أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - مابعد الحداثة: تفكيك اليقين وإعادة تشكيل الفكر في عالم بلا ثوابت















المزيد.....


مابعد الحداثة: تفكيك اليقين وإعادة تشكيل الفكر في عالم بلا ثوابت


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8287 - 2025 / 3 / 20 - 09:34
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تمثل فلسفة ما بعد الحداثة مرحلة فارقة في تاريخ الفكر الفلسفي، حيث قامت بإعادة النظر جذريًا في القيم والمعايير الفلسفية التقليدية التي أرستها الحداثة، متجاوزةً المقولات الكبرى للعقلانية والتقدم واليقين. ورغم تباين تياراتها وأفكارها، فإنها تطرح مجموعة من الإشكاليات العميقة التي لا تزال مثار جدل واسع في الفلسفة المعاصرة. ومن أبرز هذه الإشكاليات :

1- إشكالية المعرفة واليقين

أحد أهم الأسئلة التي تثيرها ما بعد الحداثة يتعلق بطبيعة المعرفة وإمكانية الوصول إلى الحقيقة الموضوعية. ففي حين سعت الحداثة إلى تأسيس المعرفة على أسس عقلانية وعلمية صلبة، جاءت ما بعد الحداثة لتقويض هذه الأسس والتشكيك في كل أشكال اليقين المطلق. فمثلاً، يرى ميشيل فوكو أن المعرفة ليست كيانًا محايدًا، بل تتشكل ضمن أنظمة خطابية تخدم السلطة. ويذهب جان فرانسوا ليوتار إلى أن "السرديات الكبرى" (Grand Narratives) التي قدمتها الحداثة، سواء كانت دينية أو علمية أو سياسية، ما هي إلا أدوات للهيمنة والإقصاء، إذ تُضفي شرعية زائفة على أنظمة معينة من التفكير والمعرفة. وهكذا، فإن ما بعد الحداثة تدعو إلى "نسبية معرفية" ترى أن الحقيقة ليست مطلقة، بل متغيرة ومتعددة السياقات.

2- إشكالية اللغة والتأويل

تلعب اللغة دورًا محوريًا في فلسفة ما بعد الحداثة، حيث لم تعد تُنظر إليها على أنها وسيلة محايدة لنقل المعاني، بل كشبكة معقدة من الدلالات المفتوحة التي تتغير باستمرار. يتجلى هذا في تفكيكية جاك دريدا التي ترى أن المعاني ليست ثابتة، بل تتشكل من خلال "الاختلاف" (Différance) والتأجيل المستمر للدلالة. فالكلمات لا تحيل إلى حقائق ثابتة، وإنما إلى كلمات أخرى في سلسلة لا نهائية من التأويلات، مما يجعل من المستحيل الوصول إلى معنى نهائي أو مطلق لأي نص. وبذلك، فإن التأويل يصبح عملية غير مستقرة، حيث يتم إنتاج المعاني وإعادة تشكيلها باستمرار وفقًا للسياقات المختلفة. هذه الرؤية تقوّض فكرة التفسير الأحادي للنصوص، سواء كانت دينية أو فلسفية أو أدبية، مما يفتح المجال أمام قراءات لا نهائية لأي خطاب.

3- إشكالية الذات والهوية

إذا كانت الحداثة قد أعطت للذات البشرية موقعًا مركزيًا باعتبارها مصدرًا للمعرفة والوعي، فإن ما بعد الحداثة تأتي لتفكيك هذه الفكرة، مشككةً في مفهوم الهوية الثابتة أو الجوهرية. فمن خلال دراسات فوكو، نجد أن الذات ليست كيانًا مستقلًا، بل هي نتيجة خطابات السلطة التي تشكل وعيها وسلوكها. فالهوية الفردية تُبنى من خلال آليات اجتماعية وسياسية معقدة، وليست معطى طبيعيًا أو ثابتًا. في السياق نفسه، نجد أن ما بعد الحداثة تتبنى منظورًا "تفكيكيًا" للهويات الثقافية والقومية والجندرية، مما يثير أسئلة جوهرية حول طبيعة الهوية وعلاقتها بالخطاب والسلطة. هذا التشكيك في ثبات الهوية أدى إلى بروز اتجاهات فكرية جديدة مثل الدراسات النسوية ودراسات ما بعد الاستعمار التي تسعى إلى تحليل كيف يتم تشكيل الأفراد داخل البُنى الثقافية والاجتماعية.

