|
اليمن «على كف عفريت»!
جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)
الحوار المتمدن-العدد: 8286 - 2025 / 3 / 19 - 08:40
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية
إن ردّ فعلنا الطبيعي إزاء أي اعتداء أمريكي على أي بلد من بلدان منطقتنا والجنوب العالمي هو إدانة هذا العدوان، وهو الموقف السليم. وليست الاعتداءات الأمريكية على اليمن استثناءً، لا سيما أنها تترافق بقطع المساعدات الإنسانية عن قسم كبير من هذا البلد الفقير والمنكوب. هذا ينسجم تماماً مع النهج الإمبريالي الذي تتبعه الولايات المتحدة في منطقتنا على الأخص، وقد تصاعد بقوة منذ احتضار الاتحاد السوفييتي، ومن ثم انهياره. فرأينا مذّاك حرباً أولى على العراق، تلتها حربٌ منخفضة الحدة رافقت خنق البلد من خلال الحظر المفروض عليه، وكان حظراً مجرماً بحق السكان المدنيين، حتى جاء وقت الاحتلال وما تبعه من عواقب وخيمة لا يزال العراق يرزح تحت وطأتها. هذا وناهيك من عمليات القصف الأمريكي اللاحقة، حيث باتت العراق واليمن وسوريا، وكأنها ميدان قنص للقوات المسلّحة الأمريكية تقصف من تشاء، متى تشاء، وكيفما تشاء بطائراتها وصواريخها ومسيّراتها. يندرج كل ما سبق وصفه في طبيعة الأمور، إذ إننا نتحدّث عن سلوك دولة إمبريالية هي أعظم قوة عسكرية في العالم. ولهذا السبب بالذات، ينبغي على الأنظمة المناهضة لهذه القوة العظمى أن تتفادى ما يعطيها ذريعة للهجوم العسكري عليها، حتى عندما تكون خاضعة لشتى الإساءات من قِبَلها. فعلى سبيل المثال، تخضع كوبا لحظر مجرم منذ عشرات السنين، لكن حكمها أذكى من أن يقوم بممارسات من شأنها أن تعطي واشنطن ذريعة لشنّ اعتداء عسكري على الجزيرة من شأنه أن يفاقم أزمتها الاقتصادية إلى حد خطير. تصوّروا مثلاً لو قرّرت كوبا قصف البواخر الأمريكية في محيطها البحري ردّاً على خنقها من قِبَل واشنطن. لكان هذا السلوك مشروعاً تماماً من وجهة نظر الحق، لكنّه أرعن تماماً من وجهة النظر العملية نظراً لما سوف يجلبه بالتأكيد على الجزيرة من ويلات. ومن وجهة النظر هذه، والحق يُقال، فإن سلوك الحوثيين في قصف البواخر الأمريكية في البحر الأحمر شبيه بالفرضية أعلاه. إنه مشروع في منظور الحق، وليس التضامن مع شعب غزّة مشروعاً وحسب، بل هو واجب أخلاقي. لكنّ الاعتداء على بواخر قوة عظمى في ممرّ بحري دولي إنما هو سلوك أرعن من حيث عواقبه المحتملة، لا بدّ من أن يجرّ الويلات على شعب اليمن الذي هو بالتأكيد غنيّ عنها بعد كل ما تكبدّه خلال حرب طاحنة بدأت قبل عشر سنوات ولم تنته، وإزاء الفقر المدقع والمجاعة المستشريين في صفوفه.
