|
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق: جُذُور الْمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8283 - 2025 / 3 / 16 - 18:57
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ نَّشْأَة الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : الْمُعْتَقَدَاتِ الرُّوحَانِيَّة وَالْمُمَارَسَات السِّحْرُيَّة الْقَدِيمَة
تُشِير الْبُحُوث وَالدِّرَاسَات التَّارِيخِيَّة إلَى أَنْ الْعِلْمُ الْحَدِيثَ قَدْ نَشَأَ وَتَطَوَّر مِنْ خِلَالِ تَحَوَّل تَدْرِيجِيّ مِنْ الرُّؤَى وَالْمُعْتَقَدَات الرُّوحَانِيَّة وَالسِّحْرُيَّة الْقَدِيمَةِ الَّتِي كَانَتْ سَائِدَةً فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ مُنْذُ الْعُصُور الْأُولَى. فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ، كَانَ الْإِنْسَانُ يُفَسِّر الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّة مِنْ خِلَالِ تَصَوُّرَات رُوحَانِيَّة وَأَسَاطِيرِيَّةِ تَنْطَلِقُ مِنَ فِكْرَة وُجُودِ قِوَّى خَفِيَّة وَآلِهَة أَوْ أَرْوَاح تَتَحَكَّمُ فِي هَذِهِ الظَّوَاهِرِ. وَكَانَ الْإِنْسَانُ يُحَاوِل التَّحَكُّمِ فِي هَذِهِ الْقِوَّى مِنْ خِلَالِ طُقُوس سِحْرِيَّة وَ مُمَارَسَات رُوحَانِيَّة مُخْتَلِفَة. وَ لَكِنْ مَعَ تَطَوُّرِ الْمَعْرِفَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَ الِإكْتِشَافَات الْعِلْمِيَّة التَّدْرِيجِيَّةِ، بَدَأَ الْإِنْسَانُ فِي التَّحَرُّرِ مِنْ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ الْأُسْطُورِيَّة وَالتَّوَجُّهِ نَحْوَ مُحَاوَلَةِ فَهْمِ الطَّبِيعَةِ وَالْكَوْنِ مِنْ خِلَالِ مُلَاحَظَة الظَّوَاهِر وَتَفْسِيرُهَا بِطُرُق مَنْطِقِيَّة وَعَقْلَانِيَّة. وَهَكَذَا بَدَأَ ظُهُورُ الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ التَّجْرِيبِيِّ الَّذِي يَقُومُ عَلَى الْمُلَاحَظَةِ وَالتَّجْرِبَةِ وَالِإسْتِقْرَاء لِلْوُصُولِ إلَى قَوَانِينَ وَقَوَاعِد عَامَّة. وَبِالتَّوْازي مَعَ تَطَوُّرِ الْعِلْمِ، بَدَأَ الْإِنْسَانُ فِي التَّفْكِيرِ بِشَكْلٍ أَكْثَرَ عَقْلَانِيَّةً فِي قَضَايَا الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ، بَدَلًا مِنْ الِإعْتِمَادِ عَلَى التَّفْسِيرَات السِّحْرِيَّة وَ الرُّوحَانِيَّة. وَتَطَوَّرَت الْفَلْسَفَة الْأَخْلَاقِيَّة مِنْ خِلَالِ مُحَاوَلَات تَأْسِيس مَنْظُومَة أَخْلَاقِيَّة عَقْلَانِيَّة قَائِمَةً عَلَى مَفَاهِيمِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضِيلَة. بِالْإِضَافَةِ إلَى نَشْأَة الْعِلْمِ، فَإِنْ الْأَخْلَاقِ وَ الْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَيْضًا لَهَا جُذُور فِي الْمُعْتَقَدَاتِ وَالتَّصَوُّرَات الرُّوحَانِيَّة وَالسِّحْرُيَّة الْقَدِيمَةِ. فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ، كَانَتْ الْأَخْلَاقُ وَالْقَيِّم مُرْتَبِطَة إرْتِبَاطًا وَثِيقًا بِالمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة وَ الرُّوحَانِيَّة، حَيْثُ كَانَتْ الْأَفْعَالُ الْأَخْلَاقِيَّة تَرْتَبِط بِالرِّضَا عَنْ الْآلِهَة وَالْقِوَّى الْخَفِيَّة، وَالِإبْتِعَادِ عَنِ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَغْضَبها. وَ كَانَ السِّحْرُ وَالطُّقُوس الدِّينِيَّة يَلْعَبُ دَوْرًا مُهِمًّا فِي تَنْظِيمِ السُّلُوكِ الْأَخْلَاقِيِّ لِلْأَفْرَاد وَالمُجْتَمَعَات. وَ لَكِنْ مَعَ تَطَوُّرِ الْفِكْرُ الْفَلْسَفِيُّ وَالْعِلْمِيّ، بَدَأَ الْإِنْسَانُ فِي التَّفْكِيرِ فِي الْأَخْلَاقِ بِشَكْلٍ أَكْثَرَ عَقْلَانِيَّةً وَمَوْضُوعِيَّة، بَعِيدًا عَنْ التَّفْسِيرَات الطَّقَسِّيَّة وَ الرُّوحَانِيَّة. وَ ظَهَرَتْ مَدَارِس فَلْسَفِيَّة مُخْتَلِفَة تُحَاوِل تَأْسِيس نَظَرِيَّات أَخْلَاقِيَّة قَائِمَةً عَلَى مَفَاهِيمِ الْعَقْل وَالْفَضِيلَة وَ الْعَدَالَة. وَ بِالرَّغْمِ مِنْ هَذَا التَّحَوُّلِ التَّدْرِيجِيّ، فَإِنَّ بَعْضَ الْمُعْتَقَدَات وَالْمَمَارَسَات الرُّوحَانِيَّة وَالسِّحْرُيَّة الْقَدِيمَةِ لَا تَزَالُ مَوْجُودَةٌ فِي ثَقَافَاتِ وَدِيَانَاتِ مُعَاصِرَة، وَتُؤَثِّر إلَى حَدِّ مَا عَلَى التَّصَوُّرَاتِ الْأَخْلَاقِيَّة لِلْأَفْرَاد وَالمُجْتَمَعَات. إذَنْ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْأَخْلَاق قَدْ نَشَأَ و تَطَوُّرَا مِنْ خِلَالِ تَحَوَّل تَدْرِيجِيّ مِنْ الْمُعْتَقَدَاتِ وَالتَّصَوُّرَات الرُّوحَانِيَّة وَالسِّحْرُيَّة الْقَدِيمَةِ إلَى مَنْظُومَات مَعْرِفِيَّة وَأَخْلَاقِيَّة أَكْثَرَ عَقْلَانِيَّةً وَمَوْضُوعِيَّة. وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ إنْكَار الْجُذُور التَّارِيخِيَّة لِهَذِه الْمَنْظُومَات فِي الْمَاضِي الْبَعِيد لِلْإِنْسَانِيَّة.
_ جُذُور الْمَفَاهِيم الْأَخْلَاقِيَّة وَالْعِلْمِيَّةِ فِي الْمُمَارَسَات الرُّوحَانِيَّة الْقَدِيمَة
أَنْ الْمَفَاهِيم الْأَخْلَاقِيَّة وَالْعَلَمِيَّة لَهَا جُذُور عَمِيقَة فِي الْمُمَارَسَات الرُّوحَانِيَّة الْقَدِيمَة عَبَّر مُخْتَلَف الْحَضَارَات وَ الثَّقَافَات. وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ الْبَارِزَةُ عَلَى ذَلِكَ الْفِكْرُ الْفَلْسَفِيُّ وَ الْأَخْلَاقِيّ فِي الْحَضَارَةِ الْيُونَانِيَّة الْقَدِيمَة. لَقَدْ سَاهِم الْفَلَاسِفَة الْيُونَانِيِّين الْقُدَمَاء، مِثْل سُقْرَاطَ وَأَفْلَاطُونَ وَأَرِسْطُو، فِي تَأْسِيسِ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ وَإرَساء قَوَاعِدِهِ الْأُولَى. فَقَدْ رَبَطَ سُقْرَاط الْفَضِيلَة بِالْمَعْرِفَة وَأَكَّد عَلَى أَنَّ الْفَضِيلَةَ هِيَ عِلْمٌ يُمْكِنُ تَعَلُّمُهُ وَتَدْرِيسَه. بَيْنَمَا رَكَز أَفْلَاطُون عَلَى الْبُعْدِ الْمَيتَافِيزِيقِيّ لِلْأَخْلَاق وَرَبَطَهَا بِالْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالْجَمَال المِثَالِيّ. أَمَّا أَرِسْطُو فَقَدْ طَوْر نَظَرِيَّة الْفَضَائِل الْأَخْلَاقِيَّة وَ الْعَقْلِيَّة وَرَبَطَهَا بِالسَّعَادَة وَالْكَمَال الْإِنْسَانِيّ. فِي الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، كَانَ هُنَاكَ إهْتِمَام كَبِير بِالْمَنْهَج التَّجْرِيبِيّ وَ الْمُلَاحَظَة الْعَمَلِيَّةِ فِي دِرَاسَةِ الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ. فَقَدْ قَامَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى بِإسْتِخْدَام الْمُلَاحَظَة وَ التَّجْرِيب لِتَصْنِيف الْمَوَادّ وَالظَّوَاهِر الطَّبِيعِيَّة. كَمَا سَاهِم الْمُفَكِّرُون الْمُسْلِمُونَ، مِثْلَ آبْنِ سِينَا وَآبْنِ رُشْدٍ، فِي تَطْوِيرِ مَفَاهِيم عِلْمِيَّة وَ فَلْسَفِيَّة أَثَّرَتْ عَلَى تَطَوُّرِ الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي أُورُوبَّا فِي مَا بَعْدَ. فِي الْهِنْدِ وَالصِّين الْقَدِيمَةِ، كَانَ هُنَاكَ إهْتِمَام بِالنِّظَام الْكَوْنِيّ وَالسَّبَبِيَّة وَالتَّجْرِيب فِي الْفِكْرِ الْبُوذِيّ وَالْكَوْنْفُوشْيُّوسِي. فَالْبُوذِيَّة تَنْظُرُ إلَى الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ مُكَمِّل لِمُعْتَقِدِاتِهِا الرُّوحِيَّةِ، بَيْنَمَا طَوْر الْفِكْر الْكَوْنِفوشيوسي آرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنِ الْعِلْمِ بِمُرُورِ الْوَقْتِ. يُعَدّ تَأْثِير التَّقَالِيد السِّحْرِيَّة و الرُّوحَانِيَّةَ عَلَى التَّطَوُّرِ الْعِلْمِيِّ جَلِيًّا فِي كُلِّ الْمَجَالَات. يَرَى الْبَاحِثُونَ أَنَّ مُعْظَمَ الِإبْتِكَارَات الْعِلْمِيَّة وَالتِّقْنِيَة قَبْلَ الْقَرْنِ 17 كَانَتْ مُحَقَّقَةَ مِنْ قِبَلِ الْمُجْتَمَعَاتِ الَّتِي تُنَظِّمُهَا التَّقَالِيد و الْمُمَارَسَات الْبَاطِنِيَّة. فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، يَرْجِعُ الْبَعْض الْفَضْلَ إلَى الرَّاهِبِ الْفَرَنْسِيسكاني رُوجَرْ بِيكُونِ Roger Bacon فِي إِضْفَاء الطَّابَع الرَّسْمِيّ عَلَى الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ. عَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذَا التَّارِيخِ الطَّوِيل لِلتَّفَاعُل بَيْنَ الْمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة وَ الْعُلُوم، إلَّا أَنْ الْعَصْرِ الْحَدِيثِ شَهِدَ بُرُوز أُطْرُوحَات عَنْ الصِّرَاع الْمَنْهَجِيّ وَ الْوَاقِعِيّ وَالسِّيَاسِيّ بَيْنَ الدَّيْنِ وَ الرُّوحَانِيَّات وَالْعِلْمُ. وَ فِي ظِلِّ الْأَزْمَة الْأَخْلَاقِيَّة الْمُعَاصِرَةِ الَّتِي يَشْهَدُهَا الْعَالَمُ، هُنَاك مُحَاوَلَات مُتَزَايِدَة لِإِعَادَة إكْتِشَاف وَتَأْصِيل الرَّوَابِطَ بَيْنَ التُّرَاث الرُّوحيّ وَالْأَخْلَاقِيّ وَبَيْن الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَالْمَمَارَسَات التِّقْنِيَّة. وَيَسْعَى هَذَا الِإتِّجَاهَ إِلَى إسْتِلْهَام الْحِكْمَة وَالْقَيِّمُ مَنْ الْمَصَادِر الرُّوحَانِيَّة الْقَدِيمَة لِمُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ الْأَخْلَاقِيَّة النَّاجِمَةِ عَنِ التَّطَوُّرِ الْعِلْمِيِّ وَ التِّقْنِيِّ الْمُتَسَارِع. وَ بِشَكْلٍ عَامٍّ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ التَّارِيخَ يَشْهَدَ عَلَى التَّفَاعُلِ الْحَيَوِيّ بَيْن الْإِبْعَاد الرُّوحَانِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّةِ وَ الْعِلْمِيَّةِ فِي مُخْتَلَفٍ الْحَضَارَات، وَإِنْ مُحَاوَلَات إِعَادَةَ إكْتِشَافِ هَذِهِ الرَّوَابِطَ قَدْ تُسْهِمُ فِي تَجَاوُزِ الْأَزْمَة الْأَخْلَاقِيَّة الْمُعَاصِرَة وَإِيجَاد سُبُل جَدِيدَة لِلْمَعْرِفَة وَالْمُمَارَسَة الْإِنْسَانِيَّة الْمُتَكَامِلَة.
