علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)
الحوار المتمدن-العدد: 8288 - 2025 / 3 / 21 - 14:07
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أولا: الـمـوقـف الـذاتـي
يقول المناطقة التجريبيون إن الخير والجمال كلمات فارغة لا معنى لها لأنها ألفاظ تدل على قيم ذاتية لا وجود لها في الواقع الموضوعي.
وهذا الادعاء التجريبي بأن الخير والجمال مجرد كلمات فارغة لا معنى لها، بحجة أنها تعكس قيما ذاتية لا وجود لها في الواقع الموضوعي، يتأسس على افتراضين رئيسيين: أولًا، أن المعنى الحقيقي لأي مفهوم يجب أن يكون قابلًا للتحقق التجريبي أو أن يكون مرتبطًا بمعطيات حسية مباشرة؛ وثانيًا، أن القيم، لكونها ذاتية، لا يمكن أن تمتلك أي وجود موضوعي حقيقي. لكن هذين الافتراضين يمكن دحضهما فلسفيًا عبر عدة مسارات.
١. إشكالية اختزال المعنى إلى التجربة الحسية
تقوم الفلسفة التجريبية على قاعدة أن كل معرفة ذات معنى يجب أن تكون قابلة للتحقق تجريبيًا، وهذا يقود إلى مشكلتين:
أ/ تقييد المعرفة بحدود الحسّ: إذا كانت كل معرفة ذات معنى يجب أن تكون حسية، فهذا يعني استبعاد مجالات واسعة من الفكر البشري، مثل المنطق والرياضيات، لأن هذه الحقول ليست مستمدة من التجربة الحسية بشكل مباشر، بل من علاقات عقلية مجردة. فكيف يمكن تفسير معاني القضايا الرياضية أو المقولات المنطقية؟ هل هي أيضًا كلمات فارغة؟
ب/ التناقض الذاتي: المبدأ القائل بأن (المعنى محصور في القابلية للتحقق التجريبي) ليس نفسه قضية يمكن التحقق منها تجريبيًا، بل هو فرضية ميتافيزيقية، ما يعني أنه يقوض ذاته بذاته.
٢. البنية الأنطولوجية للقيم.
القول بأن الخير والجمال مجرد قيم ذاتية لا وجود لها في الواقع الموضوعي يتجاهل حقيقة أن هذه القيم ليست مجرد أحاسيس فردية، بل بنيات عقلية واجتماعية لها تجليات موضوعية:
الخير بوصفه واقعة اجتماعية:
لو كان الخير مجرد ذاتية فردية، لما وجدنا إجماعا بين المجتمعات البشرية على قيم مثل العدالة والرحمة والشجاعة. وجود مثل هذا التوافق عبر التاريخ والثقافات يشير إلى أن للخير أساسًا موضوعيًا، حتى وإن كان غير مادي.
الجمال بوصفه إدراكا موضوعيا:
التجربة الجمالية ليست مجرد انفعال ذاتي، بل هي إدراك لنظام معين في الأشياء. عندما نقول إن لوحة فنية جميلة، فإن ذلك لا يعني فقط أنها تثير لدينا مشاعر معينة، بل إنها تمتلك خصائص محددة، مثل التوازن والانسجام والإيقاع، التي يمكن تحليلها بشكل موضوعي.
٣. الرد من خلال الفلسفة الجدلية التوحيدية
إذا نظرنا إلى الخير والجمال من منظور فلسفة توحيدية جدلية، سنجد أن هذه القيم ليست مجرد انطباعات ذاتية، بل هي تجليات لعلاقات موضوعية في الوجود. الخير ليس مجرد حكم اعتباطي، بل هو تعبير عن انتظام في العلاقات البشرية يضمن استمراريتها وتطورها. والجمال ليس مجرد إحساس لحظي، بل هو انعكاس لترتيب معيّن في الكون.
٤. القيم والمعيارية الفلسفية
إذا كانت القيم مثل الخير والجمال مجرد ذاتيات فارغة، فكيف نفسر وجود نقاشات فلسفية عميقة حولها؟ لو لم يكن لهذه القيم أي معنى موضوعي، لما كان بالإمكان التفريق بين جمال متناسق وآخر مشوّه، أو بين فعل نبيل وآخر دنيء. بل إن حقيقة أن التجريبيين أنفسهم يتخذون موقفا قيميا حينما ينكرون موضوعية القيم، تدل على أنهم واقعون في تناقض: فهم يحكمون على مفهوم القيم بأنه (خاطئ) أو (غير ذي معنى)، مما يستدعي الاعتراف بأن هناك حكمًا موضوعيًا على القيم، حتى وهم ينكرونه.