والحال، حيث أن أمريكا لم تتضرر من أعمال الحوثيين بما يجدر ذكره، وإسرائيل تضررت قليلاً، كان المتضرَّر الرئيسي هو مصر التي انخفض مدخولها من الملاحة عبر قناة السويس بنسبة 60 في المئة في عام 2024 مقارنة بالعام السابق، بخسارة بلغت 7 مليارات دولار، وهي خسارة كبرى لبلد كمصر يعاني من أزمة اقتصادية متفاقمة. والحقيقة أن نظرة قسم كبير من شعب اليمن إلى أعمال الحوثيين مختلفة تماماً عن نظرة الذين يصفّقون لأفعالهم من الخارج وكأنها بطولات. ففي الشطر الآخر من اليمن من يرون في سلوك الحوثيين مزايدة سياسية يوظّفها حكم صنعاء في صراعه الطائفي والسياسي معهم، كما يوظّفها في دغدغة مشاعر المواطنين في الشمال للتغطية على إخفاقه الكبير في المجال الاقتصادي. والحقيقة أن حكم الحوثيين، حكم «أنصار الله» حسب التسمية الرسمية، غارق في الظلامية والرجعية الاجتماعية والسياسية، أقرب ما هو إلى حكم الطالبان في أفغانستان، وقد نتج عن انقلاب رجعي على التسوية المشروعة ديمقراطياً التي نجمت عن الانتفاضة الشعبية في عام 2011، وذلك بالتحالف لوهلة مع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح الذي لا يجمعه بالحوثيين سوى الانتماء الطائفي. وقد انتهز الحكم الحوثي جوّ التعبئة الذي خلقه من خلال ممارساته في البحر الأحمر كي يشدد قبضته القمعية على المجتمع، حتى انقض على منظمات الإغاثة على غرار ما فعله الطالبان، فاعتقل أكثر من مئة من أعضائها في وقت تحتاج اليمن أمسّ الحاجة إلى المعونة والإغاثة الدوليتين. هذا ويبدو أن تصعيد الضربات العسكرية الأمريكية على مناطق الحوثيين جاء بحثّ من حكام الشطر الآخر من اليمن. ذلك أن واشنطن كانت قد اكتفت حتى الآن بضربات محدودة إذ لم تشكل ممارسات الحوثيين إزعاجاً كبيراً لها، بل جرى إحباط كافة هجومات الحوثيين على البواخر الحربية الأمريكية بالصواريخ البالستية والمسيرات لتدنّي مستواها التكنولوجي مقارنة بما لدى أمريكا (وهذا من حسن الحظ، فلو أصاب الحوثيون إحدى هذه البواخر وقتلوا بعض بحّارتها، لانهال على مناطقهم ما هو أخطر بكثير مما شهدناه حتى الآن). وقد نقلت صحيفة «ذي غارديان» البريطانية قبل شهرين عن عيدروس الزبيدي، نائب رئيس الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، ورئيس المجلس الانتقالي الجنوبي في الوقت نفسه، نقلت عنه دعوته الرئيس الأمريكي الجديد ليصعّد الهجوم على الحوثيين، منتقداً الإدارة السابقة لقلة حزمها في مواجهتهم. كما دعا الزبيدي إلى التنسيق بين الضربات الأمريكية وبين هجوم القوات الحكومية اليمنية على الأرض، وهو ما قد نشهده في المستقبل القريب. ولو تم ذلك تكون ممارسات الحوثيين قد فسحت المجال أمام تجدد الحرب اليمنية بتدخل عسكري أمريكي مباشر هذه المرة، بما ينسجم مع عدوانية إدارة ترامب ضد إيران، راعية الحوثيين، التي تفوق بكثير عدوانية إدارة بايدن. فلمّا كان دونالد ترامب رئيساً للمرة الأولى، صوّتت أكثرية مجلس الشيوخ في عام 2019 على قرار ينهي الدعم الأمريكي للتدخل السعودي في اليمن، وكان القرار بمبادرة من السيناتور اليساري بيرني ساندرز. فأبطل ترامب هذا القرار بممارسة الفيتو الرئاسي. ثم لمّا تلاه جو بايدن في البيت الأبيض، كان أحد أول قراراته تجميد مبيعات السلاح للمملكة السعودية والإمارات المتحدة (لاحظوا الفرق عن معاملته للدولة الصهيونية). أما الآن وقد عاد ترامب إلى البيت الأبيض بعنجهية تفوق كثيراً ما بدا عنه في ولايته الأولى، فإن احتمال إعادة تسعير حرب اليمن بمشاركة أمريكية مباشرة بات احتمالاً قوياً، بما يندرج في الضغط الأمريكي على إيران وتهديد ترامب لها بالاعتداء العسكري المباشر على أراضيها.