_ الْفَرْقُ الْجَوْهَرِيّ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق وَالسِّحْر
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق وَالسِّحْر هِي مَفَاهِيم مُخْتَلِفَة تَحْمِل دَلَالَات مُتَبَايِنَة، وَلَهَا تَأْثِيرَات مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ. فَهُنَاك فُرُوق أَسَاسِيَّة بَيْنَهَا يَجِب إيضَاحُهَا. الْعِلْمُ هُوَ نِظَامٌ مِنْهُجي مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيق وَالتَّجْرِيب، يَسْتَهْدِف فَهُمْ الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّة وَإِيجَادِ تَفْسِيرَات لَهَا. الْعِلْمُ يَقُومُ عَلَى أُسُسٍ مَوْضُوعِيَّة وَمَنْطِقِيَّة، وَيَخْضَع لِمَبَادِئ التَّحَقُّق وَالتَّكْرَار. وَيَسْعَى الْعُلَمَاءِ مِنْ خِلَالِ الْبَحْثِ وَالدِّرَاسَةِ إلَى إكْتِشَافِ الْحَقَائِقِ وَالْقَوَانِينِ الَّتِي تَحْكُمُ الطَّبِيعَةِ وَالْكَوْنِ. وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ الْعِلْمَ يَتَمَيَّز بِالمَوْضُوعِيَّة وَالْحَيَاد وَالتَّجَرُّدُ مِنْ الْأَهْوَاءِ وَ الْأَفْكَار الْمُسَبَّقَة. الْأَخْلَاقِ هِيَ مَجْمُوعَةٌ الْقِيَمِ وَالْمَبَادِئِ السُّلُوكِيَّة الَّتِي تُحَدِّدُ مَا هُوَ صَوَابٌ وَمَا هُوَ خَطَأٌ، وَمَا هُوَ مَقْبُولٌ وَمَا هُوَ مَرْفُوض إجْتِمَاعِيًّا. وَتَتَشَكَّل الْأَخْلَاقِ مِنْ خِلَالِ التَّنْشِئَةِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالتَّرْبِيَة وَالدَّيْن. وَالْأَخْلَاق تَحُثُّ عَلَى الْقَيِّمِ النَّبِيلَة كَالصِّدْق وَالْأَمَانَة وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَتَنْهَى عَنْ السُّلُوكِيات السَّلْبِيَّةِ كَالْكَذِب وَالْخِيَانَة وَالظُّلْم. وَبِذَلِكَ فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ تَمَثَّل ضَابِطًا مِعْيَارِيَّا لِسُلُوك الْفَرْدِ فِي مُجْتَمَعِهِ. السِّحْرُ هُوَ مَجْمُوعَةُ مِنْ الْمُمَارَسَات وَالطُّقُوس الَّتِي تَسْتَهْدِفُ التَّأْثِيرِ عَلَى الْأَشْيَاءِ وَالْكَائِنَات وَالْأَحْدَاث بِطُرُق خَارِقَة لِلطَّبِيعَة. وَتَنْطَلِق هَذِه الْمُمَارَسَات مِنْ مُعْتَقَدَات وَ تَصَوُّرَات عَنْ وُجُودِ قِّوَى خَفِيَّة أَوْ عَوَالِم غَيْبِيَّة يُمْكِنْ إسْتِخْدَامُهَا لِلتَّحَكُّمِ فِي الْوَاقِعِ. وَ تُصَنِّف أعْمَالُ السِّحْر بِأَنَّهَا مُمَارَسَات مَشْبُوهَة وَغَيْر عِلْمِيَّة نَظَرًا لِغُمُوضِها وَ أَخْطَارهُا المُحْدِقَة عَلَى مَصَالِحِ النُّخْبَة، كَمَا أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ فِي الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ الْمُحْدَثَة و الْبَعِيدَة تَمَامًا عَنْ حَقِيقَةً الْجَوْهَر اللُّهَي الْمَفْقُود. فِي حِينِ أَنَّ الْعِلْمَ يَرْتَكِزُ عَلَى التَّجْرِيبِ وَالْمَوْضُوعِيَّة، وَالْأَخْلَاق تَسْتَنِدُ إلَى الْقَيِّمِ وَالْمَبَادِئ السُّلُوكِيَّة، يُعْتَبَرُ السِّحْر مُمَارَسَة رُوحَانِيَّة تَسْتَنِدُ إلَى الْخَوَارِق وَالْقِّوَى الْخَفِيَّة. فَالْعِلْم يَهْدِفُ إِلَى فَهْمِ الظَّوَاهِر وَالْوُصُولُ إلَى الْحَقَائِقِ، وَالْأَخْلَاق تُحَدِّد مَا هُوَ مَقْبُولٌ وَالسُّلُوك الْأَمْثَل، بَيْنَمَا السِّحْر يَسْعَى لِلتَّأْثِير عَلَى الْوَاقِعِ بِطُرُق خَارِقَة وَغَيْر طَبِيعِيَّة. وَعَلَيْهِ، فَإِنْ هُنَاكَ تَبَايُن وَاضِحٌ بَيْنَ هَذِهِ الْمَفَاهِيمِ الثَّلَاثَةِ مِنْ حَيْثُ الْأُسُس وَالْإِهْدَاف وَالنَّتَائِج الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا. فَالْعِلْم يُمَثِّل الْمَعْرِفَة الْمَوْضُوعِيَّة وَ الْمِنْهَجِيَّة حَسَبَ مُزَاعم العَقْلَانِيَّة الْغَرْبِيَّة، وَالْأَخْلَاقِ تُشْكِل ضَابِطًا سَلُوكيا لِلْفَرْدِ فِي الْمُجْتَمَعِ وَفْق التَّصَوُّرَات النَّمَطِيَّة لِلْأَدْيَان، بَيْنَمَا السَّحَرُ هُوَ مُمَارَسَة رُوحَانِيَّة تَتَجَاوَز القُدُرَات الْإِدْرَاكِيَّة و الْقَوَانِين الطَّبِيعِيَّة بِهَدَف التَّأْثِير و إعَادَة إنْتَاج النِّظَام و الفَوْضَى و يُتَعَبر السِّحْرُ بِمَثَابَة الْمَعْرِفَة الْمُحَرَّمَة و الْفَنّ الأَسْوَد النَّبِيلُ الَّذِي طَالَمَا ظَلَّتْ نُخْبَة النُّخْبَة عَاكِفَةً عَلَى حِرَاسَتِهِ بَعِيدًا عَنْ الْمُتَطَفِّلِيَّيْن.
