أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - فلسفة اللذة بين العقل والرغبة: جدلية السعادة والمعاناة في الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر















المزيد.....


فلسفة اللذة بين العقل والرغبة: جدلية السعادة والمعاناة في الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8289 - 2025 / 3 / 22 - 09:21
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
يعد مفهوم اللذة من أكثر الموضوعات الفلسفية تعقيدًا وتشعبًا في الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر، حيث لم يقتصر الاهتمام به على مجال الأخلاق فحسب، بل امتد ليشمل علم النفس، والميتافيزيقا، ونظرية المعرفة، وحتى السياسة والاقتصاد. وقد خضع هذا المفهوم لتطورات جذرية عبر تاريخ الفلسفة الأوروبية، حيث انتقل من كونه عنصرًا أساسياً في التصورات الكلاسيكية للسعادة، كما هو الحال عند الفلاسفة الأبيقوريين، إلى أن أصبح مفهومًا إشكاليًا يتداخل مع أفكار الهوية والحرية والرغبة والقوة في الفلسفات الحديثة والمعاصرة.

ديكارت واللذة كحالة إدراكية

مع بدايات الفلسفة الحديثة، قدم رينيه ديكارت تصورًا جديدًا للذة باعتبارها ظاهرة إدراكية تنبع من العلاقة بين الجسد والعقل. فبالنسبة لديكارت، اللذة والألم ليسا مجرد مشاعر حسية، بل إشارات معرفية ترشد الإنسان إلى ما هو مفيد أو ضار. ففي كتابه "انفعالات النفس" (1649)، يرى ديكارت أن اللذة تنتج عن تفاعل ميكانيكي بين الروح والجسد، حيث تعمل العواطف على تنبيه العقل تجاه ما ينبغي تحقيقه أو تجنبه. وهنا، تصبح اللذة عنصرًا وظيفيًا وليس غاية في ذاتها، مما يضعها في سياق معرفي وأخلاقي مختلف عن التصورات الكلاسيكية التي تعاملت معها باعتبارها غاية قصوى للحياة.

سبينوزا: اللذة كتحقق للقدرة على الوجود

تقدم باروخ سبينوزا برؤية مختلفة تمامًا، حيث نظر إلى اللذة بوصفها تعبيرًا عن "القدرة على الوجود". ففي فلسفته، تعد اللذة لحظة تزايد في "القوة الذاتية" للكيان البشري، بينما يكون الألم تعبيرًا عن نقصان هذه القوة. وعلى هذا الأساس، ترتبط اللذة عند سبينوزا بزيادة الفاعلية العقلية والانفعالية للإنسان، أي أنها ليست مجرد استجابة حسية، بل حالة من التحقق الوجودي حيث يدرك الفرد ذاته بطريقة أكثر تكاملاً.

إن رؤية سبينوزا تضع اللذة في سياق أعمق، حيث تصبح وسيلة لفهم الطبيعة البشرية وعلاقتها بالعالم. فاللذة ليست مجرد شعور عابر، بل هي مظهر من مظاهر السعي المستمر نحو "الفرح" الذي يرتبط بوعي الإنسان بقدراته وإمكانياته، مما يجعلها جزءًا من المشروع الأخلاقي للعقل.

كانط والنقد الأخلاقي لمفهوم اللذة

أما إيمانويل كانط فقد وجه نقدًا حادًا للنظريات التي تضع اللذة كأساس للأخلاق، حيث رفض أي تصور يجعل السعادة أو اللذة معيارًا للحكم الأخلاقي. ففي كتابه "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" (1785)، يرى كانط أن الأخلاق لا يجب أن تكون قائمة على التجربة الحسية للذة، لأنها ذات طبيعة متغيرة وغير مستقرة، بل يجب أن تعتمد على العقل ومبدأ الواجب. فاللذة، وفقًا له، لا يمكن أن تكون مبدأً كونيًا للأخلاق، لأن ما يجده فرد ما ممتعًا قد يكون ضارًا لآخر، مما يجعلها معيارًا غير صالح لتحديد الخير والشر.

