أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الْعِلْم وَالْأَخْلَاق: رَمَزَيات الْمَيثولُوجْيَا















المزيد.....



الْعِلْم وَالْأَخْلَاق: رَمَزَيات الْمَيثولُوجْيَا


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8284 - 2025 / 3 / 17 - 15:09
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ تَعْرِيف الْأُسْطُورَة

الْأُسْطُورَة (myth) هِيَ قِصَّةٌ تَقْلِيدِيَّة أَوْ حِكَايَةِ قَدِيمَة تَتَعَلَّق عَادَة بِأحْدَاث أَوْ شَخْصِيَّات ذَاتَ طَابَعٍ خَارِق لِلطَّبِيعَة، وَتَحْمَلُ فِي طَيَاتها أَهْدَافًا أَوْ دُرُوسًا أَخْلَاقِيَّة أَوْ فَلْسَفِيَّة. الْأَسَاطِير لَيْسَتْ مُجَرَّدَ قَصَص خَيَالِيَّةٌ أَوْ أَكَاذِيب، بَلْ هِيَ تَجْسِيد لِمُعْتَقِدِات وَتَصَوُّرَات وَقِيَم ثَقَافِيَّة وَحَضَارِيٍّة لَدَى الشُّعُوب وَالْحَضَارَات الْقَدِيمَة. تَعَدّ الْأُسْطُورَة مَنْ أَقْدَمَ أشْكَالُ التَّعْبِيرِ الْإِنْسَانِيّ عَنْ الْعَالِمِ وَ الْحَيَاة وَالطَّبِيعَة، فَهِي تَنْطَلِقُ مِنَ الْمُعْتَقَدَات وَالتَّصَوُّرَات الْكَوْنِيَّة لِلْإِنْسَان البِدَائِيّ وَالْقَدِيم الَّذِي عَجَزَ عَنْ تَفْسِيرِ الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةُ الَّتِي كَانَ يَشْهَدْهَا. لِذَا لَجَأَ إلَى الْأَسَاطِير كَوَسِيلَة لِتَفْسِير هَذِهِ الظَّوَاهِرِ وَإِرْجَاعِهَا إلَى أُصُولِ خَارِقَة أَوْ آلِهَة أَوْ قِوَّى سِحْرِيَّة فَوْق طَبِيعِيَّة. وَ عَلَيْهِ، فَإِنْ الْأُسْطُورَة لَا تَنْحَصِرُ فِي مُجَرَّدِ قِصَّة خَيَالِيَّة، بَلْ تَتَجَاوَزُ ذَلِكَ لِتَكُونَ تَفْسِيرًا أَوْ مُحَاكَاةٍ لِلْوَاقِع وَلِلْظَوَاهِر الَّتِي يَشْهَدُهَا الْإِنْسَانِ، حَيْثُ تُحَاوِل الْأُسْطُورَة تَقْدِيم إِجَابَات أَوْ تَفْسِيرَاتٌ لِمَنْشأ الْعَالِم وَالْإِنْسَانِ وَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ الْكَوْنِيَّة وَ الوُجُودِيَّة الَّتِي تَشْغَل بَالِ الْإِنْسَانِ مُنْذُ الْقِدَمِ. وَ قَدْ تَمَّ تَعْرِيف الْأُسْطُورَة مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الْبَاحِثِين وَ الْأَكَادِيمِيِّين بِأَنَّهَا "قِصَّة تَقْلِيدِيَّة تَتَنَاوَل أَحْدَاثًا أَوْ شَخْصِيَّات ذَاتَ طَابَعٍ خَارِق لِلطَّبِيعَة، وَتَكُونُ عَادَةُ مُرْتَبِطَة بِأَصْل الْكَوْن وَتَتَّصِف بِالْقِدَاسَة وَالْعُمْقُ الْفِكْرِيِّ وَ الرُّوحِيِّ"، أَوْ أَنَّهَا "قِصَّةٌ مُقَدَّسَة تَرْوِي أَحْدَاثًا وَقَعَتْ فِي الزَّمَنِ البِدَائِيّ الْأَوَّل، وَتَشْرَح مَنْشَأ الْأَشْيَاء وَبِدَايَة الْحَيَاةِ عَلَى الْأَرْضِ". كَمَا يَرَى بَعْضُ الْبَاحِثِينَ أنَّ الْأُسْطُورَة تَمَثَّل "حِكَايَة تَقْلِيدِيَّة تَلْعَب فِيهَا الْكَائِنَات الْمَاوَرَائِيَّة أَدْوَارِهَا الرَّئِيسِيَّة"، أَوْ أَنَّهَا "حِكَايَةُ مُرْتَبِطَة بِأَصْل الْكَوْن وَتَتَضَمَّن عَادَة كَائِنَات أَوْ أحْدَاثُ خَارِقَة لِلطَّبِيعَة". وَ يُؤَكِّد آخَرُونَ عَلَى أَنَّ الْأُسْطُورَة هِيَ "قِصَّةٌ خَيَالِيَّة تَحْكِي عَنْ إحْدَاثِ وَشَخْصِيَّات ذَاتَ طَابَعٍ خَارِق لِلطَّبِيعَة، مُرْتَبِطَة بِأَصْل الْكَوْنِ وَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَاةِ وَ الْمَوْتِ وَالْعَالِم الْآخَر، وَتَتَسم بِالْقِدَاسَة وَالْعُمْقُ الْفِكْرِيّ وَ الرَّمْزِيّ". وَ مَنْ خِلَالِ هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ، يَتَّضِحُ أَنَّ الْأُسْطُورَة تَتَمَيَّز بِعِدَّة خَصَائِص أَسَاسِيَّة، أَبْرَزَهَا إرْتِبَاطِهَا بِالْأُصُول الْأُولَى لِلْكَوْن وَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَتَفْسِيرُهَا لِمَنْشَأ هَذِه الْأُمُور. إحْتِوَائِهَا عَلَى عَنَاصِر خَارِقَة لِلطَّبِيعَة، كَالْآلَهة وَ الْكَائِنَاتُ الْخُرَافِيَّة وَ الْأَحْدَاث الْعَجِيبَة. تَّمَيِّزُهَا بِالْقِدَاسَة وَ الْعُمْقُ الْفِكْرِيّ وَالرَّمْزِيّ، وَ إرْتِبَاطُهَا بِالمُعْتَقَدَات وَالتَّصَوُّرَات الْكَوْنِيَّة لِلْإِنْسَان البِدَائِيّ وَالْقَدِيم.

_ نَشْأَةُ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : التَّصَوُّرَات الْأُسْطُورِيَّة

لَقَدْ أَنْتَجَتْ الْحَضَارَات الْبَشَرِيَّة أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً مِنْ الْأَسَاطِيرِ وَ التَّصَوُّرَات الْأُسْطُورِيَّة الَّتِي تُفَسَّرُ نَشْأَة الْكَوْن وَالْعَالَم، وَالَّتِي كَانَتْ تَعْبِيرًا عَنْ الْفَهْمِ البِدَائِيّ لِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ قَبْل التَّطَوُّرُ الْعِلْمِيُّ وَالْمَعْرُفِيّ. وَتَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إلَى أَنْ هَذِهِ الْأَسَاطِير وَ التَّصَوُّرَات الْأُسْطُورِيَّة لَا تَقْتَصِرُ عَلَى نَشْأَة الْعَالَم وَالْكَوْن فَقَطْ، بَلْ تَشْمَلُ أَيْضًا نَشْأَة الْأَخْلَاق وَالْمُعْتَقَدَات الدَّيْنِيَّةِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْبَشَرِيَّة. تَخْتَلِفُ أَسَاطِير نَشْأَة الْكَوْنِ مِنْ ثَقَافَةِ إلَى أُخْرَى، وَتَتَنَوَّع بَيْن الْأَسَاطِير الَّتِي تَنْسَبُ الْخَلْقِ إلَى كَائِن سَامِي أَوْ إلَهٍ خَالِق، وَالْأَسَاطِيرِ الَّتِي تُفَسَّرُ نَشْأَة الْكَوْنِ مِنْ خِلَالِ عَمَلِيَّات مِيتَافِيزِيقِيَّة كَالْإنْبِثَاق مِنْ مَصْدَرِ نِهَائِيّ أَوْ الْخَلْقُ مِنْ خِلَالِ الصِّرَاعِ بَيْنَ قِوَّى مُتَعَارِضَة. فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، تَقُولُ أُسْطُورَة الْخَلْقِ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّة-الْمَسِيحِيَّةُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ لِلْكَوْن وَالْإِنْسَان، بَيْنَمَا تُفَسَّر بَعْض الْأَسَاطِير الْهِنْدُوسِيَّة نَشْأَة الْكَوْنِ مِنْ خِلَالِ عَمَلِيَّة إنْبِثَاق أَزَلِيّ أَوْ خَلْقُ الْكَوْنُ مِنْ خِلَالِ صِرَاعٌ بَيْنَ قِوَّى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَقَدْ لَاحَظَ عُلَمَاء الأنْثّْرُوبُولُوجْيَّا وَ عِلْمَ الْأَدْيَان أَنَّ هُنَاكَ أَنْمَاطًا مُتَشَابِهَةٍ فِي هَذِهِ الْأَسَاطِير عَبَّر الثَّقَافَات الْمُخْتَلِفَةِ، مِثْلُ وُجُودِ الْإلَه الْخَالِقِ، أَوْ الْكَائِنَات الْفَائِقَة الْقُدْرَةِ، أَوْ الْخُلُقِ مِنْ الفَوْضَى أَوْ الْعَدَمِ. وَلَطَالَمَا حَاوَل الْعُلَمَاء تَصْنِيف هَذِه الْأَسَاطِير وَوَضَعَهَا فِي إِطَارِ تَطَوُّرِيّ يَمْتَدُّ مِنْ الْإِشْكَالِ الْبَسِيطَة إلَى الْأَكْثَرِ تَعْقِيدًا، إلَّا أَنْ هَذَا التَّصْنِيفِ يُوَاجِه إنْتِقَادَات حَيْثُ إنَّ هُنَاكَ أَسَاطِير مُعَقَّدَة جِدًّا فِي الثَّقَافَاتِ البِدَائِيَّة، وَأَسَاطِير بَسِيطَة نِسْبِيًّا فِي الْحَضَارَات الْمُتَقَدِّمَة. مَعَ تَطَوُّرِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ الْبَشَرِيَّة، بَدَأَتْ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ الْأُسْطُورِيَّة تَحِلّ مَحَلِّهَا تَفْسِيرَات عِلْمِيَّة أَكْثَرَ دِقَّةً وَ مَوْضُوعِيَّة لِنَشْأَة الْكَوْن وَالْأَخْلَاق. فَأَصْبَحَتْ النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُعَاصِرَةِ، كَنَظِريَّةِ الِإنْفِجَار الْعَظِيمِ فِي الفِيزْيَاء الْكَوْنِيَّة وَتَطَوَّر الْأَخْلَاق عَبْرَ التَّارِيخِ فِي عِلْمِ الِإجْتِمَاع وَ الأنْثّْرُوبُولُوجْيَّا، هِيَ الْمَرْجِعِيَّات الْأَسَاسِيَّة لِلْفَهْم الْعِلْمِيّ لِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ بَدَلًا مِنْ الْأَسَاطِيرِ وَالتَّصَوُّرَات الْأُسْطُورِيَّة السَّابِقَة. بِالْإِضَافَةِ إلَى أَسَاطِير نَشْأَة الْكَوْن، فَقَدْ أَنْتَجَتْ الْحَضَارَات الْبَشَرِيَّة أَيْضًا أَسَاطِير تُفَسَّر نَشْأَة الأَخْلَاقِ وَالقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّة فِي الْمُجْتَمَعِ. فَهُنَاك أَسَاطِير تُنْسَب الْمَصْدَر الْأَخْلَاقِيّ إلَى تَشْرِيعَات إِلَهِيَّةٍ، كَمَا فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَالشَّرِيعَة الْإِسْلَامِيَّة، وَ أَسَاطِير أُخْرَى تُفَسَّر نَشْأَة الْأَخْلَاقِ مِنْ خِلَالِ التَّطَوُّر التَّارِيخِيّ لِلْمُجْتَمَعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَتَجَارِبِهَا الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ. وَ مَعَ ذَلِكَ، لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَسَاطِير وَالتَّصَوُّرَات الْأُسْطُورِيَّة إخْتَفَتْ بِالْكَامِل مِنْ الْفِكْرِ الْبَشَرِيِّ الْمُعَاصِر. فَلَا تَزَالُ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ الْأُسْطُورِيَّة مَوْجُودَة وَفَاعِلَة فِي بَعْضِ الْمُعْتَقَدَات الدِّينِيَّة وَالثَّقَافِيَّة، كَمَا أَنَّهَا مَا زَالَتْ تُؤَثِّرُ فِي التَّفْكِيرِ الْفَلْسَفِيّ وَ الْأَخْلَاقِيّ لِلْكَثِيرِ مِنْ الْبَشَرِ حَوْل نَشْأَة الْكَوْن وَالْأَخْلَاق. لِذَلِك، يَبْقَى فَهْمِ هَذِهِ الْأَسَاطِير وَالتَّصَوُّرَات الْأُسْطُورِيَّة مُهِمًّا لِفَهْم تَطَوُّر الْفِكْرِ الْبَشَرِيِّ وَالْمَعْرِفَة الْإِنْسَانِيَّةُ عَلَى مَرَّ الْعُصُور. وَ تُعَدُّ هَذِهِ الْأَسَاطِير وَالتَّصَوُّرَات الْأُسْطُورِيَّة حَوْل نَشْأَة الأَخْلَاقِ وَالقِيَمِ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ الْبَالِغَة الأَهَمِّيَّةِ فِي تَارِيخِ الْفَلْسَفَة الْأَخْلَاقِيَّة وَالدِّينِيَّة. فَقَدْ حَاوَلَ الْكَثِيرِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَ الْمُفَكِّرِينَ عَلَى مَرَّ الْعُصُور فَهُمْ وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَسَاطِير وَأثَارِهَا عَلَى الْمُجْتَمَعَات الْبَشَرِيَّة، سَوَاءٌ مِنْ مَنْظُورٍ دِينِيٍّ أَوْ مِنْ مَنْظُورٍ فَلْسَفِيّ عَلِمَانِيّ. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، تُعْتَبَر أُسْطُورَة الْخَلْقِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ أَنْ الأَخْلَاقِ وَالقِيّمِ الْأَخْلَاقِيَّة جَاءَتْ بِتَشْرِيع إِلَهِي عَبَّر الْوَصَايَا الْعَشْرَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُوسَى. بَيْنَمَا تُفَسَّر بَعْض الْأَسَاطِير الْفَلْسَفِيَّة الْأَخْلَاقِ عَلَى أَنَّهَا نِتَاجُ تَطَوُّر الْمُجْتَمَعَات الْبَشَرِيَّة وَتَجَارِبِهَا الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ عَبْرَ التَّارِيخِ، وَلَيْسَ مِنْ مَنْبَعٍ إِلَهِي مُطْلَق. يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْأَسَاطِيرَ وَ التَّصَوُّرَات الْأُسْطُورِيَّة حَوْل نَشْأَة الْكَوْن وَالْأَخْلَاق كَانَتْ مَرْحَلَة ضَرُورِيَّةٌ فِي تَطَوُّرِ الْفِكْر وَالْمَعْرِفَة الْبَشَرِيَّةُ قَبْلَ ظُهُورِ النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُعَاصِرَةِ. وَبِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ الْأُسْطُورِيَّة قَدْ تَمَّ تَجَاوَزَهَا عِلْمِيًّا، إلَّا أَنَّهَا لَا تَزَالُ ذَاتِ أَهَمِّيَّةٍ فِي فَهْمِ تَارِيخ وَتَطَوَّر الْمَعْرِفَة الْإِنْسَانِيَّة.