_ الْفِكْرُ الْعِلْمِيّ وَالْأَخْلَاقِيّ : الِإمْتِدَاد المَعْرِفِيّ الْعَمِيق لِلْمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة الْقَدِيمَة
تُشِير الْبُحُوث وَالدِّرَاسَات إلَى أَنْ هُنَاكَ عَلَاقَة وَثِيقَةٌ بَيْنَ الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ وَالْمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة الْقَدِيمَة. فَالسِّحْر، وَإِنْ كَانَ يُعْتَبَرُ شَكْلًا مِنْ أشْكَالِ الْخُرَافَات وَالْأَوْهَامِ فِي نَظَرِ الْبَعْضِ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ فِي أُصُولِهِ مُحَاوَلَةٌ لِفَهْمٍ الْعَالِم وَالْبَحْثُ عَنْ تَفْسِيرَات لِلظَّوَاهِر الطَّبِيعِيَّة وَالتَّأْثِير عَنْهَا. يَذْكُرْ الْبَاحِثُونَ أَنَّ السِّحْرَ يَقُومُ عَلَى مَبْدَأين أُسَاسِيِّين: أَوَّلًا أَنَّ الشَّبِيه يُنْتِج الشَّبِيه أَوْ إنْ الْمَعْلُول يُشْبِه عِلَّتِه، و ثَانِيًا إنْ هُنَاكَ عَلَاقَة سَبَبِيَّة بَيْنَ الْأَشْيَاءِ يُمْكِنُ إسْتِغْلَالُهَا. وَهَذَان الْمَبْدَأِن هُمَا أَيْضًا أَسَاس الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ الَّذِي يَبْحَثُ عَنْ الْقَوَانِين وَالْعَلَاقَات السَّبَبِيَّةِ فِي الطَّبِيعَةِ. فَالسِّحْر، مِثْلُهُ مِثْلُ الْعِلْمِ، بَلْ إنَّهُ أَصْلٌ كُلّ الْمَعَارِفِ الْإِنْسَانِيَّةِ. كَانَ السِّحْرُ يُفَسِّر الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَيُحَاوِل إسْتِغْلَالَهَا لِتَحْقِيق أَهْدَاف مُعَيَّنَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الْأَهْدَاف شِفَاء أَمْرَاضٌ أَوْ حِمَايَةِ مِنْ الْأَخْطَارِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَ فِي الْوَاقِعِ، يُشِيرُ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ إلَى أَنْ السَّحَرَة كَانُوا مِنْ أَوَائِلِ مَنْ أَجْرَى التَّجَارِب وَالْمَلَاحَظَات الْعِلْمِيَّةِ، حَيْثُ كَانُوا يَبْحَثُونَ عَنْ طُرُقِ لِتَطْبِيق مُعْتَقَدَاتِهِمْ السِّحْرِيَّة وَتَحْقِيق أَهْدَافِهِم. وَبِذَلِكَ، يُمْكِنُ إعْتِبَارُ السِّحْر بِمَثَابَة سَابِق لِلْعِلْم التَّجْرِيبِيّ فِي بَعْضِ الْحَضَارَات الْقَدِيمَة. كَمَا يَرَى الْبَعْضُ أَنَّ الْفِكْرَ الْأَخْلَاقِيّ أَيْضًا لَهُ جُذُور فِي الْمُعْتَقَدَاتِ السِّحْرِيَّة الْقَدِيمَة. فَفِي الثَّقَافَات الرُّوحَانِيَّة الْقَدِيمَةِ، كَانَ السِّحْرُ يَنْظُرُ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِلتَّقَرُّبِ إلَى الْقِوَّى الْخَفِيَّة وَالتَّحَكُّم بِهَا، وَبِالتَّالِي كَانَ لَهُ إرْتِبَاطٌ وَثِيقٌ بِالمُعْتَقَدَات الدِّينِيَّة وَالرُّوحِيَّة. وَقَدْ إنْعَكَسَ هَذَا الرَّبْطَ بَيْنَ السِّحْرِ وَالدَّيْنُ عَلَى تَطَوُّرِ الْفِكْر الْأَخْلَاقِيَّ فِي تِلْكَ الْحَضَارَات، حَيْثُ بَدَأَ السُّلُوك الْعِلْمِيّ وَالْأَخْلَاقِيّ يُصْبِح مَوْضُوعًا لِلتَّفْكِير النَّظَرِيّ. وَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ السِّحْرَ كَانَ يُعْتَبَرُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ "عِلْمًا فَاسِدًا" حَسَب وَجْهَة نَظَرَ الْبَعْضُ بِسَبَبِ إفْتِرَاضِاتِه البِدَائِيَّة، إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَهُ دُورٌ فِي تَطَوُّرِ الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ وَالْأَخْلَاقِيّ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْقَدِيمَة. فَفِي بَعْضِ الْحَضَارَات، كَانَ السِّحْرُ بِمَثَابَة رَدِّة فِعْلَ ضِدَّ التَّيَّارِ الدِّينِيّ السَّائِد، وَسَاهَمَ فِي إِرْسَاءِ قَوَاعِد التَّفْكِير الْعَقْلَانِيّ وَ الْمَوْضُوعَيْ. وَ فِي الثَّقَافَة الْمَغْرِبِيَّة عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ، نَجِدُ أَنَّ الْمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة مَا زَالَتْ جُزْءًا لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ النَّسِيج الثَّقَافِيّ وَالدِّينِيّ لِلْمُجْتَمَع. وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنْ جُذُور الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ وَالْأَخْلَاقِيّ فِي هَذِهِ الثَّقَافَة تَرْتَبِط إلَى حَدِّ كَبِير بِالمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة الْقَدِيمَة وَاَلَّتِي لَا تَزَالُ حَاضِرَة بِقُوَّةٍ حَتَّى يَوْمِنَا هَذَا. بِالْخُلَاصَة، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ هُنَاكَ عَلَاقَة وَثِيقَةٌ بَيْنَ الْمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة الْقَدِيمَةِ وَبَيْنَ نَشْأَة الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ وَالْأَخْلَاقِيّ فِي عَدِيد مِنَ الْحَضَارَاتِ. فَالسِّحْر كَانَ بِمَثَابَةِ مُحَاوَلَةٌ لِفَهْمٍ الطَّبِيعَة وَالْعَالِم الْمُحِيطِ، وَهُوَ مَا شَكْل أَسَاسًا لِلْبَحْث الْعِلْمِيِّ فِي مَا بَعْدَ. كَمَا إرْتَبَطَ السِّحْرُ أَيْضًا بِالمُعْتَقَدَات الدِّينِيَّة وَالرُّوحِيَّة، مِمَّا إنْعَكَسَ عَلَى تَطَوُّرِ الْفِكْر الْأَخْلَاقِيَّ فِي تِلْكَ الْمُجْتَمَعَات.
_ التَّقْعِيد الْمَفَاهِيمي لِلْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق و السِّحْر
السِّحْرُ (Magic) هُوَ مَفْهُومُ مُتَعَدِّد الْمَعَانِي وَالْمُسْتَوَيَات، لَهُ تَعْرِيفَات مُخْتَلِفَةٍ مِنْ مَنْظُورًات ثَقَافِيَّة وَتَارِيخِيَّة وَ فَلْسَفِيَّة مُتَبَايِنَةً. الْجَوْهَر الأَسَاسِيّ لِلسِّحْرِ هُوَ إكْتِشَاف الْقِوَّى الرُّوحَانِيَّة الْكَامِنَةِ فِي الْإِنْسَانِ و تَسْخِيرِهَا لِتَحْقِيق أَهْدَاف و غَايَات مَادِّيَّة و رُوحِيَّة عَلِيًّا. كَمَا أَنَّ السِّحْرَ يَعْتَمِدُ عَلَى مَجْمُوعَة مِنْ الشُّرُوطِ الْأَخْلَاقِيَّة و الضَّوَابِط الْحَيَاتِيَّة شَدِيدَة التَّعْقِيد إلَى جَانِبِ تَوَافُر الْمَعْرِفَة وَ التَّدْرِيب لِأَيّ سَاحِر. بِالْإِضَافَةِ إلَى الِإسْتِعْدَادِ النَّفْسِيّ و الْفِطْرِيّ لَدَى الشَّخْص السَّاحِر. بِحَيْث هُنَاك قَاعِدَة سَّرِيَّة مَعْرُوفَة دَاخِل مَجَامِع السَّحَرَةَ تَقُول "السَّاحِر يُولَد سَاحِرًا أَوْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ". وَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، يُطْلَق مُصْطَلَح السَّحَرِ عَلَى كُلِّ مَا هُوَ خَفِيٌّ سَبَبُهُ و عَجَزَ الْعَقْلِ عَنْ إدْرَاكُهُ، وَ كَانَ لَهُ الْأَثَرُ الْفِعْلِيّ وَالْمَادِّيّ الْمَلْمُوسِ فِي إحْدَاثُ التَّغْيِيرِ عَلَى الْمُسْتَوَى الْوَاقِع عَنْ طَرِيقِ خَلَق التَّأْثِير، وَالْعَمَلِ عَلَى جَلْبِ الْمَسَرَّات وَ دَفَعَ الْمَضَرَّاتِ. مِنْ خِلَالِ تَسْخِير الْقِوَّى الْإِلَهِيَّةِ فِي كِيَان السَّاحِر و إعَادَة تَوْجِيهِهَا للتَّأْثِيرِ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ. و يُحَدِّثُ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ إسْتِعْمَال عُقَدٌ وَ رُقًى وَعَزَائِم وَأَدْوِيَة وَتَمَائم تُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبَدَانِ. فَتَمَّرض وَ تَقْتَلُ وَتَفَرَّق و تَجْمَع و تَحْي و تُمِيت. أَنَّ السِّحْرَ كَمَا أَرَاهُ شَخْصِيًّا هُوَ الْخَلْقُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ. أَنَّهُ مُمَارَسَة رُوحَانِيَّة مُتَعَالِيًة فِي الذَّاتِ الْبَاطِنِيَّة تُقَوَّمُ بِإِعَادَة إنْتَاج الطَّبِيعَة بِإسْتِمْرَار وَفْق رُؤَى السَّاحِر و قُدُرَاتِه الْمُتَاحَة. وَ يُنْظَرُ إلَى السَّحَرِ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ عُلَمَاءِ الأنْثّْرُوبُّولُوجْيَا بِإعْتِبَارِهِ ظَاهِرَة تَرْتَبِط بِالمُعْتَقَدَات الْخُرَافِيَّة وَالْأُسْطُورِيِّة لَدَى الشُّعُوب البِدَائِيَّة، وَاَلَّتِي تُوصَف أَحْيَانًا بِالدَّجَل وَالشَّعْوَذَة. فِي الْمُقَابِلِ، هُنَالِكَ مِنْ يَنْظُرُ إلَى السَّحَرِ بِإعْتِبَارِه "سِحْر عَالِمٍ"، أَيْ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوَاعِدِ وَأَسَّس عِلْمِيَّة، وَلِذَلِك يَتَعَامَلُ مَعَهُ الْكَثِيرُون بِإعْتِبَارِه عِلْمًا كَامِلًا وَ عَمِيقا. الْعِلْمِ هُوَ نِظَامٌ مُنَظَّم لِلْمَعْرِفَة، يَقُومُ عَلَى الْمُلَاحَظَةِ وَ التَّجْرِبَةِ وَالْقِيَاس وَالتَّحْلِيل لِلْوُصُولِ إلَى حَقَائِقِ ثَابِتَة وَ دَقِيقَة حَوْل الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْإِنْسَانِيَّة. وَيَرْتكز الْعِلْمُ عَلَى الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ الْقَائِمِ عَلَى الْمَوْضُوعِيَّة وَ الِإسْتِقْرَائيَّة وَ التَّجْرِيبِيَّة. و حَسَب وِجْهَةُ نَظَرِ الْبَعْض يُنْظَرُ إلَى الْعِلْمِ بِإعْتِبَارِه تَهْدِيدًا لِلْأَفْكَار الْمَيتَافِيزِيقِيَّة وَالْمُعْتَقَدَات الْخُرَافِيَّة، كَمَا هُوَ الْحَالُ بِالنِّسْبَةِ لِلسِّحْر وَالْعَلَاقَة بِالنُّجُوم. فَالْعِلْم يَسْعَى إلَى تَفْسِيرِ الظَّوَاهِر بِطَرِيقة مَنْطِقِيَّة وَ عَقْلَانِيَّة، بَعِيدًا عَنْ الْمُعْتَقَدَات الْخُرَافِيَّة كَمَا يَزْعُمُون. وَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ ذَلِكَ، فَهُنَاكَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْعِلْمَ لَا يُعَدُّ كَافِيًا لِتَفْسِير بَعْضِ الظَّوَاهِرِ، وَ أَنَّ هُنَاكَ مَجَالَات أُخْرَى كَالْفَلْسَفَة وَالسِّحْر قَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ مُلَاءَمَة لِتَفْسِير بَعْضِ الْجَوَانِبِ الْمَيتَافِيزِيقِيَّة وَ الرُّوحِيَّةِ. و الظَّوَاهِر الْخَارِقَة. يُمْكِنُ تَعْرِيفُ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ بِإعْتِبَارِه الْبَحْثِ عَنْ الْمَبَادِئِ وَالْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّة وَتَرْتِيبُهَا وَ إسْتِنْبَاطِهَا، مَعَ بَيَانِ الْوَاجِبَاتِ وَالِإلتِزَامَاتِ الَّتِي يَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَلْتَزِمَ بِهَا فِي سُلُوكِهِ وَتَصَرُّفَاتُه. وَ تُعَدّ الْأَخْلَاق مَجَالًا مُتَشَعِّبًا وَمُتَدَاخِلًا مَعَ مَجَالَات أُخْرَى كَالْفَلْسَفَة وَالدَّيْن وَ الثَّقَافَة، حَيْثُ تَخْتَلِفُ الْمَفَاهِيم وَالْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة بِحَسَبِ السِّيَاقِ الثَّقَافِيّ وَ الْفَلَسِفِيّ وَالدِّينِيّ الَّذِي يَنْتَمِي إلَيْهِ الْإِنْسَان. وَ يَرْتَبِط مَفْهُوم الْأَخْلَاق إرْتِبَاطًا وَثِيقًا بِمَفْهُومِ الضَّمِير الْأَخْلَاقِيّ لِلْفَرْد، وَاَلَّذِي يُحَدِّد مَا هُوَ صَوَابٌ وَمَا هُوَ خَطَأٌ فِي سَلُوكَّيَاتِه وَتَصَرُّفَاتُهُ. وَ تَسْعَى الْأَخْلَاقِ إِلَى تَنْظِيمِ العَلَاقَاتِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَتَحْدِيد حُقُوقٍ وَ وَاجِبَاتٍ الْأَفْرَاد تُجَاه بَعْضِهِمْ الْبَعْضِ. بِشَكْلٍ عَامٍّ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ مَفَاهِيمَ السِّحْر وَالْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاقِ تَتَدَاخَل وَ تَتَفَاعِل فِيمَا بَيْنَهَا، حَيْثُ يَنْظُرُ إلَى السَّحَرِ مِنْ زَوَايَا مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ كَوْنِهِ مُمَارَسَة خُرَافِيَّة وَ كَوْنُهُ عِلْمًا قَائِمًا عَلَى أُسُسٍ مَعْرِفِيَّة أَصِيلة سَاهَمَت فِي إنْتَاجِ بَاقِي أَنْمَاط الْمَعْرِفَة الْإِنْسَانِيَّة. كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ أَثَّرَ عَلَى الْمَفَاهِيمِ الْمَيتَافِيزِيقِيَّة وَ الْأَخْلَاقِيَّة، وَإِنْ الْأَخْلَاق تَرْتَبِط بِالْقِيَم وَ الْمَعَايِير الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَ الثَّقَافِيَّةِ. وَ تَتَطَلَّب فَهْمِ هَذِهِ الْمَفَاهِيمِ النَّظَرُ إلَيْهَا مِنْ زَوَايَا مُتَعَدِّدَة وَ فِي سِيَاقَاتِهَا الْمُخْتَلِفَة.