4- إشكالية السلطة والمعرفة

تُعد العلاقة بين المعرفة والسلطة من أكثر الإشكاليات إلحاحًا في ما بعد الحداثة، حيث يرى فوكو أن المعرفة ليست منفصلة عن علاقات القوة، بل هي أداة تستخدمها السلطة لتشكيل الأفراد والمجتمعات. فالأنظمة المعرفية، سواء كانت علمية أو دينية أو سياسية، ليست محايدة، بل تعمل على تكريس أنماط معينة من التفكير والسلوك تخدم مصالح القوى المسيطرة. ينعكس هذا في آليات الضبط الاجتماعي، والمؤسسات العقابية، والممارسات الخطابية التي تُنتج "حقائق" معينة تخدم السلطة وتعيد إنتاجها. من هنا، فإن مقاومة السلطة لا تكون فقط من خلال المواجهة السياسية المباشرة، بل أيضًا عبر تفكيك أنظمة المعرفة التي تكرسها، وهو ما يظهر في التيارات النقدية المختلفة التي تتبناها ما بعد الحداثة.

5- إشكالية الأخلاق والمسؤولية

في ظل تفكيكها للأسس التقليدية للحقيقة والمعرفة، تثير ما بعد الحداثة تساؤلات عميقة حول الأخلاق والمسؤولية. فإذا لم يكن هناك حقائق مطلقة، وإذا كانت القيم الأخلاقية مجرد بنيات اجتماعية وسياقية، فكيف يمكن تأسيس خطاب أخلاقي متماسك؟ بعض نقاد ما بعد الحداثة يرون أن هذه الفلسفة تؤدي إلى "نسبية أخلاقية" تضعف من قدرة الإنسان على اتخاذ مواقف واضحة تجاه قضايا الظلم والعدالة. في المقابل، يرى مفكرو ما بعد الحداثة أن التخلي عن المعايير الأخلاقية المطلقة لا يعني السقوط في العدمية، بل يفتح المجال أمام "أخلاق جديدة" تقوم على التعددية، والتسامح، والانفتاح على الاختلافات الثقافية والمعرفية. هذا ما نجده في فلسفة إيمانويل ليفيناس، التي تدعو إلى أخلاق قائمة على المسؤولية تجاه "الآخر"، حيث تصبح العلاقة مع الآخر أساسًا للأخلاق بدلًا من المبادئ المطلقة.

6- إشكالية الفن والجمال

ما بعد الحداثة لم تقتصر على الفكر الفلسفي فقط، بل امتدت إلى الفنون والعمارة والأدب، حيث تمردت على القواعد الجمالية التقليدية واحتفت بالفوضى والتعددية واللايقين. ففي الفن، لم يعد الجمال مقترنًا بالانسجام أو المثالية، بل أصبح يقوم على كسر القواعد، والتجريب، ومزج الأساليب المختلفة. أما في الأدب، فقد أدى تفكيك السرديات الكبرى إلى ظهور أساليب جديدة تقوم على تعدد الأصوات، وكسر التوقعات، والتلاعب بالزمن والسرد. هذا الانقلاب في المفاهيم الجمالية يعكس جوهر ما بعد الحداثة كحركة فكرية تحتفي بالتعددية والتناقضات، رافضةً أي محاولة لفرض نموذج جمالي واحد على الإبداع.

