مُقَابِلِ الدَّوْلَة الِإسْتِبْدَادِيَّة الْفَرْدِيَّة. كَمَا شَكَّلَتْ الْقِيَمِ وَ الْمُثُلِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي أَعْلَنَتْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ وَحُرِّيَّتِهِ الذَّاتِيَّة الْقَاعِدَة الْفِكْرِيَّة وَالْإِيدَيُولُوجِيَّة لِمسْار الْحَدَاثَة. وَبِالتَّالِي فَإِنَّ الْحَدَاثَة كَانَتْ تَمَثَّل إنْتِصَار الْعَقْل وَإِحْلَال الْعِلْم مَحَلّ اللَّاهُوت الْمَسِيحِيّ دَاخِل الْمُجْتَمَعَاتِ الْغَرْبِيَّةِ. وَتَجِسدت الْحَدَاثَةِ فِي نَشْرِ مُنْتَجَات الْفعَالِيَة العَقْلَانِيَّة وَالْعَلَمِيَّة وَ التِّكْنُولُوجِيَّة وَالإِدَارِيَّة دَاخِل الْمُجْتَمَع، مِمَّا أَدَّى إلَى تَحْرِيرِ الْإِنْسَانِ مِنْ السُّلُطَات التَّقْلِيدِيَّة وَالدِّينِيَّة وَتَأْكِيد مَبْدَأ إسْتِقْلَالِيَّة الْعَقْل الْفَاعِل تُجَاه التَّجَارِب وَالْإِنْجَازَات السَّابِقَةِ فِي كُلِّ الْمَجَالَات. وَ مَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ تَعَرَّضْت الْحَدَاثَة وَأَمَالِيهَا إلَى إنْتِقَادَات وَشُكُوكٌ بَعْد الْحَرْبِيِّن الْعَالَمِيِّتَيْن، إذْ بَرَزَتْ الشُّكُوك حَوْل سِيَادَة عَقَل التَّنْوِير الْمُطْلَقَةِ الَّتِي سَادَتْ حَتَّى ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَظَهَرَتْ حَرَكَات فَكَرْيَّة وَفَنِّيَّة كَالسُّورَيَالِيَّة وَ الوُجُودِيَّة ثَارَتْ عَلَى العَقْلَانِيَّة الْوَضْعِيَّة وَالتِّكْنُولُوجِيَّة، مُعَرَّبَة عَنْ خَيْبَة أَمَل عَمِيقَة مِنْ نَتَائِجِ الْحَدَاثَة الْمُدَمِّرَة. وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذِهِ الِإنْتِقَادَات وَالشُّكُوك، لَا يُمْكِنُ إنْكَارٍ إنْ الْحَدَاثَة قَدْ أَحْدَثْتَ تَغْيِيرَات جِذْرِيَّة فِي بُنْيَّة الْمُجْتَمَعَاتِ الْغَرْبِيَّةِ عَلَى الصَّعد الْمُخْتَلِفَةِ، لَا سِيَّمَا فِي مَجَالِ الْعِلْمِ وَالتِّقْنِيَة. فَالْعُلُوم الطَّبِيعِيَّة وَالتَّجْرِيبِيَّة وَالرِّيَاضِيَّات