أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نايف سلوم - نقد فلسفة التوسير















المزيد.....


نقد فلسفة التوسير


نايف سلوم
كاتب وباحث وناقد وطبيب سوري

(Nayf Saloom)


الحوار المتمدن-العدد: 8288 - 2025 / 3 / 21 - 19:55
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


السؤال: كيف تكون الفلسفة مُحرّضة بالعلوم ولاحقة لنموها، وهي أي الفلسفة "انعكاس" للصراع الطبقي؟ هذه واحدة من مفارقات فكر التوسير المراجع للماركسية.
بمعنى آخر وحسب زعم آخر مضاد لزعم التوسير، يمكن القول إن فلسفة هيغل حاصلة بفعل تحريض اجتماعي طبقي هو الثورة الفرنسية وصعود البورجوازية التاريخي، وأن فكر ماركس محرَّض على هذا الأساس الطبقي بفعل صعود البروليتاريا السياسي اعتبارا من ثورة 1848، والتي كان بدوها خلال ثورة 1830 في فرنسا أو ثورة يوليو؛ الثورة الفرنسية الثانية.
وحول كتاب لينين "المادية ومذهب النقد التجريبي"، فقد كتبه لينين في حقبة هامة جداً بالنسبة للحركة العمالية الروسية والعالمية. فأوروبا برمتها كانت ترزح تحت تأثير الصورة البورجوازية –الديمقراطية الأولى التي نشبت في روسيا بين 1905-1907. وبالرغم من أن النصر لم يكتب لها، كان لا بد لها أن تؤثر تأثيراً عظيماً في التطور اللاحق لروسيا وفي تطور الحركة الثورية العالمية. فلأول مرة في التاريخ تسنمت البروليتاريا دفة القيادة في الثورة البورجوازية-الديمقراطية. وتجلى للعيان بأنها هي وحدها المناضل الثابت من أجل الديمقراطية والحرية والتقدم الاجتماعي. وبذلك تأكد تقرير لينين الوارد أثناء الثورة في كتابه "خطتا الاشتراكية –الديمقراطية في الثورة الديمقراطية" (راجع: عرض كتاب لينين: المادية والنقد التجريبي)
كانت ثورة 1905 وفشلها هي الدافع وراء تأليف كتاب لينين، وكانت "أزمة العلوم الطبيعية" نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وظهور التحريفية في الحركة الاشتراكية-الديمقراطية الألمانية (برنشتاين)، هي وسيلة المثقفين البورجوازيين للهجوم على النظرية الماركسية والزعم بأنها قد تخلفت وشاخت مستغلين جو التخاذل والقنوط والخيبة. وفي جو البلبلة هذا شجعت الحكومة القيصرية ودعمت "بث نظريات صوفية دينية (رجعية) تكن العداء للنظرية الثورية الماركسية" (عرض المادية والنقد التجريبي)
والطريف في الامر أن بدء صعود البورجوازية التاريخي قد سبق الاكتشافات العلمية الجديدة الحاسمة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بقرنين من الزمن.
هذه النزعة "العقلانية الطبيعية" (المادية الطبيعية)، وهذا الضرب من فلسفة العلم في بنيوية ألتوسير تقود تلقائياً إلى تخفيض علم التاريخ والحاقه بعلوم الطبيعة بحيث يغدو علم التاريخ واحداً من تطبيقات العلوم الطبيعية. وقد لاحظنا عند قراءتنا النقدية لكتاب انجلز: "لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" أن لديه هذه النزعة العلمية الطبيعية على حساب الفهم المادي للتاريخ لدى ماركس (المادية التاريخية). وهذا التخفيض يقود إلى عجز الماركسية (الفيزيقية) عن قراءة الظواهر الجديدة في العالم الرأسمالي والاشتراكي على حد سواء. لدينا هنا مادية طبيعية عاجزة مقابل مادية تاريخية معْجِزة.
