حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)
الحوار المتمدن-العدد: 8286 - 2025 / 3 / 19 - 14:01
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
مقدمة المترجم
يوميا، في عصر التقدم الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي التي وفرت كل معلومة لكل شخص مهتم ، وكشفت الكثير من المستور التاريخي و ستكشف المزيد والمزيد، تنشر وتقدم دراسات عن الإسلام مغايرة تغيرا جذريا عن التقليد السائد. تكاد هذه الدراسات الحديثة -وكانت بعضها تمت منذ عقود لكنها كانت محجوبة عن محبي الاطلاع – أن تنسف ما تعلمناه وتلقناه في المدرسة. وقد أثارت هذه الدراسات تساؤلات خطيرة عن منشأ الإسلام .
وقد أثيرت تساؤلات حول تاريخ مكة وأصول الإسلام سلطت الضوء على نقاط بالغة الأهمية، مما يستدعي إعادة النظر في بعض الروايات التاريخية التقليدية. ويثير غياب ذكر مكة في الخرائط والوثائق القديمة تساؤلات حول وضعها كمرتكز تجاري مهم، كما تصوره الروايات الإسلامية. إذا كانت مكة بالفعل مركزًا تجاريًا حيويًا، فمن المفترض أن تترك أثرًا أو تظهر في الوثائق والمخطوطات.
من الممكن أن مكة لم تكن تتمتع بتلك الأهمية التجارية المزعومة، أو أن طبيعة النشاط التجاري في المنطقة حالت دون تسجيلها بالشكل الكافي. كما قد تحمل مكة أسماء أخرى في تلك الحقبة الزمنية، وهو ما قد يسهم في غموض ذكرها. هذه الفرضيات تدعو إلى إعادة تقييم الدور الاقتصادي والتجاري لمكة خلال الفترة السابقة لظهور الإسلام.
أما بخصوص العملات، فإن وجود أقدم عملة تحمل اسم مكة يعود تاريخها إلى عام 201 هـ يثير تساؤلات إضافية. قد يُفترض أن مكة اكتسبت شهرتها بشكل متأخر نسبياً، أو أن الوثائق النقدية الدالة على أهميتها ظهرت بعد فترة زمنية من تأسيسها. هذا الأمر يدعو إلى إعادة مراجعة التسلسل الزمني لتاريخ مكة وربطه بظهور الإسلام.
الهجوم القرمطي على مكة يعتبر بدوره دليلاً على وجود صراعات سياسية ومذهبية عميقة، لكنه لا يعني انعدام وجود مكة في فترات تاريخية أسبق. من المحتمل أن تكون تلك الهجمات ناجمة عن صراعات حول السلطة أو الخلافات العقائدية. بالإضافة لذلك، قد تكون مكة تعرضت لهجمات مشابهة في مراحل متعددة من تاريخها، مما يشير إلى أهمية المنطقة والتحديات التي واجهتها.
إذا ما صحت هذه الفرضيات والتحديات التاريخية، فقد تقود إلى الحاجة لإعادة كتابة بعض الجوانب المتعلقة بتاريخ الإسلام. هذا بدوره قد يؤثر على فهمنا لنشوء الإسلام وتطوره، وقد يلقي الضوء على صحة بعض الروايات والأحاديث التي اعتمد عليها المؤرخون المسلمون عبر الأجيال. سيكون لزامًا على السردية التاريخية الإسلامية تقديم إجابات واضحة ومقنعة لهذه التساؤلات لضمان الحفاظ على مصداقيتها وفهمها العلمي المتزن.