في هذا السياق، يضع كانط اللذة في مرتبة أدنى مقارنةً بالالتزام الأخلاقي، فهي ليست مقياسًا للقيم، وإنما مجرد أثر جانبي قد ينشأ عن التصرف الأخلاقي الصحيح. وهكذا، فإن الفعل الأخلاقي يجب أن يكون مستندًا إلى مبدأ العقل، لا إلى رغبة اللذة أو الخوف من الألم، مما يعكس توجهاً معاكسًا للتصورات الحسية للذة كما طرحها الفلاسفة السابقون.

شوبنهاور: اللذة كخداع وهمي في ظل المعاناة

على النقيض من كانط، قدم آرثر شوبنهاور رؤية أكثر سوداوية، حيث اعتبر اللذة مجرد وهم مؤقت في بحر من المعاناة الوجودية. ففي فلسفته التشاؤمية، يؤكد شوبنهاور أن الحياة البشرية محكومة بـ"إرادة عمياء" تدفع الإنسان إلى السعي المستمر وراء الرغبات، وعندما تتحقق هذه الرغبات، لا يشعر الإنسان بالسعادة الحقيقية، بل يدخل في دورة جديدة من الملل والاحتياج. ولذلك، فإن اللذة عنده ليست سوى لحظة عابرة بين معاناة طويلة من الحرمان والقلق، مما يجعلها غير قادرة على توفير معنى حقيقي للحياة.

إن رؤية شوبنهاور تكشف عن بعد جديد في مفهوم اللذة، حيث تصبح مجرد حالة زائلة لا يمكن أن تحقق الإشباع الكامل. ومن هنا، يدعو شوبنهاور إلى الزهد والتخلي عن التعلق بالرغبات، كطريقة لتحرير النفس من هذا الوهم الوجودي.

نيتشه: اللذة كإرادة قوة

في المقابل، أعاد فريدريش نيتشه تعريف اللذة ضمن سياق إرادة القوة، حيث رفض الفكرة التقليدية التي تربطها بالسعادة السلبية أو الراحة، ورأى أنها مرتبطة بنمو الذات وتجاوز الحدود. فالإنسان القوي، وفقًا لنيتشه، لا يبحث عن لذة سلبية أو لحظية، بل عن نشوة الانتصار والتفوق والخلق.

في كتابه "إرادة القوة" (1888)، اعتبر نيتشه أن اللذة ليست غاية في حد ذاتها، بل هي انعكاس لقدرة الفرد على فرض إرادته على العالم. فكلما زادت إرادة الإنسان في تحقيق ذاته، زادت لذته، ولكنها ليست لذة خاضعة لمعايير الأخلاق التقليدية، بل هي جزء من مشروع إعادة تقييم القيم الذي دعا إليه نيتشه.

فرويد واللذة كحافز نفسي ولاوعي مكبوت

في القرن العشرين، قام سيغموند فرويد بإعادة تفسير مفهوم اللذة في سياق التحليل النفسي، حيث رأى أنها المحرك الأساسي للسلوك البشري، ولكنها تخضع لصراعات لاواعية بين "مبدأ اللذة" الذي يسعى إلى الإشباع الفوري، و"مبدأ الواقع" الذي يفرض تأجيل اللذة من أجل التكيف مع متطلبات المجتمع.

من هنا، تصبح اللذة عند فرويد معقدة، فهي ليست مجرد إحساس بسيط، بل تعبر عن ديناميات نفسية عميقة تتعلق بالرغبات المكبوتة واللاوعي والصراعات الداخلية. وقد أثر هذا التحليل بشكل عميق على الفلسفات اللاحقة، التي رأت في اللذة مجالاً للبحث عن الذات والهويات الفردية في ظل التغيرات الثقافية الحديثة.

