أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - الشهبي أحمد - مزهوون بمتلاشيات الآخرين















المزيد.....


مزهوون بمتلاشيات الآخرين


الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي

(Echahby Ahmed)


الحوار المتمدن-العدد: 8289 - 2025 / 3 / 22 - 06:33
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


في أحد الأحياء الراقية بالدار البيضاء، تجلس مجموعة من الشباب حول طاولة في ماكدونالد، يتحدثون بمزيج من الفرنسية والعربية، ويتنافسون في نطق أسماء الوجبات وكأنها شيفرة سرية للحداثة. على الجانب الآخر من المدينة، يقف شاب آخر يحمل شهادة جامعية، يسلم طلبات الزبائن بابتسامة متكلفة، متسائلًا كيف انتهى به الحال هنا رغم سنوات الدراسة الطويلة.

هذا المشهد ليس مجرد لقطة عابرة، بل صورة مصغرة لمفارقة أعمق: في الغرب، ماكدونالد هو ملجأ للطلاب والعمال، وفي المغرب هو "مطعم النخبة". في الغرب، العمل فيه لا يتطلب أكثر من الاستعداد البدني، بينما عندنا يحتاج إلى شهادة عليا. في الغرب، هو مجرد خيار سريع، بينما عندنا هو استعراض اجتماعي.

هذه ليست مجرد تفاصيل، بل انعكاس لهوة حضارية تزداد اتساعًا، حيث نستهلك ما ينتجه الآخرون، لكن بطريقة مشوهة تجعلنا نعيش وهمًا اسمه "التطور"، بينما الحقيقة أننا مجرد مستهلكين مزهوين بـ"متلاشيات" الآخرين.

عندما ننظر إلى الفرق بين الغرب والمغرب، أو بمعنى أوسع بين الغرب والعالم العربي، من خلال عدسة بسيطة مثل ماكدونالد، نجد أنفسنا أمام مرآة تعكس لنا ليس فقط عادات الاستهلاك، بل أيضاً أزمات الهوية، الاقتصاد، والثقافة التي نعيشها. ماكدونالد، هذا الرمز الذي يبدو عالمياً، يتحول في سياقاتنا المحلية إلى شيء أكبر من مجرد مطعم للوجبات السريعة؛ إنه نافذة تطل على هوة حضارية تتسع يوماً بعد يوم، وتساؤل حول كيف نرى أنفسنا وكيف نعيش في ظل تأثير الآخر.

في الغرب، ماكدونالد هو جزء من الحياة اليومية العادية. إنه خيار عملي للطبقة العاملة، للطلاب الذين يبحثون عن وجبة رخيصة بين المحاضرات، أو للعائلات التي تحتاج إلى استراحة سريعة في يوم مزدحم. العمل هناك لا يحمل هالة من التميز، بل غالباً ما يُنظر إليه كمرحلة مؤقتة، خطوة أولى في سلم قد يطول أو يقصر حسب الظروف. لا أحد يتوقع أن تكون وظيفة في ماكدونالد حلماً كبيراً، ولا أحد يربطها بمؤهلات أكاديمية عالية. إنها عملية، وظيفية، وتخدم غرضاً محدداً في نسيج اجتماعي يعتمد على الكفاءة والسرعة.

لكن في المغرب، وفي أماكن أخرى من العالم العربي، يأخذ الأمر منحى مختلفاً تماماً. لنبدأ من العاملين في هذا المطعم: للحصول على وظيفة في ماكدونالد، قد تحتاج إلى شهادة باكالوريا + 2، وربما أكثر من ذلك في بعض الحالات. هذا يعني أن شاباً أمضى سنوات في التعليم، ربما حلم بمستقبل أكبر، يجد نفسه مضطراً للتنافس على وظيفة تُعتبر في بلدان أخرى من الوظائف "الدنيا" التي لا تتطلب سوى الحد الأدنى من المهارات. هنا نلمس خللاً عميقاً في بنية سوق العمل، حيث تتفاقم البطالة بين الشباب، وتصبح الشهادات العليا أداة للتنافس على أدوار لا تتناسب مع مستواها، بدلاً من أن تكون جسراً للابتكار أو الإنتاج. هذا الواقع لا يعكس فقط أزمة اقتصادية، بل أيضاً أزمة توقعات، حيث يتحول التعليم من أمل إلى عبء، والطموح من دافع إلى إحباط.