_ مَوْقِف الْأُسْطُورَة مِنْ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق

التَّعَارُضُ بَيْنَ الْأُسْطُورَة وَالْعِلْم كَانَ أَحَدُ أَبْرَز الْمَحَاوِر الَّتِي تَنَاوَلَهَا الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُفَكِّرُونَ عَبْرَ التَّارِيخِ. فَقَدْ رَفَضَ الْكَثِيرِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ فِي الْغَرْبِ الْأَسَاطِير بِإعْتِبَارِهَا تَفْسِيرًا غَيْرُ عِلْمِي لِلْعَالِم الْمَادِّيّ. كَانَ أَفْلَاطُونُ أَوَّلُ مَنْ رَفَضَ أَسَاطِير هُوميْرُوس لِأَسْبَابٍ أَخْلَاقِيَّة، حَيْثُ اُعْتُبِرَ أَنْ تِلْكَ الْأَسَاطِير تَصَوُّر الْآلِهَة وَكَأَنَّهُمْ يُمَارِسُون أَفْعَالًا لَا أَخْلَاقِيَّة. وَإنْتَقَل هَذَا الرَّفْض إلَى فَلَاسِفَة الْعَصْرِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ رَفَضُوا الْأَسَاطِير بِسَبَب تَفْسِيرُهَا لِلْعَالِم بِطَرِيقَة غَيْرَ عِلْمِيَّة. وَمِنْ أَبْرَزِ الْأَمْثِلَةِ عَلَى هَذَا التَّعَارُضِ بَيْنَ الْأُسْطُورَة وَالْعِلْمُ هُوَ قِصَّةُ الْخَلْقِ فِي سَفَرٍ التَّكْوِين وَاَلَّتِي تَتَحَدَّثُ عَنْ خَلْقِ الْعَالِمُ فِي سِتَّةٍ أَيَّامِ. هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأُسْطُورِيَّة تُعَدُّ مِنْ وَجْهَة نَظَر الْعُلَمَاء تَفْسِيرًا غَيْرُ دَقِيق لِتَارِيخ الْأَرْض وَالْكَوْن، وَاَلَّذِي يُخَالِفُ مَا تَوَصَّلَ إِلَيْهِ العِلْمُ الحَدِيثَ مِنْ تَطَوُّر تَدْرِيجِيّ لِلْأَنْوَاع عَبَّر مَلَايِينِ السِّنِينَ. وَنَتِيجَةً لِهَذَا التَّضَارُب، ظَهَرَتْ نَظَرِيَّة "الْخَلْق" كَرَدِّ فِعْلٍ عَلَى نَظَرِيَّة دَارْوِينْ فِي التَّطَوُّرِ، وَهِيَ تَسْعَى إِلَى تَفْسِيرٍ قِصَّةِ الْخَلْقِ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ بِطَرِيقَة حَرْفِيَّة. إلَّا أَنْ هُنَاكَ مُحَاوَلَات مِنْ مُؤَيِّدِي نَظَرِيَّة الْخَلْق لِتَقْدِيم هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا عِلْمِيَّةٌ وَلَيْسَتْ فَقَطْ دِينِيَّة. فَهُمْ يُحَاوِلُون الْبَحْثِ عَنْ أَدِلَّةٍ عِلْمِيَّة تُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لِلْخَلْق. وَيُعْتَبَرُ هَذَا الْجَدَلَ بَيْن الْأُسْطُورَة وَالْعِلْم أَحَد أَهَمّ الْجَوَانِبِ الَّتِي تَنَاوَلَهَا الْفِكْرِ الْغَرْبِيِّ فِي مُحَاوَلَةٍ لِلْحَسم فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. عَلَى الرَّغْمِ مِنْ الرَّفْضِ الْوَاضِح لِلْإِسْطُورَة مِنْ قِبَلِ الْفَلَاسِفَة بِسَبَبِ عَدَمِ تُوَافِقُهَا مَعَ الْمَنْطِقِ وَالْعِلْمِ، إلَّا أَنْ لَهَا دَوْرًا مُهِمًّا فِي تَشْكِيلِ الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ الِإجْتِمَاعِيَّة. فَفِي الْحَضَارَة الْيُونَانِيَّة عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، كَانَتْ الْأَسَاطِير تَلْعَبُ دَوْرًا رَئِيسِيًّا فِي تَشْكِيلِ الْمُعْتَقَدَات الدِّينِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة لِلْمُجْتَمَع. فَالْإِسَاطِير الْيُونَانِيَّة، كَمَا جَاءَتْ فِي أَعْمَالِ هُومِيْرُوس Homeros وَ هَزيود شاعر Hesiod، قُدِّمَتْ نَمَاذِج لِلسُّلُوك الْإِنْسَانِيّ الْمَرْغُوبِ مِنْ خِلَالِ تَصْوِير أَفْعَال الْآلِهَة وَ أبْطَال الْأَسَاطِير. وَبِذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسَاطِير شَكَّلَتْ إِطَارًا مَرْجِعِيَّا أَخْلَاقِيًّا لِلْمُجْتَمَع الْيُونَانِيّ، حَيْثُ كَانَتْ تُحَدِّد مَا هُوَ صَوَابٌ وَمَا هُوَ خَطَأٌ، وَمَا هُوَ مَقْبُولٌ وَمَا هُوَ مَرْفُوض إجْتِمَاعِيًّا. وَ مَعَ ظُهُورِ الْفِكْرُ الْفَلْسَفِيُّ فِي اليُّونَانِ، بَرَز تَيَّارٌ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ حَاوَلُوا إعَادَة تَفْسِير الْأَسَاطِير بِطَرِيقَة مَجَازِيَّة وَتَأْوِيلِيَّة بِمَا يَتَوَافَقُ مَعَ الْمَنْطِقِ وَ الْعَقْلِ. وَكَانَ أَبْرَز هَؤُلَاء الرُّوَاقِيون الَّذِينَ قَدَمُوا تَفْسِيرَات رَمْزِيَّة لِلْإِسَاطِير لِتَوَافُقِهَا مَعَ رُؤْيَتِهِمْ الْأَخْلَاقِيَّة. وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنْ الْفَلَاسِفَة الطَّبِيعِيُّون كَانُوا أَكْثَرَ تُشَدُّدا فِي رَفْضِ الْأَسَاطِير وَإعْتِبَارُهَا غَيْر عِلْمِيَّة وَغَيْر مَنْطِقِيَّة. وَهَذَا جَعَلَ الْبَعْضَ يَرَى أَنَّ الْفِكْرَ الْفَلْسَفِيّ كَانَ فِي صِرَاعٍ مَعَ الْأُسْطُورَة وَ التَّفْكِير الْأُسْطُورِيّ، وَ أَنَّه سَعَى لِإِحْلَال الْمَنْطِقِ وَالْعَقْلِ مَحَلّ الْخَيَال وَالتَّصَوُّرَات الْأُسْطُورِيَّة. وَ مَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ أَدْرَكَ بَعْضَ الْفَلَاسِفَةِ أَهَمِّيَّة الْأُسْطُورَة فِي تَشْكِيلِ الْقِيَمِ وَالْأَخْلَاقِ الِإجْتِمَاعِيَّة، وَحَاوَلُوا التَّوْفِيقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفِكْرُ الْفَلْسَفِيُّ. فَأَرَسطو عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، إعْتَرَف بِأَهَمِّيَّة الْأَسَاطِير فِي تَنْشِئَة الْمُوَاطِنِين وَغَرْس الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ فِيهِمْ، رَغْم مَوْقِفِه النَّقْدِيّ مِنْ بَعْضِ الْأَسَاطِير. وَ بِشَكْلٍ عَامٍ، فَإِنْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْأُسْطُورَة وَالْأَخْلَاق كَانَتْ مَوْضِعَ جَدَل وَتَبَايُن بَيْن الْفَلَاسِفَة فِي الْحَضَارَةِ الْيُونَانِيَّة. فَبَيْنَمَا رَفَض الْبَعْض الْأَسَاطِير لِعَدَم تُوَافِقُهَا مَعَ الْمَنْطِقِ وَالْعِلْم، حَاوَل آخَرُون إعَادَة تَفْسِيرُهَا بِمَا يَتَوَافَقُ مَعَ الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ الِإجْتِمَاعِيَّة. وَهَذَا يُؤَكِّدُ عَلَى الدُّورِ الْمُهِمُّ الَّذِي لَعِبَتْهُ الْأَسَاطِير فِي تَشْكِيلِ الْإِطَار الْأَخْلَاقِيّ لِلْمُجْتَمَع الْيُونَانِيّ.

_ مَوْقِفُ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق مِنْ الْأُسْطُورَة