شَكَّلَتْ الْأَسَاس الْمَنْهَجِيّ وَ الْمَعْرُفِيّ لِلْحَدَاثة، وَأَدَّتْ إلَى تَطَوُّر هَائِل فِي قُدُرَاتِ الْإِنْسَانِ عَلَى السَّيْطَرَةَ عَلَى الطَّبِيعَةِ وَتَوْجِيهُهَا نَحْو أَهْدَافِه. وَبِالتَّالِي فَإِنَّ تَسَاوَق الْحَدَاثَة مَعَ الْعِلْمِ وَالتِّقْنِيَة كَانَ بِمَثَابَةِ الْمُحَرِّكُ الْأَسَاسِيُّ لِعَمَلِيَّات التَّطَوُّر وَالتَّقَدُّم الَّتِي شَهِدْتُهَا الْمُجْتَمَعَاتِ الْغَرْبِيَّةِ فِي عَصْرِ الْحَدَاثَة. وَ مَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ أَدَّى هَذَا التَّسَاوُق إِلَى مَشَاكِلَ وَأثَار سَلْبِيَّة، كَمَا أَشَرْنَا إلَى ذَلِكَ سَابِقًا. فَالتَّرْكُيز الْمُفَرِّطُ عَلَى العَقْلَانِيَّة وَالْعِلْم وَالتِّقْنِيَة أَهْمَل الْجَوَانِبَ الْإِنْسَانِيَّةَ وَالرُّوحِيَّة، وَأَدَّى إلَى ظُهُورِ أثَار مُدَمِّرَة كَالْحَرْبِين الْعَالَمِيِّتَيْن وَغَيْرِهَا مِنْ الكَوَارِث. لِذَلِك بَرَزَتْ مُحَاوَلَات لِتَجَاوُز هَذِهِ السَّلْبِيَّاتِ وَالْبَحْثُ عَنْ مَنْظُورِ جَدِيد لِلْحَدَاثة يَتَجَاوَزُ الْإِفْرَاطُ فِي العَقْلَانِيَّة وَالْوَضْعِيَّة الْعِلْمِيَّة. وَهَذَا مَا أَدَّى إلَى ظُهُورِ إتِّجَاهَات مَا بَعْدَ الْحَدَاثَةِ الَّتِي سَعَتْ إِلَى تَفْكِيكِ وَ تَجَاوَزْ الثَّوَابِت الْفِكْرِيَّة وَالْمَعْرُفِيَّة لِلْحَدَاثة. وَ بِشَكْلٍ عَامٍّ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْحَدَاثَة وَالْعِلْم كَانَتْ وَثِيقَة وَ مَتَبَادَلَة، حَيْثُ شَكْل الْعِلْم وَ التِّقْنِيَة الْمُنْطَلَق الأَسَاسِيّ لِلْحَدَاثة وَتَطَوُّرِهَا، فِي حِينِ أَنَّ الْحَدَاثَة وَمَا نَتَجَ عَنْهَا مِنْ تَغَيُّرَات إجْتِمَاعِيَّة وَسِيَاسِيَّة وَثَقَافِيَّة أَتَاحَتْ الْمَجَال لِإنْطِلَاق وَتَطَوَّر الْعِلْم وَالتِّقْنِيَة. إلَّا أَنْ هَذَا التَّسَاوُق أَدَّى أَيْضًا إلَى أثَارِ سَلْبِيَّة تَطَلَّبَتْ إعَادَةِ النَّظَرِ فِي مَسَارٍ الْحَدَاثَة وَالْبَحْثُ عَنْ تَصَوُّرَات جَدِيدَة لَهَا.