تمثل فلسفة ما بعد الحداثة تحديًا جذريًا للمفاهيم التقليدية التي أرستها الحداثة، إذ تسعى إلى كشف البُنى الخفية التي تشكل الفكر والمعرفة والهوية والسلطة. ورغم ما يوجه إليها من انتقادات، خصوصًا فيما يتعلق بالنسبية المعرفية والأخلاقية، فإنها تظل واحدة من أكثر التيارات الفكرية تأثيرًا في العالم المعاصر. فهي لا تقدم إجابات نهائية، بل تفتح الباب أمام أسئلة جديدة تعيد تشكيل فهمنا للعالم ولأنفسنا، مما يجعلها قوة فكرية لا يمكن تجاهلها في الفلسفة الحديثة.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصادق النيهوم: تفكيك المقدس والبحث عن المعنى في متاهات العق ...
- التعلق المرضي: كيف نكسر قيود الاعتماد العاطفي ونستعيد ذواتنا ...
- إعادة تشكيل الإنسان في العالم الرقمي: مقاربات أنثربولوجية مع ...
- الرضا النفسي: فن التوازن والطمأنينة في عالم متغير
- ألبرت كامو وثورة العبث: جدلية المعنى واللاجدوى في الفكر الأو ...
- البنيوية وما بعدها: تفكيك الأنساق وبناء المعنى الجديد
- نحو فلسفة بيئية معاصرة: بين النقد الحداثي والرؤى المستقبلية
- انهيار الحلم الماركسي: كيف تحول شعار العدالة إلى سلطة شمولية ...
- العلمانية الدينية: ازدواجية المفهوم بين الحداثة والتلاعب الس ...
- الجواهر الفردة: فلسفة الذرة في علم الكلام بين العقيدة والعقل
- فلسفة العقل: المفهوم، القضايا، والتأثير في الفكر الفلسفي الم ...
- تحليل الخطاب: تفكيك السلطة والمعرفة في اللغة وصناعة المعاني
- متاهات المعنى: جدلية العدمية والوجودية والعبثية في الفكر الف ...
- العلمانية العسكرية وتداعياتها على الواقع السياسي العربي
- التحرر من سجن العقل: فن إيقاف التفكير الزائد واستعادة صفاء ا ...
- جدلية الدين والسياسة عند المعتزلة: رؤية عقلانية لمفهوم الحكم
- ثورة المصانع المظلمة: كيف تبني الصين اقتصادا بلا عمال
- جملة التوحيد في الفكر الاعتزالي: المفهوم والأسس الفلسفية
- الماهية والوجود في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة: صراع ...
- الجيش والسياسية في العالم العربي: تاريخ الانقلابات العسكرية ...


المزيد.....




- -ياما نفسي قلك-.. إيمي سمير غانم تعبر عن تأثرها بأغنية شقيقت ...
- تحقيق لـCNN يكشف عن توسع استيطاني غير مسبوق في الضفة الغربية ...
- تدعمهم رواندا.. متمردون يتقدمون نحو بلدة غنية بالمعادن شرق ا ...
- بنعبد الله يستقبل وفدا من الاتحاد الوطني للمتصرفين المغاربة. ...
- أسباب تجعل السعادة مهمة للحفاظ وتكريس الديمقراطية
- لأول مرة .. انخفاض طلبات اللجوء في الاتحاد الأوروبي بنسبة 13 ...
- كيرستي كوفنتري: أول سيدة تتولى رئاسة اللجنة الأولمبية الدولي ...
- -سي إن إن-: إسرائيل ضالعة في استهداف مبنى أممي بغزة
- انتقال سفارة المملكة العربية السعودية لدى روسيا الاتحادية إل ...
- زيلينسكي يطلب من الاتحاد الأوروبي خمسة مليارات يورو إضافية


المزيد.....

- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - مابعد الحداثة: تفكيك اليقين وإعادة تشكيل الفكر في عالم بلا ثوابت