إنْ مَوْقِف الْعِلْم وَالْأَخْلَاق تُجَاه الْأُسْطُورَة هُوَ مَوْقِفٌ مَعْقِد وَ مُتَبَايِن. مِنْ نَاحِيَةِ، يُنْظَر الْعِلْمِ إلَى الْأَسَاطِير وَالْمِيثَولُوجْيَا عَلَى أَنَّهَا خُرَافَات وَتَصَوُّرَات خَاطِئَة عَنْ الْكَوْنِ وَالْحَيَاةِ لَا تَسْتَنِدُ إلَى الْحَقَائِقِ وَالْمَنْهَج الْعِلْمِيّ. فَالْعِلْم يَرْفُض الْمَيثولُوجْيَا بِإعْتِبَارِهَا تَفْسِيرَات لَا عِلْمِيَّةٌ لِلظَّوَاهِر الطَّبِيعِيَّةِ وَ الِإجْتِمَاعِيَّةِ، وَيَنْظُرُ إلَيْهَا عَلَى أَنَّهَا مُحَاوَلَات بِدَائِيَّة لِفَهْم الْعَالَمَ قَبْلَ ظُهُورِ الْعِلْمِ الْحَدِيثَ. مِنْ نَاحِيَةِ أُخْرَى، تَنْظُر الْأَخْلَاقِ إِلَى الْمَيثولُوجْيَا بِشَكْلٍ مُخْتَلَف. فَالْإِسَاطِير وَالْقَصَصِ الْخُرَافِيَّة كَانَتْ وَمَا زَالَتْ تَلْعَبُ دَوْرًا مُهِمًّا فِي بِنَاءِ النَّظْم الْأَخْلَاقِيَّة وَ الْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ عَبْرَ التَّارِيخِ. فَالْميثولُوجْيَا تَحْمِلُ فِي طَيَاتها رُمُوزًا وَمَعَانِي رَمْزِيَّة عَمِيقَة تَعْكِس الْهُمُوم وَالتَّطْلِعات الْأَخْلَاقِيَّة لِلْبَشَر، كَمَا أَنَّهَا تَجَسَّد الْقِيَمُ وَالْفَضَائِلُ الْأَخْلَاقِيَّة كَالشَّجَاعَة وَالْعَدْل وَالتَّضْحِيَةُ مِنْ خِلَالِ شَخْصِيَّاتٍهَا الْأُسْطُورِيَّة. لِذَا، يَنْظُرُ إلَيْهَا مِنْ مَنْظُورٍ أَخْلَاقِيّ عَلَى أَنَّهَا وَسِيلَةٌ لِتَرْبِيَة الْوِجْدَان الْأَخْلَاقِيّ وَتَنْمِيَة الْحِسّ الْأَخْلَاقِيّ لَدَى الْأَفْرَادِ وَالمُجْتَمَعَات. هَذَا التَّبَايُنَ فِي الْمَوْقِفِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاق تُجَاه الْمَيثولُوجْيَا يَنْبُعُ مِنْ إخْتِلَافِ الْأَهْدَاف وَ الْمُنَاهِج بَيْنَهُمَا. فَالْعِلْم يَسْعَى إلَى الْكَشْفِ عَنْ الْحَقَائِقِ الْمَوْضُوعِيَّة لِلظَّوَاهِر الطَّبِيعِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ بِإسْتِخْدَام الْمَنْهَج التَّجْرِيبِيّ وَالْقِيَاسِيّ، بَيْنَمَا تَهْتَمّ الْأَخْلَاق بِالْبُعْد الْقِيَمِيّ وَ الْمَعْنَوِيّ لِلْوُجُود الْإِنْسَانِيّ وَتَشْكِيل السُّلُوكِ الْأَخْلَاقِيِّ لِلْأَفْرَاد وَ المُجْتَمَعَات. وَ رَغْمَ هَذَا التَّبَايُنَ، فَإِنَّ هُنَاكَ مُحَاوَلَات لِإِيجَاد تَكَامُل بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْمَيثولُوجْيَا. فَهُنَاكَ إتِّجَاه يَرَى أَنَّ الْأَسَاطِيرَ وَالْقَصَص الْخُرَافِيَّة يُمْكِنُ قِرَاءَتُهَا وَ تَأْوِيلُهَا بِطَرِيقَة تُظْهِرُ تُوَافِقُهَا مَع الْحَقَائِقَ الْعِلْمِيَّةَ، وَبِالتَّالِي إسْتِخْدَامُهَا لِتَعْزِيز الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالدَّيْنِ. كَمَا هُنَاكَ مِنْ يَرَى أَنَّ لِلْمُيثولُوجْيَا قِيمَةُ أَخْلَاقِيَّة وَرَمزيَةِ عَمِيقَة، وَأَنَّهُ يَجِبُ الِإسْتِفَادَةِ مِنْهَا فِي تَرْبِيَةِ الأَجْيَال وَتَنْمِيَة الْوَعْي الْأَخْلَاقِيّ، دُون التَّعَارُضِ مَعَ الْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّة. فِي النِّهَايَةِ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ مَوْقِفَ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق مِنْ الْمَيثولُوجْيَا لَيْسَ مُتَنَاقِضًا بِالضَّرُورَة، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْظُرُ إلَيْهَا مِنْ مَنْظُورٍ مُخْتَلَف، وَهُنَاك مُحَاوَلَات جَادَّة لِإِيجَاد التَّكَامُل بَيْنَهُمَا فِي التَّعَامُلِ مَعَ هَذَا التُّرَاثَ الْإِنْسَانِيّ الْغَنِيّ. فَالْعِلْم يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْ الْمَيثولُوجْيَا فِي فَهْمِ جَوَانِبَ مِنْ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَ الْمُجْتَمَعِيَّة، بَيْنَمَا يُمْكِنُ لِلْأَخْلَاق أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنْهَا الْقَيِّم وَالرُّمُوز الَّتِي تُسَاعِدُ عَلَى تَرْبِيَةِ الْوِجْدَان الْأَخْلَاقِيّ لِلْأَفْرَاد وَ المُجْتَمَعَات.

_ الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق وَالْأُسْطُورَة : مُحْدِدات مَفَاهِيمِيَّة

الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق وَالْأُسْطُورَة هِيَ مَفَاهِيمَ أَسَاسِيَّةٍ فِي الْفِكْرِ وَ الثَّقَافَة الْإِنْسَانِيَّة، تَدَاخَلَتْ وَتَشَابَكَتْ فِي مَسَارَات تَطَوُّر الْفِكْرِ الْبَشَرِيِّ عَبْرَ التَّارِيخِ. لِكُلٍّ مِنْهَا مَفْهُومُه الْخَاصّ وَوَظِيفَتُه الْمُحَدَّدَة، وَلَكِنَّهَا فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ مُتَرَابِطَة وَمُتَشَابِكَة بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. الْأُسْطُورَة هِي شَكْل أَدَبِيّ وَ فَنِي تَقْلِيدِيّ يَتَنَاوَل قَصَصًا وَحِكَايَاتٍ عَنِ الْآلِهَةِ وَالْإِبْطَال وَالْكَائِنَات الْخُرَافِيَّة، تُعَبِّرُ عَنْ تَصَوُّرَات الْجَمَاعَات الْبَشَرِيَّةِ عَنْ نَشْأَة الْكَوْنِ وَالْحَيَاةِ وَ الطَّبِيعَةِ وَالْإِنْسَانَ. وَهِيَ تُعْتَبَرُ مِنْ أَقْدَمِ صُوَر التَّعْبِير الْإِبْدَاعِيّ وَ الْفَنِّيّ عِنْدَ الشُّعُوبِ وَالْحَضَارَات الْقَدِيمَة. فَفِي الْأُسْطُورَة تَتَجَسَّد الْحَقَائِق وَالْمُعْتَقَدَات الْأَسَاسِيَّةَ الَّتِي يُؤْمَنُ بِهَا الْمُجْتَمَع، وَاَلَّتِي تُعَبِّرُ عَنْ فَهْمِهِ لِلْعَالِم وَالْكَوْن وَالْإِنْسَان. فَالْأُسْطُورَة لَا تُحِيلُ إلَى إحْدَاثِ تَارِيخِيَّة مُحَدَّدَة، بَلْ إلَى حَقَائِقِ أَزَلِيَّة وَ أَبَدِيَّة ذَاتَ طَبِيعَة دِينِيَّة وَمِيتَافِيزِيقِيَّة. وَ هِيَ بِذَلِكَ تَخْتَلِفُ عَنْ الْخُرَافَةِ الَّتِي هِيَ قُصَّةٌ غَيْرُ مُصَدَّقَةٍ وَلَا وَاقِعِيَّة. وَ قَدْ لَعِبَتْ الْأَسَاطِير دُورًا مُحَوَّريا فِي الثَّقَافَاتِ الْقَدِيمَةِ، حَيْثُ كَانَتْ تُشَكِّلُ نَسِيج الْمُعْتَقَدَات الدِّينِيَّةِ وَ الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِيَّة لِلشُّعُوب. فَهِي إرْتَبَطَتْ إرْتِبَاطًا وَثِيقًا بِالنَّظْم الدِّينِيَّة وَالطُّقُوس وَالرُّمُوز الْمُقَدَّسَة. وَيَرَى الْبَعْضُ أَنَّ الْأَسَاطِيرَ كَانَتْ بِمَثَابَةِ "عَلِمَ" أَوْ "مَعْرِفَةِ" لَدَى الْإِنْسَانِ الْقَدِيمُ قَبْلَ ظُهُورِ الْعِلْمُ الْحَدِيثَ. أَمَّا الْعِلْمُ فَهُوَ نِظَام مَعْرِفِيّ مُنَظَّم وَ مَتَطور يَسْعَى إلَى فَهْمِ الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّة، وَ تَفْسِيرُهَا بِشَكْل مَوْضُوعَيْ وَعِلْمِي. وَيَقُوم الْعِلْمِ عَلَى الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْمُلَاحَظَة وَالتَّجْرِيب وَالْقِيَاس وَالتَّحْلِيل وَالِاسْتِنْتَاج. وَقَدْ نَشَأَ الْعِلْمُ الْحَدِيثَ فِي أُورُوبَّا خِلَالَ الْقَرْنَيْنِ السَّادِسَ عَشَرَ وَالسَّابِعَ عَشَرَ الْمِيلَادِيَّيْن، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الْأَسَاطِير وَالْمُعْتَقَدَات الدِّينِيَّةِ هِيَ الْمَصْدَر الأَسَاسِيّ لِلْمَعْرِفَةِ فِي الْعُصُورِ السَّابِقَةِ. وَقَدْ تَطَوُّر الْعِلْم مُنْذُ ذَلِكَ الْحِينِ لِيُصْبِح النِّظَام المَعْرِفِيّ الرَّئِيسِيُّ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ، حَيْثُ أَصْبَحَ الْمَرْجِعِيَّة الْأَسَاسِيَّة لِلْحَقِيقَة وَالْمَعْرِفَةِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُعَاصِرَة. أَمَّا الْأَخْلَاق فَهِي مَجْمُوعَةُ الْمَبَادِئِ وَالْقِيَمِ وَالْمُثُلِ الْعُلْيَا الَّتِي تَحْكُمُ سُلُوك الْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتُنَظِّم الْعَلَاقَاتِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ بِمَا يُحَقِّقُ الْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ. وَهِي تَرْتَبِطُ بِالْأَحْكَامِ الْقِيَمِيَّة الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ الضَّمِيرِ الْإِنْسَانِيّ وَالْعَقْل الْبَشَرِيّ حَوْلَ مَا هُوَ صَوَابٌ وَمَا هُوَ خَطَأٌ، وَمَا هُوَ فَاضِلٌ وَمَا هُوَ رَذِيل. وَقَدْ إرْتَبَطَتْ الْأَخْلَاق عَبْرَ التَّارِيخِ بِالْأَدْيَان وَالْأَسَاطِير وَالْمُعْتَقَدَات الشَّعْبِيَّة، حَيْثُ كَانَتْ تُسْتَمَدّ شَرْعِيَّتِهَا وَقُوَّتِهَا التَّنْظِيمِيَّة مِنْ النَّظْمِ الدِّينِيَّة وَالثَّقَافِيَّة السَّائِدَة. وَلَكِنْ مَعَ ظُهُورِ الْفَلْسَفَةِ وَ الْعِلْمِ الْحَدِيث، بَدَأَتْ الْأَخْلَاق تَتَحَرَّر مِنْ قُيُودِ الْأَسَاطِير وَ الْمُعْتَقَدَات الدِّينِيَّة، وَتَسْعَى لِلْوُصُولِ إلَى أُسِّس عَقْلَانِيَّة وَ عِلْمِيَّة. عَلَى الرَّغْمِ مِنْ التَّمَايُز الْمَفَاهِيمي بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق وَ الْأُسْطُورَة، إلَّا أَنَّهُمَا مُتَدَاخِلَانِ وَمُتَشَابِكان فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْجُهِ. فَالْإِسَاطِير الْقَدِيمَةِ كَانَتْ تُشَكِّلُ الْمَرْجِعِيَّة الْأَسَاسِيَّة لِلْمُعْتَقَدَات الْأَخْلَاقِيَّة وَالدِّينِيَّة فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْقَدِيمَةِ. وَقَدْ إرْتَبَطَتْ الْأَخْلَاق بِالْإِسَاطِير إرْتِبَاطًا وَثِيقًا، حَيْثُ كَانَتْ الْأَسَاطِير تَقَدَّم تَصَوُّرَات وَأَمْثِلَة عَنْ السُّلُوكِ الْأَخْلَاقِيِّ الْمَرْغُوب وَالْمَذْمُوم. وَ فِي الْمُقَابِلِ، فَإِنْ ظُهُور الْعِلْمُ الْحَدِيثَ أَدَّى إلَى تَرَاجُعِ دُور الْأَسَاطِير كَمَصْدَر لِلْمَعْرِفَة وَالْحَقِيقَة، وَ سَاهَمَ فِي تَحْرِيرِ الْأَخْلَاقِ مِنْ قُيُودِ الْأَسَاطِير وَالْمُعْتَقَدَات الدِّينِيَّة التَّقْلِيدِيَّة. فَقَدْ أَصْبَحَ الْعِلْم الْمَرْجِعِيَّة الْأَسَاسِيَّة لِلْمَعْرِفَة وَالْحَقِيقَةَ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ، مَا فَرَضَ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْبَحْثِ عَنْ أُسِّس عَقْلَانِيَّة وَعِلْمِيَّة بَدِيلَة. وَ لَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَعْنِ إنْفِصَال الْأَخْلَاقِ عَنْ الْعِلْمِ تَمَامًا، فَقَدْ ظَهَرَتْ مَجَالَات بَحْثيَّةِ جَدِيدَة كـ"أَخْلَاقِيَّات الْعِلْمُ" و"فَلْسَفَة الْعِلْمِ" الَّتِي تَبْحَثُ فِي الْعَلَاقَةِ الْمُتَبَادِلَةِ بَيِنَ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق. فَالْعِلْم أَصْبَح مَصْدَرًا مَهْمَا لِلْأَخْلَاق الْمُعَاصِرَة، حَيْث تُسْتَمَدّ الْأَخْلَاقِ مِنْ نَتَائِجِ الْبُحُوث وَالدِّرَاسَات الْعِلْمِيَّةِ فِي مَجَالَاتِ مِثْل الْبَيُولُوجْيَا وَ الطِّبِّ وَالتِّكْنُولُوجْيَا. وَعَلَيْهِ، فَإِنْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق وَ الْأُسْطُورَة هِيَ عَلَاقَةٌ تَدَاخُل وَتَشَابُك، حَيْثُ كَانَتْ الْأَسَاطِير فِي الْمَاضِي هِيَ الْمَرْجِعِيَّة الْأَسَاسِيَّة لِلْمُعْتَقَدَات الْأَخْلَاقِيَّة، قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْعِلْم مَحَلُّهَا فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ. وَلَكِنْ ذَلِكَ لَمْ يَعْنِ إنْفِصَال الْأَخْلَاقِ عَنْ الْعِلْمِ، بَلْ إنْ الْعِلْم أَصْبَح مَصْدَرًا مَهْمَا لِلْأَخْلَاق الْمُعَاصِرَة.