_ الْحُلُول الْمُمْكِنَة لِتَجَاوُز الْأثَار السَّلْبِيَّة لِلْحَدَاثة عَلَى الْأَخْلَاق

تَحْتَاجُ مَسْأَلَةُ الْحُلُول الْمُمْكِنَة لِتَجَاوُز الْأثَار السَّلْبِيَّة لِلْحَدَاثة عَلَى الْأَخْلَاقِ إِلَى عِنَايَةٍ خَاصَّة وَتَأَمَّلْ عَمِيق. لَيْسَ هَذَا الْأَمْرِ سَهْلًا أَوْ بَسِيطًا، فَالْحِدَاثَة أَثَّرَتْ بِعُمْق فِي بُنْيَّة الْمُجْتَمَعَات وَ الْأفْرَاد وَطَبِيعَة الْعَلَاقَاتِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ، مِمَّا أَدَّى إلَى ظُهُورِ أَزْمَة أَخْلَاقِيَّة وَاضِحَة تَتَمَثَّلُ فِي تَرَاجُعِ الْقِيَمِ الرُّوحِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِيَّةِ وَإنْتِشَار الفَرْدَانِيَّة وَالْمَادِّيَّة وَالتَّوَجُّهَات الْأَنَانِيَة. بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ، يُمْكِنُ طَرْح مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْحُلُولِ الْمُمْكِنَة لِتَجَاوُز هَذِهِ الْأثَارِ السَّلْبِيَّة، وَذَلِكَ مِنْ خِلَال:
. إعَادَة الِإعْتِبَار لِلْجَانِب الرُّوحِيّ وَالْأَخْلَاقِيّ فِي الْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ: فَالْحِدَأَثَة حَاوَلْتُ تهْمَيش هَذَا الْبُعْدِ وَإِحْلَال العَقْلَانِيَّة وَالْمَادِّيَّة مَحِلِّهِ. وَلِذَلِكَ يَجِبُ إعَادَةُ التَّأْكِيدِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْقِيَمِ الرُّوحِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِيَّةِ، وَالْعَمَلُ عَلَى تَنْمِيَتِهَا لَدَى الْأَفْرَادِ وَالمُجْتَمَعَات. وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْ خِلَالِ إصْلَاح الْمَنَاهِجِ التَّرْبَوِيَّةِ وَالتَّعْلِيمِيَّة لِتُرْكَز عَلَى هَذَا الْجَانِبِ، وَتَعْزِيز دُور الْمُؤَسَّسَات الدِّينِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ فِي غَرْسِ القِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّة.
. مُحَارَبَة الفَرْدَانِيَّة وَالِإنْحِرَافِ نَحْو الْأَنَانِيَة وَالِاسْتِهْلَاكَيَة : فَقَدْ أَدَّتْ الْحَدَاثَة إلَى إنْتِشَارِ ثَقَافَة الفَرْدَانِيَّة وَتَقْدِيمُ الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، مِمَّا أَضْعَف الرَّوَابِطِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالشُّعُور بِالْمَسْؤُولِيَّة تُجَاه الْآخَرِين. لِذَا يَجِبُ الْعَمَلُ عَلَى تَعْزِيز قَيِّم التَّضَامُن وَالْمَسْؤُولِيَّة الِإجْتِمَاعِيَّة، وَ إعَادَة بِنَاء الرَّوَابِطِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ الْقَوِيَّة. وَيُمْكِنُ تَحْقِيقُ ذَلِكَ مِنْ خِلَالِ السِّيَاسَات التَّعْلِيمِيَّة وَالإِعْلَامِيَّة الَّتِي تُرَكِّزُ عَلَى هَذِهِ الْقِيَمِ، وَتَفْعيل دُورٌ الْمُؤَسَّسَات الِإجْتِمَاعِيَّةِ فِي هَذَا الِإتِّجَاه.
. إِرْسَاء مَبَادِئَ أَخْلَاقِيَّةٍ جَدِيدَة تَتَنَاسَبُ مَعَ تَحَدِّيَاتُ الْعَصْرِ : فَالْأَخْلَاق التَّقْلِيدِيَّة قَدْ لَا تَكُونُ كَافِيَة لِلتَّعَامُلِ مَعَ قَضَايَا مُعَقَّدَة ظَهَرَتْ مَع الْحَدَاثَة، كَالْمَسَائِل الْأَخْلَاقِيَّة الْمُتَعَلِّقَة بِالتَّطَوُّرَات الْعِلْمِيَّةِ وَالتِّكْنُولُوجِيَّة. لِذَا يَجِبُ الْعَمَلُ عَلَى صِيَاغَةٍ مَبَادِئَ أَخْلَاقِيَّةٍ جَدِيدَة تُرَاعي هَذِهِ التَّحَدِّيَات، وَ تُسَاعِد الْأَفْرَاد وَالمُجْتَمَعَات عَلَى التَّعَامُلِ مَعَهَا بِطَرِيقة مَسْؤُولَة وَأَخْلَاقِيَّة. وَيُمْكِنُ أَنْ يُسَاهِمَ الْحِوَارِ بَيْنَ الْحَضَارَات وَالثَّقَافَات فِي هَذَا الْإِطَارِ، لِإِثْرَاء هَذِهِ الْمَبَادِئِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْجَدِيدَة.
