|
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
محمد علي مقلد
(Mokaled Mohamad Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 8282 - 2025 / 3 / 15 - 09:59
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أحـزاب اللّـه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية تقديم بقلم الشيخ علي حب اللّه
إهداء
إلى الذين قتلتهم يقينياتهم إلى مهدي عامل رفيقاً و صديقاً ومعلماً
تقديم بقلم الشيخ علي حب الله
بسم اللّه الرحمن الرحيم «إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» - فالتغيُّر صراط التطور. «دع مائة زهرة تتفتح» - شعار الثورة الثقافية زمن ماوتسي تونغ في الصين. «التاريخ لا يطرح على جدول أعماله من القضايا والمهمات إلا ما تكون البشرية قادرة على تحقيقه» - ماركس. الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها.
ظننت بادئ ذي بدء، حينما شرعت في قراءة نسخة كتاب «أحزاب الله» المعدة للطباعة، أني أمام بحث مشبع بدراسات جيلز كيبل، وأوليفيه روا، وفرنسوا بورجا، وروجيه غارودي. حسناً لا بأس، إذ لا ضير في استذكار بعض من قراءاتي القديمة: «يوم الله» «النبي والفرعون» «تجربة الاسلام السياسي» «الاسلام السياسي في زمن القاعدة» «الأصوليات المعاصرة» وغيرها من الكتب التي اعتنت بتحليل ظاهرة الاسلام الراديكالي، أو بظاهرة الأصوليات الدينية. ولكن، كلما كنت أغذّ السير في قراءة هذا الكتاب، كلما أدركت أنني أمام قراءة جديدة في تحليل هذه الظاهرة، دراسة تعتمد المنهج الوصفي في قسماتها العديدة، ناهدة إلى تفكيك العقل الحزبي دينياً كان أم يسارياً أم قومياً، وكلها تزرع في عقول أصحابها واتباعها وهم امتلاك الحقيقة المطلقة ونشوة اليقين المزيف. لقد أجاد المؤلف في الإضاءة على الصيرورة التاريخية للعمل الحزبي في العالم العربي، من لدن أن تشكلت طبقة المثقفين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وأكثر ما يدعو إلى الغبطة أن هذه الطبقة في مرحلتها المعاصرة تمارس النقد الذاتي واستخلاص العبر. إن المفكر بعد أن يستوفي جميل الرؤية واتساعها بموضوعية، يسمح لذهنه أن يحلق فوق معلوماته وأفكاره ومفاهيمه، لينظر إلى ثقافته من الخارج، لا من الداخل، ضماناً لصوابية الحكم والرأي، بذلك يقيِّم ما إذا كانت الثقافة العربية بوضعها الراهن قمينة بحمل مشروع نهضوي قومي او لا، وما السبل إلى تطويرها، وأهمها طريق النقد، وهذا ما فعله الدكتور مقلد بجدارة في هذا الكتاب. إن أعظم ما أنتجه العقل البشري فيما يخص إدارة الجماعات هي فكرة الدولة، ولقد أصاب الدكتور مقلد كبد الحقيقة بإضاءته على الاستبداد - متابعة للكواكبي - كأهم معوّق لتقدم الأمة، لذا، لم يكن بالإمكان لأي مشروع إصلاحي سوى إزالة هذا الحاجز الأهم قبل غيره، «وشطف الدرج يبدأ من فوق»، في ظل أنظمة مهترئة تمثل أهم المعوقات الداخلية في المجتمعات العربية، من دون أن ننسى دور القوى الغربية في الحكم على المنطقة العربية بالفقر، والتخلف، والتجزئة، فهي تبني ازدهارها على إفقارنا، وتقدمها على فرض التخلف علينا، وأمنها على تحطيم أمننا كما هو ماثل في عصر الربيع العربي وما بعده، وإنه ليهولك مقدار التبذير في المال والرجال فيما ترصده الأنظمة العربية ضد بعضها البعض، ثم نعيب زماننا والعيب فينا وليس لزماننا عيب سوانا. حتى غدت مقولات مثل التنمية، والسوق العربية المشتركة، وفلسطين، والوحدة العربية، وأزمة التراث والحداثة، ومشكلة الدين والدولة، والقائمة تطول، صور متخشبة، ومادة للتسلية. لقد نجحت القارة العجوز بإنشاء الاتحاد الأوروبي مع اختلاف تلك الدول في اللغة والتراث والعادات والتقاليد، وفشلنا نحن في إنشاء الولايات المتحدة العربية على غرار الولايات المتحدة الأميركية. على اي حال، الكلام عن أحزاب اللّه يستدعي دراسة العقلية الحزبية بدقة، هذه العقلية التي تجعل من رموزها ومفاهيمها «طوطماً» يمتلك قداسة سرت إليه من تاريخ موغل في القدم، وهذا ظاهر في الأحزاب الدينية، ولا تخفى في غيرها، لكن الدكتور مقلد اقتصر في دراسة الظاهرة الحزبية على المنهج الوصفي.