التَّقَاطُعُ بَيْنَ الْعِلْمِ الْحَدِيثَ وَالْأَخْلَاق الْمُعَاصِرَة وَالْمِيثَولُوجْيَا

الْعِلْمُ وَ الْمِيثَولُوجْيَا تَشْتَرِكَانِ فِي هَدَفٍ وَاحِدٍ هُوَ مُحَاوَلَةُ فَهُمْ الْكَوْنِ وَالطَّبِيعَةِ الْمُحِيطَة بِالْإِنْسَان. فَمُنْذ الْقَدِيم، حَاوَل الْإِنْسَان تَفْسِير الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ الْمُخْتَلِفَة وَ الْكَشْفِ عَنْ أَسْرَارِ الْكَوْنِ مِنْ خِلَالِ مَا يُعْرَفُ بِالْمِيثَولُوجْيَا أَوْ الْأَسَاطِير. كَانَتْ هَذِهِ الْأَسَاطِير تَحْمِلُ فِي طَيَاتها مُحَاوَلَات لِتَفْسِير نَشْأَة الْكَوْنِ وَ الْحَيَاةِ وَحَرَكَة الْكَوَاكِب وَالظَّوَاهِر الطَّبِيعِيَّة الْمُخْتَلِفَة. فِي حِينِ أَنَّ الْعِلْمَ الْحَدِيث يَتَمَيَّز بِتَطْبِيق الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ الْقَائِمِ عَلَى الْمُلَاحَظَةِ وَالتَّجْرِبَةِ وَالْقِيَاس وَالتَّحْلِيل لِلْوُصُولِ إلَى تَفْسِيرَات مَوْضُوعِيَّة لِلظَّوَاهِر الطَّبِيعِيَّة، فَإِنْ الْمَيثولُوجْيَا تَعْتَمِدُ عَلَى التَّفْسِيرَات الْأُسْطُورِيَّة وَالْخَرَافِيَّة وَ رَبَطَ الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ بِتَدْخُلْ قِوَّى إِلَهِيَّة خَارِقَة. وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنْ هُنَاكَ بَعْضُ الْتَقَاطُعَات بَيْنَ الْعِلْمِ الْحَدِيثَ وَالْمِيثَولُوجْيَا. فَالْعَدِيدُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْقُدَامَى، مِثْل فَلَاسِفَةُ مَا قَبْلَ سُقْرَاط فِي اليُّونَانِ الْقَدِيمَةِ، كَانُوا يُحَاوِلُون تَفْسِير نَشْأَة الْكَوْنِ وَالْحَيَاةِ مِنْ خِلَالِ الْأَسَاطِير وَالتَّفْسِيرَات الْخُرَافِيَّة قَبْل تَطَوُّر الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ. كَمَا أَنَّ الْأَسَاطِيرَ وَالْمِيثَولُوجِيَّات الْقَدِيمَةِ كَانَتْ تَحْتَوِي عَلَى بَعْضٍ الْمُلَاحَظَات وَالْمَعَارِف الَّتِي تَنْطَوِي عَلَى جَوَانِبِ عِلْمِيَّة، مِثْل الْمُلَاحَظَات الْفَلَكِيَّة وَدَورات الطَّبِيعَةِ وَ الْحَيَاة. وَقَدْ إسْتَفَادَ الْعُلَمَاء الْحَدِيثِون مِنْ هَذِهِ الْمُلَاحَظَاتِ وَ الْمَعَارِفُ فِي تَطْوِيرِ نَظَرِيَّاتِهِمْ الْعِلْمِيَّة. عِلَاوَةً عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ الْمَيثولُوجْيَا كَانَ لَهَا تَأْثِيرٌ كَبِيرٌ عَلَى تَطَوُّرِ الْعُلُومِ الْإِنْسَانِيَّةِ مِثْلُ عِلْمِ النَّفْس وَ عِلْمِ الِإجْتِمَاع وَاللُّغَوِيَّات، حَيْث سَاهَمَت الْأَسَاطِير فِي تَشْكِيلِ الثَّقَافَات وَالْمُعْتَقَدَات الْبَشَرِيَّة وَ فَهْمَ سُلُوكَ الْإِنْسَانِ وَتَطَوَّر لُغَاتِه. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ الْحَدِيثَ وَ الْمِيثَولُوجْيَا لَيْسَتْ عَلَاقَة تَعَارَض مُطْلَقٍ، بَلْ هِيَ عَلَاقَةٌ تَكَامُل وَتَفَاعَل، حَيْث سَاهَمَت الْأَسَاطِير وَالتَّفْسِيرَات الْخُرَافِيَّة فِي تَطَوُّرِ الْمَعْرِفَة الْعَلَمِيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ الْحَدِيث إسْتَفَادَ مِنْ بَعْضِ الْمُلَاحَظَات وَالْمَعَارِف الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْمَيثولوجيات الْقَدِيمَةِ. وَ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، لَا تَزَالُ بَعْض الْمَيثولوجيات وَالْأَسَاطِيرِ الْقَدِيمَةِ تُمَارِسْ تَأْثِيرِهَا عَلَى الثَّقَافَاتِ الْمُخْتَلِفَة وَالْمُعْتَقَدَات الشَّعْبِيَّة، كَمَا أَنَّ هُنَاكَ مُحَاوَلَات لِدِرَاسَة هَذِه الْأَسَاطِير وَالِإسْتِفَادَة مِنْهَا فِي فَهْمِ الْجَوَانِب الثَّقَافِيَّة وَالنَّفْسِيَّة لِلْإِنْسَانِ. بِالتَّالِي، فَإِنْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ الْحَدِيثَ وَالْمِيثَولُوجْيَا لَيْسَتْ عَلَاقَة بَسِيطَة أَوْ خَطِيَّةً، بَلْ هِيَ عَلَاقَةٌ مُعَقَّدَة وَمُتَشَابِكَة، تَتَضَمَّنُ تَفَاعُلًا وَتَكَامَلَأ بَيْنَ التَّفْسِيرَات الْعِلْمِيَّة وَالتَّفْسِيرَات الْأُسْطُورِيَّة لِلظَّوَاهِر الطَّبِيعِيَّةَ وَ الْإِنْسَانِيَّةَ. أَمَّا فِيمَا يَخُصُّ التَّقَاطُعُ بَيْنَ الْأَخْلَاق الْحَدِيثَة و الْمَيثولُوجْيَا. هُنَاكَ بَعْضُ التَّقَاطُعَات الْمُلْفِتَّة لِلنَّظَرِ بَيْنَ عَالَمِ الْأَخْلَاق الْمُعَاصِر وَعَالِم الْمَيثولُوجْيَا الْيُونَانِيَّة الْقَدِيمَة. التَّفْكِيك الْأَخْلَاقِيّ وَإنْهِيَار النَّظْم الْكُبْرَى وَاحِدَةٍ مِنْ أَبْرَزِ السِّمَات الَّتِي تَطْبَعْ الْفِكْر الْأَخْلَاقِيّ الْمُعَاصِر هِيَ حَالةٌ "التَّفْكِيك" الَّتِي أَصَابَتْ النَّظْم الْأَخْلَاقِيَّة الْكُبْرَى وَالشَّامِلَة. فَقَدْ تَلَاشَتْ السُّلْطَة الْمُطْلَقَة لِلنَّظْم الْأَخْلَاقِيَّة الْكَلاَسِيكِيَّة مِثْلُ الْأَخْلَاق الدِّينِيَّةِ أَوْ الْفَلْسَفِيَّة، وَحَلَّتْ مَحَلِّهَا أَخْلَاقِيَّات مُتَعَدِّدَةٍ وَمُتَبَايِنَة وَ مُتَنَافِسَة. وَهَذَا مَا أَدَّى إلَى حَالَةٍ مِنْ "النِّسْبِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة" وَ اَلَّتِي تُشْبِه إلَى حَدِّ مَا تَعَدَّدَ الْآلِهَة وَ الشَّخْصُيَّات الْأُسْطُورِيَّة الْمُتَنَافِسَة فِي عَالَمِ الْمَيثولُوجْيَا الْيُونَانِيَّة الْقَدِيمَة. فَكَمَا كَانَ لِكُلِّ إلَه أَوْ بَطَلَ أَسْطُورِيّ قِيمَتِه الْخَاصَّة وَاَلَّتِي قَدْ تَتَنَاقَض مَع قَيِّم آلِهَة أَوْ أبْطَالِ آخَرِينَ، كَذَلِكَ الْحَالُ الْيَوْمَ فِي عَالَمِ الْأَخْلَاق الْمُعَاصِر حَيْث يَتَنَافَس مَنْظُور أَخْلَاقِيّ لِيبْرَالِيّ مَعَ مَنْظُور أَخْلَاقِيّ مُحَافِظ أَوْ مُتَدَيِّن، كَمَا تَتَنَافَس أَخْلَاقِيَّات الْمَصْلَحَةُ الْفَرْدِيَّةُ مَع أَخْلَاقِيَّات الْوَاجِبُ وَالِإلْتِزَام الْجَمَاعِيّ. وَ بِذَلِك أَصْبَحْت الْأَخْلَاق سَاحَة لِلصِّرَاع وَالتَّنَافُس بَدَلًا مِنْ أَنَّ تَكُونَ مَجَالًا لِلْإِجْمَاع وَالْوَحْدَة كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْحَالُ فِي الْمَاضِي. كَمَا نُلَاحِظُ أَنَّ عَالِمَ الْأَخْلَاق الْمُعَاصِر يَتَمَيَّز بِتَعَدُّد الْأَصْوَات وَالتَّيَّارَات الْأَخْلَاقِيَّة الْمُتَنَافِسَة، شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ شَأْنُ عَالِم الْمَيثولُوجْيَا الْيُونَانِيَّة الْقَدِيمَةِ حَيْثُ تَتَعَدَّدُ الْآلِهَة وَ الْأبْطَال الأُسْطُوَرِيُّون مَعَ تَبَايُنِ قِيَمِهِمْ وَأَهْدَافِهم وَأدَّوَارِهِمْ. فَمَنْ جِهَة، هُنَاك نَزْعَة أَخْلَاقِيَّة تَمَجَّد الْفَرْدِ وَحُرِّيَّاتِه وَ خُصُوصِيَّاتِه عَلَى حِسَابِ الْمُجْتَمَع وَ الْجَمَاعَة، وَتَتَنَاغُم هَذِهِ النَّزْعَةَ مَع نَمُوذَج "الْإِنْسَان السَّائِل" الَّذِي وَصَفَهُ بَعْضُ الْمُفَكِّرِين الْمُعَاصِرِين. وَمِنْ جِهَةِ أُخْرَى، هُنَاكَ أَصْوَاتٌ أُخْرَى تُؤَكِّدُ عَلَى الْقَيِّمِ الْجَمَاعِيَّة وَالْأَخْلَاق الْمُؤَسَّسَيَّة وَالْمُجْتَمَعِيَّة. وَهَكَذَا تَتَصَارع هَذِهِ الْأَصْوَاتُ وَ تَتَنَافَس عَلَى السَّيْطَرَةَ عَلَى الْمَشْهَدِ الْأَخْلَاقِيّ الْمُعَاصِر، شَأْنِهَا فِي ذَلِكَ شَأْنُ الْآلِهَة وَ الْأبْطَال فِي عَالَمِ الْمَيثولُوجْيَا الْيُونَانِيَّة. عِلَاوَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ عَالِم الْأَخْلَاق الْمُعَاصِر يَتَمَيَّز أَيْضًا بِتَعَدُّدِ الْأَعْرَاف وَالطُّقُوس الْأَخْلَاقِيَّة، شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ شَأْنُ عَالَم الْمَيثولُوجْيَا الْيُونَانِيَّة. فَفِي الْمَاضِي كَانْتِ هُنَاك أَعْرَاف وَ طَقَوس أَخْلَاقِيَّة مُوَحَّدَة وَ مَتَجَانَسَة، سَوَاءٌ فِي إِطَارِ الدِّينِ أَوْ الْفَلْسَفَة. أَمَّا الْيَوْمَ، فَقَدْ أَصْبَحَ هُنَاك تَعَدُّدَ فِي الْمُمَارَسَات وَ الطُّقُوس الْأَخْلَاقِيَّة، تَبَعًا لِتَعَدُّد الرُؤَّى وَالتَّوَجُّهَات الْأَخْلَاقِيَّة. فَأَخَلَاقِيَّات الْمَصْلَحَةَ الْفَرْدِيَّة تَتَطَلَّب طُقُوْسًا وَمُمَارَسَات مُخْتَلِفَةٌ عَنْ أَخْلَاقِيَّات الْوَاجِبُ وَالِإلْتِزَام الْجَمَاعِيّ. وَبِذَلِكَ أَصْبَحَ عَالِم الْأَخْلَاق الْمُعَاصِر يُشْبِه إلَى حَدِّ كَبِيرٌ عَالِمٌ الْمَيثولُوجْيَا الْيُونَانِيَّة الْقَدِيمَةِ مَعَ تَعَدُّدِ الْأَعْرَاف وَالْمَمَارَسَات الْأَخْلَاقِيَّة. كَمَا أَنَّ عَالِمَ الْأَخْلَاق الْمُعَاصِر يَتَشَابَه مَعَ عَالَمِ الْمَيثولُوجْيَا الْيُونَانِيَّة فِي غِيَابِ السُّلْطَة الْأَخْلَاقِيَّة الْمُطْلَقَة وَ الْمُتَفَرِّدَة. فَفِي الْمَاضِي، كَانْ هُنَاكَ أَمَّا السُّلْطَةُ الدِّينِيَّةِ أَوْ الْفَلْسَفِيَّةِ الَّتِي تَتَمَتَّع بِسُلّْطَة أَخْلَاقِيَّة مُطْلَقَة وَشَامِلَة. أَمَّا الْيَوْمَ، فَقَدْ تَلَاشَتْ هَذِه السُّلُطَات الْأَخْلَاقِيَّة الْمُطْلَقَة وَحَلَّتْ مَحَلِّهَا سُلُطَات أَخْلَاقِيَّة مُتَعَدِّدَة وَ مُتَنَافِسَة، كُلُّ مِنْهَا يَسْعَى لِلَّهِيَمْنَة عَلَى الْمَشْهَدِ الْأَخْلَاقِيّ. وَ بِذَلِكَ أَصْبَحَ عَالِم الْأَخْلَاق الْمُعَاصِر شَبِيهًا بِعَالِم الْمَيثولُوجْيَا الْيُونَانِيَّة الْقَدِيمَة الَّذِي كَانَ يَفْتَقِرُ إلَى سُلّْطَة أَخْلَاقِيَّة مُطْلَقَة وَمُوَحَّدَة. وَبِشَكْل عَامٍّ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ عَالِمَ الْأَخْلَاق الْمُعَاصِر يَتَقَاطَع مَعَ عَالَمِ الْمَيثولُوجْيَا الْيُونَانِيَّة الْقَدِيمَةِ فِي عِدَّةِ أَوْجُهٍ: تَفْكِيك النَّظْم الْأَخْلَاقِيَّة الْكُبْرَى، وَتَعَدَّد الْأَصْوَات الْأَخْلَاقِيَّة الْمُتَنَافِسَة وَتَعَدَّدَ الْأَعْرَاف وَالطُّقُوس الْأَخْلَاقِيَّة، وَ غِيَاب السُّلْطَة الْأَخْلَاقِيَّة الْمُطَلَّقَةُ. وَهَذِهِ الْتَقَاطُعَات تُشِيرُ إلَى حَالَةٍ مِنْ "أَخْلَقَة الْمَيثولُوجْيَا" أَوْ "ميثولُوجْيَة الْأَخْلَاقِ" الَّتِي تَطْبَعْ الْمَشْهَد الْأَخْلَاقِيّ الْمُعَاصِر .إِنَّ التَّطَوُّرَ الْهَائِلُ فِي الْعِلْمِ وَ التِّقْنِيَة الْحَدِيثَة قَدْ أَدَّى إلَى ظُهُورِ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْقَضَايَا وَ التَّحْدِيَات الْأَخْلَاقِيَّة وَالفَلْسَفِيَّة الْمُعَاصِرَة. هَذَا التَّقَدُّمِ الْعِلْمِيِّ لَمْ يُحَقِّقْ فَقَطْ الْكَثِيرِ مِنْ الْمَكَاسِبِ وَالْإِنْجَازَات لِلْبَشَرِيَّة، وَلَكِنْ أَيْضًا أثَار الْعَدِيدِ مِنَ الْمَخَاوِف وَالْمُشْكَلَات الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالتَّدَاعَيَات وَ الْأثَارُ النَّاجِمَةِ عَنِ تَطْبِيقُ هَذِهِ الْعُلُومِ وَ التِّقْنِيَّات. مِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ، بَرَزَتْ الْحَاجَةِ إلَى إيجَادِ صِلَة وَثِيقَةٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاق، وَظَهَرَ مَا يُعْرَفُ بِـ "الْبَيوأخْلَاق" أَوْ "الْبُيُوتِيقا"، وَهِيَ إحْدَى الحُقُول الْمَعْرِفِيَّة الْجَدِيدَةِ الَّتِي تُمَثِّلُ نُقْطَة تُقَاطِع بَيْن الْفَلْسَفَة وَالْعُلُوم الْحَيَاتِيَّة. فَالْبيوأَخْلَاق تُناقِشُ الْقَضَايَا وَ الْإِشْكَالَيْات الْأَخْلَاقِيَّة الْمُتَعَلِّقَة بِالتَّطْبِيقَات الْعِلْمِيَّةِ فِي مَجَالَاتِ الطِّبّ وَالْإِحْيَاء وَالْهَنْدَسَة الْوِرَاثِيَّة وَغَيْرِهَا. وَتَسْعَى إِلَى وَضْعِ ضَوَابِط أَخْلَاقِيَّة لِلْمُمَارَسَات الْعِلْمِيَّةِ بِمَا يَضْمَنُ إحْتِرَامَ كَرَامَةِ الإِنْسَانِ وَحُقُوقِهِ. كَمَا أَنَّ هُنَاكَ إهْتِمَامًا مُتَنَامِيَا بِالْبُعْدِ الْأَخْلَاقِيّ لِلْعِلْم وَ التِّكْنُولُوجْيَا فِي الْخِطَابِ الْفَلْسَفِيّ الْمُعَاصِرِ. فَقَدْ ظَهَرَتْ مُقَارَبَات فَلْسَفِيَّة جَدِيدَة كـ "فَلْسَفَة الْعِلْمِ" وَ"فَلْسَفَة التِّقْنِيَّة" الَّتِي تَسْعَى إِلَى دِرَاسَةِ الْعَلَاقَات الْمُعَقَّدَة بَيْنَ الْعِلْمِ وَ التِّكْنُولُوجْيَا مِنْ جِهَةِ، وَالْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ مِنْ جِهَةِ أُخْرَى فِي هَذَا السِّيَاقِ، نَجِدُ أَنَّ الْأَسَاطِيرَ وَ الْمِيثَولُوجِيَّات الْقَدِيمَةِ كَانَتْ تَعْكِس عَلَى نَحْوِ مَا هَذَا التَّقَاطُعُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاق. فَفِي الْأَسَاطِير الْيُونَانِيَّة مَثَلًا، نَجِدُ أَنَّ الْآلِهَةَ وَ الْأبْطَال الأُسْطُوَرِيَيْن كَانُوا يُمَثِّلُونَ قِوَّى الطَّبِيعَة وَ الظَّوَاهِر الْكَوْنِيَّة، وَلَكِنْ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ كَانُوا يُجَسُّدون قَيِّمًا أَخْلَاقِيَّةٍ وَإِنْسَانِيَّةٍ مُعَيَّنَة. كَمَا أَنَّ الْأَسَاطِيرَ أَيْضًا كَانَتْ تُحَاوِلُ إيجَاد تَفْسِيرَات وَتَأْوِيلَات لِلظَّوَاهِر الطَّبِيعِيَّة وَالْكَوْنِيَّة الَّتِي لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ الْقَدِيمُ قَادِرًا عَلَى تَفْسِيرِهَا أَوْ إخْضَاعِهَا لِلدِّرَاسَةِ الْعِلْمِيَّة. فَالْأسَاطِير فِي هَذَا السِّيَاقِ كَانَتْ تَمَثَّل مُحَاوَلَات بِدَائِيَّة لِلْبَشَر لِفَهْم الْعَالِم الْمُحِيط بِهِمْ وَرَبْطِه بِالْجَوَانِب الْأَخْلَاقِيَّة وَالدِّينِيَّة. وَبِالتَّالِي، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْأَسَاطِيرَ الْقَدِيمَة كَانَتْ تُشَكِّلُ نَوْعًا مِنْ التَّقَاطُعِ بَيْن مُحَاوَلَاتِ الْبَشَرِ لِفَهْم الطَّبِيعَةِ وَالْكَوْنِ مِنْ جِهَةِ، وَبَيْن الْبُعْد الْأَخْلَاقِيّ وَالْقِيَمِيّ الْمُرْتَبِطُ بِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ مِنْ جِهَةِ أُخْرَى. وَهَذَا مَا يَجِدُ صَدَاهُ فِي الْحِوَارِ الْمُعَاصِر بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي إِطَارِ مَا تَطْرَحُهُ الْبَيوأخْلَاق وَفَلْسَفَةٍ الْعِلْم وَالتِّقْنِيَة. وَبِالرَّغْمِ مِنْ التَّبَايُنِ الشَّاسِعِ بَيْنَ الْأَسَالِيب وَالْأَدَوَات الْمَعْرِفِيَّة الَّتِي إسْتَخْدَمَهَا الْبَشَر عَبْرَ التَّارِيخِ لِفَهْمِ الْكَوْنِ وَ الطَّبِيعَةِ - بِدَايَةَ مَنْ الْأَسَاطِير وَالْمِيثَولُوجِيَّات الْقَدِيمَةِ وُصُولًا إِلَى الْعُلُومِ الْحَدِيثَةِ - إلَّا أَنْ هُنَاكَ خَيْطًا مُشْتَرَكًا يُرْبَط بَيْنَهَا وَ هُوَ السَّعْيُ الدَّائِم لِلْبَشَر لِرَبْط الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَالتِّقْنِيَة بِالْأبْعَاد الْأَخْلَاقِيَّة وَالْقِيمَيَّة. وَهَذَا مَا يَجْعَلُ مِنْ هَذَا التَّقَاطُعُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق مَوْضُوعًا مُثِيرًا لِلِإهْتِمَام وَالْبَحْثُ فِي السِّيَاقِ الْفِكْرِيّ الْمُعَاصِر.