ثم هناك الزبائن أنفسهم، وهنا تتجلى المفارقة بشكل أوضح. في المغرب، تناول وجبة في ماكدونالد ليس مجرد اختيار عملي، بل غالباً ما يُنظر إليه كتجربة "متميزة". إنه مكان يذهب إليه الشباب ليظهروا أنفسهم كجزء من طبقة اجتماعية معينة، كأن تناول "بيغ ماك" يمنحهم بطاقة عضوية في نادٍ عالمي للحداثة. هذا التحول في المعنى يكشف عن شيء أعمق من مجرد عادات استهلاكية؛ إنه يعكس حالة نفسية واجتماعية تتسم بالتطلع إلى الخارج، إلى الغرب، كمصدر للقيمة والاعتبار. ماكدونالد، الذي قد يُنظر إليه في أمريكا كرمز للاستهلاك الجماهيري البسيط، يصبح في سياقنا رمزاً للترقي، للانتماء إلى عالم أكبر، حتى لو كان هذا الانتماء وهمياً إلى حد كبير.

لكن لماذا يحدث هذا؟ لماذا نأخذ شيئاً بسيطاً مثل مطعم للوجبات السريعة ونحوله إلى معيار للتميز؟ الجواب يكمن في علاقتنا بالغرب، وهي علاقة معقدة تجمع بين الإعجاب والتبعية، بين الرغبة في المحاكاة والفشل في فهم السياق. نحن لا نستورد ماكدونالد كمطعم فقط، بل نستورد معه صورة ذهنية، تصوراً عن الحياة "الحديثة" التي نراها في الأفلام والإعلانات. لكننا نفعل ذلك بطريقة مشوهة، لأننا نجرد هذه الصورة من جذورها الاجتماعية والاقتصادية، ونضعها في سياقنا المحلي دون تكييف أو نقد. ماكدونالد في الغرب هو نتاج مجتمع صناعي يعتمد على السرعة والإنتاجية، بينما في المغرب يصبح تعبيراً عن تطلعات طبقة وسطى تريد أن تشعر بأنها جزء من العالم، دون أن تملك الأدوات لإنتاج عالمها الخاص.

هذه الظاهرة ليست حصرية على ماكدونالد، بل هي نمط يتكرر في جوانب متعددة من حياتنا. نستورد السيارات المستعملة بعد أن تُصبح خردة في بلدانها الأصلية، ونرتدي الملابس التي خرجت عن الموضة هناك، ونأخذ الأكلات الشعبية مثل التاكوس المكسيكي فنقدمها كوجبة "فاخرة" في مطاعم مزينة بأضواء النيون. هناك شيء مؤلم في هذا النمط: إننا ننبهر بمتلاشيات الآخرين، بما تخلى عنه الغرب، ونعيد تشكيله ليبدو جديداً بالنسبة لنا. لكن هذا الانبهار ليس بريئاً، بل هو انعكاس لتبعية ثقافية تجعلنا نعيش في حالة من التأخر الدائم، حيث نستهلك ما يُنتج في مكان آخر، دون أن نطرح السؤال الأهم: لماذا لا ننتج نحن؟

هذا السؤال يأخذنا إلى قلب المشكلة، وهي أزمة الهوية التي نعيشها. نحن نعيش في عالم يتطور بسرعة مذهلة، حيث الإنتاج الفكري والتقني والثقافي هو ما يحدد مكانة الأمم. لكن في العالم العربي، ما زلنا نعتمد على الاستيراد، ليس فقط للسلع المادية، بل للأفكار والقيم أيضاً. نستخدم كلمات فرنسية وإنجليزية في حديثنا اليومي، ليس لأنها ضرورية، بل لأنها تمنحنا شعوراً بالحداثة. ننظر إلى النجاح كشيء يُقاس بمدى اقترابنا من نموذج الغرب، بدلاً من أن نحدد معاييرنا الخاصة. حتى في أبسط الأمور، مثل الطعام، نحن نأخذ ما هو شعبي هناك ونحوله إلى رمز نخبوي هنا، دون أن نسأل أنفسنا: أين طعامنا نحن؟ أين ثقافتنا؟

ماكدونالد، في هذا السياق، ليس مجرد مطعم، بل هو رمز لهذه الهوة الحضارية. إنه يعكس كيف نعيش في حالة من التناقض المستمر: نريد أن نكون جزءاً من العالم الحديث، لكننا لا نملك الأدوات لنصنع حداثتنا الخاصة. نريد أن نكون منتجين، لكننا نكتفي بأن نكون مستهلكين. وفي هذا التناقض، تتسع الفجوة بيننا وبين الغرب، ليس فقط لأنهم يتقدمون، بل لأننا نرفض أن ننظر إلى أنفسنا بعين النقد، ونفضل أن نعيش في ظل انعكاس مشوه لما نراه في مرآتهم.