يبقى السؤال مفتوحاً للباحثين والمؤرخين التقليديين: لماذا لم تظهر مكة كمدينة تجارية على الخرائط القديمة إذا كانت بالفعل مركزاً تجارياً مهماً كما يصُوَّر؟ ألا يثير هذا التناقض تساؤلات عميقة حول السياق التاريخي للمرويات الإسلامية؟ ولماذا ذُكرت مناطق أخرى كمراكز تجارية في حين غاب ذكر مكة عن ذات السجلات؟
حول التاريخ المزيف لمدينة مكة
ب. بينياز (داريوش)
بعد قراءة متأنية وتحليل معمق لكتاب "جغرافيا القرآن" للباحث دان غيبسون، وجدت نفسي مدفوعًا للغوص في الادعاءات التي قدمها هذا الباحث والبحث فيها بشكل مستفيض. تناول غيبسون في كتابه ادعاءً مثيرًا للجدل يؤكد فيه أنه لم يجد أي ذكر لاسم مكة في الخرائط الجغرافية إلا بعد مرور حوالي 200 عام على الهجرة. ومن أجل التحقق من صحة هذا الادعاء، كرست عدة أشهر للدراسة والتنقيب بعناية شديدة في هذا الموضوع. اليوم، وبعد هذا البحث المطول، يمكنني بثقة عالية التأكيد أن ما طرحه غيبسون بشأن غياب اسم مكة عن الخرائط الجغرافية في تلك الحقبة ليس مجرد افتراضات، بل يبدو مستندًا إلى شواهد وأدلة ذات مصداقية قوية.
لم تكن المسألة مجرد دراسة للخرائط سواء أكانت قديمة أم حديثة، بل امتد الجهد ليشمل تحليلًا دقيقًا ومفصلًا لعشرات الوثائق التاريخية المنتمية إلى مصادر متنوعة. تم فحص الرسائل الشخصية والإيصالات التجارية والمستندات الرسمية التي كُتبت بلغات متعددة مثل السريانية واليونانية واللاتينية وحتى الصينية، والتي تعود إلى فترة زمنية تمتد ما بين عام 580 و620 للميلاد. كانت هذه الوثائق تعكس بشكل رئيسي التفاعل التجاري والنشاط الاقتصادي للتجار الذين كانوا ينشطون في المناطق القريبة من شبه الجزيرة العربية. خلال المرحلة الزمنية المبكرة، كان تركيز هؤلاء التجار منصبًا على تجارة الكندر، والتي مثلت عنصرًا حيويًا في ذلك الوقت، إلا أن نشاطهم تطور لاحقًا ليشمل تجارة الجلود وسلعًا أخرى متنوعة.
تشير التحقيقات إلى أن غالبية هذه الوثائق قد صدرت أو تم حفظها من قِبل مجموعة من التجار الذين كانوا نشطين في المناطق الجغرافية المحيطة بشبه الجزيرة العربية. ومع تطور أنشطتهم الاقتصادية، كانت تجارتهم في البداية تركز بشكل كبير على الكندر الذي كان يُعتبر من السلع ذات القيمة العالية. ومع مرور الوقت، توسعت تجارتهم لتشمل الجلود وسلعًا أخرى تلبيةً للتغيرات في الطلب التجاري الإقليمي والدولي.
ما جذب الانتباه ولفت الأنظار هو ظهور أسماء مثل يثرب والطائف في تلك الوثائق بشكل متكرر، مما يعكس مكانتهما البارزة وأدوارهما المؤثرة كمحطات تجارية وعقد اجتماعية مشهورة آنذاك. في المقابل، لم يسفر البحث المكثف عن أي ذكر لاسم مكة بأي صيغة أو إشارة، الأمر الذي أثار تساؤلاً حول غيابها من هذه السجلات التي تغطي تلك الفترة الزمنية المحددة.
لم يقتصر بحثي على الاطلاع على الوثائق فقط، بل امتد ليشمل تحليل عدد كبير من الخرائط القديمة التي توثق الطرق التجارية والمراكز الاقتصادية في العالم القديم والعصور المتأخرة. ومن خلال الاعتماد على النسخ الرقمية وأيضًا بعض المصادر المادية الموجودة في المجموعات الأثرية، توصلت إلى أن هذه الخرائط لم تتضمن أي إشارات إلى مكة. هذا الاستنتاج يعزز بشكل أكبر الطرح الذي قدمه غيبسون. يبدو أن فكرة مكة كمركز تجاري أو نقطة بارزة لم تكن قد ظهرت بشكل واضح خلال تلك الفترات الزمنية، كما هو شائع في التصورات التقليدية.