#جلبير_الأشقر (هاشتاغ)
Gilbert_Achcar#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سوريا إلى أين؟ تكرارٌ للسؤال
-
«أمريكا أولاً» والانقلاب الكبير في العلاقات الدولية
-
«لو كنتُ أعلم» موسى أبو مرزوق
-
سلامٌ بين الفاشيين الجدد وحربٌ على الشعوب المقهورة
-
حماس: «نحن الطوفان… نحن اليوم التالي»
-
عصر الفاشية الجديدة وبما يتميّز
-
في خطورة مواقف ترامب بشأن غزّة وفلسطين
-
أسطورتان متعلقتان بوقف إطلاق النار في غزّة
-
بعد خمسة أيام غيّرت وجهه… ما مصير لبنان؟
-
سلطة رام الله واستكمال الحصار
-
طوفان الأقصى والغرب والمحرقة
-
خواطر متشائمة على عتبة عام جديد
-
كيف يُعاد بناء الدولة السورية؟
-
سوريا إلى أين؟
-
ماذا يجري في سوريا؟
-
وقف النار في لبنان لن يكون «نصراً إلهيّاً»
-
«فريق الأحلام» الصهيوني في إدارة الولايات المتحدة
-
ترامب والشرق الأوسط: ماذا ينتظرنا؟
-
الهجمة الإسرائيلية اللاحقة على إيران
-
معضلة «حزب الله»
المزيد.....
-
-إنه بخير-.. بروس ويليس يحتفل بعيد ميلاده الـ 70
-
نتنياهو يواجه غضبا شديدا مع تفاقم الانقسامات في إسرائيل جراء
...
-
اليوم العالمي للسعادة: هل يختلف مفهومها بين الشعوب؟
-
سلسلة غارات جوية مكثفة تستهدف مواقع تابعة للحوثيين في العاصم
...
-
وزيرة الخارجية الألمانية في بيروت: نرفض -أي احتلال إسرائيلي
...
-
سوريا.. اللجنة الأمنية في اللاذقية تجتمع مع وجهاء وأعيان الد
...
-
روبيو: تاريخ القرن الـ 21 سيتمحور حول الولايات المتحدة والصي
...
-
البيت الأبيض يتهم إدارة بايدن بقتل 8 ملايين دجاجة
-
فيدان يلتقي حسين الشيخ في أنقرة
-
قائد فرقة غزة السابق: الجيش وصل لأقصى حدود قدرته على إجبار ح
...
المزيد.....
-
واقع الصحافة الملتزمة، و مصير الإعلام الجاد ... !!!
/ محمد الحنفي
-
احداث نوفمبر محرم 1979 في السعودية
/ منشورات الحزب الشيوعي في السعودية
-
محنة اليسار البحريني
/ حميد خنجي
-
شيئ من تاريخ الحركة الشيوعية واليسارية في البحرين والخليج ال
...
/ فاضل الحليبي
-
الاسلاميين في اليمن ... براغماتية سياسية وجمود ايدولوجي ..؟
/ فؤاد الصلاحي
-
مراجعات في أزمة اليسار في البحرين
/ كمال الذيب
-
اليسار الجديد وثورات الربيع العربي ..مقاربة منهجية..؟
/ فؤاد الصلاحي
-
الشباب البحريني وأفق المشاركة السياسية
/ خليل بوهزّاع
-
إعادة بناء منظومة الفضيلة في المجتمع السعودي(1)
/ حمزه القزاز
-
أنصار الله من هم ,,وماهي أهدافه وعقيدتهم
/ محمد النعماني
المزيد.....
|