إن جعل تبديات هذه الظاهرة وحدها محط النظر، يترك القارئ في حيرة، وتساؤل عن الأسباب والعلل الكامنة فيها، والمنتجة لهذه التمظهرات، وهي فجوة - ربما تعمدها الدكتور مقلد - سأحاول أن أسدها ببيان المحركات الأساسية، والأيديولوجيات التأسيسية. نعم، يستعرض الدكتور مقلد ببراعة مواقف وأفكار سياسيين، يمينيين ويساريين، وتعليقات مهدي عامل عليها، وهي معلومات غنية جداً بلا شك، لكنه لا يبين القبليات النظرية التي تكمن خلف هذه المواقف أو تلك الأفكار اعتماداً على ثقافة القارئ وسعة اطلاعه. الكتاب غني بوقائع سياسية في تاريخ لبنان، وممارسات رجال السياسة والمنظرين الذين ينتمون إلى أيديولوجيات متعددة، لذا احتوى الكتاب على أفكار غزيرة في هذا الموضوع، وأعتقد أن المصطلحات التي تعرض لها في العناوين لم تترك زيادة لمستزيد. والحق يقال، ساهمت كتابات مهدي عامل بتفصيلاتها الكثيرة في بيان أكثر وضوحاً مدى تطابق مبادئ الاشتراكية على المجتمع في العصور الحديثة، وهو ما يذكرنا بظاهرة الشرَّاح على المتون في الحضارة الاسلامية، وقد ساهم بقسط وافر في إبداء تفسير ماركسي لتاريخ المنطقة العربية إلى جانب طيب تيزيني وغيره، لا بل إنه استشرف تطورات الأوضاع والأحداث وفق نظرياته عن الصراع الطبقي، وقدرة البرجوازية على إدخال الأمم المتخلفة إلى حلبة الحضارة ونمط الإنتاج الكولونيالي ومهدي عامل كغيره من الماركسيين يريد أن يحيط بالآليات التي تحرك التاريخ والتي تقضي في بعض تفاصيلها أن كل طبقة في أتون الصراع الطبقي تحمل في أحشائها بذور فنائها، فمن أين للرأسمالية أن تجدد نفسها؟ وماركس في كتابه «رأس المال» وغيره، نبّه إلى مواطن الخلل في النظام الرأسمالي، وأبان العوامل التي تؤدي إلى بروز الاشتراكية، لكنه بذلك أخّر الأسباب المؤدية والمفضية إلى الاشتراكية، فقد كانت أفكاره موضع اهتمام الأنظمة الرأسمالية، والمنظرين لها والمنافحين عنها، فعالجوا ما نبه إليه ماركس، بإنشاء نظام الضمان، وتنظيم العمل، وتقديم الخدمات، وتحسين ظروف العيش، وحقوق الانسان، والعدالة والمساواة أمام القوانين. الماركسية كما كثير من مدارس فلسفة التاريخ، أخضعت التاريخ والمجتمع لقوانين العلية، ومفكرو الرأسمالية تنبهوا لهذه القوانين، وعرفوا مفاصلها، إذا لم نكن نريد القول إنهم يتحكمون بها جيداً، البطالة، والفقر والتضخم، والثورة وأسبابها، الصراع الطبقي إلى غيرها من المقولات تم التحكم بها من قبل الرأسمالية وبامتياز، فلا ثورة ولا ما يحزنون، وإن كانت هذه القوى المحركة للتاريخ تطل بين الحين والآخر، لكن النظم الرأسمالية نجحت في ردم الهوة بين الطبقات أو فقل جسَّرتها. هل يجب أن نعترف مع فوكوياما بنهاية التاريخ، وأن الرأسمالية والليبرالية هي النموذج الأرقى، وأن العقل البشري لا يمكن - ولو تصوراً - أن يأتي بنظام أرقى؟ بنية الإسلام السياسي يبدو أن الدكتور عادل ضاهر قد كفانا مؤنة تحديد البنيات الأساسية المشتركة للحركات الاسلامية على الشكل التالي: 1 - النقل ذو أسبقية على العقل. 2 - لا يمكن للإنسان أن يتدبر أمور دنياه إلا بتدبير إلهي. 3 - لا اجتهاد في موضع النص. 4 - لا تعارض بين قيام دولة اسلامية والديمقراطية في بعض جوانبها. 5 - الاسلام دين ودولة.(عادل ضاهر، أولية العقل: نقد طروحات الاسلام السياسي، دار أمواج، بيروت، طبعة أولى، 2011م) لكن هل تعبر هذه الأساسيات عن أيديولوجيا؟ إن فرنسوا بورجا يعرف الاسلام السياسي بصورة مغايرة جداً، تعريفاً لا يتمركز حول نواته العقائدية، إنما حول إطاره الاجتماعي. يقول: إن اللجوء إلى مفردات الاسلام تقوم به في بادئ الأمر الطبقات الاجتماعية التي لم تستفد من مظاهر التحديث الايجابية، والتي تعبر عن مشروع سياسي بديل لسلبيات التطبيق الحرفي للتراث الغربي، وهي بذلك تسمح - عن طريق إيجاد مصالحة بين رموز الثقافة المحلية والثقافة الغربية - بتوظيف العناصر الأساسية فيما يطلق عليه التراث الغربي (فرنسوا بورجا، الاسلام السياسي في زمن القاعدة، ترجمة: لورين زكرى، دار العالم الثالث، القاهرة، ط 2، 2001م، ص 71-72). هذا الاتجاه إلى التأكيد على الجذر الاجتماعي للاسلام السياسي لا نجده عند بورجا فحسب، بل نجده كذلك عند فالح عبد الجبار (العمامة والأفندي، سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني، ترجمة أمجد حسين، منشورات الجمل، بيروت بغداد 2010م) (وراجع أيضاً الاسلام والسياسة والحركات الاجتماعية، تحرير: بيرك، ولابيدوس). ومهما يكن، فإن ما ذكره عادل ضاهر، لا يشكل أصلاً نواةً عقائدية متفقاً عليها، فإن الالتباس يحيط بأكثرها، خذ مثلاً مفهوم الدولة، فإن هذا المفهوم ما زال ضبابياً في ذهن الاسلاميين. وهو يعكس خلطاً بين مفهوم السلطة وبين مفهوم الدولة التي هي شخصية معنوية في الاصطلاح القانوني السياسي، يشهد لذلك، أن الشريعة الاسلامية والفقه الاسلامي في ظل نظام الخلافة، لم يعرفا مفهوم الشخصية المعنوية، على أن التفكيك بين مفهومي السلطة والدولة، يشكل محوراً يسلط الضوء على الإشكالية التي طرحها في مطلع القرن الماضي علي عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم. إذا تجاوزنا رأي حزب التحرير في الديمقراطية وانها كفر، قد يحلو