وأقول: "إن "الفلاسفة الطبيعيين" السابقين لسقراط ليسوا "علماء" إلا بمقدار ما هم ورثة "طبيعيين" للميثولوجيا اليونانية. و"الطبيعة" هنا ليست العلم الطبيعي كما ظهر لدى البورجوازية في القرن الثامن عشر، بل هو انسحاب على مراحل من الوجود الخارجي المبسوط إلى الوجود الداخلي المقبوض والتركيز على العنصر الأول (الاسطقس الأساس والاصل) وقد انتهى هذا الجهد وتوج مع سقراط، حين قال: اعرف نفسك! فهي العنصر الأول وليس عناصر الطبيعة الأربعة (الهواء، الماء، النار، التراب). يقول الأهواني: "تتألف المدرسة الايونية من ثلاثة فلاسفة هم طاليس وانكسمندريس وأنكسمانس وهم جميعاً من مدينة ملطية، ولذلك تعرف المدرسة باسم مدرسة ملطية. وقد أطلق عليهم أرسطو اسم الطبيعيين الاولين، فاشتهرت المدرسة بذلك، ولو أنه يضم إليهم هيراقليطس باعتبار أنه قال بالنار مبدأ أول" (فجر الفلسفة اليونانية) وواضح أن تصنيف أرسطو للفلاسفة الايونيين على أنهم طبيعيين يقوم على أساس اعتماد كل منهم على عنصر طبيعي أو أكثر كمبدأ أول (اسطقس). لذلك أضاف أليهم هيراقليطس لأنه اعتمد النار كعنصر أول، مع كونه صوفي غامض وشاعر وليس بعالم فلك أو رياضي. وله كتاب في "الطبيعة". أما فيثاغورس "عالم الرياضيات" فقد كان نبياً متألهاً.
هؤلاء "الطبيعيون" نقصد بهم "أربعة نبغوا في أيونيا نشأ ثلاثة منهم في مدينة ملطية فعرفوا باسم "المدرسة الملطية" وهم: طاليس، وأنكسيماندريس، وانكسيمانس. ونشأ الرابع في مدينة أفسِس هو هيراقليطس، ويُدعون جميعاً بالأيونيين" (دروس في الفلسفة اليونانية)
في الهامش (إبراهيم مدكور) يقول: "قبل أن نحاول نقد القراءة التقليدية لمادية طاليس، أستحضر أداة منهجية استخدمها الطيب بو عزة في قراءة هذه الفلسفة وهي المضاعفة الرياضية (التثمين) للما قبل والمقصود بها: تحليل البنية المفاهيمية للفلسفة الملطية من خلال المعجم الميثولوجي الديني الذي نشأت في حضنه، لا من خلال المعجم الارسطي الذي لم يتبلور إلا في زمن لاحق لها، يجاوزها بقرن ونصف والقصد من هذه الأداة تأسيس قراءة تداولية (تواصلية) مستوعبة غير مختزلة، موصولة بسابقها لا مقطوعة الرباط به" (دروس في الفلسفة)
"ليس في وجهات نظر الفلاسفة ما يؤكد سبب اختيار طاليس للماء. لتجاوز هذه الثغرة نفعّل أداة الما قبل التي يحاول فيها الطيب بوعزة فتح تأويل جديد يوصل هذه الفلسفة مع ما قبلها بحيث تنطلق فلسفته من الميثولوجيا الدينية، حيث قد لاحظ كثير من الباحثين القرابة بين "مبدأ طاليس" والفكر الميثولوجي الديني. فعند إيتيوس نجد توكيداً على القرابة بين التصور الطاليسي للماء والتصور الميثولوجي الديني لـ الأوقيانوس بالإحالة إلى هوميروس، وكذلك هذا التأويل عند بروبوس"
ونعلم أن الأوقيانوس هو المحيط البدئي؛ نون: يم، ومار-يم تعني سيد على الماء بعد ظهور الكون الجديد.
