أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - الشهبي أحمد - غزة: الجريمةُ التي تُعيدُ تشكيلَ ضمير العالم














المزيد.....


غزة: الجريمةُ التي تُعيدُ تشكيلَ ضمير العالم


الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي

(Echahby Ahmed)


الحوار المتمدن-العدد: 8286 - 2025 / 3 / 19 - 14:48
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    


في غزة، حيثُ لا تُقاسُ الأيامُ بمرورِ الوقت، بل بعددِ القنابلِ التي تسقطُ على البيوتِ والمستشفياتِ والملاجئ، تُكتبُ فصولٌ من مأساةٍ إنسانيةٍ تجعلُ من مصطلحاتٍ مثل "القانون الدولي" و"حقوق الإنسان" مجرّدَ كلماتٍ تذروها رياحُ الواقعِ المرير. ما يحدثُ هنا ليس حربًا بالمعنى التقليدي، بل عمليةُ إبادةٍ ممنهجةٍ تُمارسُ تحت سمعِ العالمِ وبصره، تُذكّرنا بأنَّ الإنسانيةَ لم تتعلمْ من ماضيها الدموي شيئًا.

المشهدُ اليومي في غزةَ ليس مجردَ دمارٍ مادي، بل تحطيمٌ منهجيٌ لأسسِ الوجودِ الإنساني: فالقصفُ الذي يستهدفُ الأحياءَ السكنيةَ لا يهدفُ إلى تحقيقِ انتصارٍ عسكري، بل إلى تحويلِ الحياةِ إلى جحيمٍ لا يُطاق، بحيثُ يصبحُ البقاءُ على الأرضِ مستحيلاً. تقاريرُ الأمم المتحدة تشيرُ إلى أنَّ أكثرَ من 60% من البنيةِ التحتيةِ في القطاعِ دُمّرتْ، وأنَّ ما يقاربُ 90% من السكانِ نازحون، يعيشون تحتَ سماءٍ مفتوحةٍ أو في مدارسَ تتحولُ إلى مقابرَ مؤقتة. هذه الأرقامُ ليستْ "خسائرَ جانبية"، بل هي نتيجةُ سياسةٍ مُحسوبةٍ تندرجُ تحتَ ما يُعرفُ في القانونِ الدولي بـ"العقاب الجماعي"، الذي يُحرّمه البروتوكولُ الإضافيُ لاتفاقياتِ جنيفَ (1977).

المفارقةُ الأكثرُ إيلامًا هي أنَّ هذه الجريمةَ تُرتكبُ في عصرِ الوسائطِ المفتوحة، حيثُ تصلُ صورُ الأطفالِ المشوّهينَ والنساءِ المحترقاتِ إلى شاشاتِ العالمِ في لحظاتِ وقوعِها. ومع ذلك، يظلُ المجتمعُ الدوليُ عاجزًا عن تحريكِ ساكن، وكأنَّ مأساةَ غزةَ تقعُ في كوكبٍ موازٍ لا يخضعُ لقوانينِ الأرض. مجلسُ الأمن، الذي يفترضُ أن يكونَ حاميَ السلمِ العالمي، يتحوّلُ إلى مسرحٍ للصراعاتِ الجيوسياسية، حيثُ تُستخدمُ الفيتو كأداةٍ لتعطيلِ أيِّ قرارٍ يُدينُ الجرائمَ أو يُلزمُ بوقفِ إطلاقِ النار. هذه العجزُ المُتعمّدُ يطرحُ سؤالًا وجوديًا: هل ما زالَ النظامُ الدوليُ القائمُ على ميثاقِ الأممِ المتحدةِ قادرًا على حمايةِ الضعفاء، أم أنهُ أصبحَ أداةً لشرعنةِ سياساتِ القوة؟