٥. التجربة الإنسانية تثبت خطأ التجريبيين
إذا كانت القيم مجرد ذاتيات، فلماذا نجد أن البشر مستعدون للتضحية من أجلها؟ لماذا يموت الناس من أجل الحرية أو العدالة، إذا كانت مجرد أوهام؟ الواقع الإنساني يبرهن أن هذه القيم ليست مجرد إسقاطات ذاتية، بل هي قوى حقيقية توجه الفعل البشري وتشكّل التاريخ.
بحسب هذا الموقف:
فإن القول بأن الخير والجمال مجرد كلمات فارغة ناتج عن تصور ضيق للمعنى والوجود. القيم ليست مجرد انفعالات شخصية، بل هي بنيات حقيقية تعكس انتظامات في الوجود، سواء على المستوى العقلي أو الاجتماعي أو الكوني. وبالتالي، فإن التجريبية الوضعية التي تحاول اختزال القيم إلى مجرد ذاتيات، تجد نفسها في تناقض مع طبيعة الفكر البشري ذاته، ومع الواقع التاريخي والاجتماعي للإنسان.
ثانيا: المـوقـف المـعـارض
الخير والجمال: قيم ذاتية أم أوهام لغوية؟
لطالما أثارت مفاهيم الخير والجمال جدلًا عميقًا في الفلسفة، حيث انقسم المفكرون بين من يراهما جوهريتين وموضوعيتين، وبين من يعتبرهما مجرد إسقاطات ذاتية لا تمتلك أي وجود مستقل عن وعينا. وضمن هذا السياق، يؤكد المناطقة التجريبيون أن الخير والجمال ليسا سوى كلمات فارغة، أي أن مدلولهما لا يتجاوز المشاعر والانطباعات الذاتية، مما يعني أنهما لا يشيران إلى أي حقيقة موضوعية قائمة بذاتها. هذه الأطروحة تستند إلى أسس فلسفية ومنطقية متعددة، يمكن تحليلها من خلال عدة محاور.
١. التحليل التجريبي للمعنى
يقوم الاتجاه التجريبي في الفلسفة على مبدأ أن المعنى الحقيقي لأي مفهوم يجب أن يكون مرتبطًا بإمكانية التحقق الحسي أو التجريبي. فإذا أخذنا مفهوم الخير، سنجد أنه لا يشير إلى كيان يمكن رصده بشكل مباشر، بل إلى حكم قيمي يختلف باختلاف الأفراد والثقافات. كذلك، الجمال ليس إلا انطباعًا شخصيًا، حيث ما يُعتبر جميلًا في بيئة ما قد يكون قبيحًا في بيئة أخرى، مما يجعل من الصعب الادعاء بأن له وجودًا موضوعيًا مستقلًا عن الأذواق البشرية.
٢. النسبية القيمية ودحض الموضوعية
إذا كان الخير والجمال يحملان معاني موضوعية، لوجب أن يكون هناك اتفاق كوني عليهما. لكن الواقع يكشف عن تباين كبير بين الحضارات والمجتمعات في تحديد ما هو (خير) وما هو (جميل). فالقتل مثلًا يُدان في سياقات معينة، بينما يُمجد في أخرى تحت مسميات الشرف أو الدفاع عن الوطن. وكذلك الجمال، فهو يختلف بين الثقافات، بل حتى داخل المجتمع الواحد عبر الزمن. هذه النسبية تثبت أن القيم ليست سوى انعكاسات ذاتية للظروف الثقافية والنفسية، وليس لها أي حقيقة موضوعية مطلقة.
٣ تحليل لغوي: القيم كأدوات تعبيرية فارغة
من منظور الفلسفة التحليلية، فإن الألفاظ التي لا تشير إلى وقائع ملموسة يمكن اعتبارها مجرد تعابير بلا مضمون موضوعي. كلمات مثل (الخير) و(الجمال) لا تحيل إلى أشياء فيزيائية، بل تعكس حالات ذهنية تختلف من شخص لآخر. وبهذا، تصبح هذه الألفاظ شبيهة بالمفاهيم الميتافيزيقية التي لا يمكن إثباتها أو نفيها، مما يضعها خارج نطاق المعنى الموضوعي.