_ نَحْوُ الْمَزِيدِ مِنْ التَّوَافُقِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق وَالْمَيثولُوجْيَا

قَدْ تَبْدُو الْأَسَاطِير وَالْعِلْم الْحَدِيث كَنَقْيضَيْن مُتَبَاعِدَيْن، فَالْأسَاطِير تَمَثَّلَ السَّرْدِيُّات وَالْخَيَالِ، بَيْنَمَا يَتَمَيَّز الْعِلْم بِالمَوْضُوعِيَّة وَالِإعْتِمَادُ عَلَى الْحَقَائِقِ التَّجْرِيبِيَّة. وَمَعَ ذَلِكَ، هُنَاكَ الْعَدِيدِ مِنَ أَوْجُه التَّوَافُق وَالتَّقَاطُع بَيْن الْأُسْطُورَة وَ الْعِلْم الْحَدِيث تَسْتَحِقّ الْبَحْث وَالتَّحْلِيل. أَوَّلًا، يُمْكِنُ النَّظَرُ إلَى الْأَسَاطِير عَلَى أَنَّهَا مُحَاوَلَات أَوَّلِيَّة لِفَهْمِ الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَ الْكَوْنِيَّة. فَالْأُسْطُورَة كَانَتْ بِمَثَابَةِ الشَّكْل الْأُولي لِلْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة، حَيْث حَاوَل الْإِنْسَان الْقَدِيمَ تَفْسِيرُ ظَوَاهِر الطَّبِيعَةِ وَ الْكَوْنِ مِنْ خِلَالِ الْقَصَص الْأُسْطُورِيَّة. وَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ التَّفْسِيرَاتِ كَانَتْ تَتَضَمَّنُ عَنَاصِر خَيَالِيَّة وَغَيْر عِلْمِيَّة، إلَّا أَنَّهَا كَانَتْ مُحَاوَلَات جَدَّية لِلْبَحْثِ عَنْ إِجَابَات وَمَعْرِفَة الْحَقِيقَة. ثَانِيًا، يُمَكَّنُ لِلْإِسَاطِير أنْ تَكُونَ مَصْدَرًا لِلْإِلْهَام وَ التُّحْفَيز لِلْعُلَمَاءِ وَالْبَاحِثِين. فَالْعَدِيد مِنْ النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ الْحَدِيثَة قَدْ إسْتَمدت بَعْضُ أَفْكَارُهَا الْأَسَاسِيَّةَ مِنَ الْمَوَاضِيعِ الْأُسْطُورِيَّة. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، نَظَرِيَّة الْأَوْتَارِ فِي الفِيزْيَاء الْحَدِيثَة تَشْتَرِكُ فِي بَعْضِ مَفَاهِيمِهَا مَع الْأَسَاطِير الْقَدِيمَةِ عَنْ الْوَحْدَةِ الْأَسَاسِيَّة لِلْكَوْن. كَمَا أَنَّ نَظَرِيَّة الْأَكْوَان الْمُتَعَدِّدَةِ فِي الفِيزْيَاء الْكَمِّيَّة تَتَدَاخَلُ مَعَ فِكْرة وُجُود عَوَالِم مُوَازِيَة فِي بَعْضِ الْأَسَاطِير. ثَالِثًا، هُنَاكَ بَعْضُ الْأَسَاطِير الْقَدِيمَةِ الَّتِي تَتَوَافَق إلَى حَدِّ كَبِيرٌ مَعَ الْحَقَائِقَ الْعِلْمِيَّةَ المُكْتَشَفَة حَدِيثًا. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، الْأَسَاطِير الْبَابِلِيَّة وَالسَّوْمِريَّة عَنْ الطُّوفَان الْعَالَمِيّ تَتَشَابَهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ تَفَاصِيلِهَا مَعَ الْأَدِلَّةِ الْجُيُولُوجِيَّة عَلَى حُدُوثِ كَوَارِث طَبِيعِيَّة هَائِلَةٍ فِي الْمَاضِي. وَأَسَاطِير الْخَلْقِ فِي الْعَدِيدِ مِنَ الثَّقَافَات الْقَدِيمَة تَتَضَمَّن مَفَاهِيم مُشَابَهَة لِنَظَريَّة التَّطَوُّرِ وَالْبَيْغ بِانْغ الْحَدِيثَةِ. رَابِعًا، الْأَسَاطِير لَيْسَتْ مُجَرَّدَ سَرْدِيات خَيَالِيَّة، بَلْ إنَّهَا تَعْكِس بَعْضِ الْحَقَائِقِ النَّفْسِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ عَنْ الْإِنْسَانِ وَالْمُجْتَمَعِ. فَالْرُمُوز وَ الشَّخْصُيَّات الْأُسْطُورِيَّة غَالِبًا مَا تَمَثَّلَ جَوَانِبَ مُخْتَلِفَةً مِنْ الطَّبِيعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالتَّجْرِبَة الْبَشَرِيَّة. لِذَا، يُمْكِن لِلْأسَاطِير إنْ تَكُونَ مَصْدَرًا مُفِيدًا لِلْبُحُوث فِي عِلْمِ النَّفْس وَالْأُنْثَروبولُوجْيَا وَ غَيْرِهَا مِنْ الْعُلُومِ الْإِنْسَانِيَّةِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ الِإخْتِلَافَاتِ الظَّاهِرِيَّة بَيْن الْأُسْطُورَة وَالْعِلْمِ، إلَّا أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي بَعْضِ الْمَجَالَاتِ وَالْأهْدَاف. فَالْإِسَاطِير كَانَتْ بِمَثَابَةِ مُحَاوَلَات أَوَّلِيَّة لِلْبَحْث وَالِإكْتِشَاف، كَمَا أَنَّهَا تَعْكِس جَوَانِب مُهِمَّةً مِنْ التَّجْرِبَةِ وَ الْمَعْرِفَة الْإِنْسَانِيَّة. وَ بِالتَّالِي، فَإِنَّ دِرَاسَة الْأَسَاطِير وَ تَحْلِيلُهَا يُمْكِنُ أَنْ يُثْرِي فَهِمْنَا لِلْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ الْبَشَرِيَّة بِشَكْلٍ عَامٍّ. فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ التَّوَافُقِ بَيْنَ الْأَخْلَاق الْمُعَاصِرَة وَ الْمِيثَولُوجْيَا فِي عَالَمِنَا الْمُعَاصِرِ، تَوَاجَه الْأَخْلَاق تَحَدِّيَات كَبِيرَة مُتَمَثِّلَةٍ فِي التَّغَيُّرَات السَّرِيعَة وَالْجَذْرُيَّة فِي مُخْتَلَفٍ مَجَالَاتِ الْحَيَاةِ. بِالرَّغْمِ مِنْ التَّقَدُّمِ الْعِلْمِيِّ وَالتِّكْنُولُوجِيّ الْهَائِلَ، إلَّا أَنْ الْكَثِيرِ مِنْ الْمَفَاهِيمِ الْأَخْلَاقِيَّة التَّقْلِيدِيَّة بَدَأَتْ تَوَاجِهُ أَزْمَةً مِنْ حَيْثُ قُدْرَتِهَا عَلَى تَقْدِيمِ إرْشَادَات أَخْلَاقِيَّة فَاعِلِة لِلسُّلُوك الْبَّشَرِي فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْحَدِيثَة. وَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، يَبْرُزُ دَوْرُ الْمَيثولُوجْيَا وَالرُؤَى الرُّوحِيَّة التَّقْلِيدِيَّة كَمَصْدَر مُهِمّ لِإِعَادَة قِرَاءَة وَتَفْسِير الْمَسَائِل الْأَخْلَاقِيَّة بِشَكْل مُتَجَدِّد وَ مُتَوَافِق مَعَ حَاجَات الْإِنْسَان الْمُعَاصِر. أَوَّلًا، تُعَانِي الْأَخْلَاق الْمُعَاصِرَةِ مِنْ تَنَامي الْأَنَانِيَة الْفَرْدِيَّة وَالتَّرْكِيز الْمُفْرِط عَلَى الْمَصَالِحِ الشَّخْصِيَّة عَلَى حِسَابِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ. فَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة التَّقْلِيدِيَّة كَالتَّضْحِيَة مِنْ أَجْلِ الْآخَر وَالْإِيثَار وَ الْوَلَاء لِلْمُجْتَمَع بَدَأَتْ تَتَرَاجَع أمَام ثَقَافَة الِإسْتِهْلَاك وَالْمُنَافَسَة. وَ هُنَا تَبْرُزُ أَهَمِّيَّة الْمَيثولُوجْيَا وَ تَعَالَيمِهَا الرُّوحِيَّةِ فِي إعَادَةِ إحْيَاء مَفَاهِيم التَّكَافُلِ الِإجْتِمَاعِيِّ وَالتَّعَاضُد وَالْحِفَاظِ عَلَى الْبِيئَةِ مِنْ خِلَالِ تَصْوِير الْإِنْسَان كَجُزْء لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ الْكَوْنِ الْأَكْبَر. ثَانِيًا، تَوَاجَه الْأَخْلَاق الْمُعَاصِرَة تَحَدَّي التَّطَوُّرَات السَّرِيعَة وَ الْمُتَلَاحِقَة فِي الْعُلُومِ وَالتِّكْنُولُوجْيَا، وَاَلَّتِي أُفْرزَتْ قَضَايَا أَخْلَاقِيَّة جَدِيدَةٍ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً مِنْ قِبَلِ، كَالْهَنْدَسَة الْوِرَاثِيَّة وَأَخْلَاقِيَّات الذَّكَاء الِإصْطِنَاعِيّ وَغَيْرِهَا. فِي هَذَا السِّيَاقِ، تَقَدَّم الْمَيثولوجيات وَالتَّصَوُّرَات الرُّوحِيَّة رُؤَى شَامِلَة وَمُتَكَامِلَة لِلْكَوْن وَالْإِنْسَان قَدْ تُسَاعِدُ فِي إيجَادِ مَرْجِعِيَّات أَخْلَاقِيَّة جَدِيدَة لِمُعَالَجَةِ هَذِهِ التَّحَدِّيَات. فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، تَصَوُّر بَعْض الْمَيثولوجيات الشَّرْقِيَّةِ الْإِنْسَان كَجُزْءٍ مِنْ دُورة حَيَاة كَوْنِيَّة مُسْتَمِرَّة، مِمَّا قَدْ يُسَاهِمُ فِي مُعَالَجَةِ قَضَايَا كَالتَّعَامُل مَعَ الْمَوْتِ وَالْوِلَادَة وَالتَّطَوُّر الْبَشَرِيِّ مِنْ مَنْظُورٍ أَخْلَاقِيّ شَامِل. ثَالِثًا، تَوَاجَه الْأَخْلَاق الْمُعَاصِرَة تَحَدِّيَات مُتَعَلِّقَة بِعَوَّلَمَة الْقَيِّمُ وَتَنَوُّع الْمَرْجِعِيَّات الثَّقَافِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ. فَفِي عَالِم مُتَشَابِك وَمُتَرَابِط، لَمْ تَعُدْ الْأَخْلَاق مَحْصُورَةٌ فِي إِطَارِ ثَقَافِيّ أَوْ دَيْنِي وَاحِدٍ، مِمَّا يَسْتَدْعِي الْبَحْثِ عَنْ مَرْجِعِيَّات أَخْلَاقِيَّة أَكْثَر شُمُولِيَّة وَعَالَمِيَّة. وَهُنَا تَأْتِي أَهَمِّيَّة الْمَيثولُوجْيَا كَمَنْظور شَامِلٌ لِلْكَوْن وَالْإِنْسَانُ قَدْ يُسَاعِدُ فِي إيجَادِ أَرْضِيَّة مُشْتَرَكَة لِلْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة عَبَّر الثَّقَافَات وَالْحَضَارَات. فَالْعَدِيد مِنْ الْمَيثولوجيات تَتَضَمَّنُ مَبَادِئَ أَخْلَاقِيَّةٍ عَالَمِيَّة كَالْعَدْل وَ التَّعَاوُن وَالْإِحْسَان لِلْاخَرِين. رَابِعًا، تُعَانِي الْأَخْلَاق الْمُعَاصِرَةِ مِنْ أَزْمَةِ فِي مَصَادِرِ الشَّرْعِيَّة وَالسُّلْطَة الْأَخْلَاقِيَّة. فَمَع تَرَاجُع نُفُوذ الْمُؤَسَّسَات الدِّينِيَّة التَّقْلِيدِيَّة وَتَحَوَّل الْمُجْتَمَعَات نَحْو الْعِلْمَانِيَّة، بَاتَ مِنْ الضَّرُورِيِّ الْبَحْثُ عَنْ مَصَادِرَ جَدِيدَة لِلسُّلطَة الْأَخْلَاقِيَّة. وَهُنَا تَكْتَسِب الْمَيثولُوجْيَا أَهَمِّيَّةُ كَمَصْدَر رُوحِي وَفِكْرِي قَدْ يُسَاعِدُ فِي إعَادَةِ بِنَاء السُّلْطَة الْأَخْلَاقِيَّة عَلَى أُسُسٍ مُتَجَدِّدَة. فَالتَّصَوُّرَات الْمَيثولُوجِيَّة لِلْقِوَّى الْكَوْنِيَّة الْمُقَدَّسَة وَالْأبْعَاد الرُّوحِيَّة لِلْكَوْن قَدْ تَزَوَّد الْأَخْلَاق بِشَرْعِيَّة جَدِيدَة مُسْتَمَدَّةً مِنْ مَصَادِرِ أَعْمَقُ مِنَ مُجَرَّد الْوَاقِع الْمَادِّيّ وَ الِإجْتِمَاعِيّ. فِي الْخِتَامِ، يَبْدُو أَنَّ هُنَاكَ إِمْكَانَات كَبِيرَةً لِبِنَاءِ تَوَافَقَ بَيْنَ الْأَخْلَاق الْمُعَاصِرَة وَالْمِيثولُوجْيَا، يُسَاعِدَ فِي مُعَالَجَةِ التَّحَدِّيَات الَّتِي تُوَاجِهُ الْأَخْلَاقِ فِي عَصْرِنَا الْحَالِيّ. فَالتَّفَاعُل وَالتَّكَامُل بَيْن الْمَنْظُورات الْأَخْلَاقِيَّة العَقْلَانِيَّة وَ الرُؤَى الرُّوحِيَّة الْميثولُوجِيَّة قَدْ يُسْهِمُ فِي إعَادَةِ بِنَاء الْأَخْلَاقِ عَلَى أُسُسٍ أَكْثَر شُمُولِيَّة وَقُدْرَةٌ عَلَى التَجَاوُب مَع حَاجَات الْإِنْسَانِ الْمُعَاصِرِ. وَهَذَا يَتَطَلَّب مَزِيدًا مِنَ الْحِواَرِ وَالتَّفَاهُم بَيْن الْفَلْسَفَة وَالْعَقِيدَة، بَعِيدًا عَنْ أَيِّ تَعَصُّبٍ أَوْ تَطْرِفُ. إذَنْ يَتَّضِحُ أَنَّ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَسَاطِير (الْمَيثولُوجْيَا) وَ الْأَخْلَاقِ هِيَ مَوْضُوعُ طَوِيل النَّقَّاش وَالتَّحْلِيل عَبْرَ التَّارِيخِ الْفِكْرِيّ لِلْبَشَرِيَّة. فَلَقَدْ كَانَ هُنَاكَ نِزَاعٌ طَوِيلٌ بَيْنَ الْأَسَاطِير وَ الْعِلْم، حَيْثُ رَفَضَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمُفَكِّرِين الْمُحَدِّثِين الْأَسَاطِير بِسَبَب تَفْسِيرِهَا غَيْرُ الْعِلْمِيّ لِلْعَالِمِ. فِي الْمُقَابِلِ، حَاوَلَ الْبَعْضُ الْآخَرُ إعَادَة تَفْسِير الْأَسَاطِير بِطَرِيقَة مَجَازِيَّة وَتَحْلِيلُيَّة، كَمَا فَعَلَ الرُّوَاقِيون فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ. وَ مَعَ ذَلِكَ، هُنَاكَ مُحَاوَلَات مُتَعَدِّدَة لِلتَّوْفِيقِ بَيْن الْعِلْم وَالْمِيثَولُوجْيَا، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الِإسْتِفَادَةِ مِنَ مَكَامِن الْقُوَّةِ فِي كِلَا النِّظَامَيْن الْمَعْرِفَيَّيْن. فَفِي حِينِ يُقَدِّمُ الْعِلْمَ مَعْرِفَةُ دَقِيقَة وَمَوْضُوعِيَّة عَنْ الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ، تُسَاهِم الْأَسَاطِير فِي صِيَاغَةِ الْمَعْنَى وَالنَّظْرَة الشُّمُولِيَّة لِلْحَيَاة وَ الْكَوْن. وَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، يُمْكِنُ أَنْ تُسَاعِدَ الْأَسَاطِير فِي تَقْدِيمِ تَفْسِيرَات لِلظَّوَاهِر الْعِلْمِيَّة الْمَجْهُولَةِ أَوْ الْغَامِضَةِ، أَوْ فِي إِضْفَاء الْمَعْنَى وَالْقِيمَة الْأَخْلَاقِيَّة عَلَى الِإكْتِشَافَات الْعِلْمِيَّة. وَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، ظَهَرَتْ مُحَاوَلَات لِتَوْحِيد هذِهِ الْمَجَالاَتِ الثَّلَاثَة -الْعِلْم وَالْمِيثَولُوجْيَا وَالْأَخْلَاقِ- فِي إِطَارِ مُتَكَامِل. فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، ظَهَرَتْ نَظَرِيَّة "الْخَلْق الْعِلْمِيّ" كَمُحْاوَّلة لِرَبْطِ الرِّوَايَة الْأُسْطُورِيَّة لِلْخَلْقِ فِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ مَع النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ الْحَدِيثَة، مِثْل نَظَرِيَّةُ التَّطَوُّرِ. كَمَا ظَهَرَتْ إتِّجَاهَات فَكَرْيَّةُ تُحَاوِل تَأْسِيس عَلَاقَة جَدَلِيَّةٍ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاق وَالْمِيثَولُوجْيَا، بِحَيْثُ يَسْتَفِيدُ كُلُّ مِنْهَا مِنْ الْآخَرِ فِي تَقْدِيمِ رُؤْيَة شُمُولِيَّة لِلْعَالِم وَالْوُجُود. فِي النِّهَايَةِ، يَبْدُو أَنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَجَالَاتِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ بِاﻷمَرّ السَّهْل، نَظَرًا لِلْفُرُوقَات الجِذْرِيَّة فِي المَنَاهِجِ وَ الِإفْتِرَاضِات الْأَسَاسِيَّةِ لِكُلٍّ مِنْهَا. وَمَعَ ذَلِكَ، هُنَاكَ قِيمَةَ كَبِيرَةً فِي مُحَاوَلَةٍ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، بِهَدَف تَقْدِيم رُؤْيَة مُتَكَامِلَة لِلْوَاقِع الْإِنْسَانِيّ وَالطَّبِيعِيّ، وَ تَجَنُّب التَّطَرُّف أَوْ التَّعَصُّبِ فِي أَيِّ إتِّجَاهٍ. فَالتَّوَازِن وَ التَّكَامُلُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَجَالَاتِ الْمَعْرِفِيَّة الْمُخْتَلِفَةِ قَدْ يَكُونُ سَبِيلًا لِفَهْم أَعْمَق وَأَشْمَل لِطَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ وَالْكَوْنِ.

