اسكندر أمبروز
الحوار المتمدن-العدد: 8284 - 2025 / 3 / 17 - 02:06
المحور:
الغاء عقوبة الاعدام
في كتابه الشهير Free Will يقول الكاتب سام هاريس أن الإرادة البشريّة مجرّد وهم, وأنها خاضعةٌ ل3 عوامل خارجة عن ارادة الفرد, الا وهي : الجينات والبيولوجيا, البيئة والظروف الماديّة, والمحيط الاجتماعي من جماعة بشريّة وثقافتها ومعاييرها. حيث أنه أعاد كل فعل يقوم به الفرد الى هذه الثلاث متغيّرات والتي تنسف وبشكل كامل فلسفيّاً وعمليّاً مسألة وجود الارادة البشريّة وتجعل من كل فعل نتيجة لتلك العوامل المذكورة. ولكن وعلى الرغم من شرحه وبشكل مفصّل لاحقاً ضمن الكتاب نفسه لعلاقة هذه الرؤية بالأخلاق وكيف يمكنها أن تُغيّر الجنس البشريّ للأفضل على جميع الاصعدة ما أن يتم اخذها في الحسبان ضمن أُطرٍ مختلفة في الحياة العمليّة كالقانون والجزاء على سبيل المثال لا الحصر, وكيف أن لهذه الرؤية تأثيراً كبيراً على فهمنا او تفهّمنا للمجرمين والتي ستدفعنا للتعامل معهم بشكل يصل بمفهوم العدل الانسانيّ الى مستويات لم تشهدها البشرية منذ وجودها والى اليوم, إلّا ان بعض الناقدين لهذه الفكرة (والتي اتبناها انا شخصيّاً) ظنّوا انهم سيستطيعون تفنيدها من خلال ربطها بالأخلاق وهو ما أودّ دحضه اليوم في هذا المقال.
فبحسب أهم ادعاء ضد نظريّة سام هاريس, والتي جاء بها العديد من المؤمنين بالمناسبة من رجال دين مسيحيين على سبيل المثال, فإن ادعاء سام هاريس بعدم وجود حريّة الاختيار والارادة لدى البشر يترتب عليه مسألة خطيرة, ألا وهي عدم قدرتنا على مسائلة البشر أخلاقيّاً. فكيف لنا ان نسائل أحدهم أو أن نحكم عليه وعلى فعله ان كان فاقداً لحريّة الارادة؟ وهنا نرى أوّل مشكلة في هذا الطرح...
حيث ان الناقد للنظرية يفترض ان من سيحكم على الفاعل اخلاقيّاً يمتلك حريّة الارادة للحكم ما ان كان الفعل اخلاقيّاً أم لا, وهو ما يتناقض مع المبدأ الأساسي للنظريّة وهو كون الجميع فاقدين لحريّة الخيار والإرادة, فاللذي سيحكم على الفعل هو أيضاً مسيّر بنائاً على المعطيات الثلاث التي ذكرناها في البداية, فبالتالي لا يمكن له أن يحكم وإنّما فقط أن يعكس أمراً ما...ولكن ما هو؟ وللإجابة دعونا نذهب سريعاً لنقطة أُخرى.
فمثلاً لو افترضنا السيناريو المعاكس, أي ان البشر يملكون حريّة الارادة كما يدّعي الناقد, فكيف له ان يحكم على افعال شخص ما إن كانت اخلاقيّة أم لا؟ ما هو المعيار؟ وما هي الطريقة؟ وطبعاً المعيار هو التقييم النهائي لنتيجة الفعل بنائاً على ما ترتّب عليها من ايجابيات وسلبيّات, فلو كانت النتيجة النهائيّة ايجابيّة اعتبر الفعل اخلاقيّاً, وإن كانت النتيجة النهائيّة سلبيّة وتسببت بأذى فالفعل غير أخلاقيّ. وطبعاً كنت قد ناقشت هذا الأمر في مقال سابق يكسر مسطرة الدين الاخلاقيّة التي يدعي اتباعه تقديمها لتقييم موضوعيّ للأمور وبيّنت فيه أنها لا تعدو عن كونها بوصلةٌ فاقدة المجال المغناطيسي, وأنها تخضع في النهاية الى التقدير والتقييم البشري النسبي وهو ما يمكنكم مطالعته هنا...
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=737314
ولكن لنعد ونُجب عن السؤال الأصليّ, فكما نرى ومن خلال السيناريو المغاير الذي يوفّر حريّة الارادة للبشر, فإن الحكم النهائي على اخلاقيّة الأفعال يأتِ من خلال تقييم النتائج وتأثيرها على الواقع ايجاباً أو سلباً ضمن ميزان بشريّ بحت, وهو ما يثبُتُ أيضاً مع اختلاف السيناريو! أي لو افترضنا ان البشر لا يملكون حريّة الارادة والخيار فإن القاسم المشترك بين السيناريوهين في مسألة التقييم الأخلاقي هو نتيجة الفعل والحكم عليها, وبهذا نجد أن الأخلاق وتقييم البشر أخلاقيّاً من خلال أفعالهم لا علاقة له بحريّة الارادة والخيار وهو ما يعكسه الحاكم على الفعل سوائاً امتلك حريّة الارادة أم لم يمتلكها. فهو سيقيّم نتيجة الفعل بنائاً على مدخلات ومعطيات مفروضة عليه بعوامل خارجة عن ارادته تدفعه للتقييم بشكل معيّن أو سيقيّم نتيجة الفعل بنائاً على حريّة ارادته, وهو ما يجعلنا نختصر رياضيّاً العامل المتغيّر في هذه المعادلة الا وهو امتلاك حريّة الارادة, التي لم تغيّر أيّ شيء في نتيجة المعادلة ألا وهي التقييم الأخلاقي لنتائج الفعل البشري.
