بولات جان
الحوار المتمدن-العدد: 8283 - 2025 / 3 / 16 - 04:53
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
العدالة الانتقالية: المفهوم، الشروط، ولماذا لا تنطبق على السلطة الجديدة في دمشق
قبل أن نتحدث عن مدى قدرة أي جهة سياسية أو عسكرية على إدارة مسار العدالة الانتقالية في سوريا، لا بد أولًا من توضيح المفهوم ذاته، وأهم شروطه ومبادئه.
العدالة الانتقالية هي إطار قانوني وسياسي يُعتمد عليه في الدول الخارجة من الحروب، النزاعات المسلحة، أو الأنظمة الاستبدادية، وتهدف إلى معالجة الانتهاكات الجسيمة والمنهجية لحقوق الإنسان، من خلال بناء مجتمع جديد قائم على المحاسبة، كشف الحقيقة، جبر الضرر، وضمان عدم التكرار. ووفقًا لتعريف الأمم المتحدة، تتضمن العدالة الانتقالية أربعة محاور رئيسية: المساءلة القضائية لمرتكبي الجرائم، كشف الحقيقة حول الانتهاكات، تعويض الضحايا ماديًا ومعنويًا، وإصلاح مؤسسات الدولة التي كانت متورطة أو متواطئة في الانتهاكات. ويُشترط أيضًا أن تكون هذه العملية شاملة، نزيهة، وغير انتقائية، وتخضع لإشراف مستقل، وتُدار بمشاركة مجتمعية حقيقية.
شهد العالم نماذج ناجحة للعدالة الانتقالية في جنوب أفريقيا بعد الفصل العنصري، وفي الأرجنتين وتشيلي بعد فترات الحكم العسكري، وفي رواندا وسيراليون عقب الحروب الأهلية، وفي ألمانيا بعد انهيار النظام النازي. هذه التجارب تستند جميعها إلى مبدأ رئيسي: لا يمكن أن تُدار العدالة من قبل أطراف كانت جزءًا من الانتهاكات.
وعند النظر إلى الحالة السورية الراهنة، تتضح بشكل جلي غياب جميع شروط العدالة الانتقالية، وهو ما يجعل من المستحيل – قانونًا وأخلاقيًا – أن تقوم السلطة الحالية بقيادة أحمد الشرع بإدارة هذا المسار.
أولًا، لا توجد سلطة انتقالية شرعية أو توافق وطني. القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدولي ينص بوضوح على ضرورة تشكيل هيئة حكم انتقالية شاملة وتوافقية، تقود المرحلة الانتقالية نحو السلام والديمقراطية. أما ما نشهده حاليًا، فهو سلطة مفروضة بقوة السلاح، قادتها لا يتمتعون بشرعية انتخابية، ولم يتم التوافق عليهم من قبل جميع الأطراف السورية، ولا يخضعون لأي إشراف أممي.
ثانيًا، لا يمكن تجاهل أن السلطة الحالية، المتمثلة في هيئة تحرير الشام، هي الامتداد التنظيمي المباشر لجبهة النصرة – فرع القاعدة في بلاد الشام، والمصنفة رسميًا كمنظمة إرهابية من قبل مجلس الأمن، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، وكندا، وغيرها من الدول. بل إنها تعد التنظيم التوأم لداعش من حيث الفكر الجهادي، والأساليب القتالية كالتفخيخ، والاغتيالات، والعمليات الانتحارية، وفرض الشريعة بالعنف، فضلًا عن سجلها الدموي ضد المدنيين والأقليات الدينية والقومية في سوريا. كيف يمكن لجماعة بهذا التاريخ أن تُشرف على مسار يُفترض فيه الحياد، الشفافية، وضمان الإنصاف لجميع الضحايا؟
ثالثًا، تفتقر السلطة الحالية إلى المؤسسات الضرورية لتحقيق العدالة. المحكمة الدستورية تم حلها، واستبدلت بأخرى مؤقتة بلا استقلالية. السلطة القضائية خاضعة للسلطة التنفيذية، ولا توجد ضمانات حقيقية لحصانة القضاة أو استقلالهم. الفصائل المسلحة ما زالت تفرض سيطرتها على الأرض، وتُدير مؤسسات الدولة كما تشاء، دون رقابة شعبية أو قانونية.