للبعض أن يزاوج بين الاسلام بنظامه الذي يدعو إلى الأخذ بالشورى وبين النظام الديمقراطي، وهذا موضوع قد نتعرض له، لكن مهما كان معنى الديمقراطية، وهذا ما توسع فيه حسن قبيسي، هي الاعتراف بالآخر، احترام الحريات، أو إنها الحد من سلطة الدولة.. فإنها تحدد وصول الفرد إلى السلطة بآليات يمكن اللعب بها بسهولة، فالحاكم في الدولة التوتاليتارية وصل إلى السلطة بآلية الانتخاب التي تمثل إرادة الشعب، وقد تم صوغ هذه الإرادة عن طريق الميديا، ووسائل الإعلام العملاقة التي جعلت الإنسان والشعوب ذا بعد واحد، كما أشار إلى ذلك ماركيوز في كتاب يحمل نفس العنوان «الانسان ذو البعد الواحد». هذه الوسائل الاعلامية تستثير الشعب وتوجهه باتجاه واحد حين تُحرك فيه بصورة ذكية غريزة القطيع التي تحدث عنها فرويد في كتابه «علم نفس الجماهير»، وتوسع فيها غوستاف لوبون في كتابه «سيكولوجيا الجماهير». يضاف إليه، أن الناتج في الانتخابات الديمقراطية هو حكم الأقلية، وليس الأكثرية. لنفرض أن عشرين حزباً رشح كل واحد منهم شخصاً للتنافس وللوصول إلى السلطة، ففي النهاية سيكون الفائز واحداً منهم، وبالطبع هذا الواحد سوف يمثل الأقلية، لأن ناخبي مجموع الأحزاب الخاسرة أكثر عدداً، فالحاصل أن الذي يحكم هم الأقلية. ثم عن أي شعب نتحدث؟ عن هذه القطعان!!! التي تتقاذفها الأهواء والمصالح الشخصية، وتلعب بعواطفها ومشاعرها، وتزدري عقولها دهاة السياسة؟ فاتساع القاعدة الجماهيرية التي تنادي بمبدأ معين، لايمكن أن يكون مقياساً لنجاح هذا المبدأ مع غياب النضج الجماهيري، وهبوط مستوى الوعي لديها. والتاريخ زاخر بتجارب واقعية كثيرة تفيد أن انعدام الوعي، أو تزييفه، يمكن أن يؤدي إلى التفاف الجماهير حول أمور لا يمكن أن تكون لها قيمة في ذاتها. وعليه فالديمقراطية معضلة بحد ذاتها، لكنها نظام الحكم الأقل سوءً (راجع: دوروثي بيكلس، الديمقراطية، ترجمة: زهدي جار الله، دار النهار، بيروت 1972). وقد أشار العديد من الكتاب إلى أن الديمقراطية المعاصرة هي نسخة مغايرة للديمقراطية بمعناها القديم في أثينا (راجع أيضاً، نظام الإثينيين لطه حسين) كل النواة العقائدية قابلة للنقاش حتى بنظر دعاة الإسلام السياسي، وهذا ما يقوي نظرية فرنسوا بورجا في أثر الإطار الإجتماعي في بروز هذه الظاهرة، من دون أن نغمط من قيمة الجانب العقدي. لكن هذا شيء وما يصدر من نصوص وأقوال عن كثير من قادة الحركات الأصولية الشيعية والسنية شيء آخر، لأنه إذا أمكن أن يطلق عليها مصطلح فكر فهو على سبيل المجاز، لأنه وبالاستقراء لا يوجد ما يليق بهذا الاسم في نصوص هؤلاء، وإنما مجرد شعارات مبتسرة، وفتاوى غالباً ما تكون متسرعة، لكن لا يخدعنَّك كون هذه النصوص فقيرة بشكل مدقع، فإنها أقوى مما تظن بكثير، لا لأنها استطاعت تجييش الناس بالملايين بسبب شعاراتها البسيطة التي يسهل على العامة فهمها، بل لأن هذا الفكر وإن قرر الانسحاب لصالح هذا الشعار أو ذاك، إلا أنه قابع في روحه، لأنه يتكئ على تراث علمي غاية في المتانة، إنه كجبل الجليد، لا يظهر منه على سطح المحيط إلا مقدار بسيط قياساً لحجمه. إنها خطابات تعتمد على اللاوعي الجمعي في قوتها، ومن هنا مقدرتها مع النصوص الدينية على تفجير الغرائز التحتية الضيقة، والعصبيات الطائفية. إنها معضلة محيرة، حتى أننا لا نملك تصوراً لكيفية الخروج منها، وكيف نخرج منها و الماكينة الإعلامية الغربية لا زالت تدعم هذا الخطاب عبر عشرات المحطات التلفزيونية ومواقع التواصل الإجتماعي، فالمصائب لا زالت أمامنا أكثر مما هي وراءنا، والمخزون الطائفي المحتقن والمليء بالعنف لم يفرغ - على ما يبدو - كل شحناته بعد، إنه مخزون تاريخي متراكم منذ زمن صدر الإسلام. هل من شك بعد ذلك كله في أهمية الاطلاع على آلية عمل المنطق الداخلي لخطابات الإسلام السياسي؟ هذا المنطق هو ما أشارت إليه أكثر من مرة، واحدةٌ من تلامذة هيدغر وهي حنة أرندت المشهورة بعملها على تحليل الظواهر الفاشية والتوتاليتارية، من أن الأمر لا يتعلق بالإكراه أو الإستحسان، وإنما بالفهم، فأول شيئ يجب أن نفعله أمام ظاهرة من هذا النوع هو أن نفهمها، أعني فهم مبرراتها ومنطقها الداخلي، والتخريجات النظرية ومنطلقاتها الأساسية الضاربة في التاريخ. غير أن الدكتور مقلد اختط لنفسه منهجاً ينأى به عن الخوض في غمار فهم المنطق الداخلي لمجموع الظواهر مكتفياً بالبحث في التجليات، فهو بعد أن بين أن ثمة فئات ثقافية ثلاثاً تعمل في حقل الثقافة: فئة تهتم بإنتاج الأفكار والنظريات كالعالم، والفنان، والفيلسوف وفئة تهتم بتطبيقها كالطبيب، والمحامي، والمهندس، وكالحزب في المجال السياسي.