. إعَادَة رَبَط الْأَخْلَاق بِالْمَعْنَى الْوُجُودِيّ لِلْحَيَاة: فَقَدْ أَدَّتْ الْحَدَاثَة إلَى فَصْلِ الْأَخْلَاقِ عَنْ السِّيَاقِ الْوُجُودِيّ وَالرُّوحِيّ لِلْإِنْسَانِ، مِمَّا أَدَّى إلَى تَحَوُّلِهَا إلَى مُجَرَّدِ قَوَاعِدِ وَضَوَابِطِ سُلُوكِيَّة جَافَّة. لِذَا يَجِبُ إعَادَةُ الرَّبْطِ بَيْنَ الْأَخْلَاق وَالْبُعْد الْوُجُودِيّ وَالرُّوحِيّ لِلْإِنْسَانِ، بِحَيْثُ تُصْبِح الْأَخْلَاق جُزْءًا مِنْ الْمَعْنَى الشَّامِلِ لِلْحَيَاة. وَهَذَا يَتَطَلَّب إعَادَةِ النَّظَرِ فِي المَنَاهِجِ الْفَلْسَفِيَّة وَالدِّينِيَّة لِتُؤَكِّدَ عَلَى هَذَا الرَّبْطِ.
إنْ تَحْقِيقِ هَذِهِ الْحُلُول لَيْس بِاﻷمَرّ السَّهْل، وَلَكِنَّهَا ضَرُورِيَّة لِتَجَاوُز الْأَزْمَة الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي فَرَضْتَهَا الْحَدَاثَة. وَتَتَطَلَّب هَذِه الْحُلُول جُهُودًا مُتَضَافِرَةٌ عَلَى مُسْتَوَى الْأَفْرَادِ وَالمُؤَسَّسَات الِإجْتِمَاعِيَّة وَالتَّرْبَوِيَّة وَالدِّينِيَّة وَالسِّيَاسِيَّة. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحُلُول ناجِحَة إلَّا بِتَوْافر إرَادَةُ حَقِيقِيَّة لِلْإِصْلَاح وَ التَّغْيِير الْأَخْلَاقِيِّ عَلَى مُسْتَوَى الْمُجْتَمَعَات.

_ تَعْزِيز الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ فِي ظِلِّ تَأْثِيرَات الْحَدَاثَة

لَا شَكَّ أَنَّ تَحَدِّيَات الْحَدَاثَة وَأثَارِهَا الْمُتَنَوِّعَة تَتَطَلَّب إيجَاد آلْيَات فَعَّالَة لِتَعْزِيز الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْكَوْنِيَّة. فَالحِدَأَثَة قَدْ أَحْدَثْتَ تَغْيِيرَات جَوْهَرِيَّةٌ فِي كَافَّةِ مَجَالَاتِ الْحَيَاةِ، وَأَدَّتْ إلَى ظُهُورِ أَنْمَاط جَدِيدَةٍ مِنْ الْقَيِّمِ الَّتِي تَتَعَارَضُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْيَانِ مَعَ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّة. لِذَا، يَتَطَلَّب الْأَمْر إتِّخَاذ إجْرَاءَات وَإسْتَرَاتيجيات مُتَكَامِلَةَ لِتَعْزِيز تِلْك الْقَيِّم الْكَوْنِيَّةِ فِي ظِلِّ هَذِهِ التَّغَيُّرَاتُ.
