أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ادم عربي - متى نتعلَّم صناعة الأسئلة؟!















المزيد.....


متى نتعلَّم صناعة الأسئلة؟!


ادم عربي
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8286 - 2025 / 3 / 19 - 23:46
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


بقلم : د . ادم عربي

يمكن اعتبار "السؤال" مقياساً دقيقاً لقياس حيوية العقل وقوته، فمن خلال طبيعة الأسئلة التي يطرحها الشخص وكيفية طرحها، يمكننا أنْ نحدد هويته الفكرية. إنَّ الأمة التي تفقد القدرة على التساؤل، أو تظن أنها لمْ تعد بحاجة إليه، هي أمة في موت. ذلك لأنَّها قد توهمت أنَّ لديها جميع الإجابات النهائية الكاملة الوافية الشافية، حتى لو كانت تلك الإجابات مجرد بذور أو إشارات أولية. وقد اعتقدت أنَّ الله قد منحها حق حراسة "الحقائق المطلقة" التي تحتويها تلك الإجابات، وكأنَّ العالم لمْ يعد يحتاج إلى استكشاف أو تساؤل جديد. لكن الحقيقة هي أنَّ السؤال نفسه هو جزء لا يتجزأ من نسيج الزمان والمكان، كما يصفه آينشتاين، وهو يظل أداة أساسية لفهم التغيرات المستمرة في ظروف الحياة. فبدون الأسئلة الجديدة، التي تولدها تحولات الزمن والمكان، نفقد القدرة على التطور والفهم العميق للحياة.

"المعرفة" تُشبه سلّماً لا نهاية له، نصعد عليه خطوة تلو الأخرى دون أنْ نصل إلى قمة نهائية ولا يمكن وصولها ، لأنَّها بلا درجة أخيرة. يمكن تشبيهها ، أي المعرفة ، بإناء مليء بالثقوب، حيث تمثل هذه الثقوب مع الإناء "الإجابات" التي نتوصل إليها. هذه الإجابات، بحكم طبيعتها النسبية واحتوائها على الأخطاء أو نسبية من الأخطاء . كل ثقب في هذا الإناء يمثل فراغاً يحتاج إلى ملء، ولا يمكن ملء هذا الفراغ إلّا بواسطة شيء واحد وحيد، وهو "السؤال". فالسؤال هو الأداة الوحيدة التي تملأ الفجوات في معرفتنا وتدفعنا نحو فهم أعمق.

"الإجابات"، من حيث طبيعتها، تنقسم إلى نوعين رئيسيين: "إجابات منطقية"، أي تلك المبنية على أساس المنطق، و"إجابات خيالية"، أي التي يصوغها الخيال ويبتكرها. وقد أدرك آينشتاين جيداً الفرق بينهما عندما قال إنَّ المنطق يمكن أنْ ينقلك من "النقطة أ" إلى "النقطة ب"، لكن الخيال قادر على أنْ يأخذك إلى أي مكان. فالخيال، الذي يُعتبر المصدر الرئيسي للإبداع والابتكار، يفوق في أهميته المعرفة أحياناً، وإنْ لم يكن دائماً. أما "أسلوب المعرفة"، الذي يتمثل جوهره في "السؤال" (من حيث ماهيته وكيفيته)، فهو يفوق المعرفة ذاتها في الأهمية. فالأداة التي نستخدمها للقياس، مثل الميزان، تكون أكثر أهمية من الشيء الذي نزنُه أو الوزن نفسه.

تأتي أهمية "السؤال" من الأداة التي يُطرح بها، وأبرز أسئلة العلم هي تلك التي تعتمد على أداة "لماذا". فالعلم، في جوهره، يقوم على التعليل والتفسير، ولا شك أنَّ "لماذا" هي الأداة التي تقودنا إلى فهم الأسباب وتقديم التفسيرات والتعليلات. هذه الأداة تنشأ غالباً كنتيجة للإجابة عن أسئلة سابقة في مسار المعرفة ، مثل تلك التي تبدأ بـ "متى" أو "أين" أو "كيف". لكن يظل السؤال الأهم والأكثر استكشافاً هو الذي يُطرح باستخدام أداة "هل"، لأنه يفتح الباب أمام التحقق من صحة الفرضيات والبدء في استكشاف المجهول.