وفئة تنشرها كنشطاء الأحزاب، والمنظرين، والعاملين في حقلي الإعلام والتعليم. إلى أن قال: الفئة الرابعة: وهي التي ينتمي إليها أهل الممارسة النظرية، وهي التي تبحث في العلاقة بين الحقول الثقافية الثلاثة الآنفة الذكر، مسترشدة بالفكر النقدي منهجاً، جاعلاً من بحثه حصراً في اطار الممارسة النظرية هذه، وهو مصطلح يلتقي مع مصطلح «التفكير المزدوج» عند «جورج أورويل» في روايته 1984 في أنه مبتكر، فلا وجود له في المعاجم الإصطلاحية المعتمدة مثل موسوعة لالاند، لكن هذا لا يهمّ. ثم قال: كما لن يكون من بين هموم الكتاب تحليل المضمون الطبقي للصراعات القومية ولا البحث في تأسيس النظرية والعوامل التي تنهض عليها قضايا الأمة العربية الموجزة بالثالوث المقدس، الوحدة والحرية والاشتراكية، بل سيركز على الطرق والوسائل والأساليب التي استخدمتها الأحزاب لتوظيف هذه الأسس وتلك العوامل في عملية التعبئة الحزبية وفي رسم خطوط المواجهة بين جبهة الأعداء وجبهة الأصدقاء. وكذلك الأمر فيما يتعلق بمسائل الفقه والمعتقدات الدينية التي لن يتناول هذا الكتاب أسسها الفلسفية واللاهوتية، بل الفكر الديني، أي تجسيدات الوعي الديني في عقول شرائح ومعممين ومبشرين لا يبتغون من شرح العقيدة للمؤمنين وتوجيههم لممارسة طقوس الإيمان بطريقة «شرعية» بقدر سعيهم إلى إعداد جنود في جيش الاستيلاء على السلطة السياسية. إذاً، ينصب الإهتمام على تجسيدات الوعي الديني، وتبديات هذا التجسد بما يذكرنا بظواهرية (فينومينولوجيا) هوسرل، وهذا ما قد نغفره في ايديولوجيات الأحزاب على اختلافها قومية، ناصرية، ماركسية... لكن فيما يتعلق بالأحزاب الدينية فإن الأمر مختلف جداً، ذلك أن النص الديني نص آسر لا يسمح لأتباعه إلا بتقمص دور المتلقي، وهو فوق ذلك يتميز عن باقي الايديولوجيات ببعد ميتافيزيقي. بالطبع، يمكن الاختصار في الدراسة على ظواهر الوعي الديني ومديات تلونه في عقول اتباعه غير أن دراسة كهذه ستكون مبتسرة وغير وافية بنظر القارئ، لأنها ستجعله في حيرة من أمره، إذ كيف يمكن للنص الديني أن يعطيني الشيء ونقيضه، كيف يمكن لهذا النص أن ينتج اعتدالاً دينياً، كما في الاسلام الماليزي، والاندونيسي، وربما التركي في تصالحه مع الحداثة، وقيم الديمقراطية مع منظومة قيم في السياسة، والاقتصاد والمجتمع، والثقافة، وطريقة حياة ومنهج تفكير. وفي الوقت عينه، ينتج هذا النص إسلام حزب التحرير اتباع تقي الدين النبهاني، حيث الديمقراطية في ايديولوجيا هذا الحزب كفر صريح، مع ما تحمله هذه العبارة من شحنات فكرية وعاطفية.وأيضاً، النص نفسه ينتج السلفية الدعوية والسلفية الجهادية المتمثلة في القاعدة وداعش وحركة التكفير والهجرة، وبوكو حرام.... هذا الأمر لا نجده فيما يتعلق بالايديولوجيات اليسارية وغيرها، نعم قد تجد بعض التمايزات مما يسمى في المنطق الأرسطي «فرق غير فارق»، ومثلما هو الحال بين الاشتراكية الماركسية، والاشتراكية الفابية. وعلى نفس الشاكلة أفكار تروتسكي وغرامشي وفيما كتبه اسحاق دويتشر، أعود وأقول إن هذه الاختلافات فرق غير فارق، لفقدانها البعد الميتافيزيقي، الذي سيؤدي عدم العناية به إلى فقدان الرابط بين أفكار سروش، وملكيان، وشبستري، وآركون، والجابري ونصر حامد أبو زيد، وحسن حنفي، والصادق النيهوم، وفضل الرحمن وأحمد خان، والأفغاني، وعبدو، والقائمة تطول من جهة، وبين أفكار سيد قطب والبنا والظواهري، وإبن لادن، وقائمة طويلة من شخصيات في شرق البلاد وغربها من أخوان وسلفيين. إنه النص المقدس بأبعاده الميتافيزيقية وهذه ميزة لا نجدها في نصوص اليسار والأحزاب الأخرى. ليس الأمر حكراً على الإسلام وحده بل كل الأديان تشترك في هذه الخاصية، لأنها كلها إلا ماندر (البوذية) تملك هذا البعد الميتافيزيقي في نصوصها، وكل يدعي فهم هذا النص، وتأويله وإذا لم ندرك البعد الميتافيزيقي والطاقة التأويلية الكامنة فيه، فسوف لن نرى الفرق بين الكاثوليكية، والأرثوذكسية، والبروتستانتية، وسوف لن نعرف ما الذي يجمع بين توما الأكويني وقبله القديس أوغسطين وبين لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية وهكذا... تكمن أسباب كل هذه التمظهرات في النص الديني المتفجر، وهذا ما تفتقده الأحزاب غير الدينية، لذا يجب النظر إلى الإسلام السياسي على أنه ايديولوجيا بالأساس، لكن في حقل السياسة - وهي فن الممكن- لم نجد جهداً مبذولاً لجمع اليسار مع الاسلام السياسي، ذلك لأنه مع الاتحاد في الأهداف، لم تتحد الوسيلة، مع أن ذلك ممكن، لأن الواقع السياسي والاجتماعي سار في طريق حتّم تاريخياً بروز الاسلام السياسي على أنقاض ما سبقه، بعد إخفاق الحركات القومية وانحسار المد الماركسي، أما المد