_ الْمَفْهُوم الْفَلْسَفِيّ لِلسِّحْر
السَّحَرُ هُوَ مَفْهُومُ شَائِعٌ فِي مُخْتَلَفٍ الْحَضَارَات وَالثَّقَافَات الْبَشَرِيَّة، وَقَدْ حَظِّي بِإهْتِمَام كَبِيرٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُفَكِّرِينَ عَبْرَ التَّارِيخِ. مِنْ وَجْهَة نَظَر الْفَلْسَفَة، يُنْظَرُ إلَى السَّحَرِ بِإعْتِبَارِه ظَاهِرَة إجْتِمَاعِيَّة ذَات أبْعَاد مُتَعَدِّدَة، تَتَدَاخَلُ فِيهَا الْعَنَاصِر الدِّينِيَّة وَالْعِلْمِيَّة وَالسِّحْرُيَّة. بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ يَنْظُرُونَ إلَى السَّحَرِ عَلَى أَنَّهُ مُجَرَّدُ خُرَافَة وَتَخَلَّف، وَيَنْتَقِدُون أَصْحَابُ الِإعْتِقَادُ بِهِ بِإعْتِبَارِهِمْ يَنْفَصِلُونَ عَنْ الْوَاقِعِ وَ يَرْفُضُون العَقْلَانِيَّة وَالْعِلْم. فَمَثَلًا، يَرَى مَاكَس فَيَبَرّ. Max Weber أَنَّ السِّحْرَ هُوَ "فَنُّ عَقِيم" يَزْعُم السَّيْطَرَةَ عَلَى الْعَالِمِ الطَّبِيعِيّ الْخَاضِع لِلْأَرْوَاح، لَكِنَّه مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِالْفَشَلِ الدَّائِم. وَيُشِير فَيبَرّ إلَى أَنَّهُ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ وُجُودِ فَوَارِق بَيْنَ الدَّيْنِ وَالسِّحْر، إلَّا أَنْ كِلَاهُمَا يَنْطَوِي عَلَى مُحَاوَلَةِ السَّيْطَرَةَ عَلَى الْقِّوَى الْخَفِيَّة. مِنْ نَاحِيَةِ أُخْرَى، هُنَاكَ فَلَاسِفَة يَنْظُرُونَ إلَى السَّحَرِ بِإعْتِبَارِه نَوْعًا مِنْ الْعِلْمِ البِدَائِيّ أَوْ "الْعِلْمِ الزَّائِف"، حَيْثُ يُحَاوِلُ المُعْتَقِدُون بِهِ التَّأْثِيرُ عَلَى الْعَالِمِ الطَّبِيعِيّ بِإسْتِخْدَام قِوَّى خَفِيَّةٌ أَوْ سِحْرِيَّة. هَذَا الرَّأْيِ يَنْطَلِقُ مِنْ إفْتِرَاضِ أَنَّ السِّحْرَ هُوَ مُحَاوَلَةُ لِتَفْسِير الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ قَبْلَ ظُهُورِ الْعِلْمِ الْحَدِيثَ، وَبِالتَّالِي فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْمَعْرِفَةِ البِدَائِيَّة أَوْ الْخُرَافِيَّة. عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، هُنَاكَ فَلَاسِفَة يَنْظُرُونَ إلَى السَّحَرِ عَلَى أَنَّهُ ظَاهِرُهُ إجْتِمَاعِيَّة ذَات أبْعَاد ثَقَافِيَّة وَتَارِيخَيَّة مُتَعَدِّدَةٍ. فَالسِّحْر لَيْسَ مُجَرَّدَ خُرَافَة أَوْ عَمَلٍ عَبَثًي، بَلْ هُوَ نِظَامٌ مِنْ الْمُعْتَقَدَاتِ وَالْمَمَارَسَات لَهُ جُذُورِه فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ، وَ تَتَفَاعِل فِيهِ الْعَنَاصِر الدِّينِيَّةِ وَالِإجْتِمَاعِيَّةِ وَالثَّقَافِيَّة. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ فَهْمَ السِّحْر يَسْتَلْزِمُ النَّظَرَ إلَيْهِ فِي سِيَاقِهِ الِإجْتِمَاعِيّ وَ الثَّقَافِيّ. كَمَا يَرَى بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ السِّحْرَ لَهُ جَوَانِب فَلْسَفِيَّة وَرُوحِيَّة عَمِيقَة، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ مُمَارَسَات سَطْحِيَّة أَوْ خُرَافَات عَدِيمَة الْمَعْنَى. فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، يَرَى بَعْضُ فَلَاسِفَة الْكَابَالَا (Kabbalah) إنْ لِلسِّحْر الْكابَالي أَبْعَادًا فَلْسَفِيَّة وَدِينِيَّة مُعَقَّدَة، تَتَضَمَّن جَوَانِب عَدَدِيَّة وَتَنْاغميَّة مَعَ الْحِفَاظِ عَلَى الْبُعْدِ السَّحَرِيّ الْمُؤَثِّر. فِي الْخِتَامِ، يَتَّضِحُ أَنَّ نَظَرَة الْفَلَاسِفَةُ إلَى السَّحَرِ مُتَبَايِنَة وَغَيْر مُتَجَانِسَة. فَبَيْنَمَا يُنْظَر الْبَعْضِ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ خُرَافَة أَوْ "عَلِمَ زَائِف"، يُنْظَر آخَرُون إِلَيْهِ بِإعْتِبَارِهِ ظَاهِرَة إجْتِمَاعِيَّة وَثَقَافِيَّة مُعَقَّدَة تَسْتَحِقّ الدِّرَاسَة وَالْفَهْم. كَمَا أَنَّ هُنَاكَ مِنْ يَرَى فِي السَّحَرِ أَبْعَادًا فَلْسَفِيَّة وَرُوحِيَّة عَمِيقَة. وَبِالتَّالِي، لَا يُمْكِنُ إخْتِزَال مَفْهُومُ السِّحْرُ فِي رُؤْيَةِ وَاحِدَةٍ، بَلْ إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى نَظَرَة مُتَعَدِّدَة الْإِبْعَاد تُرَاعِي تَنَوُّع الأَطْر الْفِكْرِيَّةُ وَالثَّقَافِيَّةُ الَّتِي يُنْظَرُ مِنْهَا إلَيْهِ.
_ طَبِيعَة الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق وَالسِّحْر
أَنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق وَالسِّحْر هِيَ عَلَاقَةٌ مُعَقَّدَة وَ شَائِكَة. مِنْ نَاحِيَةِ، يُنْظَرُ إلَى الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْحَقَائِق الْمَوْضُوعِيَّة الَّتِي يُمْكِنُ إخْتِبَارَهَا وَالتَّحَقُّق مِنْهَا، بَيْنَمَا يُنْظَرُ إلَى الْأَخْلَاقِ عَلَى أَنَّهَا مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْمَبَادِئِ وَ الْقِيَمِ الَّتِي تَحْكُمُ السُّلُوكِ الْإِنْسَانِيِّ وَالْعَلَاقَاتِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ. مِنْ نَاحِيَةِ أُخْرَى، يُنْظَرُ الْكَثِيرُونَ إِلَى السَّحَرِ عَلَى أَنَّهُ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْمُمَارَسَات وَالطُّقُوس الْخُرَافِيَّةِ وَالْغَيْبِيَّةِ الَّتِي لَا تَسْتَنِدُ إلَى أَيِّ أُسُسٍ عِلْمِيَّةٍ. وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَفَاهِيمِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَتْ بِالْبَسَاطَة الَّتِي قَدْ يَبْدُو عَلَيْهَا. فَقَدْ كَانَ السِّحْرُ فِي الْمَاضِي جُزْءًا لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ الثَّقَافَات وَ الْحَضَارَات الْبَشَرِيَّة، وَكَانَ لَهُ دُورٌ كَبِيرٌ فِي تَطَوُّرِ الْعُلُومِ وَ الْمَعَارِفِ، حَتَّى إنَّ بَعْضَ الْمُمَارَسَات السِّحْرِيَّة قَدْ تَطَوَّرَتْ فِيمَا بَعْدُ إلَى عُلُومٍ وَتَقَنِّيَّات مُعْتَرِفٌ بِهَا عِلْمِيًّا، مِثْل الْكِيمْيَاء وَ الطِّبّ. كَمَا أَنَّ هُنَاكَ عَلَاقَة وَطِيدَة بَيْن الْأَخْلَاق وَالرُّوحِنَة، إذْ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْأَخْلَاقِيَّة وَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة الْحَمِيدَة جَاءَتْ مِنْ خِلَال الْمُمَارَسَات الرُّوحَانِيَّة وَالْمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة. وَ فِي الْهَرْمَسُيَّة وَ الْغَنوصيَّة عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، هُنَاكَ الْكَثِيرَ مِنْ النُّصُوصِ و الْمُعْتَقَدَات الَّتِي تَدْعُو إلَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَ تُحَذِّرُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ. وَ مَعَ تَطَوُّرِ الْعِلْم وَالتِّقْنِيَة، بَدَأ الصِّرَاعِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاقُ وَ الْمُمَارَسَات الرُّوحَانِيَّة يَظْهَرُ بِوُضُوحٍ أَكْبَرَ. فَقَدْ أثَارَ الْعِلْمِ الْكَثِيرِ مِنْ التَّسَاؤُلَات حَوْل الْمُعْتَقَدَات الْمَيِّتُافِيزِيقِيَّة، وَتَحَدَّى الْكَثِيرِ مِنْ الْأَفْكَارِ وَ الْمَمَارَسَات السِّحْرِيَّة وَالْخَرَافِيَّة. وَ فِي الْمُقَابِلِ، كَانَ الدَّيْنُ وَ الْأَخْلَاق فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَائِقًا أمَام تَطَوُّر الْعِلْم وَإنْتِشَار بَعْض الْمُمَارَسَات وَالتِّقْنِيَّات الْعِلْمِيَّة. وَ لَكِنْ فِي الْوَاقِعِ، هُنَاكَ مِنْ يَرَى أَنَّ الْعِلْمَ وَالْأَخْلَاق يُمْكِنُ أَنْ يَتَكَامَلُأ وَيُسَاعِدُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْآخَرَ فِي التَّطَوُّرِ وَالِإرْتِقَاءِ. فَالْعِلْم بِدُون أَخْلَاق قَدْ يُؤَدِّي إلَى إسْتِخْدَامَات خَطِيرَة وَغَيْر مَسْؤُولَة، بَيْنَمَا الْأَخْلَاق بِدُونِ عِلْمِ قَدْ تُصْبِحُ جَامِدَة وَعَاجِزَة عَنْ مُوَاكَبَةِ التَّطَوُّرَات الْحَدِيثَة. وَ بِالتَّالِي فَإِنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق وَالسِّحْر هِيَ عَلَاقَةٌ مُعَقَّدَة وَمُتَشَابِكَة، تَحْتَاجُ إلَى مَزِيدِ مِنْ الدِّرَاسَةِ وَ التَّحْلِيل لِفَهْم إبْعَادِهَا الْمُخْتَلِفَة وَتَوْظِيفِهَا بِمَا يَخْدُم مَصْلَحَةُ الْإِنْسَانِ وَ الْمُجْتَمَعِ. فَالتَّوَازِن وَالتَّكَامُلُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَفَاهِيمِ هُوَ الْأَمْرُ الْأَهَمّ لِتَحْقِيق التَّنْمِيَة الْمُسْتَدَامَة وَالتَّقَدُّمِ الْحَضَارِيِّ.