_ إعَادَةُ إنْتَاج الْأُسْطُورَة فِي عَصْرِ التَّكْنُولُوجْيَا

الْمَوْضُوعُ الْحَيَوِيّ الَّذِي تُثِيرُهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ كَيْفِيَّةٌ إعَادَة إنْتَاج الْأُسْطُورَة فِي عَصْرِ التَّكْنُولُوجْيَا. هَذِه ظَاهِرُه مَلْحُوظَةً فِي الْعَدِيدِ مِنَ الْمَجَالَاتِ، حَيْث تَلْجَأ الْبَشَرِيَّةَ إِلَى تَوْظِيف التِّكْنُولُوجْيَا لِإِعَادَة تَخَيَّل وَ إعَادَة إنْتَاج الْأَسَاطِير الْقَدِيمَة، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْأُسْطُورَة هِيَ عَلَاقَةٌ تَارِيخِيَّة وَثِيقَةً. فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ، كَانَتْ الْأَسَاطِير الشَّعْبِيَّة تُفَسَّر الْوُجُود وَالْعَالِم، وَتَحْكِي عَنْ قِوَّى خُرَافِيَّة مُتَعَدِّدَة تُدِير الطَّبِيعَةِ وَالْكَوْنِ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَسَاطِير تُشْكِل جُزْءًا مَهْمَا مِنْ الثَّقَافَة وَالتُّرَاث الشَّعْبِيّ لِلْمُجْتَمَعَات الْقَدِيمَة. وَ مَعَ تَطَوُّرِ الْعُصُور وَظُهُور الْعِلْم وَالتِّكْنُولُوجْيَا الْحَدِيثَة، بَدَأ الْبَعْض بِالِإعْتِقَادِ أَنْ عَصْر الْأَسَاطِير قَدْ إنْتَهَى. فَمَع إنْتِشَار الثَّقَافَة الْعِلْمِيَّة وَسِيَادَة الْوَاقِعِيَّة، بَدَأ أَنَّ الْخُرَافَاتِ وَالْأَسَاطِيرِ الْقَدِيمَةِ لَنْ تَعُود لِتَؤَثر فِي حَيَاةِ الْبَشَرِ مَرَّةً أُخْرَى. إلَّا أَنْ هَذَا الِإعْتِقَادِ لَمْ يَكُنْ دَقِيقًا. فَفِي الْوَاقِعِ، نُلَاحِظُ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُعَاصِر لَا يَزَالُ يَتُوقُ إلَى الْأُسْطُورَة، وَيَبْحَثُ عَنْ طُرُقِ لِإِعَادَة إنْتَاجِهَا وَتَوْظِيفِهَا فِي حَيَاتِهِ. وَبَرَزَتْ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ بِشَكْل وَاضِحٌ فِي عَصْرِ التَّكْنُولُوجْيَا الرَّقْمِيَّة وَالْوَسَائِط الْمُتَعَدِّدَة. فَالْأَجِيال الْحَدِيثَةِ بَاتَتْ تَعِيشُ حَالَةَ مَنْ التَأرْجَح بَيْنَ الْوَاقِعِ وَالْخَيَال، حَيْث تَسْعَى إِلَى إِعَادَةِ بِنَاء أَسَاطِيرُهَا الْخَاصَّةِ مِنْ خِلَالِ السِّينَمَا وَمَوَاقِع الْأَفْلَام وَالرِّوَايَات. وَ أَصْبَحَتْ التِّقْنِيَّات الرَّقْمِيَّة وَالتِّكْنُولُوجْيَا الْحَدِيثَة أَدَوَات قَوِيَّةٌ فِي يَدِ الْإِنْسَانِ لِإِعَادَة تَخَيَّل الْأَسَاطِير الْقَدِيمَة وَتَجْسِيدًهَا بِطُرُقٍ جُذَابَة وَ مُبْتَكَرَة. هَذِهِ الظَّاهِرَةِ تَنْبُعُ مِنْ حَاجَةٍ الْإِنْسَانُ إلَى فَهْمِ التَّقَلُّبِات الْمُرْعِبِة فِي الطَّبِيعَةِ وَالْعَالِمُ مَنْ حَوْلَهُ. فَالْأُسْطُورَة كَانَتْ تَمَثَّل مُحَاوَلَة لِتَفْسِير هَذِهِ التَّغَيُّرَاتُ وَ إِرْجَاعِهَا إلَى قِوَّى خُرَافِيَّة. وَ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ، تَحَوَّلَتْ هَذِهِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَحْثِ عَنْ طُرُقِ جَدِيدَة لِإِعَادَة إنْتَاج هَذِه الْأَسَاطِير بِإسْتِخْدَام التِّكْنُولُوجْيَا. وَبِالْفِعْلِ، نَجِدُ أَنَّ الْأَسَاطِيرَ الشَّعْبِيَّة الْقَدِيمَة أَصْبَحْت تُلْهِمْ السِّينَمَا وَالْفَنِّ وَالْأَدَبِ الْمُعَاصِر حَيْثُ يَتِمُّ تَوْظِيف تِقْنِيَات الْوَسَائِط الْمُتَعَدِّدَة لِإِعَادَة تَخَيُّلِ هَذِهِ الْأَسَاطِير بِطُرُق جَدِيدَة وَمُبْتَكَرَة. فَالشَّخْصُيَّات وَ الْقَصَصِ الْأُسْطُورِيَّة الْقَدِيمَة بَاتَتْ تَجِدُ لَهَا مَكَانًا فِي الْإبْدَاعات الْفَنِّيَّةِ وَالْأَدَبِيَّة الْحَدِيثَة، وَاَلَّتِي تَتَفَاعَل مَعَ هَذِهِ الرُّمُوزِ الْأُسْطُورِيَّة بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَ مَنْ هُنَا، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْأُسْطُورَة لَمْ تُقْبَرْ فِي عَصْرِ التَّكْنُولُوجْيَا، بَلْ عَلَى الْعَكْسِ، أَصْبَحْت هُنَاك مُحَاوَلَات مُتَزَايِدَة لِإِعَادَة إنْتَاجِهَا وَإسْتِثْمَارَهَا فِي سِيَاقَات جَدِيدَة. فَالْتِكْنُولُوجْيَا الْحَدِيثَةِ وَثَقَافَة الْوَسَائِط الْمُتَعَدِّدَة أَصْبَحْت أَدَوَات قَوِيَّةٌ فِي يَدِ الْإِنْسَانِ الْمُعَاصِرِ لِإِحْيَاء الْأَسَاطِير الْقَدِيمَة وَالتَّفَاعُلِ مَعَهَا بِطُرُق مُبْتَكَرَة. وَهَذَا الِإتِّجَاهُ يَطْرَح تَسَاؤُلَات مُهِمَّةٌ عَنْ مُسْتَقْبَل الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْأُسْطُورَة فِي عَصْرِ التَّكْنُولُوجْيَا. فَهَلْ سَتُؤَدِّي هَذِهِ الظَّاهِرَةِ إلَى خَلْقِ أَسَاطِير جَدِيدَة تَتَلَاءَمُ مَعَ السِّيَاقَات الْمُعَاصِرَة ؟ وَمَا هِيَ التَّأْثِيرَات الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى هَذِهِ الْمُمَارَسَات الْإِبْدَاعِيَّة ؟ هَذِهِ أَسْئِلَةٌ مُهِمَّة تَسْتَحِقّ الْمَزِيدَ مِنْ الْبَحْثِ وَالتَّحْلِيلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَ مِمَّا سَبَقَ، يَتَّضِحُ أَنَّ إعَادَةَ إنْتَاج الْأُسْطُورَة فِي عَصْرِ التَّكْنُولُوجْيَا هِيَ ظَاهِرَةٌ مَلْحُوظَة وَمُهِمَّة، تَعْكِس الْحَاجَة الْمُسْتَمِرَّة لِلْإِنْسَانِ إِلَى الْخَيَالِ وَالرَّمْزِيَّة فِي مُوَاجَهَةِ تَحَدِّيَاتُ الْعَصْرِ. وَالتِّكْنُولُوجْيَا الْحَدِيثَة قَدْ أَصْبَحْتَ وَسِيلَة قَوِيَّةٌ فِي يَدِ الْبَشَر لِتِجَسيد هَذِهِ الْحَاجَةِ وَتَوْظِيف الْأَسَاطِيرُ الْقَدِيمَةِ فِي سِيَاقَات جَدِيدَةٍ. وَ هَذَا الِإتِّجَاهُ يَطْرَح تَسَاؤُلَات هَامَةٌ عَنْ مُسْتَقْبَلٍ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْأُسْطُورَة فِي ظِلِّ تَطَوُّر التِّكْنُولُوجْيَا.

_ أَسْطَرَّة الْعِلْم وَ عَلْمَّنَة الْأُسْطُورَة

الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْأُسْطُورَة وَالْعِلْم هِيَ مَوْضُوعُ بَالِغ التَّعْقِيد وَ الشَّائِك، حَيْثُ كَانَ هُنَاكَ نَوْعُ مِنْ التَّنَافُرِ وَالصِّرَاع بَيْنَ النَّظِرَةِ الْأُسْطُورِيَّة وَالنَّظْرَة الْعِلْمِيَّة لِلْكَوْن وَالْإِنْسَان، إلَّا أَنْ هَذَا الصِّرَاع لَمْ يَكُنْ مُطْلَقًا أَوْ حَاسِمًا، بَلْ إنْ هُنَاكَ رَوَابِط وَعَلَاقَات مَعْقدَة بَيْن الْأُسْطُورَة وَالْعِلْم. يُلَاحَظُ أَنَّ الْعِلْمَ فِي الْعُصُورِ الْحَدِيثَةِ قَدْ إكْتَسَبَ أَبْعَادًا أَسْطُورِيِّة بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّاسِ، حَيْثُ أَصْبَحَ الْعِلْم يَنْظُرُ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِلْحَقِيقَةِ المُطْلَقَةِ وَالْمَعْرِفَة الْيَقِينِيَّة. فَقَدْ شَاعَ الِإعْتِقَادِ بِأَنْ الْعِلْم بِمَقْدُورِه الْوُصُولِ إلَى الْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَة وَحَلَّ كُلٌّ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي تُوَاجِهُ الْإِنْسَانَ، وَإِنْ الْعُلَمَاءَ هُمْ أَصْحَابُ الْحَقِيقَة وَالسُّلْطَة الْمُطْلَقَةِ فِي مَجَالَاتِ مَعْرِفِيَّة مُحَدَّدَة. وَ بِذَلِكَ فَإِنَّ الْعِلْمَ قَدْ إكْتَسَبَ صِفَات أَسْطُورِيِّة فِي نَظَرِ النَّاسِ، فَأَصْبَح يَنْظُرُ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِلْقُوَّة وَالسُّلْطَة وَالْمَعْرِفَة الْمُطْلَقَةِ، وَإِنْ الْعُلَمَاءَ هُمْ حَمَلَةُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالسُّلْطَة. وَهَذَا أَدَّى إلَى نَوْعٍ مِنْ تَقْدِيس الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ، وَإنْتِشَار إعْتِقَاد بِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَقْدُورِه حَلَّ كُلُّ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي تُوَاجِهُ الْإِنْسَانَ وَالْمُجْتَمَع. وَ يَرَى الْبَعْضُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْطَرَّة لِلْعِلْمِ قَدْ أدَتْ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْخَلَلِ فِي عَلَاقَةِ الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ، حَيْثُ أَصْبَحَ الْعِلْم يَنْظُرُ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِلْحَقِيقَةِ المُطْلَقَةِ وَالسُّلْطَة الْمُطْلَقَةِ، وَإِنْ الْعُلَمَاءَ هُمْ حَمَلَةُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَالسُّلْطَة. وَهَذَا قَدْ أَدَّى إلَى نَوْعٍ مِنْ الِإنْفِصَالِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمُجْتَمَع، وَإِلَى نَوْعٌ مِنْ الْمُوَاجَهَةِ وَالصِّرَاع بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْإِيدَيُولُوجِيَّات وَالأَدْيَانُ وَالْقَيِّم الِاجْتِمَاعِيَّة. فِي الْمُقَابِلِ، فَإِنْ هُنَاكَ مُحَاوَلَات لِعَلْمَّنَة الْأُسْطُورَة، أَيْ إِخْضَاع الْأُسْطُورَة لِلْمَنْهَج الْعِلْمِيّ وَالتَّحْلِيل الْعَقْلَانِيّ. فَقَدْ ظَهَرَتْ مُحَاوَلَات لِتَفْسِير الْأَسَاطِير تَفْسِيرًا عِلْمِيًّا، وَرَبَطَهَا بِالظَّوَاهِر الطَّبِيعِيَّةِ وَ الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّة. وَ هُنَاكَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْأَسَاطِيرَ هِيَ مُحَاوَلَاتٌ قَدِيمَة لِتَفْسِير الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ، وَإِنَّ الْعِلْمَ هُوَ فِي الْوَاقِعِ إمْتِدَاد لِهَذِه المُحَاوَلَات، وَلَكِنْ بِأَسَالِيب عِلْمِيَّة أَكْثَر تَطَوُّرًا وَتَعْقِيدٌا. فَالْأسَاطِير كَانَتْ مُحَاوَلَات بِدَائِيَّة لِتَفْسِير الْكَوْنِ وَالْإِنْسَانِ، وَجَاء الْعِلْم لِيَكْمُل هَذِه المُحَاوَلَات وَ يُطْورِهَا. وَ بِذَلِكَ فَإِنَّ عَلْمَّنَة الْأُسْطُورَة تَعْنِي مُحَاوَلَة إِخْضَاع الْأَسَاطِير لِلتَّحْلِيل الْعِلْمِيّ وَالْعَقْلَانِيّ، وَرَبَطَهَا بِالظَّوَاهِر الطَّبِيعِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ، وَتَفْسِيرُهَا فِي ضَوْءِ الْمَعَارِف الْعِلْمِيَّة الْمُتَطَوِّرَة. وَهُنَاكَ مَنْ يَرَى أَنَّ هَذِهِ المُحَاوَلَات قَدْ أَثَّرَتْ فِي تَطَوُّرِ الْعِلْمِ نَفْسِهِ، حَيْثُ إنَّ بَعْضَ الْأَسَاطِير قَدْ أَسْهُمت فِي تَطْوِيرِ بَعْضِ الْمَفَاهِيمِ وَالنَّظَرِيَّات الْعِلْمِيَّة. وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنْ هُنَاكَ مِنْ يَرَى أَنَّ مُحَاوَلَات عَلْمَّنَة الْأُسْطُورَة قَدْ أدَتْ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْخَلَلِ فِي عَلَاقَةِ الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ، حَيْثُ أَصْبَحَ الْعِلْم يَنْظُرُ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِلْحَقِيقَةِ المُطْلَقَةِ وَ السُّلْطَة الْمُطْلَقَةِ، وَ إِنْ الْعُلَمَاءَ هُمْ حَمَلَةُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَالسُّلْطَة. وَهَذَا قَدْ أَدَّى إلَى نَوْعٍ مِنْ الِإنْفِصَالِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمُجْتَمَع، وَإِلَى نَوْعٌ مِنْ الْمُوَاجَهَةِ وَالصِّرَاع بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْإِيدَيُولُوجِيَّات وَالأَدْيَانُ وَ الْقَيِّم الِاجْتِمَاعِيَّة. فِي الْمُقَابِلِ، فَإِنْ هُنَاكَ مُحَاوَلَات لِعَلْمَّنَة الْأُسْطُورَة، أَيْ إِخْضَاع الْأُسْطُورَة لِلْمَنْهَج الْعِلْمِيّ وَالتَّحْلِيل الْعَقْلَانِيّ. فَقَدْ ظَهَرَتْ مُحَاوَلَات لِتَفْسِير الْأَسَاطِير تَفْسِيرًا عِلْمِيًّا، وَرَبَطَهَا بِالظَّوَاهِر الطَّبِيعِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّة. وَ هُنَاكَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْأَسَاطِيرَ هِيَ مُحَاوَلَاتٌ قَدِيمَة لِتَفْسِير الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ، وَإِنَّ الْعِلْمَ هُوَ فِي الْوَاقِعِ إمْتِدَاد لِهَذِه المُحَاوَلَات، وَلَكِنْ بِأَسَالِيب عِلْمِيَّة أَكْثَر تَطَوُّرًا وَ تَعْقِيدٌا. فَالْأسَاطِير كَانَتْ مُحَاوَلَات بِدَائِيَّة لِتَفْسِير الْكَوْنِ وَ الْإِنْسَانِ، وَجَاء الْعِلْم لِيَكْمُل هَذِه المُحَاوَلَات وَيُطْورِهَا. وَ بِذَلِكَ فَإِنَّ عَلْمَّنَة الْأُسْطُورَة تَعْنِي مُحَاوَلَة إِخْضَاع الْأَسَاطِير لِلتَّحْلِيل الْعِلْمِيّ وَالْعَقْلَانِيّ، وَرَبَطَهَا بِالظَّوَاهِر الطَّبِيعِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ، وَ تَفْسِيرُهَا فِي ضَوْءِ الْمَعَارِف الْعِلْمِيَّة الْمُتَطَوِّرَة. وَهُنَاكَ مَنْ يَرَى أَنَّ هَذِهِ المُحَاوَلَات قَدْ أَثَّرَتْ فِي تَطَوُّرِ الْعِلْمِ نَفْسِهِ، حَيْثُ إنَّ بَعْضَ الْأَسَاطِير قَدْ أَسْهُمت فِي تَطْوِيرِ بَعْضِ الْمَفَاهِيمِ وَ النَّظَرِيَّات الْعِلْمِيَّة.

_ الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْأُسْطُورَة

هَلْ الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق مُجَرَّد أَسَاطِير ؟ الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق لَيْسَا مُجَرَّد أَسَاطِير. هُمَا بِالْعَكْس رَكِيزَتَان أُسَاسيتان لِلْحَضَارَة الْبَشَرِيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ إخْتِزَالَهِمَا فِي مُجَرَّدِ خُرَافَات أَوْ قَصَص خُرَافِيَّة. الْعِلْمِ هُوَ الْمَعْرِفَةُ الْمُنَظَّمَة وَ الْمَوْثُوقَة عَنْ الْعَالِمِ الْمَادِّيِّ وَالطَّبِيعِيّ الَّتِي تَمَّ التَّوَصُّلَ إلَيْهَا مِنْ خِلَالِ الْمُلَاحَظَةِ وَ التَّجْرِبَةِ وَالِإسْتِدْلَال الْمَنْطِقِيّ. أَنَّه مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْمَبَادِئِ وَ النَّظَرِيَّات وَالْقَوَانِينِ الَّتِي تُفَسَّرُ الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَتَتَنبأ بِهَا بِشَكْل مَوْضُوعَيْ. وَقَدْ مَكَّنَ تَطَوُّر الْعِلْمُ الْإِنْسَانُ عَلَى مَدَى التَّارِيخِ مِنْ فَهْمِ الْكَوْن وَالسَّيْطَرَة عَلَيْه وَالِإرْتِقَاء بِحَيَاتِه. لِذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إعْتِبَارُهُ مُجَرَّد أُسْطُورَةٌ أَوْ خُرَافَة. أَمَّا الْأَخْلَاق فَهِي مَجْمُوعَةُ الْمَبَادِئِ وَالْقِيَمِ وَ الْمَعَايِير الَّتِي تَحْكُمُ سُلُوكَ الْإِنْسَانِ وَتُنَظِّم عَلَاقَاتِه مَعَ الْآخَرِينَ وَتَمَيَّز بَيْنَ الصَّوَابِ وَ الْخَطَأِ. وَهِيَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ أرَاء شَخْصِيَّة أَوْ تَقَالِيد عُرْفِيَّة، بَلْ هِيَ نِتَاجُ تَطَوُّر طَوِيل لِلْفِكْر الْإِنْسَانِيّ وَإنْعِكَاس لِطَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ كَكَائِن إجْتِمَاعِيّ وَعَاقِل. فَالْأَخْلَاق ضَرُورِيَّةٌ لِتَحْقِيق التَّعَايُش السّلَمِي وَتَمَاسَك الْمُجْتَمَعَات الْبَشَرِيَّة. وَلِذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إخْتِزَالَهَا فِي مُجَرَّدِ أَسَاطِير أَوْ خُرَافَات. بَلْ عَلَى الْعَكْسِ، فَإِنَّ الأَسَاطِيرَ وَالخُرَافَاتِ هِيَ نَوْعٌ مِنْ الْقَصَصِ وَالْحِكَايَاتِ التَّقْلِيدِيَّة الَّتِي تُحَاوِلُ تَفْسِيرِ أَصْلِ الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَ الْكَوْنِيَّة وَأُصُولُ الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ قَبْلَ ظُهُورِ الْعِلْم وَالْفِكْر الْعَقْلَانِيّ. وَكَانَتْ الْأَسَاطِير تَلْعَبُ دَوْرًا مُهِمًّا فِي حَيَاةِ الْبَشَرِ الْقُدَمَاء وَ ثَقَافَاتِهِمْ قَبْلَ تَطَوُّر الْعِلْمِ وَالْفَلْسَفَةِ. وَ مَعَ ذَلِكَ، لَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْأَخْلَاقُ هُمَا مُطْلَقَان أَوْ كَامِلَانِ. فَالْعِلْمُ لَا يَزَالُ فِي تَطَوُّرِ مُسْتَمِرّ وَتَخْضَع نَظَرِيَّاتِه وَقَوَانِينِه لِلتَّعْدِيل وَ التَّغْيِير بِظُهُور مَعَارِف جَدِيدَةٍ. كَمَا أَنَّ الْأَخْلَاقَ هِيَ نِتَاجُ تَفَاعُل مَعْقِد بَيْنَ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالتَّطَوُّر الثَّقَافِيّ وَ الِإجْتِمَاعِيّ، وَهِيَ مَوْضُوعُ جَدَل مُسْتَمِرٌّ بَيْنَ الْفَلَاسِفَةِ وَ الْمُفَكِّرِينَ. وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَنْفِي أَسَاسَهُمَا الْوَاقِعِيّ وَالضَّرُورِيّ لِلْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ. وَ بِالتَّالِي، فَالْعِلْم وَالْأَخْلَاق لَيْسَا مُجَرَّد أَسَاطِير أَوْ خُرَافَات، بَلْ هُمَا رَكَائِز أَسَاسِيَّة لِلْحَضَارَة الْإِنْسَانِيَّة وَ تَطَوُّرِهَا عَلَى مَدَارِ التَّارِيخِ. أَنَّهُمَا نِتَاج جُهُود عَقْلَانِيَّة وَفِكْرِيَّة طَوِيلَة لِفَهْم الْعَالِم وَالْحَيَاة وَالْعَلَاقَات الْإِنْسَانِيَّة بِشَكْل مَوْضُوعَيْ وَمُنَظِّم. وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُمَا لَيْسَا كَامِلَيْنِ أَوْ مُطْلَقَيْن، إلَّا أَنَّهُمَا يَظَلَّان ضَرُورِيَيْن لِتَقَدُّمِ الْإِنْسَانِ وَإزْدِهَارِه



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الْعِلْم وَالْأَخْلَاق: جُذُور الْمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة
- الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : تَجَاوُزَات الْأَيْدُيُولُوجِيَّا
- الْعِلْم وَالْأَخْلَاق فِي الْحِكْمَةِ الْغَنُوصِيَّة
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْحِكْمَةِ الْهَرْمُسِيَّة
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ مَبَاحِث الْآكْسِيُّولُوجْيَا
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ إشْكَالَيْات الْكُوسْمُّولُوجْيَا
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي سِيَاقِ الثَّيُولُوجْيَا
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ تَصَوُّرَات الِأنْطولُوجْيَا
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ مُقَارَبَات الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّةِ
- الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق سَطْوَة الْمَيِّتُافِيزِيقِيَا
- نَقْد فَلْسَفِيّ لِلْخِطَاب الْعِلْمِيّ و الْأَخْلَاقِيّ
- الْمَشْرُوع الْفَلْسَفِيّ الشَّامِل لِلْوُجُود الْإِنْسَانِي ...
- أَخْلَاقِيَّات الْعِلْمُ وَ عِلْمِيَّة الْأَخْلَاق
- حِوَارٌ مَعَ صَدِيقِي الشَّيْطَانُ الْأَكْبَرُ
- جَدَلِيَّة الِإنْتِمَاء و الِإنْتِسَاب
- جَدَلِيَّة التَّنْمِيط وَ التَّسْطِيح
- السُّؤَالُ عَنْ السُّؤَال
- إيلَون مَاسِك عَبْقَرِيّ أَمْ شَيْطَانِي


المزيد.....




- بكت بحرقة.. جيسي عبدو تنشر كواليس صفعة قاسية تلقتها في مسلسل ...
- روسيا للناتو.. قوات بأوكرانيا إعلان حرب
- ترحيل طبيبة لبنانية من أمريكا رغم حيازتها لتأشيرة والسبب: حض ...
- سيدة الموائد في رمضان.. هكذا تُصنع بقلاوة غازي عنتاب الشهيرة ...
- البنتاغون: الولايات المتحدة ستستخدم القوة المميتة الساحقة في ...
- مقتل طفل سوري استدرجه جاره إلى داخل منزله وذبحه بسكين في لبن ...
- مصر.. خلاف طالبات يتحول لكارثة داخل مدرسة لغات بالجيزة
- البيت الأبيض: نحن أقرب من السلام في أوكرانيا مما كان في أي و ...
- موقف وزير الداخلية الفرنسية إزاء الجزائر: -معازلة لليمين الم ...
- خبراء أمميون: الإجراءات الأميركية بحق طلاب مناهضين لإسرائيل ...


المزيد.....

- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الْعِلْم وَالْأَخْلَاق: رَمَزَيات الْمَيثولُوجْيَا