- تَعْزِيز دُور الْمُؤَسَّسَات التَّرْبَوِيَّة وَالتَّعْلِيمِيَّة: تَلْعَب الْمُؤَسَّسَات التَّرْبَوِيَّة وَالتَّعْلِيمِيَّة دُورًا مُحَوَّريا فِي تَنْمِيَةِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْكَوْنِيَّة لَدَى الْأَفْرَادِ، خَاصَّةً فِي ظِلِّ التَّأْثِيرَات الْمُتَزَايِدَة لِلْحَدَاثة. يَنْبَغِي عَلَى هَذِهِ الْمُؤَسَّسَات الْعَمَلِ عَلَى مَا يَلِي:
. إدْمَاج مَفَاهِيم وَقِيَم أَخْلَاقِيَّة كَوْنِيَّة فِي المَنَاهِجِ الدِّرَاسِيَّة بِجَمِيع الْمَرَاحِل التَّعْلِيمِيَّة، بِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ طَبِيعَةِ كُلِّ مَرْحَلَةٍ. وَمِنْ هَذِهِ الْقِيَمِ: الْعَدْل، الْمُسَاوَاة، التَّسَامُح، إحْتِرَام الْآخَر، النَّزَاهَة، الْمَسْؤُولِيَّة الِإجْتِمَاعِيَّة، وَغَيْرِهَا.
. تَطْوِير الْبَرَامِج التَّدْرِيبية لِلْمُعَلِّمِينَ وَالْأَسَاتِذَة لِتَمْكِينِهِمْ مِنْ تَنْمِيَةِ هَذِهِ الْقِيَمِ لَدَى الطَّلَبَةِ، وَ إكْسَابِهِمْ الْكِفَايَات اللَّازِمَة لِذَلِك. تَشْجِيع الْأَنْشِطَة وَالْمَشَارِيع الطُّلَّابِيَّةِ الَّتِي تَعَزُّز الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْكَوْنِيَّة، كَالتَّطَوُّع، وَالْعَمَل الْجَمَاعِيّ، وَالْمُبَادِرًات الْإِنْسَانِيَّةِ.
. إنْشَاءً مَرَاكِز بَحْثَيَّةِ مُتَّخِصصة فِي دِرَاسَةِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ وَ سَبِّلْ تَنْمِيَتُهَا فِي ظِلِّ تَحَدِّيَات الْحَدَاثَة، وَتَوْظِيف نَتَائِجُ الْبُحُوث فِي تَطْوِيرِ الْمَنَاهِج وَالبَرَامِج التَّرْبَوِيَّة.
- تَفْعِيلَ دَوْرِ الْمُؤَسَّسَات الدِّينِيَّة: تُشْكِل الْمُؤَسَّسَات الدِّينِيَّة إحْدَى الرَّكَائِز الْأَسَاسِيَّة لِتَعْزِيز الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْكَوْنِيَّة. وَ يتَطَلَّب الْأَمْرُ مِنْ هَذِهِ الْمُؤَسَّسَات مَا يَلِي:
. تَعْزِيز الْخَطَّاب الدِّينِيّ الْمُسْتَنِير الَّذِي يُنْبَذُ التَّطَرُّف وَالْغُلُوّ، وَ يُؤَكِّدُ عَلَى قَيِّمِ التَّسَامُحِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَدْل وَالْمُسَاوَاة.
. إنْتَاج مَوَادّ دِينِيَّة مَطْبُوعَة وَرَقَميَّة تُسْهِمُ فِي نَشْرِ الْوَعْي بِالْقِيَم الْأَخْلَاقِيَّة الْكَوْنِيَّة وَتَطْبِيقِاتِهَا الْعَمَلِيَّةُ فِي الْحَيَاةِ الْيَوْمِيَّة.
. تَنْظِيم بَرَامِج وَفَعَالِيَّات دِينِيَّة تَفَاعُلِيَّة تُشْرِك الشَّبَاب وَ الْمُجْتَمِعُ فِي مُمَارَسَةِ هَذِهِ الْقِيَمِ وَتَعْزِيزِها.