القومي الذي أرسيت مبادئه النظرية بين الحربين على يد ساطع الحصري، ثم المد الناصري، فالماركسي وغيرها فلم يقدّموا شيئاً يذكر على صعيد نهضة الأمة، بل أسهما في هدر طاقاتها وكبح تطلعاتها، إن على الصعيد الداخلي المتمثل في فساد الأنظمة السياسية الغارقة في العائلية، والمحسوبيات، إذ ضاعت الكفاءات على حساب الولاءات، وانتشرت البطالة والفقر وغيرها من الأمراض الاجتماعية، أم على الصعيد الخارجي حيث سادت التبعية السياسية والاقتصادية للغرب، فبان العجز فيما يخص القضية الفلسطينية والصراع العربي الاسرائيلي، وكذلك فيما يخص الدخول في الحداثة، وبات يفصلنا عن الغرب مئات السنين الحضارية، ولا ندري كيف نجسرها أو نردمها، وهنا يطيب لي - قبل تجاوز هذا الموضوع - أن أذكر منقبة مهمة، سادت زمن سيطرة اليسار في المنطقة العربية، وهي أن له الفضل في إيجاد طبقة مثقفة، وهذا ما تفتقده جداً الحركات الإسلامية اليوم. أزمة الاسلام السياسي إن أخطر ما يعاني منه الاسلام السياسي، بل أخطر ما في الاسلام السياسي، هو اليقين على الصعيد السياسي والاجتماعي والاجرائي، مثل العلاقة مع الآخر، الحقوق، الحريات، إلى غير ذلك، إن اليقين الذي يجب أن يحمله المؤمن في قلبه هو اليقين بالميتافيزيقيا «وبالآخرة هم يوقنون» لماذا؟ لأنه ومن الناحية التاريخية كانت عصور اليقين في حياة البشر هي عصور الأنحطاط. لقد كان اليقين سمة البدائي، فسادت حينها الأساطير التي لم يتطرق إليها شك، وكذلك الحال في العصور الوسطى كان المعتقد اليقيني هو الحالة العقلية السائدة، سواء أكان على الضفة الشمالية للمتوسط أم على الضفة الجنوبية، أو في الشرق الأوسط وصولاً إلى أواسط آسيا، يقين الحقائق المقدسة تقديساً دينياً، أو اجتماعياً، أو يقين المعرفة التي تخشبت في الفلسفة القديمة، لولا الحركة السوفسطائية المظلومة دوماً في تاريخ الفلسفة اليونانية. في مقابل ذلك، كانت عصور الشك والنقد والمساءلة، هي عصور التقدم والنهضة، كما كان الأمر في النهضة الاسلامية، ولا سيما القرون الثلاثة الأولى أو في أوروبا في مرحلة الرشدية اللاتينية (راجع: جينيفر مايكل هيكت، تاريخ الشك، المركز القومي للترجمة 2014)، بل أوجبت الماتريدية من الأحناف الشك على المكلف، لأنه إذا لم يشك كان مقلداً في العقائد، وهذا ممنوع، ولا يبدأ الشك إلا عندما ينتهي التقديس. قليل من الشك يحي عقل الإنسان، الشك ليس سلباً ولا هدماً، إنه الرافعة التي يتكئ عليها العقل الإنساني للوثوب إلى مواقع فكرية وحضارية جديدة، نخضعها بدورنا لدورة الشك واليقين من جديد، وهكذا نتقدم، وهكذا ندخل في الحداثة، وتالياً ما بعد الحداثة. فبين الشك واليقين جدلية، على نحو ما بين الفكر والواقع من جدلية في الأدبيات الماركسية. هذه الجدلية تدل على ارتباط عضوي، إن مع اليقين شكاً، وإن مع الشك يقيناً، وليس بعده كما في قوله تعالى: إن مع العسر يسراً وليس بعده بل معه. ولولا هذا التلازم والتكامل بين اليقين والشك، لما عرفت البشرية في تاريخها أي منجز حضاري في قطاع معرفي أصلاً. وسيأتي أن أهم أسباب العنف في الممارسة الدينية هو اليقين الديني تجاه الآخر، وهنا نذكر بمقولة نيتشه المشهورة: ليس الشك وإنما اليقين القطعي هو الذي يقتل. وهو ما يفسر هذا العنف في المجتمعات غير الدينية، والذي تمارسه الدول الغربية في العالم الثالث لكن الغرب - وبكل صلافة - يَسِم الإسلام دوماً بالإرهاب، وكأنه غريب عنه أو بريء منه. ومن أجل ذلك، يحرص الاسلام السياسي على نشر وسيادة العقلية الدوغمائية بين أتباعه. إجابات جاهزة عن كل سؤال يزيح عن عقله عبث التساؤل والنقد، الذي أمر اللّه تعالى به (بل نتبع ما ألفينا عليه اباءنا)، والآية مطلقة، وتعبر عن دعوة أبدية إلى المداومة على وضع التراث موضع المساءلة، والحال أنه لا مكان لهذه العقلية الدغمائية في عصر انهيار اليقينيات حتى في العلوم. وبكلام آخر، الأحزاب الدينية يحمل أصحابها العقلية الدغمائية ويشاركها في ذلك جلُّ الأحزاب العلمانية في المنطقة العربية إن لم يكن كلها. الصراع المذهبي ومن أزمات الاسلام السياسي أيضاً الصراع المذهبي، وهو من الأمراض التاريخية المزمنة التي تحكمت بالحياة العربية والاسلامية في العصر الحديث، ومنعت العرب من دخول حلبة الحضارة، فالتخلف لم يكن وليد فطرة اختصها اللّه تعالى للعرب، بل هو وليد تطور تاريخي وظروف فكرية، وعوامل اقتصادية واجتماعية، ومذهبية لها الدور الأكبر، كل ذلك والإرادة مشلولة، لأن وعي التخلف يعجز عن البناء، وإن كان يجيد الهدم لما بقي من بناءات فكرية تنويرية، والدكتور مقلد لم يسلط الضوء كثيراً على أثر الصراع الطائفي في تدهور الأمة في تعليقه النقدي على أفكار مهدي عامل. قالها الجبرتي في تاريخه: لقد أيقظت مدافع نابليون الشرق من سباته العميق، لكن يقظتنا لم تكن حاسمة ها هي المذهبية والطائفية تتلقفنا من كل حدب وصوب، إننا ننتحر وهذا يذكرنا بمقولة أرنولد توينبي في دراسته عن الحضارة «مختصر دراسة للتاريخ» يقول: إن الأمم لا تُقتل بل تنتحر.ولا ينبغي الاسترسال فيما تجره هذه الصراعات من هدر للطاقات الاقتصادية والفكرية، فالكل ماثل أمام أعيننا، ونحن سادرون، والأمم تتكالب على ثرواتنا. وحتى تدرك عبثية الصراع المذهبي الطائفي، وتدرك تفاهة الأسس التي يرتكز عليها، أشير إلى مسألة مهمة بل غاية في الأهمية، وهي موضوعة الإمامة كمفردة من مفردات الفقه السياسي الاسلامي، التي قال عنها الشهرستاني في الملل والنحل: إنها أعظم خلاف بين الأمة، إذ ما سلَّ سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان (راجع الملل والنحل 1/22). البعض قد يناقش هل هي قاعدة دينية حقاً؟!!! يرى هذا البعض، أن نظرية الخلافة أو الإمامة في الاسلام، هي انقلاب سياسي وقع في تاريخ الاسلام على مبدأ الشورى القرآني بعد وفاة النبي، وقد تنبأ القرآن بهذا الانقلاب - والكلام لهذا البعض - بقوله تعالى (وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئا (آل عمران/144). سواء أكان صالحاً أو طالحاً، إن في القرآن الإعلان الحاسم لموت السلطان، أو الخليفة، أو الإمام، أو الرأس، فهو يرى أن القرآن العظيم قد نسخ كل الأساليب التاريخية لرئاسة الفرد على الكل، لتحل محلها رئاسة أو قوامة كل الناس، ويستدل على ذلك أن القرآن الكريم وضع تشريعاً إسلامياً للقاضي العادل، ولم يضع التشريعات الاسلامية للرئيس العادل، أو الملك العادل، وأن ذلك تمّ في لحظة التنوير القرآني، هذه اللحظة التي ضاعت منذ ما يقرب من أربعة عشر قرناً. وقد بقيت بعض الأحافير لهذه النظرية المقتولة في الفكر السياسي عند الخوارج وعند أبي بكر الأصمّ من المعتزلة، الواجب عند هؤلاء إنما هو إمضاء الحكم بالشرع، فإذا تواطأت الأمة على العدل، وتنفيذ أحكام اللّه تعالى لم يحتج إلى الإمام ولا يجب نصبه (ابن خلدون، المقدمة 172 طبعة الشعب). وإذا أردنا أن نمثل لهشاشة هذا النزاع الذي مزَّق الأمة إلى ثلل متقاتلة، فهي تشبه حال رجلين، تنازعا على كنز في منزل مهجور، فدخله ثالث ليخرج عليهما بعدها، ويخبرهما أن لا كنز أصلاً يستدعي أن تتقاتلا عليه. إذاً القدر المتيقن أن القرآن يدعو إلى نظام الشورى أي نظام المؤسسات، لكن الشورى في الفقه السياسي الاسلامي مقطوعة اليدين والرجلين، فهي غير ملزمة للحاكم (الخليفة) فصار وجودها كعدمها (راجع، كتب الآداب السلطانية، الماوردي، أبو يعلى الحنبلي). هذا الاقصاء لنظام الشورى والمؤسسات، ترك الفكر السياسي في صراط التخبط، خذ مثلاً العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الفقه السياسي الاسلامي، فقد ادعى البعض من دعاة تحديث التراث تماهي مفهوم الانتخابات الديمقراطية مع مفهوم البيعة في الاسلام، وغفل عن أن مفهوم البيعة يقوم على التكليف، بينما تقوم الانتخابات على الحق، فلا تعادل بينهما، فالبيعة ليست من حق المبايعين بل من تكاليفهم وواجباتهم، وأن من لا بيعة في عنقه مات ميتة جاهلية، كما في الأدبيات الاسلامية، خلافاً لظاهرة الانتخابات التي تعتبر في الفقه السياسي الحديث من حق الناخبين، وهكذا كثير من المفردات التي لا يسع المقام لذكرها وعرضها. والاسلاميون يطوعون النص ليتلاءم مع ما استجد من مفاهيم في المجتمع الحديث، وهم المسكونون بعمق في الصراعات المذهبية، فإذا اعتقد أحدهم أن الاسلام لا يعادي الاشتراكية، اعتبر الاسلام نظاماً اشتراكياً، فكتب الدكتور مصطفى السباعي كتابه «اشتراكية الاسلام» وإذا اعتقد بديمقراطية الاسلام وأنه يقول بالحريات وحقوق الانسان والديمقراطية، وجدنا راشد الغنوشي يكتب «الحريات العامة في الدولة الاسلامية» وكتابه الآخر «الديمقراطية وحقوق الانسان في الاسلام». وإذا اعتقد بالإمامة على الطريقة الشيعية نادى بولاية الفقيه، وإذا بكى أو تباكى على سقوط الخلافة أواخر الدولة العثمانية، نادى بعودتها، وأسس هذا التشتت هو الصراع المذهبي والانقسام الطائفي، فهو الذي يفرز هذه الظواهر. وكل يروج لمذهبه حتى حاصرتنا الشعائر والشعارات من كل جانب، «ويغيب العمر في صحن الربيع». لا ننكر أن بين الاسلام والحداثة تقاطعاً، لكن ما به الافتراق ضاغط وبقوة، وهو ما يشكل أزمة العلاقة بين التراث والحداثة إلى جانب أزمة التراث مع نفسه، كلنا «مصطفى سعيد» في رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» وكلنا «محسن» في رواية توفيق الحكيم «عصفور من