إذا تأملت أي سؤال يبدأ بأداة "لماذا"، ستلاحظ أنه يحتوي بشكل حتمي على إجابة لسؤال آخر يبدأ بأداة "هل". على سبيل المثال، كيف يمكنك الإجابة عن السؤال "لماذا لا يستطيع الإلكترون أنْ يتحرك بسرعة الضوء؟" دون أنْ تكون قد أجبت أولاً على السؤال "هل يمكن للإلكترون أنْ يتحرك بسرعة الضوء؟". فالسؤال الذي يبدأ بـ "هل" يُعتبر الأساس الذي يُبنى عليه السؤال الذي يبدأ بـ "لماذا"، حيث يحدد ما إذا كان الشيء ممكناً قبل البحث في أسباب ذلك.

الإجابة على سؤال يبدأ بـ "هل"، إلى جانب تحديد درجة "الحقيقة الموضوعية" التي تحملها هذه الإجابة وإثبات صحتها ومصداقيتها، تُشكّل الأساس الذي يُبنى عليه "المنطق العلمي" للسؤال الذي يبدأ بـ "لماذا". فبدون تأسيس هذه الإجابة الموضوعية والدقيقة، لا يمكن بناء تفسيرات أو تعليلات علمية قائمة على أسس متينة.
إذا دققت النظر في أي سؤال يبدأ بأداة "هل"، ستجد أنه يشبه بناءً مكوناً من "مفاهيم وتعريفات"، وهي في الأصل إجابات تم التحقق من صحتها ومصداقيتها لأسئلة تتعلق بـ "الماهية"، أي تلك التي تبدأ بـ "ما هو؟" أو "ما هي؟". على سبيل المثال، السؤال "هل يستطيع الإلكترون أنْ يتحرك بسرعة الضوء؟" يحتوي على عدة مفاهيم مثل "الجسيم"، "الإلكترون"، "الحركة"، "السرعة"، "الضوء"، و"سرعة الضوء". هذه المفاهيم نشأت وتطورت نتيجة الجهود المبذولة للإجابة على أسئلة الماهية المتعلقة بها. فكل مفهوم يمثل لبنة أساسية في بناء السؤال الكلي.

للسؤال الذي يبدأ بأداة "هل" أهمية أخرى تتمثل في أنَّ إجابته، التي تكون دائماً إما "نعم" أو "لا"، لا تُعفيك من مسؤولية تقديم "تعليل" أو تفسير لها. فأنت ملزم باستكمال إجابتك بقولك: "لأن...". فالإجابة المباشرة لا تكفي وحدها، بلْ يجب أنْ تكون مدعومة بالمنطق والأسباب التي تقف خلفها.

لو طُلب مني تعريف "الاكتشاف المعرفي العظيم"، لقلت إنه يشبه قذيفة "لماذا" التي نطلقها نحو كل "بديهية" حفظناها دون تفكير. على سبيل المثال، من البديهي أنْ نقول إنَّ التفاحة عندما تنفصل عن شجرتها تسقط نحو الأرض. لكن الاكتشاف المعرفي الكبير (الذي قام به نيوتن) جاء عندما أطلق قذيفة "لماذا" على هذه البديهية، متسائلاً: "لماذا تسقط التفاحة نحو الأسفل ولا ترتفع إلى الأعلى؟". هذا السؤال البسيط في ظاهره قاد إلى فهم أعمق لقوانين الطبيعة وأسس الفيزياء.
"المعرفة" تتقدم وتصبح أكثر تعقيداً وصعوبة في اكتسابها كلما تكاثرت وتفرعت أسئلة "لماذا". فعندما سأل فيلسوفٌ مريضاً: "لماذا تتناول الدواء؟"، أجاب المريض ببساطة: "حتى أشفى". وعندما تابع الفيلسوف سؤاله: "ولماذا تريد أنْ تشفى؟"، أجاب المريض، لكن هذه المرة ببعض التردد: "حتى أكون سعيداً في حياتي". لكن عندما سأله الفيلسوف مرة أخرى: "ولماذا تريد أنْ تكون سعيداً في حياتك؟"، شعر المريض بالحيرة ووجد صعوبة في الإجابة. هذا التدرج في الأسئلة يوضح كيف أنَّ المعرفة تصبح أعمق وأكثر تحدياً كلما تعمقنا في التساؤلات.

يمكنك أنْ تشعر بما شعر به ذلك "المجيب" عندما صُدم بالسؤال الأخير إذا ما حولت كل "بديهية" تعرفها إلى سؤال يبدأ بـ "لماذا". أما إذا تمكنت من الإجابة على هذا السؤال، فقد تصل إلى اكتشاف معرفي عظيم. فتحويل المسلمات إلى تساؤلات هو الطريق نحو الفهم الأعمق والإبداع.

لكن أسئلة "لماذا" ليست متساوية في مستواها؛ فأعلى درجاتها، من وجهة نظري، تظهر في أحد النمطين التاليين: الأول هو أنْ تسأل "لماذا حدث هذا الشيء في هذا الوقت المحدد، وفي هذا المكان بالذات، وبالطريقة التي حدث بها؟"، والثاني هو أنْ تسأل "لماذا يوجد هذا الشيء بهذه الصورة أو الشكل؟". هذه الأسئلة تمثل ذروة التساؤلات العميقة التي تبحث عن الأسباب الكامنة وراء الأحداث والأشياء.

لنْ تصبح مكتشفاً معرفياً حقيقياً إلَّا إذا أجبت على سؤال يبدأ بـ "لماذا"، بشرط أنْ تستخدم هذه الأداة كقذيفة تهدم بها بديهية معينة. لكن يمكنك أنْ تكون نصف مكتشف معرفي إذا بذلت جهداً في طرح سؤال لم يُجب عليه بعد (بشكل علمي). فالإبداع المعرفي لا يقتصر فقط على الإجابات، بلْ يتضمن أيضاً القدرة على طرح الأسئلة الجديدة التي تفتح آفاقاً غير مسبوقة للبحث والاستكشاف.



#ادم_عربي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثدي الموت!
- الرأسمالية الأوروبية سلاحها العنصرية!
- حكايتي معك!
- تناقضات في قوة الاقتصاد الأمريكي!
- ما زالت المرأة العربية عبدة للعبيد !
- الحتمية ماركسياً ودينياً!
- متى تأخذ الطبقة العاملة مصيرها بيدها؟!
- تطوير الآلة وتأثيرها على المجتمعات!
- عبث الظلال!
- الترامبية وهم عابر أم إستراتيجية دائمة؟
- ماركس يتحدى نقاده في الاقتصاد!
- شبحُ ماركس يعود مع كل أزمة!
- أَكَادُ أَتَفَجَّرُ!
- في حرية التعبير!
- الزمن!
- البراءة والخطيئة!
- يجب الارتقاء بصناعة الإنسان في مجتمعاتنا!
- أوهام البقاء!
- سوء فهم أفكار ماركس!
- الحرب والأخلاق!


المزيد.....




- غزة والحوثيون وترامب.. كاتب إسرائيلي كبير يشرح ماذا حدث؟
- مكالمة بوتين وترامب تشعل الجدل: هل تلوح فرصة للسلام أم استمر ...
- الكرملين: كييف تحاول تقويض جهود السلام
- ترامب يعرض تملّك منشآت طاقة أوكرانيا
- ملتقى الإمارات الرمضاني.. تسامح وتعايش
- الجيش اللبناني ينتشر في حوش السيد علي
- لامي يتراجع عن تصريحاته بشأن إسرائيل
- شويغو: هناك عقبات تعقد التسوية السلمية في أوكرانيا
- -أ ب- عن مصدر: كندا بصدد إجراء محادثات مع الاتحاد الأوروبي ل ...
- السلطات الأمريكية الاتحادية تبحث عن زعيم عصابة في لوس أنجلوس ...


المزيد.....

- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ادم عربي - متى نتعلَّم صناعة الأسئلة؟!