. التَّنْسِيق وَالشِّرَاكة مَعَ الْمُؤَسَّسَات التَّرْبَوِيَّة وَالإِعْلَامِيَّة لِتَعْزِيز الْخَطَّاب الدِّينِيّ الْمُسْتَنِير وَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة الْكَوْنِيَّة.
_ تَعْزِيز دُور وَسَائِل الْإِعْلَام: تُشْكِل وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ بِمُخْتَلِفِ أَشْكَالِهَا أَحَدَ أَبْرَزِ الْمَنْصَات الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي تَشْكِيلِ الْقَيِّم وَ السَّلْوَكَيَّات لَدَى الْأَفْرَادِ، خَاصَّةً فِي ظِلِّ الْحَدَاثَة وَتَأْثِيرُاتِهَا. لِذَا يَنْبَغِي عَلَى وَسَائِلَ الإِعْلَامِ الْقِيَامِ بِمَا يَلِي:
. إنْتَاج مُحْتَوَى إِعْلَامِيّ هَادِف يُعَزِّز الْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة الْكَوْنِيَّة وَيُعْكْسِهَا فِي مُخْتَلَفٍ الْبَرَامِج وَالْمَوَادّ الْإِعْلَامِيَّة.
. تَخْصِيص مِسَاحَات لِلنَّقاش وَالْحُوَارُ حَوْل الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ وَ كَيْفِيَّة تَطْبِيقِهَا فِي ظِلِّ تَحَدِّيَاتُ الْعَصْرِ الْحَدِيث.
. تبْني سِيَاسَات إِعْلَامِيَّة مَسْؤُولَة تُحَارِب الأَنْمَاط السَّلْبِيَّة وَ الِإنْحِرَافَات السُّلُوكِيَّة الَّتِي تَتَعَارَضُ مَعَ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّة.
. التَّنْسِيق وَالشِّرَاكة مَعَ الْمُؤَسَّسَات التَّرْبَوِيَّة وَالدِّينِيَّة لِتَكَامُل الْجُهُودِ فِي تَعْزِيزِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْكَوْنِيَّة.
- تَفْعِيلَ دَوْرِ الْمُؤَسَّسَات الْمُجْتَمَعِيَّة: تُشْكِل الْمُؤَسَّسَات الْمُجْتَمَعِيَّة كَالْإِسْرَة وَالنُّقَابات وَالجَمْعِيَّات الْأَهْلِيَّة إحْدَى الدَّعَائِم الرَّئِيسِيَّة لِتَعْزِيز الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْكَوْنِيَّة. وَيتَطَلَّب الْأَمْرُ مِنْ هَذِهِ الْمُؤَسَّسَات مَا يَلِي:
. تَعْزِيز دُور الْأَسِرَّةِ فِي غَرْسِ القِيَمِ الأَخْلَاقِيَّةِ الْكَوْنِيَّة لَدَى الْأَبْنَاء مُنْذ الصِّغَر.
. إنْشَاءً بَرَامِجَ وَأَنْشِطَةً فِي النِّقَابِات وَالجَمْعِيَّات الْأَهْلِيَّة تَهْدِفُ إِلَى مُمَارَسَةِ هَذِهِ الْقِيَمِ وَالتَّطْبِيق الْعَمَلِيّ لَهَا.