رابعًا، تنتشر آلاف العناصر الأجنبية في صفوف هذه السلطة، من الإيغور والشيشان والطاجيك والأوزبك وغيرهم، ينتمون جميعًا إلى جماعات جهادية عقائدية عابرة للحدود. ووفقًا للمادة 47 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، يُعتبر هؤلاء "مرتزقة"، ولا يحق إشراكهم في أي عملية عدالة أو مصالحة وطنية، لما يشكلونه من تهديد مباشر للسيادة والقانون الدولي.
خامسًا، لا يمكن الحديث عن عدالة انتقالية دون محاسبة الأطراف الأخرى التي شاركت في الجرائم، خاصة الميليشيات الأجنبية التي قاتلت إلى جانب النظام السابق. وتشمل هذه الميليشيات حزب الله اللبناني، ميليشيا فاطميون الأفغانية، زينبيون الباكستانية، الفصائل العراقية مثل النجباء وعصائب أهل الحق، بالإضافة إلى المرتزقة الروس من شركة فاغنر، الذين ارتكبوا انتهاكات موثقة في حق المدنيين.
سادسًا، توجد قوى إقليمية متورطة بشكل مباشر في النزاع، مثل تركيا وإيران، اللتين شاركتا في عمليات قصف وتهجير وتغيير ديمغرافي واسع النطاق، ولا توجد حاليًا أي آلية وطنية أو دولية فاعلة لمحاسبتهما.
سابعًا، الإعلان الدستوري الذي أصدرته السلطة الحالية يُقصي غير المسلمين من الترشح للرئاسة، ويجعل الفقه الإسلامي المصدر الأساسي للتشريع، ويُكرّس هوية قومية عربية أحادية، لا تعترف بالوجود التاريخي والسياسي للكرد، والسريان، والأرمن، وغيرهم. وهذا يمثل انتهاكًا صريحًا للمادة 26 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتي تنص على مبدأ المساواة أمام القانون، وعدم التمييز على أساس الدين أو العرق أو الانتماء القومي.
ثامناً، النظام القائم حاليًا يعكس أيضًا بُنية ذكورية عميقة الجذور. فهو لا يوفر أي حماية حقيقية للنساء والفتيات اللواتي تعرضن خلال النزاع للاختطاف، والاغتصاب، والاتجار الجنسي، والزواج القسري، وسوء المعاملة. إن مسار العدالة الانتقالية الذي يتجاهل الناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي، ويفشل في الاعتراف بجرائم العنف الجنسي كجزء أساسي من النزاع، لا يمكن أن يُعتبر مسارًا شاملًا أو عادلاً. بل إنه يعيد إنتاج الإقصاء والعنف نفسه، ولكن بصيغة سياسية وقانونية جديدة.
انطلاقًا من كل ما سبق، فإن أي حديث عن "عدالة انتقالية" بقيادة هذه السلطة لا يعدو أن يكون تشويهًا للمفهوم، وتضليلًا للرأي العام، ومحاولة لشرعنة حكم استبدادي جديد بوجه ديني-أمني، لا يختلف في جوهره عن النظام الذي ثار عليه السوريون.
إن العدالة الانتقالية لا يمكن أن تتحقق في ظل سلطة أمر واقع مسلحة، أو من خلال أنظمة طائفية أو إقصائية، بل تتطلب عملية سياسية تقوم على التوافق الوطني، بإشراف أممي مستقل، وبمشاركة حقيقية من الضحايا وذويهم، ووفق معايير حقوق الإنسان، ومحاسبة جميع الأطراف دون استثناء أو انتقائية.
وعليه، فإن البديل الوحيد القابل للتحقيق هو أن تتولى الأمم المتحدة، أو هيئة دولية محايدة مثل محكمة الجنايات الدولية، أو لجنة دولية تحت رعاية مجلس الأمن، إدارة هذه المرحلة الانتقالية. وقد حدث ذلك في تجارب دولية مشابهة في كمبوديا ويوغوسلافيا ورواندا، حيث تم تفويض جهات أممية بتولي ملفات العدالة والمصالحة، بعيدًا عن الأطراف المتورطة في النزاع.
يجب أن تضمن هذه الهيئات إشرافًا مستقلًا على العدالة والمحاسبة، وتشارك الضحايا والمجتمع المدني في صياغة المسار، وتعمل على إصلاح المؤسسات، واستعادة سيادة القانون، ومساءلة جميع المتورطين، دون منح أي جهة حق احتكار العدالة أو تبرئة نفسها.
فالعدالة لا تُترك بيد الجُناة، ولا يُبنى السلام على الإفلات من العقاب. والشعوب لا تُشفى جراحها إن أصبح الجلاد هو القاضي.
#بولات_جان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