والماء في الميثولوجية الدينية الاغريقية ليس أصل الوجود الفيزيقي، بل أصل الوجود الإلهي حيث أن الالهة نفسها ولدت من الماء"
هذا الفتق بعد أن كان رتقاً جعل عرشه على الماء، حيث خرج المعنى من العماء أو المحيط البدئي نون وبات سيداً عليه. و"عماء" تعني أن العين (عين تعين المعنى) ما تزال مندغمة بالمحيط البدئي (نون). قال منتجب الدين العاني:
صهباء كانت ونون الكاف ما برزت والشيء مندمج في علم باريه
وجاء في القرآن الكريم: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) [هود: 7]
هذا العماء الأصلي، هذا المحيط البدئي هو ما دعاه انكسيماندريس بـ "اللامتناهي" أو الابيرون، حيث هذا الأخير لا أسطقسي؛ لا مادي، وبأنه ذا طابع ميثولوجي ديني. وأرسطو نفسه قال: إن وجود الاضداد في الابيرون هو وجود بالإمكان لا بالفعل. وباستحضار ترجمة إسحاق بن حنين (للميتافيزيقا) التي قالت عن الابيرون إن ما يخرج منه هو فيض وصدور لا انفصال" يؤكد أن وجود الابيرون متعين في ذاته غير متعين بالنسبة لنا بعد، أي أن وجوده بالذات لا بالعرض. أي أن وجوده معنويا لا مادياً. قلنا في كتاب "المعجزة": "اللامتعين هو أبيرون apeiron أو نوع من الحساء بالنوى والالكترونات، وصهارة من حساء النيكلونات أو عدم نظام المادة. والمتعين هو بيراز peras وفي العربية (برز): ظهور الشيء وبدوه، انفراد الشيء من أمثاله (بتل)، وبتل يدل على إبانة الشيء من غيره تفرداً. ويقال لمريم العذراء "البتول" لأنها انفردت فلم يكن لها زوج" (المعجزة: ص 71)
وإذا كان ذلك كذلك فإن الكون (cosmos) يبرز من كاوس أو العماء (chaos) ويكون بدو الكون. جاء في القرآن الكريم قوله: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم: 48] أي خرج الخلق أمام القهار الذي قهر كل شيء وغلبه، أمام قاهر الماء وسيده.
ينتقد ييجر تفسير برنت قائلاً: "إن أرسطو حين سمى فلاسفة المدرسة الايونية بالطبيعيين كان يقصد من لفظة الطبيعة physis خلاف ما نعنيه الان في العلم الحديث" (فجر الفلسفة اليونانية: ص 53)، كان يعني البروز والظهور.
يقول انكسيمندرس في النصوص التي جمعها ديلز (عن الترجمة الإنكليزية لكاتلين فريمان): "اللانهائي هو المادة الأولى للأشياء الكائنة" "هذا اللانهائي دائم أزلي" "خالد لا يفنى" apeiron أي اللامتعين undetermined " (فجر الفلسفة: 58) والأبيرون من (أضداد) اللفظة اليونانية peras أي متعين. "والذين ترجموا (apeiron) بأنها لا متعينة (قصدوا) لا صفة لها" (فجر الفلسفة: 58)
والأبيرون هو مبدأ الأشياء وسمبليقيوس هو أول من قال عن الابيرون إنه مبدأ arche (آرخي)، فالابيرون هو البدء" (فجر الفلسفة: 59) والابيرون هو قوة محضة أو الهيولى (الهولة مفتوحة الشدق) اللامتعينة عند أرسطو.
قلنا في كتابنا "المُعْجِزة؛ الشذرات والنُّكَت في السيرة المحمديّة": "في سنة 1912 نشر كونفورد كتابه "من الدين إلى الفلسفة" حيث حاول للمرة الأولى توضيح الرابط الذي يجمع الفكر الديني مع بدايات المعرفة العقلية. ولم يعد إلى هذه المشكلة إلا متأخراً في خريف العمر. ولم يظهر إلا في سنة 1952 –تسع سنوات بعد موته-الصفحات المجتمعة تحت عنوان "بداية الحكمة": أصول الفكر الفلسفي اليوناني، حيث ُيبين الأصل الميثولوجي القصصي لأول فلسفة يونانية. وبين كونفورد معاكساً بورني أن لا شيء مشترك بين الفيزياء والفلسفة الايونية، وما نسميه اليوم "علم تجريبي"، إنها تجهل كل شيء عن التجريب، كما أنها ليست منتج الذكاء الذي يلاحظ الطبيعة مباشرة. إنها تنقل في شكل مُعْلمن وعلى صعيد فكر أكثر تجديداً، نسق التمثيل الذي أعدّه الدين. وكوسمولوجيات الفلاسفة تعيد وتكمل الميثولوجيات النشكونية (نشوء الكون). إنها تعطي إجابة عن نمط الأسئلة نفسها: كيف يمكن لعالم منظّم (كوزموس) أن يخرج من الخواء أو الشدق والعماء (كاوس). كما أنها تستعمل أدوات تصورية مماثلة. فوراء "أسطقسات" الايونيين ترتسم جانبياً صورة آلهة الميثولوجيا القديمة" (المعجزة ص 36) هذا الانتقال إلى شكل مُعلمن "طبيعي" علامة على بداية انحطاط البوليس (مدينة-دولة) والذي يجد تتويجه مع سقراط والتهكم السقراطي. قال نيتشه: "التهكم كعلامة انحطاط في الحالة الأكثر شهرة حالة سقراط" والتمهيد مع أفلاطون وأرسطو لدين توحيدي باطني عالمي الملمح يقود ويوجه جهود الاسكندر الأكبر التوحيدية الإمبراطورية.