تاريخيًا، لم تكن غزةُ سوى حلقةٍ في سلسلةِ التطهيرِ العرقيِّ الذي تعرّضَ له الشعبُ الفلسطيني منذُ النكبةِ عام 1948. لكنَّ ما يحدثُ اليومَ يختلفُ من حيثُ الحجمُ والوتيرةُ والأدوات. فبينما اعتمدتْ إسرائيلُ سابقًا على سياساتٍ تدريجيةٍ كبناءِ المستوطناتِ وعزلِ المناطق، نرى الآنَ استخدامًا مكثفًا للقوةِ العسكريةِ المفتوحةِ لتحقيقِ هدفٍ واحد: جعلُ الحياةَ في غزةَ مستحيلةً حتى يهجرَ سكانُها أو يُبادوا. تقاريرُ منظماتٍ حقوقيةٍ مثل "هيومن رايتس ووتش" و"أمنستي إنترناشيونال" تؤكدُ وجودَ أدلةٍ على جرائمِ حربٍ تُرتكبُ بشكلٍ منهجي، بما في ذلكَ الهجماتُ العشوائيةُ واستهدافُ المدنيينِ والبنى التحتيةِ الحيوية، وهو ما ينتهكُ المادةَ 8 من نظامِ روما الأساسي للمحكمةِ الجنائيةِ الدولية.

في المقابل، تُقدّمُ الدولُ الغربيةُ، وعلى رأسها الولاياتُ المتحدة، دعمًا سياسيًا وعسكريًا غيرَ محدودٍ لإسرائيل، حتى عندما تتجاوزُ أفعالُها كلَّ الخطوطِ الحمراء. الرئيسُ الأمريكي بايدن، الذي وصفَ نفسه ذاتَ يومٍ بـ"الصهيوني"، وافقَ على صفقاتِ أسلحةٍ بملياراتِ الدولارات خلالَ الحربِ الحالية، بينما تُدينُ دولٌ أوروبيةٌ الفلسطينيينَ لمجردِ ممارستِهم حقَّ المقاومةِ المُكرّسِ في المادةُ 51 من ميثاقِ الأمم المتحدة. هذا الانحيازُ يُذكّرُ بمواقفَ استعماريةٍ قديمة، حيثُ كانَ "الهمجي" يُحاربُ باسمِ "الحضارة"، لكنَّ الحضارةَ الحقيقيةَ تكمنُ في إنصافِ المظلومِ لا في دعمِ الظالم.

الأكثرُ إثارةً للاشمئزاز هو الخطابُ الإعلاميُ الذي يحاولُ تبريرَ الجريمةَ تحتَ ذرائعَ أمنية. فالقولُ إنَّ إسرائيلَ "تدافعُ عن نفسها" بينما تُبادَرُ بالهجومِ على مدنيينَ أعزلينَ يشوّهُ أبسطَ مبادئِ التناسبِ في القانونِ الدولي. حتى القضاءُ الإسرائيليُ نفسه، في تقاريرَ سابقةٍ لمنظماتٍ حقوقية، اعترفَ بأنَّ الجيشَ يُطبّقُ مبدأَ "القوةِ الساحقة" كاستراتيجيةٍ عقابية. المفكرُ الأمريكي نعوم تشومسكي يصفُ هذا النهجَ بـ"الإرهابِ الدولي المُشرعن"، حيثُ تُستخدمُ القوةُ المفرطةُ كأداةٍ لفرضِ الهيمنةِ بدلًا من تحقيقِ الأمن.

لكنَّ غزةَ، رغمَ كلِّ هذا، لم تتحوّلْ إلى مجرّدِ رقمٍ في سجلِّ الضحايا. فالصمودُ اليوميُ لسكانِها يكتبُ ملحمةً إنسانيةً تُعيدُ تعريفَ معنى المقاومة: فالأمُّ التي تلدُ تحتَ الأنقاضِ، الطبيبُ الذي يعالجُ الجرحى بلا كهرباءٍ أو أدوية، الطفلُ الذي يصرخُ "أنا موجود" بينما يُدفنُ حيًا، كلُّ هؤلاءِ يُثبتونَ أنَّ الإرادةَ في الحياةِ أقوى من آلاتِ الموت. الناشطةُ الفلسطينيةُ إسراء عبد الفتاح قالتْ ذاتَ مرة: "نحنُ لا نختارُ الحرب، لكننا نختارُ كيف نموت". هذه الجملةُ تختصرُ مأساةَ شعبٍ يُجبرُ على تحويلِ وجودِه إلى فعلِ مقاومة.