الشرق». يجانب العلمانيون، ودعاة تجاوز التراث الصواب، إن الماضي والموروث لا يموت، فإسماعيل باق فينا(اسماعيل رمز التراث في ديوان ادونيس «الحصار»،بيروت،1985) نعم قد يخمد، ويتوارى إلى حين، لكنه يبرز ويتفجر من جديد في أتون صراعات مذهبية، ولا مشاحة في الدعوة إلى تجاوز التراث، لكنه تجاوز إعمال، وليس تجاوز إهمال، أعني لا بد من استيعابه وهضمه ومن ثمَّ القفز إلى المعاصرة، والدخول في الحداثة، وهذا يحتاج إلى ورشة عمل تقوم على الإبداع وفق المقاصد الشرعية، وتجاوز المنظومة الاسلامية السائدة لا على مشاريع استخراج المفاهيم الحديثة من عمق التراث، لأن هذا عمل يجانب الصواب في مواطن كثيرة، وذلك لانتماء كل من الحداثة والتراث إلى حقول معرفية متغايرة، وهذه المغايرة لا تفقد التراث حيويته وحضوره. على كل حال، ما نريد أن نقوله هنا هو أن الانقسام المذهبي هو أحد المصادر، إن لم يكن أهمها لتكوّن الاسلام السياسي، وأسواق الكتب العربية حبلى بالمؤلفات القديمة والحديثة لتوكيد النزعة التعصبية والمذهبية بين الناس. أسلمة العلوم من أزمات الاسلام السياسي شعوره الحاد بتفوق الغرب عليه، ومن ثم ممارسة الغرب واستغلاله لهذا التفوق في نهب ثروات العالم الاسلامي، ونجد تجلي هذا التفوق في العلوم والمعارف، وهذا ما يشعر به المسلم عادة. فبعد أن انهارت سلطة الكنيسة وتقوضت في الغرب، وذلك بصعود وتطور الفكر السياسي وتحرك عجلة العلوم والكشوف العلمية، خشي رجال الدين في العالم الاسلامي، أن يكون مصير الدين الاسلامي مماثلاً لمصير المسيحية في الغرب، فاعتراهم فوبيا التطور، والعلم الحديث واكتفوا بالتلويح برفض كل ما يرد من الغرب، فكانت المطبعة شيطاناً في نظرهم، كما نقل الجبرتي في تاريخه. نلمس هذه الظاهرة أيضاً في كتاب الأفغاني «الرد على الدهريين» في نقض نظرية دارون حول النشوء والارتقاء، ومن الواضح أن الأفغاني عرف نظرية التطور بصورة مشوهة جداً، وقد بينت في كتابي «الاسلام وتطور الاحياء» أن النظرية لا تتعارض بحال مع النص القرآني، لا بل إن النص القرآني يساعد عليها. وخلاصة المسألة، أن الاسلاميين قسموا الموجودات إلى أربعة أقسام، لا خامس لها، وهي: الجماد والنبات، والحيوان، والانسان، وأن في النبات ما في الجماد وزيادة قوة النمو، وأن في الحيوان ما في النبات وزيادة قوة الحس، وأن في الانسان ما في الحيوان وزيادة قوة العقل والتفكير، وقد بيّن القرآن الكريم هذه المراتب، ففي المرحلة الأولى ثمة مجموعة من الآيات تتحدث عن أن اللّه سبحانه وتعالى خلق الانسان من جماد (تراب - صلصال - طين) وعن المرحلة الثانية يقول تعالى: (والله الذي أنبتكم من الأرض نباتاً) وفي المرحلة الثالثة يقول تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ) وهذه السلالة مخلوقة من طين ولا يقال سلالة إلا لكائن يتناسل وهو الحيوان، وعن المرحلة الرابعة يقول تعالى: (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ). فإذا رأى دارون أن الانسان انفصل عن دوحة الحيوان، فقد أرجع اللّه تعالى أصل الانسان إلى ما هو أحط، أي إلى التراب. والله تعالى إزاء طريقتين في كيفية الخلق، إما أن يخلق الانسان خلقاً دفعياً، وإما أن يخلقه خلقاً تطورياً، على كل من أراد الاستزادة له أن يرجع إلى الكتاب الآنف الذكر. هذا نموذج، أذكره لأدلك على ردود الفعل اللامعقولة إزاء العلم إلى أن ارتأى بعض القيمين على النص الديني وتفسيره، القيام بمشروع الأسلمة لهذه العلوم، وذلك بتتبع منجزات العلوم ومخترعاته، ثم تنسيبها مع النص الديني بصورة صبيانية في كثير من المحطات، وقد برع في ذلك صاحب تفسير الجوهري (طنطاوي جوهري) وتم انشاء مركزين: الأول في مصر، والثاني في اندونيسيا أو ماليزيا. الأمر نفسه فيما يتعلق بالمفاهيم السياسية والاجتماعية، والفلسفية الوافدة من الغرب مثل مفاهيم المواطنة، والثقافة والعلمانية، والحريات، ومنظومة القيم الغربية. وقد تعرض الدكتور مقلد لبعضها. تنطوي الأسلمة على خطورة ربط النص الديني بالعلم الذي من سماته التغير، وكم من قضية علمية كانت صحيحة بالأمس تبيّن خطأها فيما بعد. لذا ندعو إلى تعميق المفاهيم الاسلامية كما المفاهيم الوافدة كمعادل موضوعي للأسلمة. وبهذه المناسبة، نقول فيما يخص العلمانية، على الأقل في المجتمع اللبناني، إننا مع العلمانية سواء أكانت بمعنى فصل الدين عن الدولة أم - كما قال الدكتور مقلد - بمعنى فصل سلطة رجال الدين عن سلطة الدولة، وذلك لحماية الدين من تلاعب السياسيين، وليس لحماية السياسة من الدين، كما قد يتبادر عند البعض، وهذا لا بد أن يصار إليه في بلد تتحكم الطائفية في مفاصله الاجتماعية مثل لبنان على ما