قلنا في لودفيغ فيورباخ-مدخل نقدي: " ومن الواضح والبديهي استمرار تأثير فكر فيورباخ المادي الطبيعي على تفكير انجلس ونحن في الاعوام (1886-1888). يقول انجلس بهذا الخصوص: "كان فيورباخ على حق تماماً حين قال إن المادية العلمية الطبيعية وحدها دون غيرها " تؤلف أساس بناء المعرفة الإنسانية ولكن ليس البناء نفسه" لأننا لا نحيا في الطبيعة وحدها، ولكن في المجتمع الإنساني أيضاً، وهذا الاخير له كما للطبيعة، تاريخه في التطور وعلمه. فالمهمة، إذن توفيق علم المجتمع، أي مجموع العلوم المسماة بالعلوم التاريخية والفلسفية، مع الأساس المادي، وإعادة بنائه على هذا الاساس" وهذا معناه بالضبط إعطاء الهيمنة لعلوم الطبيعة على علم التاريخ، مع أننا لاحظنا انجلس يقول في هذا الكتاب: "ليس الذنب ذنب فيورباخ إذا كان المفهوم التاريخي عن الطبيعة الذي غدا الان ممكناً والذي قضى على كل ما اتسمت به المادية الفرنسية من ضيق، قد بقي في غير متناوله". يقول ماركس: "إن فيورباخ في حدود كونه مادياً، لا يجعل التاريخ يتدخل قط، وفي حدود إدخاله التاريخ في حسابه ، فهو ليس بمادي. إن التاريخ والمادية منفصلان كلياً عنده" (الأيديولوجية الألمانية 37) ويضيف: "إننا نعرف علماً واحداً فقط ألا وهو علم التاريخ. ويستطيع المرء أن ينظر إلى التاريخ من طرفين، وأن يقسمه إلى تاريخ الطبيعة وتاريخ البشر. وعلى كل حال فالطرفان غير منفصلين: فتاريخ الطبيعة وتاريخ البشر يشرطان بعضهما بعضاً ما وجد البشر. وأن تاريخ الطبيعة المسمى العلوم الطبيعية، لا يعنينا هنا، لكنه لابد لنا أن ندرس تاريخ البشر، ما دامت الأيديولوجية بكاملها على وجه التقريب ترتد إما إلى تفسير خاطئ للتاريخ، وإما تؤدي إلى تعليقه كلياً" (الأيديولوجية الألمانية 22، نايف سلوم: لودفيغ فيورباخ)
وتظهر النزعة الطبيعية عند انجلز في قولنا: " يتحدث انجلس بعد ذلك عن القوة الدافعة لتطور الفلسفة في الحقبة الطويلة التي امتدت من ديكارت (1596-1650) إلى هيغل (1770-1831) ومن هوبز (1588-1679) إلى فيورباخ (1804-1872)، بالقول: لم تدفع الفلاسفة إلى الامام قوة الفكر المحض وحدها، كما كانوا يتصورون، بل على العكس، إن ما دفعهم في الحقيقة إلى الامام، إنما كان على الأخص تطور العلوم الطبيعية والصناعة تطوراً قوياً عاصفاً متسارعاً " لكن انجلس يهمل أمراً حاسماً ، وهو تفاقم الصراعات الطبقية وما نتج عنها من ثورات اجتماعية، خاصة الثورات البورجوازية في إنكلترا والحرب الاهلية (1642-1651) وفي فرنسا (1789 ، 1830). إن سيطرة البورجوازية على السلطة السياسية في إنكلترا وفي فرنسا بعد الثورة