السؤالُ الذي يخترقُ الضميرَ العالمي: لماذا يختلفُ التعاملُ مع مأساةِ غزةَ عن غيرِها من المآسي؟ حينَ كانتْ أوكرانيا تُقصف، تحرّكَ العالمُ بسرعةٍ غيرِ مسبوقةٍ لفرضِ عقوباتٍ على روسيا وتقديمِ الدعمِ العسكري. أما حينَ يتعلقُ الأمرُ بفلسطين، فإنَّ المعاييرَ تتغيرُ، وكأنَّ الدمَ العربيَّ أرخصُ من الدمِ الأوروبي. الكاتبُ الفرنسي آلان باديو يرى أنَّ هذه الازدواجيةَ تعكسُ عنصريةً عميقةً في النظامِ العالمي، حيثُ يُنظرُ إلى الفلسطيني كـ"إرهابيٍّ محتمل" حتى عندما يكونُ ضحية.

ما يحدثُ في غزةَ ليس اختبارًا للفلسطينيين وحدَهم، بل هو اختبارٌ لضميرِ الإنسانيةِ جمعاء. التاريخُ سيتذكّرُ أنَّ العالمَ في القرنِ الحادي والعشرين سمحَ بإبادةِ شعبٍ تحتَ ذرائعَ واهية، بينما امتلكَ كلَّ الأدواتِ لمنعِ ذلك. غزةُ اليومَ تُعيدُ تشكيلَ مفهومِ العدالةِ الدولية: فإمّا أن تكونَ عدالةً شاملةً لا تُفرّقُ بين الدماء، أو ستكونَ مجرّدَ أداةٍ في يدِ الأقوياء. الدمُ الذي يسيلُ هناكَ ليس فلسطينيًا فحسب، بل هو دمُ كلِّ إنسانٍ يؤمنُ بأنَّ الحياةَ يجبُ أن تنتصر.



#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)       Echahby_Ahmed#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشرق الأوسط على شفا حرب إقليمية: تصعيد وتغيرات استراتيجية ت ...
- انحدار الذوق في البرامج التلفزية: بين الاستهلاك السطحي وإشكا ...
- عتمة قمم: بين حب مستحيل وواقع ثقافي متجذر- قراءة نقدية لرواي ...
- 23 مارس 1965: جراح لم تندمل وأسئلة لم تُجاب
- هل يعيد التاريخ نفسه؟
- أين اختفت النخب المثقفة؟
- حين يصير البيت عرضاً والكرامة سلعةً في سوق التيك توك
- -السلطة الرابعة في خطر: حين يتحوّل التنظيم الذاتي إلى فخّ لل ...
- التاريخ يصرخ.. لكن من يصغي؟
- -المؤمراة من صنعنا -


المزيد.....




- -إنه بخير-.. بروس ويليس يحتفل بعيد ميلاده الـ 70
- نتنياهو يواجه غضبا شديدا مع تفاقم الانقسامات في إسرائيل جراء ...
- اليوم العالمي للسعادة: هل يختلف مفهومها بين الشعوب؟
- سلسلة غارات جوية مكثفة تستهدف مواقع تابعة للحوثيين في العاصم ...
- وزيرة الخارجية الألمانية في بيروت: نرفض -أي احتلال إسرائيلي ...
- سوريا.. اللجنة الأمنية في اللاذقية تجتمع مع وجهاء وأعيان الد ...
- روبيو: تاريخ القرن الـ 21 سيتمحور حول الولايات المتحدة والصي ...
- البيت الأبيض يتهم إدارة بايدن بقتل 8 ملايين دجاجة
- فيدان يلتقي حسين الشيخ في أنقرة
- قائد فرقة غزة السابق: الجيش وصل لأقصى حدود قدرته على إجبار ح ...


المزيد.....

- حين مشينا للحرب / ملهم الملائكة
- لمحات من تاريخ اتفاقات السلام / المنصور جعفر
- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - الشهبي أحمد - غزة: الجريمةُ التي تُعيدُ تشكيلَ ضمير العالم