ولتقريب الصورة أكثر اليكم هذا المثال الذي سنفترض به أن البشر وبحكم النظرة الفلسفيّة التي ادافع عنها الآن لا يملكون حريّة الارادة تماماً كالذكاء الصناعي, أي أنهم محكومون بالعوامل ال3 المذكورة أعلاه, وأن هذا الذكاء الصناعي كبرنامج شركة تيسلا الخاص بالسيارات ذاتيّة القيادة قام بدهس احدهم في الشارع, فبنائاً على نتيجة هذا الحدث, نجد أن احدهم تعرّض للأذى نتيجة الذكاء الصناعي المسيّر من قبل مبرمجه, فهل سنحكم على الذكاء الصناعي انه شرير مثلاً؟ لا وإنما سنتعامل معه بنائاً على الفعل الذي قام به, وقد يتم "عقابه" بصورة ما, كتحديد صلاحيّاته التي يمتلكها اثناء القيادة ووضع شروط اضافيّة عليه, أو اعادة برمجته من جديد وتسليمه لقيادة السيارة بعد التأكد من امكانيته لتفادي ذات الخطأ في المستقبل, أي بمعنى آخر "إعادة تأهيله" لمنعه من اقتراف ذات الفعل الغير أخلاقي, الا وهو دهس احدهم.
فنجد هنا وعلى الرغم من اختلاف المعايير مقارنةً بالبشر, فإن المبدأ بدا بصورة أبسط وأوضح, حيث ان الفعل بحد ذاته يمكن تقييمه بنائاً على نتيجته حتى وان كان الجاني فاقد تماماً للسلطة والسيادة والإرادة والحريّة في الاختيار. فالإنسان قادر على تقييم الأمور ونتائجها من عقاب في السجن أو جزاء ماليّ أو اجبار على اعادة التأهيل وهي ما تدخل في صلب مسألة انعدام الحريّة والإرادة, فكل هذه النتائج التي سيتمكن الانسان من حسابها لتقييم الأمور ستصب كعامل مؤثّر معاكس للعوامل الأوّليّة المؤثّرة الثلاث حتى وان كانت جميعها تدفعه لارتكاب جريمةٍ مشابهة, فالقوانين هي عامل من عوامل التأثير على الأفراد ومؤثّرة عليهم وبالتالي هي ضروريّة في عالم محكوم بالعوامل والمؤثّرات كعالمنا.
فبنائاً على ما سبق يمكننا رؤية نشأة القواعد الأخلاقية بشكل طبيعي كأفضل استراتيجية للتعاون وبناء المجتمعات حتى البدائية منها. حيث أن المجتمعات التي تفرض السلوك الأخلاقي من خلال القوانين المجرّدة عن حريّة الارادة للصالح العام وبدافع الأخلاق لا بدافع العقاب, تميل إلى أن تكون أكثر استقراراً ونجاحاً. وعليه تعمل التوقعات الأخلاقية كميزة تطورية, بغض النظر عن وجود الإرادة الحرة.
فهل يمكننا الحكم اخلاقيّاً على البشر حتى مع عدم وجود حريّة الإرادة؟ نعم, فالحكم على اخلاقيّة البشر يكون من خلال الحكم على تصرّفاتهم وأفعالهم والتي كما أوردنا تخضع لميزان النتائج البشري حتى إن اراد احدهم صبغتها بصبغة دينيّة سخيفة كالآلهة وغير ذلك كما ذكرت في المقال السابق الذكر, والحكم على الأفعال لا يشترط بأي شكل من الاشكال حريّة ارادة الجاني, فنحن نحكم بصيغة ما على نمرٍ فارّ من حديقة الحيوان إن قام بقتل طفل او انسان ما حتى مع علمنا التامّ بعدم امتلاك ذلك النمر لإرادة او حتّى عقل يقيّم الأمور على المستوى الانساني, ونقوم بحبسه من جديد وفي بعض الحالات الحاصلة فعلاً يتم قتل الحيوان كنوع من الانتقام, وهو ما يتناقض مع مبدأ سام هاريس القاضي بتحسين مبدأ العدل البشري.
فما تقتضيه هذه النظرة أو الفكرة التي اراها من أفضل المنتجات الفكريّة في التاريخ الانسانيّ, هو العدل المطلق, والفهم والتفهّم, ووضع الأمور في نصابها, من خلال تحويل ما تبقّى من مبادئ همجيّة في التعامل مع المجرمين من قتل وسجن ونسف للإنسانيّة, الى صورة أفضل متمثّلة بإعادة البرمجة والتأهيل تماماً كذكاء شركة تيسلا الصناعي.
#اسكندر_أمبروز (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