الفرنسية الكبرى سنة 1789 أعطى التطور الصناعي زخماً كبيراً عرف باسم مرحلة الثورة الصناعية التي (1760-1860) وهي المرحلة الديمقراطية الليبرالية في تاريخ البورجوازية الأوروبية." (سلوم: مرجع سابق) ونضيف القول: " هذا الاستحضار لعلم الطبيعة وتطوره بهذه الصيغة في نقاش القسم الخاص بماركس، يمكن أن يولِّد الوهم بأن تطور العلوم الطبيعة كان في أساس صعود البورجوازية التاريخي، بحيث يغدو التاريخ وعلومه ملحقاً وتتمة للطبيعة وعلومها. وهذا الوهم يمكن أن نراه في بعض الدراسات السوسيولوجية (الاجتماعية) التي توحي بأن الإصلاح الديني البروتستانتي كان في أصل صعود البورجوازية، مع أن وجهة نظر المادية التاريخية أو الفهم المادي للتاريخ تقول العكس: أن الإصلاح الديني وعصر النهضة الأوروبي واكتشاف العالم الجديد شكلت علامات ثلاث لبداية صعود البورجوازية الحديثة في أوروبا اعتباراً من أواخر القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر. كذلك الامر بالنسبة لتطور علوم الطبيعة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر. وهو ما يثبته انجلس بقوله: "كان علم الطبيعة حتى نهاية القرن الماضي (الثامن عشر)، بصورة رئيسية، علم التراكم، علم الأشياء المنتهية التكوين (ميتافيزيقياً)، أما الان فقد أصبح في قرننا (التاسع عشر) من حيث الأساس، علم التصنيف، علم التفاعلات، علم يتناول أصل وتطور هذه الأشياء والصلة التي تجمع تفاعلات الطبيعة هذه في كل واحد كبير"
التوسير يريد جعل الفيلسوف حكماً وقاضياً على الأيديولوجيا (التاريخ) وعلى العلوم الطبيعية (الطبيعة)، مع أن الفلاسفة هم في حالة صراع أيديولوجي مرير كانعكاس لصراع طبقي تحته. قلنا في "لودفيغ فيورباخ": " لقد وجهت نظرية ماركس في التاريخ (المادية التاريخية) الضربة المميتة للفلسفة في ميدان التاريخ، كما أن المفهوم الديالكتيكي عن الطبيعة (التكشّف التاريخي للطبيعة بواسطة العلوم) يجعل كل فلسفة للطبيعة غير مجدية وغير ممكنة. والمهمة هنا وهناك لا تتقوم باختلاق العلاقات اختلاقاً، بل في اكتشافها في الوقائع نفسها. ولم يبق للفلسفة المطرودة من الطبيعة والتاريخ، سوى ميدان الفكرة البحتة بقدر ما لايزال هذا الميدان قائماً: المنطق أوالديالكتيك"
من هنا يكون على العلماء، علماء الطبيعة دراسة الديالكتيك ومعه تاريخ الفلسفة كتاريخ للمنطق الديالكتيكي لتخصيب خيالهم العلمي وعدم الركون إلى فلسفات مبتذلة يلتقطها العالم من "الشارع". هذه الدعوة لعلماء الطبيعة بدراسة الديالكتيك وتاريخ الفلسفة نجدها لدى انجلز في كتابه التعليمي: "أنتي-دوهرنغ" (ضد-دوهرنغ).