. التَّنْسِيق وَالشِّرَاكة بَيْنَ الْمُؤَسَّسَات الْمُجْتَمَعِيَّة وَالمُؤَسَّسَات التَّرْبَوِيَّة وَالدِّينِيَّة وَالإِعْلَامِيَّة لِتَكَامُل الْجُهُودِ فِي هَذَا الْمَجَال. خُلَاصَةٌ الْقَوْلِ، أَنَّ تَعْزِيز الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ فِي ظِلِّ تَحَدِّيَات الْحَدَاثَة يَتَطَلَّب تَكَامُل الْجُهُود بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْمُؤَسَّسَات الْمُجْتَمَعِيَّة وَالتَّرْبَوِيَّة وَالدِّينِيَّة وَالإِعْلَامِيَّة. فَالْتَنْسِيق وَالشِّرَاكة بَيْنَ هَذِهِ الْجِهَاتِ يُعَدّ ضَرُورَةً مُلِحَّةً لِمُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ النَّاجِمَةِ عَنِ الْحَدَاثَة وَتَأْثِيرُاتِهَا السَّلْبِيَّةِ عَلَى مَنْظُومَةِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ. كَمَا أَنَّ الِإعْتِمَادَ عَلَى الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ وَالدِّرَاسَات الْمُتَخَصِّصَة فِي هَذَا الْمَجَالِ سَيُسْهِم بِشَكْلٍ كَبِيرٍ فِي تَطْوِيرِ إسْتِرَاتِيجِيَّات وَآلْيَات فَعَّالَة لِتَعْزِيز هَذِهِ الْقِيَمِ وَتَجْذِيرِهَا فِي الْمُجْتَمَعِ.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : تَشْكِيلَات الْحَضَارَةُ
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق: الْمَنْظُور الْفَلْسَفِيّ التَّارِي ...
- الْعِلْم وَالْأَخْلَاق: رَمَزَيات الْمَيثولُوجْيَا
- الْعِلْم وَالْأَخْلَاق: جُذُور الْمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة
- الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : تَجَاوُزَات الْأَيْدُيُولُوجِيَّا
- الْعِلْم وَالْأَخْلَاق فِي الْحِكْمَةِ الْغَنُوصِيَّة
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْحِكْمَةِ الْهَرْمُسِيَّة
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ مَبَاحِث الْآكْسِيُّولُوجْيَا
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ إشْكَالَيْات الْكُوسْمُّولُوجْيَا
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي سِيَاقِ الثَّيُولُوجْيَا
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ تَصَوُّرَات الِأنْطولُوجْيَا
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ مُقَارَبَات الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّةِ
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق سَطْوَة الْمَيِّتُافِيزِيقِيَا
- نَقْد فَلْسَفِيّ لِلْخِطَاب الْعِلْمِيّ و الْأَخْلَاقِيّ
- الْمَشْرُوع الْفَلْسَفِيّ الشَّامِل لِلْوُجُود الْإِنْسَانِي ...
- أَخْلَاقِيَّات الْعِلْمُ وَ عِلْمِيَّة الْأَخْلَاق
- حِوَارٌ مَعَ صَدِيقِي الشَّيْطَانُ الْأَكْبَرُ
- جَدَلِيَّة الِإنْتِمَاء و الِإنْتِسَاب


المزيد.....




- مباشر: مقتل فلسطينيين بينهم قيادي في حماس في غارات إسرائيلية ...
- تركيا: القضاء يأمر رسميا بسجن رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أ ...
- أطلق من اليمن.. إسرائيل تعلن اعتراض صاروخ قبل دخول أجوائها
- السعودية.. عاصفة غبارية شديدة تجتاح منطقة وادي الدواسر (فيدي ...
- فولين: زعماء الاحتجاجات الصرب يتلقون المال من الغرب
- الاكوادور تكشف عن تسرب جديد للوقود في الأمازون
- الجيش الإسرائيلي يدعو سكان منطقة تل السلطان برفح لمغادرتها ف ...
- والتز: فكرة تهجير الفلسطينيين من غزة -عملية للغاية-
- رئيس التشيك يحدد شروط إرسال قوات إلى أوكرانيا
- ساجدا في خيمته.. صلاح البردويل الذي غيبته إسرائيل -من شوارع ...


المزيد.....

- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : تَسَاؤُلَات الْحَدَاثَةِ