٤. الأساس النفسي للقيم: المشاعر لا تصنع حقائق
من منظور علم النفس، ترتبط القيم الأخلاقية والجمالية بانفعالات الإنسان ورغباته. فنحن نصف الأشياء بأنها جميلة أو جيدة لأنها تثير فينا شعورًا بالمتعة أو بالراحة، لكن هذا لا يعني أن هذه الصفات موجودة في الأشياء نفسها. تمامًا كما أن الحلاوة والمرارة ليستا صفات موضوعية للطعام، بل هما تجارب حسية تعتمد على أجهزتنا العصبية، فإن الخير والجمال ليسا إلا انعكاسات ذهنية قائمة على الاستجابة الشعورية، لا على أي جوهر موضوعي مستقل.
٥. التاريخ والتطور: القيم كأدوات للبقاء
عبر التاريخ، تطورت القيم الأخلاقية والجمالية استجابة لضرورات اجتماعية ونفسية، وليس استنادًا إلى حقيقة موضوعية ثابتة. فالمجتمعات التي وجدت أن التعاون والصدق يساعدانها على البقاء، طورت مفاهيم الخير حول هذه القيم. وبالمثل، نشأت معايير الجمال كنتاج للتطور البيولوجي والاجتماعي، لا كحقائق مطلقة. وبالتالي، فإن القيم ليست سوى اختراعات بشرية أملتها الحاجة إلى التنظيم الاجتماعي والتكيف البيولوجي، وليست كيانات مستقلة عن الإنسان.
بناء على هذا الموقف يمكن القول:
انطلاقا من التحليل التجريبي والمنطقي، يتضح أن الخير والجمال ليسا سوى أوهام لغوية تعبّر عن مشاعر فردية واجتماعية، لكنها لا تحيل إلى أي واقع موضوعي. إنهما مجرد أدوات تعبيرية تساعدنا في التواصل والتنظيم، لكنهما لا يمتلكان أي وجود خارج نطاق الإدراك البشري. وعليه، فإن القول بأن هذه القيم مجرد كلمات فارغة لا يحمل أي تناقض منطقي، بل يستند إلى فهم عميق لطبيعة اللغة والتجربة البشرية، مما يجعله استنتاجا فلسفيا متينا.
ثالثا: الـموقـف الـوسـطـي
لطالما انقسم الفكر الفلسفي بين اتجاهين متعارضين بشأن طبيعة القيم: الأول، الذي يتبناه المناطقة التجريبيون، يرى أن الخير والجمال مجرد كلمات فارغة لا تحيل إلى أي واقع موضوعي، بل هي تعبيرات ذاتية تتفاوت بين الأفراد والثقافات. في المقابل، يصر المعارضون لهذا الطرح على أن القيم ليست ذاتية بالكامل، بل تمتلك أساسًا موضوعيًا يتجاوز حدود الإدراك الفردي. غير أن هذا الاستقطاب الحاد بين الذاتي والموضوعي قد يكون إشكاليًا بحد ذاته، إذ يتجاهل تعقيد طبيعة القيم وتشابكها بين الذهن والواقع. لذا، فإن المقاربة الوسطية تقتضي تجاوز هذا الثنائيات الحادة، والبحث عن تصور أكثر دقة يعترف بالبعد الذاتي للقيم دون أن ينفي إمكانية وجود أنساق موضوعية تؤطرها.
١. القيم بين الإدراك الفردي والبنية الاجتماعية
إذا تأملنا طبيعة القيم، نجد أنها تنشأ على مستويين متداخلين:
المستوى الفردي الذاتي:
حيث ترتبط القيم الأخلاقية والجمالية بتجارب الإنسان الشخصية، فتكون استجابته للخير أو الجمال مشروطة بعواطفه وخلفيته الثقافية وبيئته. فالإنسان لا يدرك الجمال والفضيلة بوصفهما معطيات مستقلة عن وعيه، بل عبر منظومته الإدراكية التي تشكلها خبراته الحسية والعقلية.