نحو رؤية فلسفية متكاملة للذة

يظهر من هذا العرض المقارن أن مفهوم اللذة قد مر بتحولات عميقة في الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر، حيث انتقل من كونه إحساسًا بسيطًا إلى كونه إشكالية فلسفية تعكس جدليات الهوية، والإرادة، والرغبة، والأخلاق. وبينما رآه بعض الفلاسفة كعنصر جوهري في الوجود الإنساني، اعتبره آخرون مجرد وهم أو حالة ناقصة لا يمكن أن تكون أساسًا للحياة الأخلاقية أو السعادة الحقيقية.

إن هذا التنوع في التصورات يعكس مدى تعقيد هذا المفهوم، ويدعو إلى التأمل في دوره في تشكيل رؤيتنا للوجود، ليس فقط في الفلسفة، ولكن أيضًا في علم النفس، والأدب، والثقافة المعاصرة.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حدود العلم وأفق الوعي: فيزياء الكون بين الإدراك والواقع
- الوعي في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة: جدلية الإدراك ...
- حرب الثلاثين عامًا (1618-1648): الصراع بين الكاثوليك والبروت ...
- مابعد الحداثة: تفكيك اليقين وإعادة تشكيل الفكر في عالم بلا ث ...
- الصادق النيهوم: تفكيك المقدس والبحث عن المعنى في متاهات العق ...
- التعلق المرضي: كيف نكسر قيود الاعتماد العاطفي ونستعيد ذواتنا ...
- إعادة تشكيل الإنسان في العالم الرقمي: مقاربات أنثربولوجية مع ...
- الرضا النفسي: فن التوازن والطمأنينة في عالم متغير
- ألبرت كامو وثورة العبث: جدلية المعنى واللاجدوى في الفكر الأو ...
- البنيوية وما بعدها: تفكيك الأنساق وبناء المعنى الجديد
- نحو فلسفة بيئية معاصرة: بين النقد الحداثي والرؤى المستقبلية
- انهيار الحلم الماركسي: كيف تحول شعار العدالة إلى سلطة شمولية ...
- العلمانية الدينية: ازدواجية المفهوم بين الحداثة والتلاعب الس ...
- الجواهر الفردة: فلسفة الذرة في علم الكلام بين العقيدة والعقل
- فلسفة العقل: المفهوم، القضايا، والتأثير في الفكر الفلسفي الم ...
- تحليل الخطاب: تفكيك السلطة والمعرفة في اللغة وصناعة المعاني
- متاهات المعنى: جدلية العدمية والوجودية والعبثية في الفكر الف ...
- العلمانية العسكرية وتداعياتها على الواقع السياسي العربي
- التحرر من سجن العقل: فن إيقاف التفكير الزائد واستعادة صفاء ا ...
- جدلية الدين والسياسة عند المعتزلة: رؤية عقلانية لمفهوم الحكم


المزيد.....




- إسرائيل: قرار بتوسيع مستوطنات الضفة الغربية وتسهيل الهجرة -ا ...
- -يبلها ويشرب ميتها-.. هجوم مصري على ويتكوف بسبب تصريحاته عن ...
- اجتماع عربي إسلامي بالقاهرة بشأن غزة
- رئيس الوزراء الكندي يدعو لإجراء انتخابات مبكرة في 28 أبريل
- لماذا يشيب شعرنا؟
- خان يونس تُشيّع أبناءها: جنازات تلو الأخرى وسط حرب مستعرة
- ثلاثة أمور تتسبب في أغلب الخلافات مع شريك الحياة
- كيف يتحدى الحوثيون الضربات الأمريكية؟
- مراسل RT: غارات جوية تستهدف العاصمة اليمنية صنعاء
- الجزائر تباشر أولى خطوات سن قانون تجريم الاستعمار


المزيد.....

- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - فلسفة اللذة بين العقل والرغبة: جدلية السعادة والمعاناة في الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر