|
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق: الْمَنْظُور الْفَلْسَفِيّ التَّارِيخِيّ
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8285 - 2025 / 3 / 18 - 21:24
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ الْمَفْهُومُ الْفَلْسَفِيّ لِلتَّارِيخ
فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ هِيَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي تَهْتَمّ بِدِرَاسَة التَّارِيخِ مِنْ مَنْظُورٍ فَلْسَفِيّ. وَهِيَ تَخْتَلِفُ عَنْ عِلْمٍ التَّارِيخِ، الَّذِي يُرَكِّزُ عَلَى تَتَبُّعِ الْأَحْدَاث التَّارِيخِيَّة وَسَرَد الْوَقَائِع وَ الْعَلَاقَات بَيْنَهَا. أَمَّا فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ فَتَهَدف إلَى الْبَحْثِ فِي الْأُسُس النَّظَرِيَّة لِلتِّطَوُّرَات وَالتَّغَيُّرَات الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّة عَبَّر الزَّمَن. مِنْ مَنْظُورٍ فَلْسَفِيّ، يُنْظَرُ إلَى التَّارِيخِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ سَرْد لِلْأَحْدَاث الْمَاضِيَةِ، بَلْ هُوَ دِرَاسَة وَ تَحْلِيل لِهَذِه الْأَحْدَاث وَأَسْبَابِهَا وَتَأْثِيرُاتِهَا عَلَى الْإِنْسَانِ وَ الْمُجْتَمَعِ. فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ تَسْعَى إِلَى فَهْمِ الْعَوَامِل وَالْقِوَّى الْكَامِنَة وَرَاء تَطَوُّر الْمُجْتَمَعَات وَحَرَكَة التَّارِيخ. أَحَدُ الْأَسْئِلَة الْأَسَاسِيَّةَ الَّتِي تَطْرَحُهَا فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ هُوَ: هَلْ لِلتَّارِيخ مَعْنَى وَغَايَة أَمْ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَتَابُع عَشْوَائِيّ لِلْأَحْدَاث؟ وَهَلْ هُنَاكَ قَوَانِين أَوْ نَمَاذِج يُمْكِن إسْتِخْلَاصَهَا مِنْ دِرَاسَةٍ التَّارِيخ لِلتِّنبو بِالْمُسْتَقْبَلِ؟ كَمَا تَسْعَى فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ إِلَى فَهْمِ دَوْرُ الإِنْسَانِ فِي صُنْعِ التَّارِيخ وَتَحْدِيد مَدَى حُرِّيَّتِه وَقُدْرَتِهِ عَلَى التَّأْثِيرِ فِي مَجْرَى الْأَحْدَاث. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، يَنْظُّرُ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ إلَى التَّارِيخِ عَلَى أَنَّهُ خَاضِع لِمَشِيئَة الْقَدَرِ أَوْ قِوَّى غَيْبِيَّة تَحَكُّم مَسَار الْإِحْدَاثِ. فِي الْمُقَابِلِ، يَرَى آخَرُونَ أَنْ لِلْإِنْسَان دُورًا مُحَوَّريا فِي صُنْعِ التَّارِيخِ وَإِنْ لِلظُّرُوف الْمَادِّيَّةِ وَ الِإجْتِمَاعِيَّةِ تَأْثِير كَبِيرٌ عَلَى تَطَوُّرِ الْمُجْتَمَعَات. عِلَاوَةً عَلَى ذَلِكَ، تَبْحَث فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ فِي مَفَاهِيمِ مِثْل التَّقَدُّم وَالتَّطَوُّر وَ الِإنْحِطَاط وَالنَّهْضَة وَالسَّبَبِيَّة التَّارِيخِيَّة. كَمَا تُناقِش الصِّلَةَ بَيْنَ التَّارِيخِ وَالْفَلْسَفَة وَالْعُلُوم الْأُخْرَى كَالسِّيَاسَة وَالِإجْتِمَاع وَ الِإقْتِصَاد وَالثَّقَافَة. بِشَكْلٍ عَامٍّ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْمَفْهُومَ الْفَلْسَفِيّ لِلتَّارِيخ يَنْظُرُ إلَيْهِ بِإعْتِبَارِهِ جُزْءًا لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ الْفِكْرِ الْإِنْسَانِيِّ وَتَطَوَّر الْحَضَارَة، بَدَلًا مِنْ مُجَرَّدِ سَرْد لِلْأَحْدَاث الْمَاضِيَةِ. وَهُوَ يَسْعَى إلَى الْكَشْفِ عَنْ الْمَعَانِي وَالْقِوَّى الْكَامِنَة وَرَاءَ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ وَتَأْثِيرُاتِهَا عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْمُجْتَمَعِ.
_ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق فِي فَلْسَفَةِ التَّارِيخ
عَلَاقَة الْعِلْم وَالْأَخْلَاق بِفَلْسَفَةِ التَّارِيخُ هِيَ عَلَاقَةٌ وَطِيدَة وَ عَمِيقَة. فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ تُعْتَبَرُ أَحَدَ أَهَمّ فُرُوع الْفَلْسَفَة وَ تُعْنَّى بِدِرَاسَة الْأُسُس النَّظَرِيَّة لِلتَّغَيُّرَات وَالتَّطَوُّرَات الِإجْتِمَاعِيَّة وَ التَّارِيخِيَّة عَبْرَ العُصُورِ. وَلِلْعِلْم وَالْأَخْلَاق دُور مِحْوَرَي فِي تَشْكِيلِ هَذِهِ التَّغَيُّرَاتُ وَالتَّطَوُّرَات. الْعِلْمِ هُوَ أَحَدُ الْمُرْتَكِزات الْأَسَاسِيَّةِ فِي فَلْسَفَةِ التَّارِيخ. فَالتَّطَوُّر الْعِلْمِيِّ وَالتِّقْنِيِّ عَلَى مَرَّ الْعُصُور لَعِبَ دَوْرًا بَارِزًا فِي تَشْكِيلِ الْأَحْدَاث وَالْمَسْارَات التَّارِيخِيَّة. فَالْنَهْضَة الْعِلْمِيَّةِ فِي أُورُوبَّا خِلَال عَصْرِ النَّهْضَةِ مَثَلًا كَانَ لَهَا تَأْثِيرٌ كَبِيرٌ عَلَى التَّحَوُّلَاتِ السِّيَاسِيَّةِ وَ الإجْتِمَاعِيَّةِ وَالِإقْتِصَادِيَّة فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. كَمَا أَنَّ النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالفَلْسَفِيَّة لَهَا إنْعِكَاسِات مُبَاشَرَةُ عَلَى فَهْمِ التَّارِيخ وَ تَفْسِير إحْدَاثُه. عِلَاوَةً عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ تَارِيخ الْعِلْمِ نَفْسِهِ هُوَ جُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ فَلْسَفَةِ التَّارِيخ. فَدِرَاسَة تَطَوُّرُ الْمَعَارِف الْعِلْمِيَّة عَبْرَ التَّارِيخِ وَعَوَامِل ذَلِكَ التَّطَوُّرِ تَعَدّ إحْدَى مَجَالَات فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ الْمُهِمَّة. وَكَمَا يَقُولُ الْفَيْلَسُوفُ هَايَدجر: "الْعِلْمُ لَا يُفَكِّرُ فِي ذَاتِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَاضِيه"، مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ فِي فَهْمِ الْعِلْمِ وَالْكَشْفِ عَنْ جُذُورِه وَمُسْارَات تَطَوُّرَه. مِنْ نَاحِيَةِ أُخْرَى، تَعَدّ الْأَخْلَاق أَحَد الْمَحَاوِر الْأَسَاسِيَّةِ فِي فَلْسَفَةِ التَّارِيخ. فَالْمُمَارَسَات الْأَخْلَاقِيَّة لِلْبَشَرِ عَلَى مَرَّ الْعُصُور هِيَ أَحَدُ الْمُحَدَّدَات الرَّئِيسِيَّة لِلْأَحْدَاث التَّارِيخِيَّة وَ تَطَوُّرِهَا. فَالتَّارِيخ هُو سَجَّل لِتَطَوُّر الذَّوَات الْأَخْلَاقِيَّة الْبَشَرِيَّة وَتَشَكُّلُهُا عَبَّرَ الزَّمَن. وَكَمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ نُشَكِّلَ الذَّوَات الْأَخْلَاقِيَّة الْيَوْم بِمَعْزِلٍ عَنْ عِلْم التَّارِيخ، فَدِرَاسَة الْمُمَارَسَات الْأَخْلَاقِيَّة لِلْبَشَرِ فِي الْمَاضِي تَمَكُّنِنَا مِنْ فَهْمِ جُذُور الْأَخْلَاق الْحَاضِرَة وَ تَطَوُّرِهَا الْمُسْتَقْبِلِي. كَمَا أَنَّ فَلْسَفَةَ التَّارِيخ تُسْهِمُ فِي بِنَاءِ الْمُثُلِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْعُلْيَا وَتَحْدِيد أَهْدَاف الْمُمَارَسَات الْأَخْلَاقِيَّة، إنْطِلَاقًا مِنْ دِرَاسَةٍ تَطَوُّر هَذِه الْمُمَارَسَات عَبْرَ التَّارِيخِ. وَ فِي هَذَا الصَّدَدِ، يَرَى ابْنُ خَلْدُونَ أَنَّ التَّارِيخَ هُوَ الْعِلْمُ الْأَقْرَب لِلْحَقِيقَة وَقَادِرٌ عَلَى تَحْدِيدِ أَهْدَاف الْأَخْلَاق وَغَايَاتِهَا. إذْن، يَتَّضِحُ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْأَخْلَاقُ هُمَا جَوْهَرِيًّان فِي فَلْسَفَةِ التَّارِيخ، فَالْأَوَّل يُمَثِّلُ أَحَدَ مُحَرِّكَات التَّغْيِير التَّارِيخِيّ، وَالثَّانِي يُعَدُّ سَجَّل تَطَوُّر الْمُمَارَسَات الْأَخْلَاقِيَّة لِلْبَشَر عَبْرَ العُصُورِ. وَتَتَفَاعِل هَذِهِ الْعَنَاصِرِ الثَّلَاثَة - الْعِلْم وَالْأَخْلَاق وَفَلْسَفَة التَّارِيخِ - فِي بِنَاءِ فَهِمْنَا لِلْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ.
_ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : مُقَارَبَة الرُؤَى وَ إخْتِلَافُ الْمُحَدَّدَات
فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ لِلْعُلُوم تَتَنَاوَل تَصَوُّرَات نَظَرِيَّة مُخْتَلِفَة حَوْل مَاهِيَّة وَطَبِيعَة الْعِلْم، وَالْكَيْفِيَّةُ الَّتِي تَطَوُّرِ وَتَغَيُّرِ بِهَا عَبَّرَ التَّارِيخ. هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ النَّظَرِيَّة لِلْعِلْم تَنْدَرِجُ تَحْتَ فَرْع فَلْسَفَة الْعُلُوم، وَاَلَّذِي يَهْتَمّ بِدِرَاسَة الْأُسُس الْفَلْسَفِيَّة وَ الْمَفَاهِيمِيَّة لِلْعِلْمِ وَمُمَارَسَاته. مِنْ الْمَنْظُورات التَّقْلِيدِيَّة الَّتِي طَالَمَا سَادَتْ فِي تَارِيخِ الْعُلُومِ، هُوَ تَصَوُّرٌ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ يَتَطَوَّر بِشَكْل خَطِّي وَتَرَاكُمِيّ، حَيْثُ تَتَرَاكَم الْحَقَائِق وَالْمَعَارِف الْعِلْمِيَّة بِشَكْل مِنْهُجي وَتَدْرِيجيّ عَبَّرَ الزَّمِنِ. هَذَا التَّصَوُّرِ يَنْظُرُ إلَى تَارِيخِ الْعِلْم كَخَطّ شِبْه مُسْتَقِيم يَنْمُو بِإطِّرَاد فِي إكْتِشَافِ الْمَزِيدَ مِنْ الْحَقَائِقِ وَالنَّظَرِيَّات الْعِلْمِيَّةِ الصَّحِيحَةِ. إلَّا أَنْ هَذَا التَّصَوُّرِ قَدْ تَعَرَّضَ لِإنْتِقَادَاتٍ كَبِيرَةٌ مِنْ قِبَلِ فَلَاسِفَة الْعِلْمِ مِثْلُ تُومَاس كَوْن، Thomas Kuhn الَّذِي لَاحَظَ أَنَّ تَطَوُّر الْعِلْمِ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى هَذَا النَّمُوذَجَ الْخَطِّي التَّرَاكُمِي، بَلْ يَتَسَمّ بِطَبِيعَة ثَوْريَّةِ وَإنْقِلَابيَّةِ عَبَّرَ تَغْيِير الِإفْتِرَاضَات وَالْمُسْلِمَاتِ الْأَسَاسِيَّةَ فِي النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ. يَرْتَبِطُ بِالتَّصَوُّر السَّابِق تَصَوُّر آخَرَ يَنْظُرُ إلَى الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ يَتَقَدَّمُ بِشَكْل تَرَاكُمِيّ عَبَّرَ زَمَن التَّارِيخ، بِحَيْث تَتَرَاكَم الْمَعَارِف وَالنَّظَرِيَّات الْعِلْمِيَّةِ الصَّحِيحَةِ وَ الْمَوْثُوقَة، بَيْنَمَا تُحْذَف أَوْ تُسْتَبْدَل الْمَعَارِف وَالنَّظَرِيَّات الْخَاطِئَة أَوْ غَيْرَ الْمُلَائِمَة. وَ لَكِنَّ هَذَا التَّصَوُّرِ أَيْضًا تَعَرَّضَ لِإنْتِقَادَاتٍ مِنْ قِبَلِ فَلَاسِفَة الْعِلْمِ مِثْلُ كَارْل بُوبْر Karl Popper، الَّذِي أَكَّدَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَنْمُو بِشَكْل تَرَاكُمِيّ لِأَنَّ النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ لَيْسَتْ حَقَائِق مُطْلَقَةً، بَلْ هِيَ إفْتِرَاضِات وَ تَخْمِينٌات مُحْتَمِلَةٌ الْخَطَأ وَالتَّكْذِيب. فِي مُقَابِلِ هَذَيْن التَّصَوُّرَيْن، تَبْرُز رُؤْيَة تُومَاس كَوْن حَوْل تَطَوُّر الْعِلْم، وَاَلَّتِي تَرَى أَنَّ تَقَدُّمَ الْعِلْمِ لَا يَتِمُّ بِشَكْل خَطِّي وَتَرَاكُمِيّ، بَلْ يُتِمُّ عَبَّر "ثَوْرَات عِلْمِيَّة" تُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرَات جِذْرِيَّة فِي الِإفْتِرَاضَات وَ الْمَفَاهِيمُ الْأَسَاسِيَّة لِلنَّظَرِيَّات الْعِلْمِيَّة. فَوَفَّقا لِكُوْن، يَنْتَقِل الْعِلْم عَبْرَ فَتَرَاتِ مِنْ "الْعِلْمِ الْعَادِي" حَيْثُ تَسْوَدّ نَظَرِيَّة عِلْمِيَّة سَائِدَة، إلَى فَتَرَاتِ مِنْ "الْأَزْمَة" حَيْث تَنْشَأ تَنَاقُضَات وَشُكُوكٌ فِي هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ، وُصُولًا إِلَى "ثَوْرَة عِلْمِيَّة" تُؤَدِّي إلَى ظُهُورِ نَظَرِيَّة عِلْمِيَّة جَدِيدَةً تَحِلُّ مَحَلّ النَّظَرِيَّة السَّابِقَة. وَهَكَذَا يَتَطَوَّر الْعِلْم عَبَّر تَغْيِيرٍ جِذْرِيٍّ فِي الِإفْتِرَاضَات وَالْمَفَاهِيمُ الْأَسَاسِيَّة. هُنَاكَ أَيْضًا تَصَوُّرَات نَظَرِيَّة لِلْعِلْم تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ نَشَاط مَعْرِفِيّ خَالِصٍ، بَلْ هُوَ مُمَارَسَة إجْتِمَاعِيَّة وَ ثَقَافِيَّة تَتَأَثَّر بِسَيْاقَات الْمُجْتَمَعُ وَالثَّقَافَة الَّتِي يَنْشَأُ فِيهَا. هَذَا التَّصَوُّرِ يَنْظُرُ إلَى الْعِلْمِ كَنَشْاط بَشَرِي مُرْتَبِط بِظُرُوف إجْتِمَاعِيَّة وَسِيَاسِيَّة وَإقْتِصَادِيَّة ثَقَافِيَّة مُعَيَّنَة. وَيُؤَكِّدُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَنْمُو بِشَكْل مُسْتَقِلٌّ عَنْ هَذِهِ السِّيَاقَات، بَلْ يَتَأَثَّرُ بِهَا وَيُؤَثِّرُ فِيهَا. وَ قَدْ ظَهَرَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ فِي إِطَارِ مَنَاهِج جَدِيدَة مِثْل "دِرَاسَات الْعُلُوم"، وَاَلَّتِي تَهْتَمّ بِدِرَاسَة الْعِلْم كَنَشْاط إجْتِمَاعِيّ وَثَقَافِيّ وَسِيَاسِيّ بَدَلًا مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ كَنَشْاط مَعْرِفِيّ مَحْض. هُنَاكَ أَيْضًا تَصَوُّرَات نَظَرِيَّة تَرَى أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَنْطَوِي تَحْتَ مَنْهَج وَاحِد مُوَحِّد، بَلْ هُوَ مُمَارَسَة مُتَعَدِّدَة الْمَنَاهِج وَالْأَسَالِيب الْبَحْثَيْة. وَفْقًا لِهَذَا التَّصَوُّرُ، لَا يُوجَدُ مَنْهَجٍ عِلْمِيٍّ وَاحِد مِعْيَارِيّ، بَلْ تَتَنَوَّع الْمُمَارَسَات الْعِلْمِيَّة بِتَنَوُّع الْمَجَالَات وَالتَّخَصُّصَات وَالْمُشْكَلَات الَّتِي يَتَصَدَّى لَهَا الْعُلَمَاء. وَبِالتَّالِي فَإِنَّ تَعَدُّدَ الْمَنَاهِج وَالْأَسَالِيب الْبَحْثَيْة هُوَ سِمَة أَسَاسِيَّة لِلْعَمَلِيَّة الْعِلْمِيَّةِ. هَذَا التَّصَوُّرِ يَرْفُض التَّصَوُّر التَّقْلِيدِيّ لِلْعِلْم كَنَشْاط مُنْضَبِطٌ تَحْت مَنْهَج مُوَحِّد، وَ يُؤَكِّدُ عَلَى التَّنَوُّع وَالتَّعَدُّدُ فِي الْمُمَارَسَات الْبَحْثَيْة الْعِلْمِيَّة. وَ نُلَخِّص هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ النَّظَرِيَّة الْمُخْتَلِفَة لِلْعِلْمِ مِنْ وَجْهَة نَظَر فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ، حَيْثُ نَجِدُ أَنَّ هُنَاكَ تَنُوعا كَبِيرًا فِي الرُّؤَى وَ التَّصَوُّرَات النَّظَرِيَّةِ الَّتِي حَاوَلَتِ فَهُمْ وَتَفْسِير طَبِيعَة وَتَطَوَّر الْعِلْم عَبْرَ التَّارِيخِ. وَتَعْكَس هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ الْجَدَل الْفَلْسَفِيّ الدَّائِرِ حَوْلَ مَاهِيَّةِ الْعِلْمِ وَكَيْفِيَّةُ نُمُوُّه وَتَطَوُرُه. أَمَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَخْلَاق تَنْظُر فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ إِلَى النَّظَرِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة مِنْ خِلَالِ عِدَّةِ مَنْظُورًات مُخْتَلِفَةٌ، مِمَّا جَعَلَ هَذَا الْمَوْضُوعِ بَالِغ التَّعْقِيد وَالتَّنَوُّع. وَجْهَة النَّظَرُ التَّارِيخِيَّة تَرَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ لَيْسَتْ مُطْلَقَةً وَثَابِتَة، بَلْ هِيَ مُرْتَبِطَة بِسِيَاق الْمُجْتَمَعَات وَ الْحَضَارَات الْمُخْتَلِفَةُ عَلَى مَرَّ الْعُصُور. فَالْقَيِّم وَالْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة تَتَطَوَّر وَتَتَغَيَّر بِشَكْل تَدْرِيجِيّ وَفَقَأ لِلسِّيَاقِات الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ الَّتِي تَعِيشُهَا الْمُجْتَمَعَات. وَ مِنْ أَبْرَزِ الْمُفَكِّرِينَ الَّذِين تَبْنُوا هَذَا الْمَنْظُورِ هُو هِيغِل Hegel، الَّذِي رَأَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ تَتَجَسَّدُ فِي الرُّوحِ الْمُطْلَقَة لِلشُّعُوب وَ الْحَضَارَات، وَأَنَّ التَّارِيخَ هُوَ تَجْسِيد لِهَذِه الرُّوح الْمُطْلَقَةِ فِي مَرَاحِلَ مُتَتَالِيَة. هُنَاكَ نَظَرَة أُخْرَى تَرَى أَنَّ التَّارِيخَ نَفْسِه يُمْكِنُ تَفْسِيرُهُ مِنْ خِلَالِ الْمَنْظُور الْأَخْلَاقِيّ. فَالْأَفْكَار وَالنَّظَرِيَّات الْأَخْلَاقِيَّة تُشْكِل مُحَرِّكَات رَئِيسِيَّة لِلْأَحْدَاث التَّارِيخِيَّة وَتَطَوَّر الْمُجْتَمَعَات. وَ مِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ، فَإِنْ دِرَاسَة الْأَخْلَاق تُسَاعِدُ عَلَى فَهْمِ وَتَفْسِير الظَّوَاهِر وَالْأَحْدَاث التَّارِيخِيَّة. وَأَبْرَز مِنْ مِثْلِ هَذَا التَّوَجُّهِ هُوَ أُوغَسْطِينوس Augustine، الَّذِي فَسَّرَ التَّارِيخِ الْإِنْسَانِيِّ عَلَى أَنَّهُ صِرَاعٌ بَيْنَ مَدِينَتِي اللَّهِ وَالشَّيْطَانِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ الْأَخْلَاقِيّ هُوَ الْمُحَرِّكُ الْأَسَاسِيُّ لِلْأَحْدَاث التَّارِيخِيَّة. هُنَاكَ مَنْظُور ثَالِث يَرَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ نِتَاج لِلتَّارِيخ، بَلْ هِيَ أَيْضًا عَامِلُ رَئِيسِيٍّ فِي تَحْدِيدِ مَسَارِ التَّارِيخِ وَ تَوْجِيهُه. فَالْقَيِّم وَالْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي تَتَبَنَّاهُا الْمُجْتَمَعَات تُؤَثِّر بِشَكْلٍ كَبِيرٍ فِي صِيَاغَةِ مَجْرَى الْأَحْدَاث التَّارِيخِيَّة وَ تَحْدِيد مَسَارَهَا. وَبِالتَّالِي فَإِنَّ دِرَاسَة الْأَخْلَاق وَالْحُكْمِ عَلَيْهَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى الَّتِنبؤ بِالتَّطَوُّرَات التَّارِيخِيَّة المُسْتَقْبَلِيَّة وَتَوْجِيهُهَا. وَمِنْ أَبْرَزِ مُمَثَّلي هَذَا الِإتِّجَاهَ كَانَط Kent، الَّذِي رَأَى أَنَّ التَّارِيخَ هُوَ تَقَدُّمُ نَحْوَ تَحْقِيقِ الْغَايَات الْأَخْلَاقِيَّة لِلْإِنْسَانِيَّة. هُنَاكَ مَنْظُور نَقْدِيّ يُنْظَرُ إلَى التَّارِيخِ مِنْ مَنْظُورٍ أَخْلَاقِيّ، حَيْثُ يَرَى أَنَّ التَّارِيخَ لَا يَخْلُو مِنْ الظُّلْمِ وَالْقَمْع وَالِإنْتِهَاكِات الْأَخْلَاقِيَّة. وَمِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ، فَإِنْ دِرَاسَة الْأَخْلَاق يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَدَّاة لِنَقْد الْمُمَارَسَات التَّارِيخِيَّة وَ تَقَييمها أَخْلَاقِيًّا. وَيُمَثِّل هَذَا الِإتِّجَاهَ فَلَاسِفَة مِثْل مَارْكِسَ Marx، الَّذِي إنْتَقَد التَّارِيخ البُرْجُوَازِيّ وَإعْتَبَرَهُ تَارِيخًا لِلطَّبَقَات المُسْتَغَلَّة وَالْمُضْطَهَدَة، وَدَعَا إلَى ثَوْرَة أَخْلَاقِيَّة لِتَحْرِير الْإِنْسَانِ مِنْ قُيُودِ الرَّأْسِمَالِيَّة. بِهَذِهِ الطُّرُقِ الْمُتَنَوِّعَة، تَنْظُر فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ إِلَى الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْأَخْلَاق وَالتَّارِيخ، وَ تُسَاهِمُ فِي تَعْمِيقِ فَهِمْنَا لِلْجَوَانِب الْأَخْلَاقِيَّة الْمُتَضَمِّنَةِ فِي التَّطَوُّرَات التَّارِيخِيَّة وَتَأْثِيرِهَا فِي مَسَارٍ الْأَحْدَاثِ. وَهَذَا يَجْعَلُ دِرَاسَة فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ أَمْرًا بَالِغَ الْأَهَمِّيَّةِ لِفَهْم الْقَضَايَا الْأَخْلَاقِيَّة فِي سِيَاقِهَا التَّارِيخِيّ. بِالتَّالِي يُمْكِن الِإسْتِنْتَاج أَنَّ فَلْسَفَةَ التَّارِيخِ هِيَ مَجَالُ فَلْسَفِيّ يَهْتَمّ بِدِرَاسَة طَبِيعَة التَّارِيخِ الْبَشَرِيِّ وَكَيْفِيَّة تَطَوُّرَه عَلَى مَرَّ الزَّمَنِ. فِي هَذَا الْإِطَارِ، لَعِبَتْ تَصَوُّرَات الْمُفَكِّرِين حَوْل مَاهِيَّةِ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق دُورًا مُحَوَّريا فِي إِطَارِ فَلْسَفَة التَّارِيخ. كَانَ لِلِإخْتِلَافَات فِي تَفْسِيرِ طَبِيعَة الْعِلْم وَأدَّوَّارَه تَأْثِيرِ كَبِيرٌ عَلَى تَصَوُّرَات الْمُفَكِّرِين لِتَطَوُّر الْمُجْتَمَعَات الْبَشَرِيَّة عَبْرَ التَّارِيخِ. فَهُنَاكَ مَنْ يَنْظُرُ إلَى الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ قُوَّةٌ مُحَرَّكَة لِلتَّقَدُّم وَالتَّطَوُّر الْحَضَارِيّ، بَيْنَمَا يَرَى آخَرُونَ أَنَّهُ مُجَرَّدُ إنْعِكَاس لِلظُّرُوف الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَ الِإقْتِصَادِيَّةِ السَّائِدَةِ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ تَارِيخِيَّة. كَمَا يَرَى أَصْحَابَ نَظَرِيَّة التَّقَدُّمَ الْعِلْمِيَّ، مِثْل أَوْجَسَتْ كَوَّنَت Auguste Comte, وَآخَرُون يُمَثِّلُون هَذَا الِإتِّجَاهَ, أَنَّ الْعِلْمَ يُمَثِّل الْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ الرَّئِيسِيَّة وَرَاء تَقَدَّم الْمُجْتَمَعَات الْبَشَرِيَّة عَبْرَ التَّارِيخِ. فَبِتَطور الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ الْعِلْمِيَّة، تَتَحَسَّن قُدْرَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى فَهْمِ الطَّبِيعَة وَالسَّيْطَرَة عَلَيْهَا، مِمَّا يُؤَدِّي إلَى تَطَوُّر الْحَضَارَات وَ إزْدِهَارها. وَوَفْقًا لِهَذَا التَّصَوُّرِ، فَإِنَّ التَّارِيخَ الْبَشَرِيّ يَمُرّ بِمَرَاحِل مُتَتَالِيَة مِنْ التَّطَوُّرُ الْعِلْمِيُّ وَالتِّقْنِيّ تُؤَدِّي إلَى تَحْسُن مُسْتَمِرٌّ فِي أَوْضَاعِ الْبَشَر الْمَعِيشِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ. فِي حِينِ يَرَى أَصْحَابَ النَّظَرِيَّة الِإجْتِمَاعِيَّة لِلْعِلْم وَ مِنْ يَتَبَنَّوْن هَذَا الِإتِّجَاهَ، مِثْل مَاكَس فَيَبَرّ Max Weber وَكَارل مَارْكِسُ Carl Max، أَنْ الْعِلْمَ لَيْسَ قُوَّة مُحَرَّكَة مُسْتَقِلَّةً، بَلْ هُوَ إنْعِكَاس لِلظُّرُوف الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالِإقْتِصَادِيَّةِ السَّائِدَةِ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ تَارِيخِيَّة. فَالْأَفْكَار الْعِلْمِيَّةِ وَالنَّظَرِيَّات الْمَطْرُوحَة فِي كُلِّ عَصْرٍ تَتَشَكَّل وَفَقَأ لِلْمَصَالِح وَالْقِوَّى الِإجْتِمَاعِيَّة المُهَيْمِنَة. وَوَفْقًا لِهَذَا الرَّأْيِ، فَإِنْ التَّطَوُّرُ الْعِلْمِيُّ لَا يُؤَدِّي بِالضَّرُورَةِ إِلَى تَقَدُّمِ إجْتِمَاعِيّ، بَلْ قَدْ يَكُونُ أَدَّاة لِتَعْزِيز هَيْمَنَة الطَّبَقَات الْحَاكِمَة وَ تَكْرِيس الظُّلْمُ وَالتَّفَاوُت الِإجْتِمَاعِيّ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَفْهُومِ الْأَخْلَاقِ فِي فَلْسَفَةِ التَّارِيخَ، فَقَدْ إرْتَبَطَتْ تَصَوُّرَات الْمُفَكِّرِين بِه بِشَكْل وَثِيق، حَيْثُ رَأَى الْبَعْضَ أَنْ الْأَخْلَاق هِي مُحَرِّك التَّطَوُّر الْحَضَارِيّ، بَيْنَمَا إعْتَبَرَهَا الْبَعْضِ الْآخَرِ إنْعِكَاسًا لِهَذَا التَّطَوُّر. هُنَاك مُفَكِّرُون رَأَوْا أَنَّ الْأَخْلَاقَ هِيَ الْقُوَّةُ الْمُحَرِّكَة وَرَاء تَطَوُّر الْمُجْتَمَعَات الْبَشَرِيَّة عَبْرَ التَّارِيخِ. فَوَفَّقا لِهَذَا الرَّأْيِ، فَإِنْ تَبَّنِي الْمُجْتَمَعَات لُقَيْم أَخْلَاقِيَّة رَاقٍيَّة كَالْعَدْلِ وَالْإِيثَار وَ الْمُسَاوَاة هُوَ مَا يُؤَدِّي إلَى تَقَدُّمِهَا الْحَضَارِيّ وَالِإجْتِمَاعِيّ. وَمِنْ أَبْرَزِ أَصْحَابُ هَذَا الِإتِّجَاهَ نَجِد هَيَجَل Hegel الَّذِي رَبَطَ بَيْنَ تَطَوُّر الرُّوح الْعَالَمِيَّة وَالتَّقَدُّم الْأَخْلَاقِيّ لِلْبَشَرِيَّة. فِي الْمُقَابِلِ، هُنَاك مُفَكِّرُون آخَرُونَ إعْتَبَرُوا أَنْ الْأَخْلَاق لَيْسَتْ سِوَى إنْعِكَاس لِلظُّرُوف الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالِإقْتِصَادِيَّةِ السَّائِدَةِ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ تَارِيخِيَّة. وَيُمَثِّل كَارْلَ مَارْكِسَ أَحَدَ أَبْرَزِ أَصْحَابُ هَذَا الِإتِّجَاهَ، حَيْث رَبَط تَطَوُّرِ الأَخْلَاقِ بِتَطْور الْعَلَاقَاتُ الْإِنْتَاجِيَّة وَالصِّرَاع الطَّبَقِيّ. وَوَفْقًا لِمَاركس، فَإِنْ الْأَخْلَاق الْبُرْجُوَازِيَّة المُهَيْمِنَة فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الرَّأْسِمَالِيَّةِ إنَّمَا هِيَ تَعْبِيرٌ عَنْ مَصَالِحِ الطَّبَقَة الرَّأْسِمَالِيَّة الْحَاكِمَة، وَأَنَّهَا سَتَتَغَيَّر بِتَغْيِير النِّظَامِ الِإقْتِصَادِيِّ وَالِإجْتِمَاعِيّ. فِي الْخِتَامِ، لَعِبَتْ تَصَوُّرَات الْمُفَكِّرِين حَوْل طَبِيعَة الْعِلْم وَالْأَخْلَاق دُورًا مُحَوَّريا فِي بِنَاءِ فَلْسَفَات التَّارِيخ الْمُخْتَلِفَة. فَبَيْنَمَا رَأْى الْبَعْضِ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْأَخْلَاقُ هُمَا مُحَرَّكًا التَّقَدُّمِ الْحَضَارِيِّ، اُعْتُبِر آخَرُون أَنَّهُمَا مُجَرَّدُ انْعِكَاس لِلظُّرُوف الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالِإقْتِصَادِيَّةِ السَّائِدَة. وَظَلَّتْ هَذِهِ الْخِلَافَاتِ النَّظَرِيَّة مَوْضِع جَدَل وَبَحَثَ فِي إِطَارِ فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ عَلَى مَرَّ الْعُصُور.
_ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ / الْعَلَاقَات البِنْيَوِيَّة
عَلَاقَة الْعِلْم بِفَلْسَفَة التَّارِيخُ هِيَ عَلَاقَةٌ مُعَقَّدَة وَذَات أبْعَاد مُتَعَدِّدَةٍ. مِنْ جِهَةِ، تَسْعَى فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ إِلَى فَهْمِ وَتَفْسِير تَطَوُّر الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَتَغَيُّرِهَا عَبَّر الزَّمَن، وَ دِرَاسَة السِّيَاق التَّارِيخِيّ وَالِإجْتِمَاعِيّ وَ الثَّقَافِيّ الَّذِي يَنْشَأُ فِيهِ الْعِلْمُ وَ يَنْتَشِر. فَالْعِلْمُ لَيْسَ مُنْفَصِلًا عَنْ السِّيَاقِ التَّارِيخِيّ، بَلْ هُوَ جُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ مِنْه. فَفَلْسَفَةُ التَّارِيخِ تُشْكِل حَجَرُ الزَّاوِيَةِ فِي فَهْمِ الْعَلَاقَات البِنْيَوِيَّة بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي السِّيَاقِ التَّارِيخِيّ. هَذِهِ الْعَلَاقَةِ لَيْسَتْ مُبَاشَرَةً أَوْ بَسِيطَةً، بَلْ هِيَ مُرَكَّبَةٌ وَ مُتَدَاخِلَة تَتَأَثَّر بِمُتَغَيِّرٍات تَارِيخِيَّة وَثَقَافِيَّة وَسَيَاقَات إجْتِمَاعِيَّة وَ سِيَاسِيَّة مُتَعَدِّدَة، يَنْظُرُ عِلْمَ التَّارِيخُ إلَى الْمَاضِي مِنْ أَجْلِ فَهُمْ الْحَاضِر وَإسْتِشْرَاف الْمُسْتَقْبَلِ. وَهَذَا يَتَطَلَّب إدْرَاك الْعَلَاقَات البِنْيَوِيَّة بَيْنَ الْأَحْدَاثِ وَ الظَّوَاهِر التَّارِيخِيَّة وَ الْمَعْطُيَات الْمَعْرِفِيَّة وَ الْأَخْلَاقِيَّة الْمُرْتَبِطَةِ بِهَا. فَالتَّارِيخ لَيْسَ مُجَرَّدَ سَرْد لِلْوَقَائِع وَالْأَحْدَاث، بَلْ هُوَ مُحَاوَلَةُ لِتَفْسِير وَتَحْلِيل هَذِهِ الْوَقَائِعِ وَ فَهُمْ الْمَنْطِق الدَّاخِلِيّ لَهَا وَ الرَّوَابِط فِيمَا بَيْنَهَا، يَرْتَبِط الْعِلْم وَتَطَوُرُه بِالسِّيَاقَات التَّارِيخِيَّة وَالثَّقَافِيَّة الْمُتَغَيِّرَة فَالْعِلْمُ لَيْسَ مُنْعَزِلًا عَنْ الْوَاقِعِ الِإجْتِمَاعِيّ وَالسِّيَاسِيّ، بَلْ يَتَأَثَّرُ بِهِ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ. فَالتَّرَاكُم المَعْرِفِيّ وَالتَّطَوُّر الْعِلْمِيِّ لَا يَنْشَأُ فِي فَرَاغِ، بَلْ يَأْتِي كَإسْتَجَابَة لِمُتَطَلَبَات الْمُجْتَمَعُ وَحَاجَاتِه فِي فَتَرَاتٍ تَارِيخِيَّة مُحَدَّدَة. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاقُ هِيَ عَلَاقَةٌ جَدَلِيَّة تَتَشَكَّلُ فِي السِّيَاقِ التَّارِيخِيّ. تَلْعَب الْأَخْلَاق دُورًا مُرَكَّزيا فِي تَوْجِيهِ وَضَبَط مُمَارَسَات الْعِلْمُ وَتَطْبِيقِاته. فَالْأَخْلَاق لَا تَقِفُ عِنْدَ مُجَرَّدِ وَصْفِ الْوَاقِعِ أَوْ تَفْسِيرِهِ، بَلْ تَتَعَدَّى ذَلِكَ إلَى تَحْدِيدِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ. وَهَذَا يَتَطَلَّب مِنَ الْبَاحِثِينَ وَالْعُلَمَاء مُرَاعَاة الْجَوَانِب الْأَخْلَاقِيَّة فِي مُمَارَسَاتهم الْبَحْثَيْة وَ التَّطْبِيقِيٍّة. فَالتَّطَوُّرُ الْعِلْمِيّ الْمُتَسَارِع قَدْ يَنْطَوِي عَلَى مَخَاطِر أَخْلَاقِيَّة إذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ ضَوَابِط أَخْلَاقِيَّة تَحَكُّمٌ هَذَا التَّطَوُّرُ. مِنْ جِهَةِ أُخْرَى، يُنْظَرُ إلَى الْعِلْمِ بِإعْتِبَارِه أَحَد الْمُحَرِّكَات الْأَسَاسِيَّة لِتَطَوُّر الْمُجْتَمَعَات الْبَشَرِيَّة وَتَقَدُّمُهَا عَبْرَ التَّارِيخِ. فَفِي حِينِ أَنَّ فَلْسَفَةَ التَّارِيخ تُعْنَّى بِالْبُنْيَة وَالتَّطَوُّرِ الْعَامّ لِلْحَضَارَات وَالمُجْتَمَعَات، فَإِنَّ الْعِلْمَ يُشْكِل أَحَدُ الْعَنَاصِرِ الْمَرْكَزِيَّة فِي هَذِهِ الْبُنْيَة وَتَحَوُّلُهَا عَبَّر الزَّمَن. وَ لِلْعَلَّاقَة البِنْيَوِيَّةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَفَلْسَفَة التَّارِيخ أبْعَاد مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا الْبُعْدُ المَعْرِفِيّ الَّذِي يَتَمَثَّلُ فِي دِرَاسَةِ تَطَوُّر الْمَنَاهِج وَالنَّظَرِيَّات الْعِلْمِيَّة عَبْرَ التَّارِيخِ، وَكَيْفَ تُؤَثِّرْ هَذِهِ التَّطَوُّرَات فِي رُؤْيَةِ الْإِنْسَانِ لِلْعَالِم وَالتَّارِيخ. فَالتَّحْوِلَات الْكُبْرَى فِي الْعُلُومِ، كَالثَّوْرَة الْكُوبْرْنِّيكِيَّة أَوْ نَظَرِيَّةِ التَّطَوُّر، كَانَ لَهَا أثَارٌ عَمِيقَة عَلَى فَهْمِ الْإِنْسَانِ لِلتَّارِيخ وَالتَّغَيُّر التَّارِيخِيّ. هُنَاكَ أَيْضًا الْبُعْد الْمَنْهَجِيّ الْمُتَعَلِّب بِبَحْث فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ فِي المَنَاهِجِ وَالْأَسَالِيب الَّتِي يَتْبَعُهَا الْمُؤَرِّخُونَ فِي دِرَاسَةِ الْمَاضِي، وَكَيْف تَتَأَثَّر هَذِه الْمَنَاهِج بِالتَّطَوُّرَات فِي الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ. وَفِي الْمُقَابِلِ، فَإِنْ الْمُمَارَسَات التَّارِيخِيَّة أَنْفُسِهَا قَدْ أَثَّرَتْ فِي تَطْوِيرِ الْمَنَاهِج الْعَلَمِيَّةِ، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي ظُهُورِ الْمَنَاهِج الْكَمِّيَّة وَالْإِحْصَائِيٍّة فِي الْعُلُومِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ. كَمَا تَبْحَث فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ فِي الْأبْعَادِ الْأَيْدُيُولُوجِيَّة وَالْقِيمَيَّة الَّتِي تَحْكُمُ رُؤْيَة الْعُلَمَاء لِلْعَالِم وَ التَّارِيخ. فَالْعِلْمُ لَيْسَ حَيًّاديًّا أَوْ مَوْضُوعِيًّا بِالْكَامِلِ، بَلْ يَتَأَثَّر بِالسِّيَاق الِإجْتِمَاعِيّ وَالثَّقَافِيّ الَّذِي يُنْتِجُ فِيهِ. وَقَدْ لَعِبَتْ الْأَيْدُيُولُوجِيَّات السِّيَاسِيَّة وَالدِّينِيَّة دَوْرًا مُهِمًّا فِي تَوْجِيهِ وَ تَشْكِيل الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة عَبَّر التَّارِيخ. أَضَافَة إلَى ذَلِكَ تَبْحَث فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ فِي الْعَلَاقَةِ بَيْنَ تَطَوُّر الْعُلُوم وَالتَّحْوِلَات الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ. فَالْعِلْمُ لَا يَنْشَأُ فِي فَرَاغِ، بَلْ هُوَ مُحَصَّلَة لِلتَّفَاعُل بَيْن الْأَنْشِطَة الْعِلْمِيَّة وَ السِّيَاق الِإجْتِمَاعِيّ وَ السِّيَاسِيّ. وَقَدْ أَثَّرَ تَطَوُّر الْعُلُومِ فِي بُنْيَّة الْمُجْتَمَعَات وَ أَسَالِيب الْحَيَاة وَ الْإِنْتَاج وَالتَّنْظِيم الِإجْتِمَاعِيُّ. فِي ضَوْءِ هَذِهِ الْأبْعَاد الْمُخْتَلِفَة، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ فَلْسَفَة التَّارِيخِ هِيَ عَلَاقَةٌ تَبَادُلِيَّة وَتَفَاعُلِيَّة. فَالْعِلْم يُشْكِل أَحَد الْمُحَرِّكَات الْأَسَاسِيَّةِ لِلتَّغَيُّر التَّارِيخِيّ، بَيْنَمَا تُسْهِم فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ فِي فَهْمِ السِّيَاقَاتِ الَّتِي أُنْتِجَتْ هَذَا الْعِلْمِ وَ أَثَّرَتْ فِيه. وَ تَتَجَلَّى هَذِهِ الْعَلَاقَةِ البِنْيَوِيَّة فِي مُخْتَلَفٍ الْمُسْتَوَيَات الْمَعْرِفِيَّة وَ الْمِنْهَجِيَّة وَالْإِيدَيُولُوجِيَّة وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ تُسَاعِدُ فِي فَهْمِ الْعَلَاقَات البِنْيَوِيَّة بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاق، مِنْ خِلَالِ إدْرَاك السِّيَاقَات التَّارِيخِيَّة وَ الثَّقَافِيَّة الَّتِي تُشَكِّلُ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ وَ تَتَطَوَّرُها. فَالْمَاضِي يَحْمِّلُ دُرُوسًا وَعِبَّرَا تَمَكُّنُنَا مِنْ تَفْهَم الْحَاضِر وَبِنَاء مُسْتَقْبِل أَكْثَر تَوَازَنَا بَيْنَ الْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّة وَ الِإلتِزَامَات الْأَخْلَاقِيَّة. إنْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ وَ الْأَخْلَاقُ هِيَ عَلَاقَةٌ وَطِيدَة وَ بَنَيَوِيَّة فِي طَبِيعَتِهَا. فَالفَلْسَفَة التَّارِيخِيَّة تَبْحَثُ فِي قَوَانِينِ وَ آلِيَات تَطَوُّر الْحَضَارَات وَالمُجْتَمَعَات عَبَّر الزَّمَن، بَيْنَمَا الْأَخْلَاق تَتَنَاوَل مَسَائِل السُّلُوكِ الْإِنْسَانِيِّ الصَّائِب وَالْخَاطِئ فِي ضَوْءِ هَذَا التَّطَوُّرُ التَّارِيخِيّ. مِنْ الْمَنْظُور الْفَلْسَفِيّ، يُمْكِنُ تَحْدِيدُ جَوَانِبِ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ البِنْيَوِيَّة عَلَى النَّحْوِ التَّالِي تُعَدّ الْأَخْلَاق مُنْتَجًا تَارِيخِيًّا وَثَقَافِيًّا، فَهِي تَتَشَكَّل وَتَتَطَوَّر بِتَطْور الْمُجْتَمَعَات وَ تَغَيَّر سِيَاقَاتِهَا التَّارِيخِيَّة. فِي الْمُقَابِلِ، فَإِنْ الْمُمَارَسَات الْأَخْلَاقِيَّة وَ الْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة السَّائِدَةِ فِي مُجْتَمَعٍ مَا تُؤَثِّرُ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ فِي مَسَارَات التَّارِيخ وَتَوَجَّهَاتِه. إذْ تَقُوم الْأَخْلَاق بِتَوْجِيه وَضَبَط السُّلُوكِ الْإِنْسَانِيِّ وَالْمَمَارَسَات الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَ السِّيَاسِيَّةِ، مِمَّا يَنْعَكِس بِدَوْرِه عَلَى مُجْرَيَاتِ التَّارِيخ وَتَطَوُرُه. يَرَى فَلَاسِفَةِ التَّارِيخِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فَهْمُ مَسَارَات التَّطَوُّر التَّارِيخِيّ وَقَوَانِينِه بِمَعْزِلٍ عَنْ الْإِبْعَاد الْأَخْلَاقِيَّة لِلسُّلُوك الْإِنْسَانِيّ. فَالتَّارِيخ لَا يَنْحَصِرُ فِي مُجَرَّدِ تَسْجِيل الْأَحْدَاث وَ الْوَقَائِع التَّارِيخِيَّة، بَلْ يَتَضَمَّنُ تَفْسِيرُهَا وَ تَأْوِيلُهَا مِنْ مَنْظُورٍ أَخْلَاقِيّ يَبْرُزْ الْأبْعَاد الْقِيَمِيَّة وَالْمِعَيَّارِيَّة لِلْفِعْلِ التَّارِيخِيّ. وَمِنْ هَذَا الْمَنْظُورِ، تَظْهَر الْفَلْسَفَة التَّارِيخِيَّة كَأَدَاة نَقْدِيَّة لِتَقْيِيم الْمُمَارَسَات الْأَخْلَاقِيَّة لِلْفَاعِلِين التَّارِيخِيِّين وَتَحْدِيد مَدَى إنْسِجَامٍهَا مَعَ الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة السَّائِدَةِ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ. كَمَا تُشَكِّلُ الْأَخْلَاق إِطَارًا مَرْجِعِيَّا لِتَفْسِيرِ وَتَوْجِيه الْأَحْدَاث وَ التَّحْوِلَات التَّارِيخِيَّة. فَالْقَيِّم وَ الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة لَا تَعْكِس فَقَطْ الْوَاقِع التَّارِيخِيّ الْمَعَاش، بَلْ تُمَارِسْ دَوْرًا فَعَّالًا فِي تَشْكِيلِ هَذَا الْوَاقِعِ وَإعَادَة إنْتَاجِه. وَ هَكَذَا فَإِنْ الْأَخْلَاق تُؤَثِّرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ التَّارِيخِيّ مِنْ خِلَالِ إِرْسَاء رُؤَى وَمَبَادِئ تَوَجَّه السُّلُوكِ الْإِنْسَانِيِّ وَتَحَدُّد مَسَارَات التَّطَوُّرُ الِإجْتِمَاعِيُّ وَ السِّيَاسِيّ وَالحَضَارِيّ. تَشْهَدُ الْفَلْسَفَة التَّارِيخِيَّة صِرَاعًا بَيْن مَشْرُوعَات أَخْلَاقِيَّة مُخْتَلِفَة تَنْطَلِقُ مِنَ رُؤَى فَلْسَفِيَّة مُتَبَايِنَة لِلْإِنْسَان وَالْمُجْتَمَع وَالتَّارِيخ. فَالتَّصَوُّرَات الْأَخْلَاقِيَّة لِلْمُحَافَظِين وَاللِّيبْرَالِيين وَالْمَارُّكِسِيَّين وَ الْإِسْلَامِيٌّين عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ تُتَرْجَمْ إِلَى قِرَاءَات وَتَفْسِيرَات مُتَنَافِسِة لِمَسَارَات التَّطَوُّرِ التَّارِيخِيّ. وَيُعَدُّ هَذَا الصِّرَاع عَلَى المَشْرُوعَاتِ الْأَخْلَاقِيَّة الْبَدِيلَة أَحَد أَهَمّ مُحْدِدات الْجَدَلُ الْفَلْسَفِيّ فِي مَجَالِ فَلْسَفَة التَّارِيخ. أَنَّ طَبِيعَةَ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ وَالْأَخْلَاق طَبِيعَة مُعَقَّدَة وَمُلْتَبِسًة، تَمْتَدُّ إلَى عِدَّةِ مَجَالَات أُخْرَى مِثْلَ الْعُلُوم أَلْحَقَة وَالْمَنْطِق وَالدَّيْن وَ الْعُلُوم الْإِنْسَانِيَّة كَتَارِيخ الْأَدْيَان وَالْأُنْثَربولُوجْيَا الثَّقَافِيَّة. فَتَارِيخِيًّا، كَانَتْ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ مُتَشَابِكَة فِي فَتَرَاتٍ مُعَيَّنَة وَ مُنْفَصِلَة فِي فَتَرَاتٍ أُخْرَى. فَالفَلْسَفَة تَسْتَخْدَم الْأَدَب وَالْفَنّ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ الْحَقَائِقِ الْفَلْسَفِيَّة، كَمَا هُوَ الْحَالُ عِنْدَ أَفْلَاطُونَ وَ فَرَّيدريتش نِيتْشَهْ. وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ، يَرَى أَرِسْطُو أَنَّ الْقَوْلَ الشِّعْرِيّ هُوَ أَدْنَى مِنْ الْقَوْلِ الْبُرْهَانِيّ الْفَلْسَفِيّ. كَمَا أَنَّ النَّقْدَ الأَدَبِيّ يَأْخُذ الْكَثِير مِنْ مُفْرَدَاتِهِ الْفَلْسَفِيَّة وَيَسْتَمِدّ مِنْهَا أَدَوَاتِه التَّحْلِيلية. إلَّا أَنَّهُ مَعَ الْأَزَمَات الْكُبْرَى فِي تَارِيخِ الْفِكْرِ الْغَرْبِيِّ وَ تَقَويض الْمِيتَافِيزِيقَا وَإنْهِيَار الْمَرْكَزِيَّة، تَحَوَّلَتْ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ مِنْ مُعَارَضَةِ إِلَى عَلَاقَةِ تَحْوِيل وَ دَوَرَان. فَبَعْض الْمُصْطَلَحَات الْأَدَبِيَّة إنْتَقَلَتْ إلَى الْفَلْسَفَةِ لِتُصْبِح مَفَاهِيم لِنَقْد الْأَدَب. وَ أَصْبَحَتْ الْحَرَكَةَ الْفِكْرِيَّةَ فِي الْفَلْسَفَةِ وَالْأَدَب هِيَ حَرَكَةُ لِلْمَوْت وَالتَّقْوَيض وَالتَّفْكِيكِ، بِحَيْثُ لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ حُدُودٌ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ الْأَدَبِيَّة وَالفَلْسَفِيَّة. فَالفَلْسَفَة صَارَتْ كِتَابَة وَلَيْسَتْ تَأْسِيسًا لِلْإِنْسَاق الْمَعْرِفِيَّة. وَ هَذَا مَا أَدَّى إلَى أَزْمَةً فِي مَشْرُوعِيَّةِ فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ وَبِنَاء الْأَنْسَاق الْفَلْسَفِيَّة الْكُبْرَى. فَبَعْد إدَّعَاءَات الْحَدَاثَةِ بِقَدْرَة الْإِنْسَانِ عَلَى صُنْعِ التَّارِيخ وَ إِمْكَانِيَّة الَّتِنبؤ بِهِ، حَدَثٌ تَزَعْزُع لِهَذِه الْأُسُس مَع الْحُرُوب وَ الْأَنْظِمَة الشُّمُولِيَّة الْقَمْعِيَّة وَإِخْفَاق مَشْرُوعَات التَّقَدُّم وَالتَّحَرُّر. وَ هُنَا حَاوَل الْمُفَكِّر الْأَلْمَانِيّ رَايْنَهَايت كُوزًيَلِيك Reinhart Koselleck مُسَاءَلَة هَذِهِ الْأُسُسِ الْحَدَاثَيَّة بِإسْتِخْدَامِ مَعَايِير مُعَاصِرَة، مَرْكَزًا عَلَى تَارِيخِ الْمَفَاهِيم السِّيَاسِيَّةِ وَالإجْتِمَاعِيَّةِ وَ مَا أَسْمَاهُ "التَّدَاعِيَات التَّارِيخِيَّة". فَكُوْزِيلِيّكْ رَأَى أَنَّ مَفْهُومَ الْأَزْمَة كَانَ حَاضِرًا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُدْرَجًا فِى مُعْجَم فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ، مِمَّا أَدَّى إلَى عَجْزِهَا عَنْ إسْتِيعَابِ الْمَسَارَات الْخَارِجَةِ عَنْ التَّخْطِيط الْبَشَرِيّ وَالتَّوَقُّعَات التَّقَدُّمِيَّة. وَإِنْ هَذَا الِإنْفِلَات لِلْفَاعِلِيَّة الْبَشَرِيَّةِ عَنْ الَّتَنَبُّؤ وَ التَّخْطِيطِ يَطْرَح أَزْمَة مَشْرُوعِيَّة فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ ذَاتِهَا. وَ مِنْ هُنَا، فَإِنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ وَالْأَخْلَاق تَتَحَدَّدُ فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْأَزْمَةِ الْمُعَاصِرَة لِأسْس الْحَدَاثَةِ. فَلَمْ تَعُدْ الْأَخْلَاق مُجَرَّد نِتَاج لِمَسْار تَارِيخِيّ تَقَدُّمِي يُمْكِن الَّتَنَبُّؤ بِهِ وَفْق إِطَار فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ، بَلْ أَصْبَحَتْ أَسْئِلَتَهَا مُتَّجَذِّرَة فِي تَجَارِبَ الْأَزْمَة وَالصَّرَّاعَات وَ الِإنْهِيَارَات الَّتِي تَكْشِفُ عَنْ حُدُودِ النَّزْعَة التَّقَدُّمِيَّة وَالْإِيمَانُ بِصِنَاعَة التَّارِيخ. وَهُنَا تَظْهَرُ الْحَاجَةُ إلَى إعَادَةِ قِرَاءَةِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْأَخْلَاق وَفَلْسَفَة التَّارِيخِ فِي ضَوْءِ هَذِهِ التَّحَوُّلَات. يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ وَالْأَخْلَاقُ هِيَ عَلَاقَةٌ جَدَلِيَّة وَ بُنْيَّوِيَّة، تَتَجَلَّى فِي إرْتِبَاطِ التَّارِيخ وَالْأَخْلَاق جَدَلِيًّا، وَ فِي قِرَاءَةِ التَّارِيخِ مِنْ مَنْظُورٍ أَخْلَاقِيّ، وَ فِي دُور الْأَخْلَاقِ فِي تَوْجِيهِ مَسَارَات التَّارِيخِ، وَ فِي صِرَاع الْمَشْرُوعَات الْأَخْلَاقِيَّة الْمُتَنَافِسَة فِي الْفَلْسَفَةِ التَّارِيخِيَّة. وَ هَذِهِ الْعَلَاقَةُ البِنْيَوِيَّة تَجْعَلُ مِنْ الِإسْتِغْنَاءِ عَنْ الْأَخْلَاقِ فِي فَهْمِ وَتَفْسِير التَّارِيخ أَمْرًا مُسْتَحِيلًا، بَلْ تَجْعَلُ الْأَخْلَاق رُكْنًا أَسَاسِيًّا فِي بِنَاءِ فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ وَتَطْوِيرِهَا. إنْ فَهُمْ الْعَلَاقَات البِنْيَوِيَّة بَيْن فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ وَالْعِلْمِ وَالْأَخْلَاقِ يَتَطَلَّب نَهْجًا شُمُولِيًّا يَنْظُرُ إلَى هَذِهِ الْمَجَالَاتِ كَوَحْدَة مُتَكَامِلَة مُتَأَثِّرَة بِالسِّيَاقَات التَّارِيخِيَّة وَالثَّقَافِيَّة الْمُتَغَيِّرَة. وَهَذَا يُسَاعِدُ فِي بِنَاءِ رُؤْيَة مُتَوَازِنَة تُحَقِّقُ التَّوَازُنَ الْمَنْشُود بَيْنَ التَّطَوُّرُ الْعِلْمِيُّ وَالِإلْتِزَام الْأَخْلَاقِيّ.
_ الدُّورُ الْوَظِيفِيّ لِفَلْسَفَةِ التَّارِيخِ فِي تَحْدِيث الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ وَالْأَخْلَاقِيّ
فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ تَلْعَبُ دَوْرًا مُحَوَّريا فِي تَحْدِيث الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ وَ الْأَخْلَاقِيّ لِلْمُجْتَمَعَات. مِنْ خِلَالِ التَّأَمُّل الْفَلْسَفِيّ فِي تَطَوُّرِ الْمُجْتَمَعَات الْبَشَرِيَّة عَبْرَ التَّارِيخِ، يُمْكِنُ إسْتِخْلَاصُ الْعَوَامِل الْأَسَاسِيَّةَ الَّتِي تَحْكُمُ هَذَا التَّطَوُّرُ وَتَكْشِفُ عَنْ الْقَوَانِين وَ الْمَبَادِئ الْكَامِنَة وَرَاء حَرَكَةِ التَّارِيخِ. فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفِكْرِ الْعِلْمِيّ، فَإِنْ فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ تُسَاعِدُ فِي صِيَاغَةِ نَظَرِيَّة عَامَّة لِلتِّطور التَّارِيخِيّ تَنْطَلِقُ مِنَ مَبَادِئ عَقْلَانِيَّة وَمَوْضُوعِيَّة. فَبَدَلًا مِنْ النَّظَرِ لِلتَّارِيخ كَمُجَرَّد تَسَلْسَل عَشْوَائِيّ لِلْأَحْدَاث، تَسْعَى فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ إِلَى إسْتِنْبَاط قَوَانِين وَاضِحَة تَحَكُّم هَذِهِ الْأَحْدَاثِ وَتُفَسَّر أَسْبَابِهَا وَنَتَائِجِهَا. وَمِنْ هُنَا تَبْرُز أَهَمِّيَّة فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ فِي تَطْوِيرِ الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ لِلدِّرَاسَات التَّارِيخِيَّة، وَ الِإنْتِقَالُ مِنْ الْوَصْفِ السَّطْحَيْ إلَى التَّحْلِيلِ الْمَعمق لِلظَّوَاهِر وَ التَّحْوِلَات الَّتِي شَهِدَهَا الْمُجْتَمَعِ الْبَشَرِيِّ عَبْرَ العُصُورِ. كَمَا أَنَّ فَلْسَفَةَ التَّارِيخ تُسَاعِدُ فِي تَحْدِيث الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ مِنْ خِلَالِ رَبَط الْمَاضِي بِالْحَاضِرِ وَإسْتِشْرَاف الْمُسْتَقْبَل. فَالتَّامُّلْ الْفَلْسَفِيّ فِي أحْدَاثِ التَّارِيخِ الْبَشَرِيِّ يُمْكِنُنَا مِنْ فَهْمِ أَعْمَق لِجَذْور الْمُشْكِلَاتِ وَالْقَضَايَا الْمُعَاصِرَة، وَبِالتَّالِي وَضْعْ حُلُول عِلْمِيَّة أَكْثَر فَاعِلِيَّة وَ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، فَإِنَّ دِرَاسَة أَسْبَاب ظُهُور وَإنْهِيَار الْحَضَارَات السَّابِقَةِ قَدْ يُسَاعِدُ فِي فَهْمِ أَسْبَاب الْأَزَمَات السِّيَاسِيَّةِ وَالِإقْتِصَادِيَّةِ الْمُعَاصِرَة، وَالتَّنْبُؤ بِمَسْارَات التَّطَوُّرِ الْمُحْتَمَلَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفِكْرِ الْأَخْلَاقِيّ، تُسَاهِم فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ فِي إعَادَةِ صِيَاغَة مَفَاهِيم الْأَخْلَاقِ وَ الْقِيَمِ وَتَحْدِيثِهَا بِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ مُتَطَلِّبَاتِ الْعَصْرِ. فَمَنْ خِلَالِ دِرَاسَةِ كَيْفِيَّة تَطَوُّر مَفَاهِيم مِثْل الْعَدَالَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْمُسَاوَاة عَبْرَ العُصُورِ التَّارِيخِيَّة الْمُخْتَلِفَة، يُمْكِنُ إعَادَةُ تَعْرِيفِ هَذِهِ الْمَفَاهِيمِ وَإِضْفَاء عَلَيْهَا بُعْدًا أَكْثَر مُلَاءَمَة لِمُجْتَمَعٍات الْيَوْمَ. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، يُمْكِنُ أَنْ تُسَاعِدَ فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ فِي إعَادَةِ صِيَاغَة مَفْهُومِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ بِمَا يَتَجَاوَزُ الصُّوَر النَّمَطِيَّة الْقَدِيمَة وَيَتَنَاسَب مَعَ تَطْلُعات الْمُجْتَمَعَات الْمُعَاصِرَة. عِلَاوَةٌ عَلَى ذَلِكَ، تُسْهِم فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ فِي تَطْوِيرِ الْوَعْي الْأَخْلَاقِيّ لِلْمُجْتَمَعَات مِنْ خِلَالِ إسْتِخْلَاص الدُّرُوسَ الْمُسْتَفَادَةَ مِنْ الْأَخْطَاء وَالِإنْحِرَافَات الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي إرْتَكَبَهَا الْبِشْرُ فِي الْمَاضِي. فَالتَّامُّلْ الْفَلْسَفِيّ فِي تَارِيخِ الْجَرَائِم وَالِإضْطِهَاد وَ الْحُرُوب يُسَاعِدُ فِي صِيَاغَةِ مَبَادِئَ أَخْلَاقِيَّةٍ جَدِيدَة تَحُولُ دُونَ تَكْرَارِ تِلْك الْأَخْطَاء فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَهَكَذَا، تَتَجَاوَز فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ التَّارِيخِيّ إلَى التَّقْيِيم الْأَخْلَاقِيّ لِلْأَحْدَاث وَالسَّلْوَكَيَّات الْبَشَرِيَّة عَبْرَ العُصُورِ. بِالْإِضَافَةِ إلَى ذَلِكَ، تُسْهِم فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ فِي تَطْوِيرِ الْوَعْي الْأَخْلَاقِيّ مِنْ خِلَالِ إبْرَاز دُور الْعَامِل الْبَشَرِيّ وَإِرَادَتِهِ فِي صِنَاعَةٍ مَسَارِ التَّارِيخِ. فَبَدَلًا مِنْ النَّظَرِ لِلْإِنْسَان كَمُجَرَّد ضَحِيَّة لِلْقِوَّى الْخَارِجِيَّة وَالظُّرُوف الْمُحِيطَة، تَبْرُز فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ قُدْرَّة الْأَفْرَاد وَالمُجْتَمَعَات عَلَى التَّأْثِيرِ فِي مَجْرَى الْأَحْدَاث التَّارِيخِيَّة وَتَوْجِيهُهَا نَحْو مَسَارَات أَكْثَر إِنْسَانِيَّة وَأَخْلَاقِيَّة. وَ هَذَا الْوَعْيُ بِدُور الْإِرَادَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ يُعَزِّز الْإِحْسَاس بِالْمَسْؤُولِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة تُجَاه صَنَع مُسْتَقْبِل أَفْضَل لِلْإِنْسَانِيَّة. يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ فَلْسَفَةَ التَّارِيخ تَلْعَبُ دَوْرًا مُحَوَّريا فِي تَحْدِيث الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ وَالْأَخْلَاقِيّ، مِنْ خِلَالِ تَقْدِيم رُوَّى فَلْسَفِيَّة مَعْمَّقَة لِلتِّطور التَّارِيخِيّ وَالْعَوَامِل الْمُؤَثِّرَةُ فِيهِ، وَإِبْرَاز الدُّرُوسَ الْمُسْتَفَادَةَ مِنْ تَجَارِبِ الْمَاضِي فِي صِيَاغَةِ مَبَادِئ عِلْمِيَّة وَ أَخْلَاقِيَّة أَكْثَر فَاعِلِيَّة لِمُوَاجَهَة تَحَدِّيَات الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ.
_ نَقْدٍ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاقِ مِنْ مَنْظُورٍ فَلْسَفَة التَّارِيخ
فَلْسَفَةُ التَّارِيخِ تُقَدَّمُ مَنْظُورًا مُمَيِّزًا لِلنَّقْد الْفَلْسَفِيّ لِلْعِلْم وَ الْأَخْلَاق. تَنْطَلِقُ مِنَ الْفَرْضِيَّة الْأَسَاسِيَّة أَنَّ التَّارِيخَ هُوَ الْعِلْمُ الْأَمْثَل وَالْأَكْثَر تَأَهَّيلا لِفَهْمِ مُمَارَسَات الْأَخْلَاقِ الْبَشَرِيَّة لَيْسَ فَقَطْ دِرَاسَتِهَا وَتَارِيخِهَا، بَلْ قَدَّرَة هَذَا الْعِلْمِ عَلَى تَوْرِيثِهَا وَ أَعَادَة إنْتَاجِهَا فِي زَمَنِ عُرِف بِـ "مَا بَعْدَ الْأَخْلَاق". فَالتَّارِيخُ لَا يَنْظُرُ إلَى الْأَخْلَاقِ بِمَعْزِلٍ عَنْ سِيَاقَاتِهَا التَّارِيخِيَّة وَالِإجْتِمَاعِيَّةُ وَ السِّيَاسِيَّةُ. فَالْقَيِّم وَالْمَمَارَسَات الْأَخْلَاقِيَّة لَا تَتَشَكَّلُ فِي فَرَاغِ بَلْ هِيَ نِتَاجُ تَارِيخِيّ لِصَرِاعَات الْفَاعِلِينَ وَالْجَمَاعَات وَ الْمَصَالَح. وَيُمْكِن لِلتَّارِيخ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ الْخَلْفِيَّات الْمَادِّيَّةِ وَ السِّيَاسِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّة الَّتِي تَقِفُ وَرَاءَ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْمُتَنَازَع عَلَيْهَا فِي مُخْتَلَفٍ الْحُقْب. وَ لِهَذَا السَّبَبِ، يَرَى أَصْحَابَ هَذَا الِإتِّجَاهَ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعِيًّا أَوْ مَحَايدا أَخْلَاقِيًّا، فَهُوَ أَيْضًا مُتَشَكل تَارِيخِيًّا وَسِيَاسِيًّا. فَالْعُلُوم لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْحَقَائِقِ وَالنَّظَرِيَّات الْمُجَرَّدَةِ، بَلْ هِيَ مُمَارَسَات إجْتِمَاعِيَّة وَسِيَاسِيَّة تَخْدُم مَصَالِح وَأجِنَدَات مُعَيَّنَةٍ. لِذَا يَنْبَغِي فَحَص الْعُلُوم وَالتِّكْنُولُوجْيَا مِنْ خِلَالِ سِيَاقِهَا التَّارِيخِيّ وَالِإجْتِمَاعِيّ وَالسِّيَاسِيّ. وَيُنْتَقَدُ هَؤُلَاءِ الْمُفَكِّرُونَ فِكْرَة "الْعِلْم الْخَالِصِ" أَوْ "الْعِلْمِ الْمَوْضُوعِيّ" الَّتِي تَزْعُمُ أَنَّ الْعِلْمَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْقَيِّمِ وَالسِّيَاسَة. وَيَرْفُضُون التَّمْيِيز التَّقْلِيدِيّ بَيْنَ "الْحَقَائِقِ" و"الْقَيِّم"، وَبَيْنَ "الْعِلْمِ" وَ"الْأَخْلَاق". فَالْعِلْم وَالْأَخْلَاق مُتَدَاخِلَان وَلَا يَنْفَصِلَانِ، وَالْعِلْم يَتَضَمَّن إفْتِرَاضِات وَمُسْلِمَاتٌ أَخْلَاقِيَّة. وَ يُشِيرُ هَؤُلَاءِ الْمُفَكِّرُونَ إلَى أَمْثِلَةٍ تَارِيخِيَّة عَدِيدَةً عَلَى تَأْثِيرِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّة عَلَى الْعِلْمِ، مِثْلُ تَأْثِير النَّظْرَة الْأَرِسْتُقْرَاطِيَّة وَالْعُنْصُرِيَّة عَلَى نَظَرِيَّات دَارْوِينْ فِي التَّطَوُّرِ، أَوْ تَأْثِيرِ الرَّأْسِمَالِيَّة عَلَى تَطَوُّرِ الْعُلُومِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ. كَمَا يَنْتَقِدُون الِإسْتِخْدَامَاتُ السِّيَاسِيَّة وَالْعَسْكَرِيَّة لِلْعِلْمِ وَالتِّكْنُولُوجْيَا، مِثْل إسْتِخْدَام الْأَسْلِحَة النَّوَوِيَّة أَوْ أَبْحَاث الطَّيَرَان الْعَسْكَرِي. وَ فِي الْمُقَابِلِ، يَرَى هَؤُلَاءِ الْمُفَكِّرُونَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالتِّكْنُولُوجْيَا قَدْ تَكُونُ أَدَوَات قَوِيَّة لِلتَّغْيِير الِإجْتِمَاعِيّ وَالتَّحَرُّر الْإِنْسَانِيّ إذَا وَظَّفْت وَفَقَاً لِأَهْداف أَخْلَاقِيَّة وَسِيَاسِيَّة تَحْرِريَّة. وَيُؤْكَدُون عَلَى ضَرُورَةِ رَبَط الْعِلْم بِالْقِيَم الْإِنْسَانِيَّة وَالْعَدَالَة الِإجْتِمَاعِيَّة، وَإِخْضَاع الْعِلْم وَالتِّكْنُولُوجْيَا لِرِقَابَة دِيمُقْرَاطِيَّة وَمُحَاسَبَة إجْتِمَاعِيَّة. وَ بِالتَّالِي، يَنظُرُ هَؤُلاءِ الْمُفَكِّرُون إلَى الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق مِنْ مَنْظُورٍ تَارِيخِيّ نَقْدِيّ، مُؤَكَّدَيْن عَلَى إرْتِبَاطُهُمَا الْوَثِيق بِالسِّيَاقَات الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَ رَافِضِيٍّن فِكْرَة الْحِيَاد وَالْمَوْضُوعِيَّة الْمُطْلَقَة لِلْعِلْم. وَيَدْعُونَ إلَى رَبْطِ الْعِلْم بِالْقِيَم الْإِنْسَانِيَّة وَ الْعَدَالَة الِإجْتِمَاعِيَّة، وَإِلَى دِيمُقْرَاطِيَّة الْعِلْم وَخُضُوعِه لِلْمُسَاءَلَة وَالْمُحَاسَبَة الِإجْتِمَاعِيَّة.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق: رَمَزَيات الْمَيثولُوجْيَا
-
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق: جُذُور الْمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة
-
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : تَجَاوُزَات الْأَيْدُيُولُوجِيَّا
-
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق فِي الْحِكْمَةِ الْغَنُوصِيَّة
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْحِكْمَةِ الْهَرْمُسِيَّة
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ مَبَاحِث الْآكْسِيُّولُوجْيَا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ إشْكَالَيْات الْكُوسْمُّولُوجْيَا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي سِيَاقِ الثَّيُولُوجْيَا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ تَصَوُّرَات الِأنْطولُوجْيَا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ مُقَارَبَات الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّةِ
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق سَطْوَة الْمَيِّتُافِيزِيقِيَا
-
نَقْد فَلْسَفِيّ لِلْخِطَاب الْعِلْمِيّ و الْأَخْلَاقِيّ
-
الْمَشْرُوع الْفَلْسَفِيّ الشَّامِل لِلْوُجُود الْإِنْسَانِي
...
-
أَخْلَاقِيَّات الْعِلْمُ وَ عِلْمِيَّة الْأَخْلَاق
-
حِوَارٌ مَعَ صَدِيقِي الشَّيْطَانُ الْأَكْبَرُ
-
جَدَلِيَّة الِإنْتِمَاء و الِإنْتِسَاب
-
جَدَلِيَّة التَّنْمِيط وَ التَّسْطِيح
-
السُّؤَالُ عَنْ السُّؤَال
المزيد.....
-
نائب ترامب يسخر من كامالا هاريس: أحتاج إلى -4 كؤوس من الفودك
...
-
البيت الأبيض: ترامب يدعم تحرك إسرائيل وجيشها بشكل كامل في غز
...
-
إعلام رسمي يكشف عن تطور بشأن سيطرة الجيش السوداني على القصر
...
-
الاتحاد الأوروبي يواصل دراسة إمكانية تمديد تعليق العقوبات ال
...
-
صلاة السيسي في مسجد السيدة نفيسة وتساؤلات عن أسباب التباعد ب
...
-
ترامب يتوعد بـ-إبادة الحوثيين- ويهدد إيران وسط استمرار الضرب
...
-
اليوم العالمي للسعادة.. الإمارات الأسعد ولبنان الأتعس
-
غضب وتخريب يطال سيارات شركة تسلا وسط احتجاجات ضد إيلون ماسك
...
-
احتدام القتال حول القصر الرئاسي في الخرطوم وقصف متبادل عنيف
...
-
معلومات استخباراتية أمريكية: الجنود الأوكرانيون ليسوا -محاص
...
المزيد.....
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
المزيد.....
|