وكان "المثال المحلول" في ذلك العالم الفيزيائي الألماني الفذ فيرنر هايزنبرغ. قلنا في "لودفيغ فيورباخ": " مع افلاس البورجوازية التاريخي لم تعد الفلسفة المنعزلة ضمانة الأزمنة الحديثة، وباتت الفلسفة بحاجة لقيادة الاشتراكية الماركسية والمادية التاريخية كسيد عليها. بهذا المعنى يمكن الحديث عن "نهاية الفلسفة". أما فلول الفلسفة البورجوازية في القرن العشرين فسوف تبحث عن ملجأ لها في الدين والانطولوجيا الدينية العامة وفي العلوم الإنسانية وفلسفة العلوم وفي التحليل النفسي والطبيعية وفي فقه اللغة واللسانيات، وسوف تبحث عن حقيقة الانسان الحديث البورجوازي في كل مكان ما عدا المحل الذي توجد فيه، وهو التنظيم الاقتصادي للمجتمع الحديث البورجوازي. إن هايدغر الذي تحدث "عن نهاية الفلسفة ومهمة التفكير" وهو عنوان واحد من كتبه كان يشير إلى أهمية وجود أنطولوجيا عامة كالأنطولوجيا الدينية القديمة، ترشد العلوم الحديثة كل في حقله الخاص (فيزياء، كيمياء، بيولوجيا، الخ.)، وتخصّبه. إن العالِم المطّلع على تاريخ الفلسفة مثل عالم الفيزياء الألماني فيرنر هايزنبرغ صاحب نظرية "الارتياب" (1901-1976) أكثر عبقرية ودراية في دراسته للفيزياء الحديثة من عالم آخر يأخذ تفلسفه المبتذل من عوام الناس. لم تعد دراسة الطبيعة في حقولها الخاصة بحاجة لفلسفة طبيعة، لكنها بحاجة لتخصيب الخيال الفيزيائي الحديث بالفلسفة وتاريخها والانطولوجيا العامة" وهايدغر يعود لتجديد الانطولوجيا الدينية وعقلنتها لتقوم بهذه المهمة، وكان الأولى أن ينصح علماء الطبيعة والعلوم الإنسانية بقراءة المنطق الديالكتيكي وتاريخ الفلسفة عموماً.
من الواضح بناء على ذلك سيطرة النزعة الطبيعية لدى ألتوسير وميله لإجراء مراجعة طبيعية علموية للمادية التاريخية. وهذا صدى لسيطرة البيروقراطية السوفياتية على الأحزاب الشيوعية في العالم وتحويلها إلى أحزاب خاملة تاريخياً، وتأثراً بتنظيرات انجلز المتأ. إن صعود البنيوية الفرنسية التي تثبّت دور البنية وتنكر دور الذات الفاعلة تاريخياً يؤكد ذلك. وهذا الصعود كان على حساب انحطاط التنظير الماركسي الفرنسي واستسلامه أمام المد البنيوي وما بعد-البنيوي.
"بعد أن عاشت الماركسية الفرنسية فترة مديدة من الهيمنة الثقافية بلا منازع تقريباً، متنعمة بحظوة عالية مكتسبة من معركة التحرير، واجهت أخيراً منافساً فكرياً كان قادر على دخول معركة ضدها، وأن تكون له الغلبة فيها. كانت مناوئتها المنتصرة هي الجبهة النظرية الواسعة الخاصة بالبنيوية. ومن ثم أخلافها ما بعد البنويين" (اقتفاء خطى المادية التاريخية: 52)
لقد عاد بنا ألتوسير عبر وصاية الفلسفة على علوم الطبيعة وعلى التاريخ والايديولوجيات إلى "الأيديولوجية الالمانية" التي تقول بأن الفلاسفة يقودون العالم، والتي انتقدها ماركس بشدة عبر ممثليها: فيورباخ وبوير وشترنر.