_ الطَّبِيعَةِ الْمَفَاهِيمِيَّة لِلْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق وَالسِّحْر
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق وَالسِّحْر هِي مَفَاهِيم مُتَشَابِكَة لَهَا عَلَاقَات مُعَقَّدَة فِيمَا بَيْنَهَا. لِفَهْمِ هَذِهِ العَلَاقَاتِ بِشَكْلٍ شَامِلٍ، يَنْبَغِي النَّظَرُ إلَيْهَا مِنْ مَنْظُورًات مُخْتَلِفَة. الْعِلْم وَالأَخْلَاقُ هُمَا مَجَالَان مُتَكَامِلَان وَلَا يَنْفَصِلَانِ عَنِ بَعْضُهُمَا الْبَعْضَ. فَالْعِلْمُ هُوَ وَسِيلَةٌ لِفَهْم الطَّبِيعَةِ وَالكَوْنِ وَالحَيَاةِ، بَيْنَمَا الْأَخْلَاق هِي المَرْجِعِيَّةِ الَّتِي تُحَدِّدُ كَيْفِيَّةِ إسْتِخْدَامِ هَذَا الْعِلْمِ وَتَوْجِيهُه بِطَرِيقَةٍ صَحِيحَةٍ وَأَخْلَاقِيَّة. فَالْعِلْم بِحَدِّ ذَاتِهِ لَيْسَ لَهُ إتِّجَاهٌ أَخْلَاقِيّ مُحَدَّد، إنَّمَا الِإتِّجَاه الْأَخْلَاقِيّ يَأْتِي مِنْ خِلَالِ كَيْفِيَّة تَوْظِيف الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَتَطْبِيقِاتِهَا. فَالْعِلْمُ قَدْ يَسْتَخْدِمُ فِي أُمُورِ إِيجَابِيَّة كَعَلَاج الْأَمْرَاضُ وَالِإرْتِقَاء بِجَوْدَة الْحَيَاةِ، لَكِنْ قَدْ يُسَاء إسْتِخْدَامُهُ فِي أُمُورِ سَلْبِيَّة كَصِنَاعَة الْأَسْلِحَة الْفَتَّاكَة أَوْ التَّجَارِبِ الطِّبِّيَّة غَيْر الْأَخْلَاقِيَّة عَلَى الْبَشَرِ. لِذَلِكَ فَإِنْ رُبِطَ الْعِلْم بِالْأَخْلَاق أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لِضَمَان تَوْظِيفِه فِي الْمَسَار الصَّحِيح. وَبِالْمُقَابِل، فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ تَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّة لِتَطْوِير مَعَايِيرِهَا وَتَحْدِيث مَرْجِعِيَّتِهَا بِمَا يَتَمَاشَى مَعَ الْمُسْتَجَدَّات الْعِلْمِيَّة وَالتِّكْنُولُوجِيَّة. فَالْأَخْلَاق لَا تَعِيشُ فِي فَرَاغِ، بَلْ هِيَ مُتَأَثِّرَة بِالسِّيَاق الْعِلْمِيّ وَالْمَعْرُفِيّ السَّائِد فِي الْمُجْتَمَعِ. وَلِذَلِك تَشْهَد الْأَخْلَاق تَطَوُّرَات مُسْتَمِرَّة لِتَوَاكب التَّقَدُّمُ الْعِلْمِيّ. وَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، بَرَز مَجَال "أَخْلَاقِيَّات الْبَحْثُ الْعِلْمِيِّ" الَّذِي يَهْتَمُّ بِوَضْع الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي تُنَظِّمُ مُمَارَسَات الْعُلَمَاءُ وَتَوَجَّه بُحُوثَهُمْ وَتَطْبِيقِاتُّهم نَحْوُ الْخَيْرِ الْعَامِّ. وَهَذَا الْمَجَال يُعَدّ مِثَالًا عَلَى التَّكَامُلَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاق. أَمَّا الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالسِّحْر فَهِي عَلَاقَةٌ مُعَقَّدَة وَ غَامِضَة. فَالسِّحْر يُعْرَفُ بِأَنَّهُ مُمَارَسَات وَ طُقُوس تَهْدِفُ إِلَى التَّأْثِيرِ عَلَى الطَّبِيعَةِ وَالْأفْرَاد وَالْمُجْتَمَع بِطُرُق خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ، وَ تَسْتَنِدُ إلَى مُعْتَقَدَات وَأَفْكَار غَيْر عِلْمِيَّة وَغَيْر مَنْطِقِيَّة. مِنْ نَاحِيَةِ، قَدْ يَبْدُو السِّحْر مُتَعَارِضًا مَعَ الْعِلْمِ، فَالْعِلْمُ يَقُومُ عَلَى الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ الْقَائِمِ عَلَى الْمُلَاحَظَةِ وَالتَّجْرِبَةِ وَالتَّحَقُّق التَّجْرِيبِيّ، بَيْنَمَا السِّحْر يَسْتَنِدُ إلَى الْمُعْتَقَدَات وَالطُّقُوس الْمُمَارَسَات الرُّوحَانِيَّة. وَفِي هَذَا الْإِطَارِ، يُنْظَر الْعُلَمَاء الْمَادِّيِّين إِلَى السَّحَرِ عَلَى أَنَّهُ خُرَافَة وَتَضْلِيل وَعَدَم عِلْمِيَّة. وَ لَكِنْ مِنْ نَاحِيَةِ أُخْرَى، هُنَاكَ بَعْضُ التَّدَاخُلَات وَالعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ السِّحْر. فَالسِّحْر قَدْ يَسْتَخْدِمُ بَعْضِ الْمَفَاهِيمِ وَالْمُصْطَلَحَات العِلْمِيَّةِ أَوِ يُغَلِّف نَفْسِه بِمَظْهَر عِلْمِي لِكَسْب مَصْدَاقِيَة. كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْمُمَارَسَات السِّحْرِيَّة قَدْ تَكُونُ مَبْنِيَّةً عَلَى مُلَاحَظَات وَ مَعَارِف تَجْرِيبِيَّة، وَلَكِنْ تَمّ تَفْسِيرُهَا بِطُرُق خَاطِئَة وَغَيْر عِلْمِيَّة. وَفِي هَذَا الصَّدَدِ، بَرَز مَجَال "عِلْمِ السِّحْرِ" الَّذِي يُحَاوِلُ دِرَاسَة الْأُسُس الْمَعْرِفِيَّة وَالنَّفْسِيَّةَ الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا مُمَارَسَات السِّحْرُ. وَ عَلَى مُسْتَوَى التَّارِيخِ، كَانَ لِلسِّحْرِ تَأْثِير كَبِيرٌ عَلَى تَطَوُّرِ الْعُلُومِ فِي الْمَاضِي، فَبَعْض الْمُمَارَسَات السِّحْرِيَّة مَهَّدَتْ الطَّرِيق لِإكْتِشَافَات عِلْمِيَّةٍ لَاحِقَة. وَلَكِنْ بِشَكْلٍ عَامٍّ، فَإِنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ الْمَادِّيّ وَالسِّحْر هِيَ عَلَاقَةٌ تُوتِر وَتَنَاقَض، فَالْعِلْم الْمَادِّيّ يَسْعَى إلَى الْفَهْمِ الْعِلْمِيّ الدَّقِيق لِلظَّوَاهِر بَيْنَمَا السِّحْر يَسْتَنِدُ إلَى مُعْتَقَدَات و تَصَوُّرَات و مُمَارَسَات طَقْسِيَّة تَتَجَاوَزُ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ و الضَّمِير الْأَخْلَاقِيّ و القُدُرَات الْإِدْرَاكِيَّة السَّطْحِيَّة لَدَى الْإِنْسَانِ. أَمَّا فِيمَا يَخُصُّ الْأَخْلَاقِ وَ السِّحْر هُمَا مَجَالَان مُتَبَاعِدَان وَمُتَعَارِضَان إلَى حَدِّ كَبِير. فَالْأَخْلَاق تَقُومُ عَلَى مَبَادِئِ وَقِيَم رَاسِخَة تَهْدِفُ إِلَى ضَبْطِ السُّلُوكِ الْإِنْسَانِيِّ وَتَوْجِيهُه نَحْوَ الْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ. بَيْنَمَا السِّحْر يَسْتَنِدُ إلَى مُعْتَقَدَات وَمُمَارَسَات رُوحِيَّة تَهْدِف فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْيَانِ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي الطَّبِيعَةِ و الْأَرْوَاح وَ مُحَاوَلَة التَّأْثِيرُ عَنْ الْمَوْجُودَاتِ بِطُرُق خَفَّيَّة لِتَحْقِيقِ غَايَاتِ أَخْلَاقِيَّة أَوْ اللَّااخلَاقِيَّة شَأْنُهُ شَأْنُ الْعِلْمِ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ السِّحْرَ يُعَدّ سُلُوكًا أَخْلَاقِيًّا مُنْحَرِفًا وَمَرَّفَوَضَّأ مِنْ وَجْهَة نَظَر الْأَخْلَاق الدِّينِيَّةِ الْقَائِمَةِ عَلَى الْخِدَاعِ وَالتَّزْيِيف.وَ الَّتِي تَتَجَاوَزُ مَبْدَأ حُرِّيَّةِ الْإِنْسَانِ و تُحَاوِل سَجْنُهُ فِي الْبُعْدِ الْمَادِّيّ وَتُصَادِرُ قُدُرَاتِه الرُّوحِيَّة و تُغيِبِهَا. فَالسِّحْر يَنْطَوِي عَلَى الْقِّوَى الْخَفِيَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ الْحَكِيمُ أَنَّ يُسَيْطِرَ عَلَى الطَّبِيعَةِ و يُوَاجِهُ مُخْتَلَف التَّحَدِّيَات الْمَادِّيَّة وَالرُّوحِيَّة في هَذَا الْعَالَمِ الْمَادِّيِّ السَّاقِط، وَهِيَ أُمُورٌ تَتَعَارَضُ مَعَ الْمَبَادِئِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْمُبْتَذَلَة الَّتِي تَفْرِضُهَا الْأَدْيَان. وَ مَعَ ذَلِكَ، قَدْ يَكُونُ هُنَاكَ بَعْضُ التَّدَاخُلَات بَيْنَ الْأَخْلَاق وَالسِّحْرُ فِي بَعْضِ الثَّقَافَات وَ الْمُعْتَقَدَات. فَقَدْ تَبَرُّر بَعْض الْمُجْتَمَعَات مُمَارَسَات سِحْرِيَّة مُعَيَّنَة بِحُجَّةِ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ تُرَاثَهُمْ وَهَوِيَّتِهَم الثَّقَافِيَّة. وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ النَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْمُمَارَسَات مِنْ مَنْظُورٍ أَخْلَاقِيّ نَقْدِيّ. وَفْق الرُّؤَى الْأَخْلَاقِيَّة السَّائِدَة. وَ فِي الْمُجْمَلِ، فَإِنْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْأَخْلَاق وَالسِّحْر هِيَ عَلَاقَةٌ تَنَاقُض وَصِرَاع، وَفْق الْمَنظور الدِّينيِّ و الْمُجْتَمَعي السَّائِد. فَالْأَخْلَاق تَسْعَى إِلَى ضَبْطِ السُّلُوكِ الإِنْسَانِيِّ وَتَوْجِيهُه نَحْوَ الْخَيْرِ كَمَا يَدَّعُونَ. بَيْنَمَا السِّحْرُ فِي نَظَرِهِمْ يُمَثِّل إنْحِرَافًا أَخْلَاقِيًّا يَتَعَارَضُ مَعَ المَبَادِئِ الأَخْلَاقِيَّةِ الرَّاسِخَة. الَّتِي لَا يَعْدُوا كَوْنِهَا مُجَرَّد قُشُور أَخْلَاقِيَّة مَبْتُورَة عَنْ سِيَاقِ الْمُمَارَسَات الرُّوحَانِيَّة و الْمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة الْقَدِيمَة. فِي الْخِتَامِ، يَتَّضِحُ أَنَّ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاق وَالسِّحْر هِيَ عَلَاقَاتُ مُعَقَّدَة وَغَامِضَة فِي بَعْضِ جَوَانِبِهَا. فَهُنَاك تَكَامُل بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق فِي كَوْنِهِمَا مَجَالين مُتَشَابِكِين وَمُتَدَاخِلَيْن، بَيْنَمَا تَكُونُ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالسِّحْر عَلَاقَة تُوتِر وَتَنَاقَض، وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْأَخْلَاق وَالسِّحْر هِيَ عَلَاقَةٌ رَفَض وَإسْتَنْكَار. وَهَذِهِ الْعَلَاقَات الْمُتَشَابِكَة تَسْتَحِقُّ مَزِيدًا مِنَ الْبَحْثِ وَالتَّحْلِيل لِلْوُصُولِ إلَى فَهْمِ أَعْمَق لَهَا. وَ إعَادَة نَظَر جِذْرِيَّة تَكْشِف لِلْإِنْسَان الْحَقِيقَةِ كَامِلَةٌ بَعِيدًا عَنْ الْبَرَامِج الدِّينِيَّة و أَخْلَاقِيَّتِهَا المُزَيَّفَةِ. ومَنْظُومَة الْمُعْتَقَدَات الْعِلْمِيَّة الْمَادِّيَّةِ الَّتِي تَرَى الْحَقِيقَةِ مِنْ مَنْظُورٍ سَطْحِيّ.
_ وَظِيفَة السِّحْرُ فِي تَطَوُّرِ الفِكْر الْعِلْمِيّ وَالْأَخْلَاقِيّ
السِّحْرُ لَهُ تَارِيخ عَرِيق كَانَ لَهُ دُورٌ مُهِمٌّ فِي تَطَوُّرِ التَّفْكِير الْعِلْمِيّ وَالْأَخْلَاقِيّ عَلَى مَرَّ الْعُصُور. مِنْ خِلَالِ تَتْبَع التَّطَوُّر التَّارِيخِيّ لِلسِّحْر، يُمْكِنُنَا إسْتِنْتَاج عِدَّة نِقَاط. لَقَدْ إسْتُخْدِمَ السِّحْرُ فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ بِحَيْثُ كَانَ السِّحْرُ يَهْتَّمُ بالْبَحْثِ عَنْ تَفْسِيرَات لِلظَّوَاهِر الطَّبِيعِيَّةِ. فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ، كَانَ النَّاسُ يَلْجَأُونَ إِلَى السَّحَرِ كَوَسِيلَة لِتَفْسِير الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى فَهْمِهَا عِلْمِيًّا وَهَذَا كَانَ الدَّافِعُ الأَسَاسِيّ وَرَاء نَشْأَة مُمَارَسَات السِّحْرُ و الرَّوْحَنَّة. مَعَ مُرُورِ الوَقْتِ، إنْتَقَل تَرْكِيز مُمَارَسَات السِّحْرُ مِنْ مُجَرَّدِ مُحَاوَلَات تَفْسِيرِيَّة إلَى تَطْوِيرٍ طُرُق وَ تَقَنِّيَّات فَعَلِيَّة لِإِحْدَاث تَغَيِيرَاتٍ فِي الطَّبِيعَةِ، مِثْل الطِّبِّ البَدِيلِ وَ الْعِلَاج بِالطَّاقَة. وَهَذَا التَّطَوُّر أَدَّى إلَى ظُهُورِ الْعَدِيدِ مِنَ الْعُلُومِ الْحَدِيثَة. يَرَى البَعْضُ أَنَّ السِّحْرَ شَكَلَ نُقْطَة الْبِدَايَة لِلتَّفْكِير الْعِلْمِيّ، حَيْثُ يُشْبَهُ الْعِلْمُ الْيَوْمَ بِالسَّحِر فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ مِنْ حَيْثُ إسْتِخْدَام نَظَرِيَّات وَقَوَانِين دَقِيقَة لِتَفْسِير الظَّوَاهِر. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ السِّحْرَ سَاهَمَ فِي تَأْسِيسِ الْبِنْيَة الْفِكْرِيَّة لِلْعِلْم الْحَدِيث. كَذَلِكَ كَانَ لِلسِّحْرِ دُورٍ فِي تَشْكِيلِ النَّظْرَة الْأَوَّلِيَّة لِلْقُدَمَاء تُجَاه الْكَوْنِ وَالطَّبِيعَةِ، حَيْثُ فَسَّرَ الظَّوَاهِر الغَامِضَة بِوُجُود قِّوَى خَارِقَة لِلطَّبِيعَة وَهَذَا سَاهَمَ فِي بِنَاءِ الْأَفْكَار الْأَخْلَاقِيَّة وَ الدِّينِيَّة الْأُولَى. إرْتَبَط السِّحْر بِالْجَدَل حَوْل إسْتِخْدَامُه لِلْخَيْرِ أَوْ لِلشَّرِّ، مِمَّا سَاهَمَ فِي تَطْوِيرِ مَفَاهِيم الأَخْلَاقِ وَالقِيَمِ الْأَسَاسِيَّةُ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْبَشَرِيَّة. فَكَانَ السِّحْرُ نُقْطَة إنْطِلَاق لِتَطَوُّر الْفِكْر الْأَخْلَاقِيّ. مَعَ التَّطَوُّرُ الْعِلْمِيُّ وَالثَّقَافِيّ، بَدَأ النَّاسَ فِي التَّخَلِّي عَنْ مُمَارَسَات السِّحْرُ وَالرُّوحَانِيَّة وَهَذَا سَاهَمَ فِي تَحَرَّر الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ مِنْ الْعَدِيدِ مِنَ الخُرَافَاتِ وَالْمُعْتَقَدَات الْخَاطِئَة النَّاتِجَةِ عَنِ تَرْسِيخ فَهُمْ خَاطَيء لِلسِّحْرِ فِي كُلِّ العُصُورِ. وَهَذَا بِدَوْرِهِ مَهَّد الطَّرِيق لِتَطْوِير التَّفْكِير الْأَخْلَاقِيّ الْعَقْلَانِيّ وَالْمَوْضُوعَيْ وَفْقَ الصِّيغَة الْمُتَعَارَف عَلَيْهَا. بِشَكْلٍ عَامٍّ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ السِّحْرَ لَعِبَ دَوْرًا مُحَوَّريا فِي تَطَوُّرِ التَّفْكِير الْعِلْمِيّ وَالْأَخْلَاقِيّ عَبْرَ التَّارِيخِ. فَهُوَ كَانَ نُقْطَةً الْبِدَايَة لِمُحَاوَلَات فَهُمْ الطَّبِيعَةِ وَالْكَوْنِ، وَاَلَّتِي أُسِّسَتْ لَاحِقًا لِلْعِلْم الْحَدِيثِ. كَمَا أَنَّهُ سَاهَمَ فِي تَشْكِيلِ الْمَفَاهِيم الْأَخْلَاقِيَّة الْأُولَى لِلْبَشَرِيَّة، وَفَتْح الْمَجَالِ أَمَامَ التَّحَرُّرِ مِنْ الْخُرَافَاتِ وَالْمُعْتَقَدَات الْخَاطِئَة. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ السِّحْرَ كَانَ لَهُ أَثَرٌ عَمِيقٌ فِي مَسَارٍ التَّطَوُّر الْفِكْرِيّ لِلْإِنْسَان.
_ الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق : الْمُعْتَقَدَات السِّحْرِيَّة و الْمُمَارَسَات الطُّقُوسِيَّة
تُشَكِّلُ الْمُعْتَقَدَات وَالتَّصَوُّرَات الرُّوحَانِيَّة وَالسِّحْرُيَّة وَ الطُّقُوسيَّة جُزْءًا هَامًّا مِنَ تَارِيخِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَثَقَافَتَهَا. هَذِهِ الظَّوَاهِرِ الرُّوحِيَّة وَالْخَيَالِيَّة لَعِبَتْ دَوْرًا بَارِزًا فِي تَطْوِيرِ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق عَبَّر مُخْتَلَف الْحَضَارَاتِ وَالْأَدْيَانَ. إنْ لِظَاهِرَة السِّحْر جُذُورًا عَمِيقَة فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ، فَمُنْذ الْقِدَم لَجَأَ الْإِنْسَانُ إلَى الطُّقُوس وَالْمَمَارَسَات السِّحْرِيَّة كَوَسِيلَة لِلتَّحَكُّمِ فِي الْقِوَّى الْخَفِيَّة وَالسَّيْطَرَةَ عَلَى الطَّبِيعَةِ. وَقَدْ إرْتَبَط السِّحْر إرْتِبَاطًا وَثِيقًا بِالدَّيْنِ، حَيْثُ إنَّ الْبَعْضَ يَرَى أَنَّ الدَّيْنَ هُوَ إمْتِدَادُ لِلسِّحْر وَالشَّعْوَذَة الْقَدِيمَة. فَالْطُّقُوس الدِّينِيَّةُ وَالْمَمَارَسَات الرُّوحِيَّةِ تَشْتَرِكُ مَعَ السِّحْرُ فِي مُحَاوَلَةٍ تَسْخِير الْقِوَّى الطَّبِيعِيَّةِ وَالتَّأْثِير عَلَيْهَا. وَقَدْ تَنَاوَلَ الْعَدِيدِ مِنَ الْبَاحِثِينَ وَ الْمُفَكِّرِينَ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ السِّحْرِ وَالدَّيْن، فَفِي كِتَابِ "الْغُصْن الذَّهَبِيّ" لِجِيمس فَرِيزر، James Frazer تَمَّ تَنَاوُلِ مَوْضُوعِ وَظِيفَة السِّحْر وَالدَّيْن وَالْمُعْتَقَدَات بِشَكْل عَمِيق. كَمَا أَشَارَ الْكَاتِبِ إلَى أَنْ الدَّيْنِ هُوَ فِي الْأَسَاسِ مُنَبِّثق مِنْ السِّحْرِ وَإِنْ الطُّقُوسِ الدِّينِيَّةِ هِيَ وَلِيدَة الطُّقُوس السِّحْرِيَّة. لَقَدْ لَعِبَتْ الْمُعْتَقَدَات الرُّوحَانِيَّة وَالطُّقُوسيَّة دَوْرًا هَامًّا فِي تَطَوُّرِ الْعِلْمِ وَ الْمَعْرِفَةِ عَبْرَ التَّارِيخِ. فَفِي الْحَضَارَات القَدِيمَةُ، كَانْ لِلْمُعْتَقَدَات الرُّوحَانِيَّة وَالسِّحْرُيَّة تَأْثِيرِ كَبِيرٌ عَلَى فَهْمِ الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَ الْكَوْنِيَّة. وَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ الْحَدِيثَ قَدْ تَطَوَّرَ بَعِيدًا عَنْ هَذِهِ الْمُعْتَقَدَات، إلَّا أَنْ بَعْضَ الْأَفْكَار وَالْمَمَارَسَات الرُّوحَانِيَّة مَا زَالَتْ تُؤَثِّرُ فِي طُرُقِ التَّفْكِير الْعِلْمِيّ. فَالتَّفْكِير السَّحَرِيّ الَّذِي يَرْبِطُ الْأَفْكَار بِالنَّتَائِج الْمَادِّيَّةَ لَا يَزَالُ لَهُ بَعْضُ التَّأْثِيرِ عَلَى طُرُقٍ التَّفْكِير الْعِلْمِيِّ. كَمَا أَنَّ الْبَحْثَ الْعِلْمِيِّ فِي مَجَالَاتِ مِثْلُ عِلْمِ النَّفْس وَالْأُنْثَروبولُوجْيَا الثَّقَافِيَّة قَدْ تَنَاوَلَ بِشَكْل مُوَسَّع مَوْضُوع الْمُعْتَقَدَات الرُّوحَانِيَّة وَالْمَمَارَسَات الطُّقُوسِيَّة وَدَوْرُهَا فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَالمُجْتَمَعَات. كَمَا أَنَّ لِلْمُعْتَقَدَات الرُّوحَانِيَّة وَالطُّقُوسِيَّة تَأْثِيرًا كَبِيرًا عَلَى الْأَخْلَاقِ وَ السُّلُوك الْإِنْسَانِيّ. فَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْحَضَارَاتِ وَالْأَدْيَانَ، كَانَتْ هَذِهِ الْمُعْتَقَدَات هِي الْمَصْدَر الأَسَاسِيّ للأَنِظَمِة الْأَخْلَاقِيَّة وَ الْقَيِّم الِإجْتِمَاعِيَّة. وَتُشِير الدِّرَاسَات إلَى أَنْ الطُّقُوس وَ الْمَمَارَسَات الرُّوحِيَّةِ كَانَتْ تُؤَدّي إِلَى تَعْزِيزِ الرَّوَابِطِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَتَنْظِيم السُّلُوكِ، كَمَا سَاهَمَت فِي إيجَادِ الشُّعُورُ بِالْمَعْنَى وَالْهَدَف فِي الْحَيَاةِ. وَبِالرَّغْمِ مِنْ التَّطَوُّرُ الْعِلْمِيُّ وَ الْفِكْرِيُّ الَّذِى شَهِدْتَهُ الْبَشَرِيَّةُ، لَا تَزَالُ الْمُعْتَقَدَات الرُّوحَانِيَّة وَ الطُّقُوسِيَّة تُؤَثِّرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ جَوَانِبِ الْحَيَاةِ الْأَخْلَاقِيَّةُ وَ الِإجْتِمَاعِيَّةُ حَتَّى يَوْمِنَا هَذَا. تُعَدُّ الْمُعْتَقَدَات وَالتَّصَوُّرَات الرُّوحَانِيَّة وَالسِّحْرُيَّة الطُّقُوسِيَّة جُزْءًا لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ تَارِيخِ وَ ثَقَافَة الْإِنْسَانِيَّةِ. فَقَدْ لَعِبَتْ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ دُورًا مُحَوَّريا فِي تَطْوِيرِ الْعِلْم وَالْأَخْلَاق، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ التَّحَوُّلَات وَالتَّغَيُّرَات الْكَبِيرَةِ الَّتِي شَهِدَهَا الْفِكْرِ الْبَشَرِيِّ عَبْرَ العُصُورِ. وَيَظَلّ مَوْضُوع التَّفَاعُلِ بَيْنَ هَذِهِ الْمُعْتَقَدَات وَالْمَجَالَات الْأُخْرَى مِنْ الْأَبْحَاثِ الْمُهِمَّة وَالْحَيَوِيَّة فِي مُخْتَلَفٍ الْعُلُومِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَ الِإجْتِمَاعِيَّة.
_ الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق وَ السِّحْر: الْمَنْظُور التَّارِيخِيّ
خِلَال الْقُرُونُ الْمَاضِيَةُ، شَهِدت الْعَلَاقَةِ بَيْنَ السِّحْرِ وَالعِلْمِ وَ الأَخْلَاقِ تَطَوُّرًا مَلْحُوظًا. فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى وَالْعُصُور الْمُبَكِّرُة، كَانَ السِّحْرُ يَنْظُرُ إلَيْهِ بِشَكْلٍ عَامٍّ عَلَى أَنَّهُ مُمَارَسَة شَيْطَانِيَّة وَخُرَافِيَة يَجِبُ مُحَارَبَتِهَا. وَ فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ، كَانَ السِّحْرُ مُرْتَبِطًا أَيْضًا بِمَفَاهِيم خُرَافِيَّة وَشَعْبِيَّة عَامَّة تَمّ إسْتَهْدَافها مِنْ قِبَلِ الْمَحَاكِم الدِّينِيَّة. مَعَ ظُهُورِ عَصْرِ التَّنْوِيرِ وَ النَّهْضَةَ الْعِلْمِيَّةَ فِي الْقُرُونِ اللَّاحِقَة، بَدَأ نَظَرِ النَّاسِ إلَى السَّحَرِ بِشَكْل مُخْتَلَف. فَقَدْ بَدَأَ الْبَعْضِ فِي النَّظَرِ إلَى السَّحَرِ عَلَى أَنَّهُ مَجَال لِلدِّرَاسَة وَالْبَحْث الْعِلْمِيّ، حَيْثُ ظَهَرَتْ مُحَاوَلَات لِشَرْح الظَّوَاهِر السِّحْرِيَّة بِشَكْل عِلْمِي. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، كَانَ هُنَاكَ مُحَاوَلَات لِرَبْط السِّحْر بِالفِيزْيَاء وَالْكِيمْيَاءِ وَالْفُلْك. تُشِيرُ الْبُحُوث إلَى أَنْ السِّحْر وَالْعِلْم التَّجْرِيبِيّ كَانَا مُرْتَبِطَيْن بِبَعْضِهِمَا فِي تَطَوُّرِهِمَا التَّارِيخِيّ. يُرَجِّحُ أَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا مِنْ أَوَائِلِ مَنْ أَجْرَى التَّجَارِب وَالْمَلَاحَظَات، وَإِنْ تَارِيخ السِّحْر وَ الْعِلْم التَّجْرِيبِيّ يُمْكِنُ فَهْمُهُ بِشَكْل أَفْضَل عِنْدَمَا نَنْظُر إلَيْهِمَا كَمَتَشابكين وَمَتَطَوِّرِين جُنُبًا إلَى جُنُب. فِي الْمَرْحَلَةِ الْأُولَى مِنْ تَارِيخِ الْإِنْسَانِ، عِنْدَمَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى تَفْسِيرِ الْكَوْن وَ الظَّوَاهِر الطَّبِيعِيَّة، لَجَأَ إلَى التَّفْسِيرَات السِّحْرِيَّة وَالْخُرَافِيَّة. كَانَ السِّحْرُ هُوَ الطَّرِيقَةُ الْوَحِيدَة الْمُتَاحَة لَه لِفَهْم الْعَالِم وَ التَّحَكُّم فِيهِ. وَمَعَ تَطَوُّرِ الْمَعْرِفَة وَالْخِبْرَة، بَدَأَ الْإِنْسَانُ فِي الِإنْتِقَالِ مِنْ الْعَصْرِ السَّحَرِيّ إلَى عَصْرِ الْعِلْمِ التَّجْرِيبِيِّ، حَيْثُ أَصْبَحَ قَادِرًا عَلَى فَهْمِ الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ بِشَكْلٍ أَكْثَرَ عِلْمِيَّةً وَ مَوْضُوعِيَّة. هَذَا التَّحَوُّلِ مِنْ السِّحْرِ إلَى الْعِلْمِ كَانَ تَدْرِيجِيًّا وَ مُتَدَاخِلًا، فَالسِّحْرُ لَمْ يَنْتَهِ تَمَامًا مَعَ ظُهُورِ الْعِلْمِ، بَلْ إسْتَمَرَّ جَنْبًا إِلَى جَنْبِ مَعَهُ فِي بَعْضِ الْمُجْتَمَعَات. كَمَا أَنَّ السِّحْرَ سَاهَمَ فِي تَيْسِيرِ بَعْض الْأَهْدَاف الْعِلْمِيَّةِ فِي الْبِدَايَةِ، حَيْثُ مَهَّد الطَّرِيق لِتَطْوِير الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ التَّجْرِيبِيّ. إلَى جَانِبِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ السِّحْرِ وَالْعِلْم، كَانَ لِلسِّحْرِ أَيْضًا عَلَاقَة وَطِيدَة بِالدَّيْن وَالْأَخْلَاق عَبْرَ التَّارِيخِ. فِي مِصْرٍ الْقَدِيمَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، تَطَوَر الدَّيْن وَالسِّحْر جَنْبًا إِلَى جَنْبِ إلَى دَرَجَةِ أَنْ الْبَحْثِ فِي أَحَدِهِمَا يَتَطَلَّب بِالضَّرُورَة الْبَحْثِ فِي الْآخَرِ. كَذَلِكَ فِي الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، رَدّ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ السَّحَرِ إِلَى مُشْكِل دَيْنِي، مُعَالِجًا قَضِيَّةً السِّحْرُ فِي إِطَارِ الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ. هَذَا عَلَى خِلَافِ الْمُعَالَجَة الْأُورُوبِّيَّة لِلسِّحْر فِي عَصْرِ مُطَاردة السَّاحِرِات، وَاَلَّتِي كَانَتْ أَكْثَرَ قَسْوَة وَعُنْفًا. فِي الْمُقَابِلِ، فَإِنْ تَطَوُّر الْعِلْم وَالِإنْفِصَالُ عَنْ الدَّيْنِ أَدَّى إلَى بُرُوز مَدَارِس فَكَرْيَّة فِي الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ رَأَتْ فِي عِلْمِ الْأَخْلَاقِ مُجَرَّدُ وَصْفٍ لِلْوَاقِعِ، لَا مِعْيَارٌ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ. وَبِذَلِك إنْفَصَلَتْ الْأَخْلَاقِ عَنْ الدَّيْنِ وَالْقَيِّم الرُّوحِيَّة. فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، شَهِدَتْ الْأَخْلَاق تَطَوُّرًا أَيْضًا، حَيْثُ ظَهَرَتْ مُنَاقَشَات فَلْسَفِيَّة حَوْل طَبِيعَة الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَمَا يُعْتَبَرُ سُلُوكًا أَخْلَاقِيًّا أَوْ غَيْرَ أَخْلَاقِيّ. وَ فِي هَذَا السِّيَاقِ، تَمّ التَّسَاؤُلُ عَنْ مَدَى شَرْعِيَّة مُمَارَسَات السِّحْرُ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأَخْلَاقِيَّة. فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ، أَصْبَح لِلسِّحْر وَ العِلْمِ وَالأَخْلَاقِ تَفَاعُل أَكْثَر تَعْقِيدًا. فَمِنْ نَاحِيَةِ، لَا يَزَالُ السِّحْر يَنْظُرُ إلَيْهِ بِشَكْل سَلْبِيّ مِنْ قِبَلِ الْكَثِيرِين، خَاصَّةً فِي السِّيَاقَات الدِّينِيَّة. وَلَكِنْ مِنْ نَاحِيَةِ أُخْرَى، ظَهَرَتْ إتّجَاهَات جَدِيدَة تُحَاوِل إعَادَة تَأْهِيل مُمَارَسَات السِّحْرُ وَرَبَطَهَا بِالْعِلْم وَ الْأَخْلَاق. عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، ظَهَرَتْ حَرَكَاتٌ مِثْل الْوَثَنِيَّة الْحَدِيثَة. الْعَصْرَالْجَدِيد New Age, وَ الثَّيوصوْفِيًا Teosophy, وَ مَجْمُوعَات الْوَيكا Wicca, وَ الْأَدْيَان الشَّيْطَانِيَّة الْمُعَاصِرَة,. وَالسَّاحَرات الْحَدِيثَات اللَّاتِي يُحَاولن إعَادَةُ تَفْسِير السِّحْرُ فِي ضَوْءِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة الْحَدِيثَة وَ الْمَبَادِئ الْأَخْلَاقِيَّة. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ السِّحْرِ وَالعِلْمِ وَ الأَخْلَاقِ قَدْ شَهِدْت تَطَوُّرًا كَبِيرًا عَبْرَ التَّارِيخِ، إنْتَقَلَتْ مِنْ الرَّفْضِ الْمُطْلَقِ إلَى مُحَاوَلَات لِلتَّوْفِيق وَالدَّمْج. وَ مَا زَالَ هَذَا الْمَوْضُوعِ مَحَلُّ جَدَل وَإخْتِلَافٍ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْأَطْرَاف وَ الْمَنْظُورًات. يَتَّضِحُ مِنْ الْعَرْضِ السَّابِقِ أَنَّ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ السِّحْرِ وَالْعِلْمِ وَالْأَخْلَاقِ وَالتَّطَوُّر التَّارِيخِيّ كَانَتْ مُعَقَّدَة وَمُتَدَاخِلَة. فَقَدْ مَرَّ الْإِنْسَان بِمَرَاحِل مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ السِّحْرِ إلَى الْعِلْمِ التَّجْرِيبِيِّ, وَكَان لِلسِّحْر دُورٍ فِي تَشْكِيلِ الدَّيْن وَالتَّفْكِير الْأَخْلَاقِيّ. كَمَا أَنَّ تَطَوُّر الْعِلْم أَثَر بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ وَغَيْرَ مُبَاشِرٍ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّة.
_ نَحْوُ الْمَزِيدِ مِنْ التَّكَامُل المَعْرِفِيّ بَيْنَ الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ وَالْفِكْر الْأَخْلَاقِيّ وَالْمَمَارَسَات الرُّوحَانِيَّة ؟
التَّكَامُل المَعْرِفِيّ هُوَ مَفْهُومُ أَسَاسِيٍّ فِي الْفِكْرِ الْفَلْسَفِيّ وَ الْعِلْمِيّ الْمُعَاصِر، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ عَلَى التَّرَابُط وَالتَّشَابُك بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْمَجَالَات الْمَعْرِفِيَّة بَدَلًا مِنْ النَّظَرِ إلَيْهَا بِشَكْل مُنْفَصِل وَ مَتَجزأ. فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْفِكْرِ الْعِلْمِيِّ وَالْفِكْر الْأَخْلَاقِيّ وَالْمَمَارَسَات الرُّوحَانِيَّة، فَهُنَاك تَفَاعُل وَتَكَامَل مُتَبَادَل بَيْنَهَا عَلَى عِدَّةِ مُسْتَوَيَات : 1. الْمُسْتَوَى الْمَنْهَجِيّ: حَيْثُ يُمْكِنُ لِلْمَنْهَج الْعِلْمِيِّ إنْ يَسْتَفِيدُ مِنْ الْمُقَارَبَات الْأَخْلَاقِيَّة وَالرُّوحَانِيَّة فِي تَطْوِيرِ أَدَوَاتِه الْبَحْثَيْة وَتَفْسِيرُ ظَوَاهِرِه، وَالْعَكْسُ صَحِيحٌ أَيْضًا حَيْثُ تَسْتَفِيد الْأَخْلَاق وَالرُّوحَانِيَّة مِنْ الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ فِي تَعْزِيزِ مَوْضُوعَيْتِهَا وَتَجْرِيبِها. 2. الْمُسْتَوَى المَعْرِفِيّ: إذْ أَنَّ التَّفَاعُلَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَجَالَاتِ يُثْرِي الْمَعْرِفَة الْإِنْسَانِيَّة وَيَفْتَح آفَاقَا جَدِيدَة لِلْبَحْث وَالتَّأَمُّل. فَالْعِلْم يُمْكِنُ أَنْ يَكْتَشِفَ حَقَائِق وَقَوَانِين طَبِيعِيَّةٍ أَوْ سُلُوكِيَّة تَحْتَاجُ إلَى تَأْصِيل أَخْلَاقِيّ وَ رُوحِي، وَالْفِكْرُ الْأَخْلَاقِيّ وَالرُّوحَانِيّ يُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ وَيَضْفي عَلَيْهِ أَبْعَادًا أَوْسَع. 3. الْمُسْتَوَى التَّطْبِيقِيّ: يَتَجَلَّى هَذَا التَّكَامُلَ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْظِيف الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة بِمَا يَتَوَافَقُ مَعَ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ وَ الرُّوحَانِيَّة، وَكَيْفَ يُمْكِنُ لِلْمُمَارَسَات الرُّوحَانِيَّة أَنْ تَثْرِي الْحَيَاةُ الْعَمَلِيَّة وَالتَّطْبِيقِيٍّة لِلْإِنْسَانِ. فَالْأَخْلَاق وَالرُّوحَانِيَّة تَعَدّ مَوْجُهات أَسَاسِيَّة لِتَوْظِيف الْعِلْمِ بِمَا يَنْفَعُ الْإِنْسَانَ وَالْمُجْتَمَع. وَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ بَعْضِ التَّوَتُّرِات التَّارِيخِيَّة بَيْنَ هَذِهِ الْمَجَالَاتِ، إلَّا أَنْ التَّكَامُل بَيْنَهَا أَصْبَح ضَرُورَةً مُلِحَّةً فِي عَالَمِنَا الْمُعَاصِرِ، حَيْث تُوَاجَه الْبَشَرِيَّة تَحَدِّيَات مُعَقَّدَة لَا يُمْكِنُ مُعَالَجَتُهَا بِمَعْزِلٍ عَنْ الْإِبْعَاد الْأَخْلَاقِيَّة وَالرُّوحَانِيَّة لِلْوُجُود الْإِنْسَانِيّ. فَالتَّكَامُل المَعْرِفِيّ بَيْنَهَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَاهِمَ فِي تَحْقِيقِ تَنْمِيَة شَامِلَة وَمُسْتَدَامَة لِلْإِنْسَان وَالْمُجْتَمَع.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق : تَجَاوُزَات الْأَيْدُيُولُوجِيَّا
-
الْعِلْم وَالْأَخْلَاق فِي الْحِكْمَةِ الْغَنُوصِيَّة
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْحِكْمَةِ الْهَرْمُسِيَّة
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ مَبَاحِث الْآكْسِيُّولُوجْيَا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ إشْكَالَيْات الْكُوسْمُّولُوجْيَا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي سِيَاقِ الثَّيُولُوجْيَا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ تَصَوُّرَات الِأنْطولُوجْيَا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق؛ مُقَارَبَات الإِبِسْتِمُولُوجْيَّا
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق فِي الْفَلْسَفَةِ الْمِثَالِيَّةِ
-
الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاق سَطْوَة الْمَيِّتُافِيزِيقِيَا
-
نَقْد فَلْسَفِيّ لِلْخِطَاب الْعِلْمِيّ و الْأَخْلَاقِيّ
-
الْمَشْرُوع الْفَلْسَفِيّ الشَّامِل لِلْوُجُود الْإِنْسَانِي
...
-
أَخْلَاقِيَّات الْعِلْمُ وَ عِلْمِيَّة الْأَخْلَاق
-
حِوَارٌ مَعَ صَدِيقِي الشَّيْطَانُ الْأَكْبَرُ
-
جَدَلِيَّة الِإنْتِمَاء و الِإنْتِسَاب
-
جَدَلِيَّة التَّنْمِيط وَ التَّسْطِيح
-
السُّؤَالُ عَنْ السُّؤَال
-
إيلَون مَاسِك عَبْقَرِيّ أَمْ شَيْطَانِي
-
سُّلْطَة المُثَقَّف أَمْ مُثَقَّف السُّلْطَة
المزيد.....
-
مشاهد مخيفة.. فيديو يظهر إعصارًا يقذف المباني في الهواء
-
روسيا: الحوار بين طهران وواشنطن كفيل بتجنب التوتر
-
الجيش الصومالي يوجه ضربات قوية لـ-حركة الشباب- ويقتل أكثر من
...
-
استطلاع: 40% من الأمريكيين يدعمون إجراءات ترامب تجاه أوكراني
...
-
مسرح عن حياة الناس لكل الناس من السودان
-
جدل في سوريا حول تاريخ انطلاق الثورة، في الـ15 أم الـ18؟
-
الدردشة مع غرباء تجعلنا أكثر سعادة، فكيف نأخذ هذه الخطوة؟
-
كوريا الجنوبية: تصادم بين مسيرة إسرائيلية الصنع ومروحية ولا
...
-
التريث و-الفحص الكامل- سيدا الموقف .. كيف ردّت إيران على رسا
...
-
حزب البديل من أجل ألمانيا وترامب وشركاؤه: سياسات الانقسام
المزيد.....
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
المزيد.....
|