لكن هل هذا مصير حتمي؟ هل نحن محكومون بأن نبقى في هذا الدور السلبي إلى الأبد؟ الإجابة تعتمد على قدرتنا على مواجهة أنفسنا بأسئلة صعبة. من نحن؟ وماذا نريد أن نكون؟ إذا لم نجد إجابات لهذين السؤالين، فسنظل نعيش في هذا الفضاء الغامض بين الماضي والحاضر، بين ما كنا عليه وما نطمح إليه، نستهلك دون أن ننتج، وننظر إلى أنفسنا من خلال عيون الآخرين. ماكدونالد قد يكون مجرد مثال صغير، لكنه يحمل في طياته قصة أكبر بكثير، قصة شعب يبحث عن هويته في عالم لا ينتظر أحداً. وإلى أن نجد هذه الهوية، سنظل نأكل "بيغ ماك" ونعتقد أننا نعيش الحلم، بينما الحقيقة هي أننا نعيش في ظل حلم شخص آخر.



#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)       Echahby_Ahmed#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنقاض الروح والكلمة: قراءة في مجموعة - تحت الركام- القصصية ل ...
- التعليم المغربي: حلم يتهاوى بين فوضى السياسة وصمت الجميع
- عبارات ملهمة: قراءة نقدية وتحليلية في أعماق الكلمة والوجود ل ...
- -ياسمين الخريف- لأحمد الشهبي: قراءة نقدية وتحليلية في المتاه ...
- -عبارات ملهمة-: سلطة الكلمة في مجموعة جواد العوالي القصصية
- عبارات ملهمة: تأثير الكلمة على أعماق الوجود الإنساني - قراءة ...
- كيكو: اغتصاب الطفولة في ظلّ ثقافة الإفلات من العقاب – مأساة ...
- تحديات الكتابة والنشر في عصر الرقمنة: أزمة قلة القراءة وصعوب ...
- غزة: الجريمةُ التي تُعيدُ تشكيلَ ضمير العالم
- الشرق الأوسط على شفا حرب إقليمية: تصعيد وتغيرات استراتيجية ت ...
- انحدار الذوق في البرامج التلفزية: بين الاستهلاك السطحي وإشكا ...
- عتمة قمم: بين حب مستحيل وواقع ثقافي متجذر- قراءة نقدية لرواي ...
- 23 مارس 1965: جراح لم تندمل وأسئلة لم تُجاب
- هل يعيد التاريخ نفسه؟
- أين اختفت النخب المثقفة؟
- حين يصير البيت عرضاً والكرامة سلعةً في سوق التيك توك
- -السلطة الرابعة في خطر: حين يتحوّل التنظيم الذاتي إلى فخّ لل ...
- التاريخ يصرخ.. لكن من يصغي؟
- -المؤمراة من صنعنا -


المزيد.....




- إسرائيل: قرار بتوسيع مستوطنات الضفة الغربية وتسهيل الهجرة -ا ...
- -يبلها ويشرب ميتها-.. هجوم مصري على ويتكوف بسبب تصريحاته عن ...
- اجتماع عربي إسلامي بالقاهرة بشأن غزة
- رئيس الوزراء الكندي يدعو لإجراء انتخابات مبكرة في 28 أبريل
- لماذا يشيب شعرنا؟
- خان يونس تُشيّع أبناءها: جنازات تلو الأخرى وسط حرب مستعرة
- ثلاثة أمور تتسبب في أغلب الخلافات مع شريك الحياة
- كيف يتحدى الحوثيون الضربات الأمريكية؟
- مراسل RT: غارات جوية تستهدف العاصمة اليمنية صنعاء
- الجزائر تباشر أولى خطوات سن قانون تجريم الاستعمار


المزيد.....

- Express To Impress عبر لتؤثر / محمد عبد الكريم يوسف
- التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق / محمد عبد الكريم يوسف
- Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية / محمد عبد الكريم يوسف
- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - الشهبي أحمد - مزهوون بمتلاشيات الآخرين