خاصة وأنه يتحدث عن الفلسفة عموماً مع أنه يميز المثالية عن المادية. وكان الاجدى الحديث عن المنطق الديالكتيكي وضرورة اطلاع العلماء عليه ومعه تاريخ الفلسفة كتاريخ لهذا المنطق. يقول عصام نجادي في ختام مقالته (مفهوم فلسفة العلماء العفوية عند لويس ألتوسير): " إذا كانت الفلسفة فعالية واستراتيجية تتجلي وظيفتها في التدخل في المستوى النظري (في الفلسفة والعلم وفي الأيديولوجيات النظرية التي تصطبغ وتتقنع بطابع العلمية) من أجل رسم خطوط وحدود فاصلة وواضحة بين ما هو علمي ينتمي إلى مجال النظرية وما هو أيديولوجي ينتمي إلى مجال الممارسة السياسة والاجتماعية من أجل إنتاج نظرية خاصة بالممارسة النظرية (أي الممارسة العلمية الخاصة بالعلماء من أجل فتح اعينهم على أضرب الأيديولوجيات والفلسفات التي يعتنقونها والتي تعرقل نظرتهم للعلم ولتطوره ولازماته ... ) فإن ألتوسير حاول تطبيق هذه الرؤية الجديدة للفلسفة على مجال خاص بالعلم والعلماء "
وهذا معناه أن ألتوسير يقيم الفلسفة حكماً للفصل بين العلم الطبيعي (المادية الطبيعية) الذي يجعله محتكراً "للنظرية" والعلم، وبين "العلم التاريخي" أو "المادية التاريخية" التي تعني لديه الممارسة السياسية والاجتماعية من أجل انتاج نظرية خاصة بالممارسة النظرية، أي الممارسة العلمية الخاصة بالعلماء (وليس الممارسة السياسية ونظرية بناء الحزب الاشتراكي الماركسي الثوري). إن دعوة التوسير هي دعوة لاستبدال الممارسة التاريخية السياسية بممارسة نظرية علمية، بحيث يكون الرهان في التحولات التاريخية على العلم الطبيعي لا على العلم التاريخي ونشاط الطبقة الثورية السياسي. بالنتيجة تكون الضحية الكبرى لفلسفة العلم هذه هي "المادية التاريخية" ويكون التوسير قد وقع في الفخ الذي نصبته البنوية كفلسفة ميتافيزيقية تفصل البنية عن الذات التاريخية الفاعلة في التحولات الكبرى (الثورات الاجتماعية).
بما يخص مفهوم "الأيديولوجية العملية" أقول: هذا أشبه بنظرية الفعل التواصلي لدى هبرماس والتي تحيل بالنتيجة إلى اللغة والكلام واللسانيات. قلنا في ملاحظات نقدية على نظرية الفعل التواصلي لدى هبرماس: " يؤكد هابرماس كما يذكر بنفسه في سيرته الفلسفية، أنه ظل يعمل حتى نهاية الستينيات في تقليد مدرسة فرانكفورت، حيث إنه مع محاضرات كريستيان غوس (1970-1971) فقط طرح القضية الكبرى المتعلقة بالانتقال من براديغم الوعي إلى براديغم اللغة، وكان العنوان العام هو "تأسيس علم الاجتماع على نظرية اللغة" ، وذلك يعني فلسفياً الانتقال من باراديغم الذات ("نزع التعالي عن العقل") إلى البحث في الممارسات التواصلية (براديغم اللغة اليومية) (من عقل الثورة إلى عقل الحياة اليومية). إلا أن ذلك لا يعني تصور المجتمع بوصفه مجرد شبكة تواصلية، بل أيضاً بوصفه يتهيكل انطلاقاً من أفعال تواصلية "حاملة لمفترضات معيارية" " (يورغن هرماس: نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول)
أما مفهوم الممارسة عند ألتوسير والتي يقول عصام نجادي عنه في الهامش: “مفهوم الممارسة هو من المفاهيم التي تشكل قصب البناء النظري والفلسفي الخاص بألتوسير " حيث يقصر ألتوسير الممارسة على "الممارسة النظرية" بحيث يفرق بين الموضوعي التجريبي أو الموضوع المعطى للحواس وبين الموضوعي المفهومي الموجود في ذهن الباحث. وهذه المفاهيم كان قد طرحها التوسير في قراءته لرأس المال مع فريق من الباحثين. وهي فكرة تأخذ تصريح ماركس في مقدمات الرأسمال حين يفرق ماركس بين منهجه الديالكتيكي وبين منهج هيغل: "أما عندي فالأمر معكوس، إذ ليس المثالي سوى انعكاس وترجمة (تحويل) للعالم المادي في الدماغ البشري" (رأس المال، المجلد الأول –تعقيب على الطبعة الألمانية الثانية). التوسير يعتبر هذا التحويل في الدماغ وهذه الترجمة التي تنقل الموضوع التجريبي المعطى إلى موضوع فكري هو الممارسة الوحيدة (ممارسة نظرية). وكما يقول التوسير في قراءة رأس المال: إن الالتباس الذي يواجهنا ليس في كلمة "واقعي" بل في كلمة "موضوعي"