من جانب آخر، يكشف تحليل تاريخ النقود عن غياب ذكر لمدينة تُعرف بمكة في السجلات المبكرة. أول عملة تم سكّها وذُكر عليها اسم "مكة" تعود إلى عام 201 هـ، وهو ما يُشير إلى فترة زمنية متأخرة نسبياً بعد بدء التأريخ الإسلامي. المثير للانتباه هو أن المدينة التي يُشار إليها كمهد للإسلام لم تحمل العملات اسمها إلا بعد مرور أكثر من قرنين. لماذا احتاج الأمر إلى كل هذا الوقت؟ ربما يعود السبب إلى انعدام التوثيق الذي يشير بوضوح إلى وجود مكة كمدينة مستقرة خلال تلك الحقبة. وفي عام 203 هـ، ظهرت عملة فضية أخرى تحمل اسم مكة. يُرجح أن العباسيين كان لهم دور أساسي في ترسيخ مكانة مكة كمركز ديني للمسلمين بفترة ليست طويلة قبل ذلك.
كانت أولى الجماعات التي اعترضت على تكريس مكة كمدينة مقدسة هم القرامطة. وكما هو معروف، نفذ القرامطة هجوماً على مكة في عام 317 هـ (11 يناير 930 ميلادي)، حيث قاموا بانتزاع الحجر الأسود وأخذوه معهم. وبعد عقدين من التفاوض والوساطة من الفاطميين في مصر، وتسديد مبلغ كبير من الأموال للخليفة العباسي، أُعيد الحجر إلى مكة، وقد تعرض خلال تلك الفترة للتلف وأصبح مقطعاً.
إذن نجد أن هناك ثلاثة أسباب أساسية يُستدل بها لدعم القول بعدم وجود مدينة باسم مكة قبل عام 200هجري. الأول يتمثل في غياب اسم مكة من الخرائط القديمة المتأخرة، وافتقار الوثائق التجارية لأي ذكر لهذه المدينة، على الرغم من تغطيتها لطرق التجارة التي يُفترض أن مكة كان لها دور فيها. السبب الثاني يرتكز على علم العملات، حيث إن أقدم عملة تحمل اسم مكة تعود إلى عام 200 هجري؛ مما يعزز الاعتقاد بعدم اعتماد هذا الاسم في سياق تجاري أو ديني قبل تلك الفترة. وأخيراً، يشير السبب الثالث إلى الهجوم الذي شنه القرامطة على مكة، وهو هجوم ربطوه بمعارضتهم لما رأوه "كفراً"، ما يوحي بعدم تبني المدينة لرمزية ذات طابع قديم ومركزية في تلك الحقبة.
عند النظر إلى المؤرخين الإسلاميين الأوائل أمثال ابن هشام، الواقدي، ابن سعد، والطبري، نجد أنهم عندما صاغوا تأريخ الإسلام، لم يخطر ببالهم إمكانية التشكيك في وجود مكة كمركز تجاري وديني. فقد كان من البديهي، وفق روايتهم، أن مكة كانت حاضرة في الماضي الذي يذكرونه. التأريخ الإسلامي كما نُقل إلينا لم يكن محل تمحيص أو اعتراض لفترة طويلة جداً، وظل مقبولاً بلا مراجعة نقدية شاملة حتى الأزمنة الحديثة.
السؤال المطروح الآن يتناول الأسس والمصداقية التي يقوم عليها هذا التاريخ في حال ثبت أن مكة لم تكن موجودة فعلياً قبل عام 200هجري. كيف يمكن تفسير ذلك أمام الكم الهائل من الروايات والأحاديث التي تتحدث عن مكة كبداية للإسلام؟ وأين تذهب قصة الهجرة من مكة إلى المدينة؟ هذه القضايا تقودنا إلى التساؤل عن مصير التاريخ الإسلامي الذي يتخذ مكة كمحور رئيسي، وعن مدى دقة تصويرها كمدينة ذات قيمة تجارية كبيرة. لماذا لم تظهر مكة بشكل واضح في الخرائط التجارية القديمة إذا كانت لها هذه الأهمية المزعومة؟ أليس من المنطقي أن تكون مدينة بمثل هذا الدور قد حظيت بتوثيق أو ذكر يكافئ مكانتها المفترضة؟
مراجع مفيدة:
No. 1) „Historischer Atlas der antiken Welt“, – Der neue Pauly Sonderausgabe, Verlag J. B. Metzler Stuttgart. Weimar
(Anne-Maria Wittke / Eckart Olshausen / Richard Szydlak)
No. 2) Der Grosse Atlas zur Weltgeschichte – Brockhaus
#حميد_كشكولي (هاشتاغ)
Hamid_Kashkoli#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