المستوى الاجتماعي الموضوعي:
رغم اختلاف الأذواق والمعايير الأخلاقية بين الأفراد والمجتمعات، إلا أن هناك أنماطًا متكررة تشير إلى وجود انتظام في الأحكام القيمية. فالخير، رغم اختلاف تعريفاته، غالبًا ما يرتبط بقيم تعزز بقاء الجماعة، مثل العدل والصدق والتعاون. والجمال، رغم تباين معاييره، غالبًا ما يتأسس على مبادئ التناغم والتناسب والإيقاع. هذا الانتظام في الأحكام يشير إلى وجود أنماط موضوعية تعمل كإطارات مرجعية، حتى وإن لم تكن مستقلة تمامًا عن الإدراك البشري.
٢. دحض الحتمية الذاتية والحتمية الموضوعية
ضد النزعة الذاتية المتطرفة:
إن القول بأن الخير والجمال مجرد ذاتيات لا معنى لها خارج الإدراك الفردي ينطوي على تناقض ضمني، إذ كيف نفسر ميل المجتمعات البشرية إلى تطوير معايير قيمية مشتركة؟ ولماذا نجد أن مفاهيم مثل العدالة والكرامة تستمر في الوجود، حتى مع اختلاف تأويلاتها؟ إن القيم، رغم اختلافاتها، ليست مجرد أوهام فردية، بل تتشكل ضمن أنساق اجتماعية وثقافية تعطيها نوعًا من الموضوعية النسبية.
ضد النزعة الموضوعية المطلقة:
في المقابل، القول بأن القيم تمتلك وجودا موضوعيا مطلقا ومستقلا عن الإنسان يتجاهل الدور الحاسم للإدراك في تشكيلها. فحتى أكثر القيم رسوخًا تخضع لتحولات تاريخية واجتماعية، ما يدل على أن القيم ليست معطيات ثابتة، بل كيانات متحولة تتكيف مع الظروف المحيطة.
٣ القيم كظواهر تفاعلية بين الذات والموضوع
إذا كانت القيم ليست ذاتية خالصة ولا موضوعية محضة، فكيف يمكن فهمها؟ المقاربة الوسطية تقترح النظر إليها بوصفها ظواهر تفاعلية، أي أنها تنشأ عند تقاطع الذاتي بالموضوعي. فهي ليست (أشياء) قائمة بذاتها في العالم الخارجي، لكنها أيضًا ليست مجرد مشاعر فردية معزولة عن الواقع. يمكن تشبيهها باللغة: فالكلمات لا تمتلك معانيها بشكل مستقل عن البشر، لكنها في الوقت نفسه ليست مجرد أصوات بلا دلالة، بل تنشأ ضمن أنظمة تواصلية تشترك فيها الجماعة البشرية.
٤. دور العقل في تأسيس القيم
إذا قبلنا بأن القيم ليست موضوعية بالكامل، فهذا لا يعني أنها عشوائية أو اعتباطية. فالعقل الإنساني قادر على توليد معايير قيمية تستند إلى مبادئ منطقية وتجريبية، حتى وإن كانت نسبية. على سبيل المثال، يمكننا القول بأن العدالة خير لأنها تؤدي إلى استقرار المجتمعات، أو أن التناسق جميل لأنه يعكس انتظامًا في الطبيعة. هذه المقولات ليست حقائق فيزيائية، لكنها أيضًا ليست ذاتية تمامًا، بل تعكس عمليات عقلية قادرة على إنتاج معايير قابلة للنقاش والتبرير العقلاني.
الخاتمة:
نحو فهم جدلي للقيم
إن اختزال القيم إلى مجرد ألفاظ فارغة هو تبسيط مخلٌّ بطبيعتها المركبة، تمامًا كما أن الادعاء بأنها حقائق مطلقة متجاوزة للإنسانية يتجاهل دور الوعي والتاريخ في تشكيلها. والحل الوسط لا يكمن في التسوية بين الموقفين، بل في إعادة صياغة الإشكال نفسه: القيم ليست معطيات صلبة ولا سرابًا ذاتيًا، بل هي بنى مرنة تتشكل عبر التفاعل بين العقل، والمجتمع، والتجربة الإنسانية. إنها ليست محض انعكاس لمشاعرنا، لكنها أيضًا ليست قوانين ميتافيزيقية مفروضة على الوجود. وهكذا، فإن فهم القيم يقتضي النظر إليها بوصفها تجليات لعلاقات متشابكة، لا يمكن اختزالها إلى ذاتية خالصة أو موضوعية صارمة.
#علي_حسين_يوسف (هاشتاغ)
Ali_Huseein_Yousif#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