مراجع
1-نايف سلوم: لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية –مدخل نقدي منشورات فاعل. 2024
2-نايف سلوم: المُعْجِزة: مقدمة جديدة؛ الشذرات والنُّكَت في السيرة المحمديّة. 2023
3-الدكتور أحمد فؤاد الأهواني: فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2009
4-أنظر أيضاً انجلز: أنتي-دوهرنغ ترجمة دار التقدم
5-ماركس-انجلز: الأيديولوجية الألمانية. ترجمة د. فؤاد أيوب دار الفارابي 2018 ودار دمشق 1976
6-يورغن هبرماس: نظرية الفعل التواصلي، المجلد الأول (عقلانية الفعل والعقلنة الاجتماعية)، ترجمة فتحي المسكيني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
7-كارل ماركس: رأس المال، المجلد الأول، ترجمة د. فالح عبد الجبار، دار الفارابي الطبعة الأولى 2013
8-بيري اندرسون: اقتفاء خطى المادية التاريخية، ترجمة يزن الحاج، منشورات المتوسط إيطاليا، 2018
9-يوسف كرم-إبراهيم مدكور: دروس في الفلسفة، الطبعة الأولى، عالم الادب بيروت 2016
10-هانيرش أوبتز: عرض وقراءة كتاب لينين "المادية والنقد التجريبي" ترجمة عيسى عبد الرضا، دار ابن خلدون، الطبعة الأولى 1981
11-عصام نجادي: مفهوم فلسفة العلماء العفوية عند لويس ألتوسير، مقالة منشورة



#نايف_سلوم (هاشتاغ)       Nayf_Saloom#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في مفهوم الحضارة وتطوره
- مثلث هنري كيسنجر
- العلمانية، الديمقراطية، المواطنة
- مشروع الممر الاقتصادي الهندي-الأميركي
- الدولة السورية الحديثة: تواريخ ومحطات-2
- سوريا الحديثة: ثلاثة عهود
- الدولة السورية الحديثة تواريخ ومحطات-1
- -الأسرة المقدسة- تحقيقات وتعليقات- ترجمة مميزة رقم 3
- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-1
- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
- الجباعي* يحْطِم ماركس
- ملاحظات انتقادية لأقوال علي القادري-2
- ملاحظات انتقادية لأقوال علي القادري -1
- المحاولات الأميركية المُتكررة لبناء -شرق أوسط جديد-
- -الأسرة المقدسة- تحقيقات وتعليقات - ترجمة مميزة رقم 3
- رسالة في -رَسْمِ العقل- وأقوال
- استهلال -الماديّة ومذهب نقد التجربة--4
- استهلال -الماديّة ومذهب نقد التجربة--3
- استهلال -الماديّة ومذهب نقد التجربة--2
- استهلال -الماديّة ومذهب نقد التجربة--1


المزيد.....




- ترامب يوجه صفعة لشخصيات مثل كامالا هاريس وكلينتون بمذكرة وقع ...
- ويتكوف: -بوتين صلى من أجل ترامب- عقب محاولة اغتياله
- ألعاب نارية ومشاعل تضيئ سماء كردستان العراق في احتفالات عيد ...
- الحكومة البريطانية ترفع مؤقتا القيود المفروضة على رحلات الطي ...
- ويتكوف: لقاء ترامب وبوتين قد يتم في الأشهر القليلة المقبلة
- -بيلد-: انهيار سلطة فون دير لاين في ظل رئاسة ترامب
- ويتكوف: الحل في غزة يمر عبر نزع سلاح -حماس- وإجراء انتخابات ...
- ويتكوف: الشرع تغير وسوريا ولبنان قد يوافقان على تطبيع العلاق ...
- الذكاء الاصطناعي يرد على مقال -لا تقلل أبدا من شأن السعودية- ...
- السعودية.. فيديو حسرة سائق بعد سرقة -كفرات- سيارته برمضان يث ...


المزيد.....

- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نايف سلوم - نقد فلسفة التوسير