فصَّله مهدي عامل في كتابيه عن الطائفية. نعم، تصالح الديني والسياسي في التاريخ الاسلامي، وهو ما أدى إلى اختلاط الديني بالتاريخي فعسر على العلماء المتأخرين الفصل بينهما، لذا نقول: إن مصادر الاستنباط الفقهي ليس القرآن والسنة والاجماع والعقل فحسب، بل ثمة مصدران أهم منها، يتحكمان بالمنظومة الفقهية السائدة، هما التاريخ والسياسة، وهذا واضح لمن يقرأ تاريخ الفقه بصورة نقدية بدءاً من القرن الأول وصولاً إلى العصور الحديثة، وسيدرك أن السياسة هي من غيب الفقه السياسي كقطاع فاعل في الفقه، حتى بدت لنا كتب الآداب السلطانية هزيلة ومبتسرة، وإلى الآن لا يمكن معرفة ما هو شكل الحكم في الاسلام، ولا يوجد تصور خاص في الاسلام عن شكل الدولة، هل الحكم ملكي، جمهوري، نيابي، شورى، ولاية فقيه، خلافة، وكما ترى العالم الاسلامي تتقاسمه هذه الأنواع، إما على أساس وضعي أو مذهبي، ربما لأنها من الوسائل لا الغايات، والأحكام الدينية غائيّة غالباً. ولا يمكن عزو غياب الفقه السياسي إلى عجز في العقل الاسلامي عن متابعتها، وبين أيدينا كتاب «السير الكبير» لمحمد بن الحسن الشيباني مؤسس فقه القانون الدولي، فالموانع خارجية بحتة. جيد، لكن الفقه السياسي في الاسلام لم يبين أيضاً آلية وصول الفرد إلى السلطة ولا آليات عزله، ومدى سلطته ومعروف أن الفصل بين السلطات لم يعرف إلا مع مونتسكيو في كتابه روح الشرائع، وكذلك لم يبين الفقه الاسلامي آلية تداول السلطة بين النخب الفاعلة في المجتمع، ولا نوع العلاقة مع الأقليات السياسية، فضلاً عن أنه لا يوجد نموذج يشجع على الاقتداء به في التاريخ السياسي الاسلامي. كل ذلك مغيَّب، ومع وفود مصطلحات جديدة من الغرب مثل: الليبرالية الرأسمالية الاشتراكية، سيل عرم من المصطلحات الحديثة، أوقع الفقه الاسلامي في عجز مضاعف، ومن الطبيعي حينها أن تسود التوتاليتارية، والاستبداد، والقهر، من المحيط إلى الخليج «سجان يمسك سجان»، كما يقول مظفر النواب. واستطراداً، أشير إلى نقطة لم تخضع للبحث في الفقه السياسي الاسلامي، وهي أن تتبع مجمل النص القرآني يقودك إلى الاعتقاد أن النص يريد أن يستنسخ نظاماً اجتماعياً، وطريقة حكم سادت في مرحلة زمنية من تاريخ بني اسرائيل، وهو المسمى بعصر القضاة، حيث كان القضاة هم من ينظم المجتمع، وكانت السلطة بأيديهم. وذلك من خلال الآيات التي تعلي شأن القاضي الحاكم، والتأكيد البالغ على دور الشهود، والمعلوم أن مادة «شهد» في اللغة، تدل على الذي يدلي بالشهادة في مجلس القضاء، وهو كذلك في كل مواردها في القرآن الكريم. وليس المقصود بالشهيد من يقتل في سبيل اللّه تعالى الذي جاء التعبير عنه بمادة «قتل» «ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله» ومثله «يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون» والأمر يحتاج إلى تدبر. أزمة المصطلح الاسلامي لقد أعاد الفكر السلفي، والاسلام السياسي في طروحاته الأيديولوجية المفردات الأساسية إلى الواجهة، ما الاسلام؟ ما الايمان؟ ما التوحيد؟ هل يكون مسلماً من يحمل بطاقة هوية تشير إلى دينه فحسب؟ ماذا لو نطق بالشهادتين ولم يصل، أو لم يصم، أو لم يقم بما وجب عليه شرعاً، هل يكون والحالة هذه مسلماً أصلاً، أو هو مسلم فاسق، ماذا لو قام بكل ما يجب عليه في الاسلام وعبد غير الله؟ كيف؟ سأشرح ذلك بأوضح بيان كما لم يسطر في كتاب أصلاً، وإنما استقيتها واستنبطها من مصادر الفكر السلفي، من ابن حنبل، ومحمد بن عبد الوهاب، مروراً بابن تيمية، وابن مندة، وابن بطة، وغيرهم. وبالتأكيد ليس هذا الشرح، بله، هذه المقدمة بصورة عامة، ترويجاً لأي فكر، وأنا لا أغفر قراءة لها على هذا النحو، وإنما أبيّن كيف أن التخريج النظري شديد الإحكام، ولا يسهل هدمه، لذا نرى هذا الفكر يقفز إلى الواجهة كلما سنحت الظروف في الساحة الدولية والمجتمعية على شكل قبائل متناحرة، كما كانت عليه الحال في محطات تاريخية عديدة. وهكذا تترك مصائر الشعوب العربية نهباً للتخلف السياسي والتعصب المذهبي، لقد قرأنا الغرب جيداً، فأدرك فينا مكامن الضعف، وأهمها النزعات التعصبية بين السنّة والشيعة ومع ذلك، وبالنظر إلى مبادئ كل منها، يمكن تصور صيغة تعايش بينهما مع اختلاف أيديولوجيتهما وابعادهما الفكرية في إطار دولة حديثة، لكن الخطر كل الخطر، يكمن في السلفية الوهابية. إننا نقع في خطأ كبير حين نقوم بتسفيه الفكر السلفي، وهو لم يقرأ جيداً أصلاً، وقد تورط في ذلك شخصيات فكرية مرموقة في العالم الاسلامي، والمضحك المبكي معاً، أن أحداً لم يقم بتشريح هذا الفكر، وبيان مكامن قوة الجذب فيه، وأسباب هذا الانتشار. كما أنه من الخطأ عزو ذلك إلى المال الخليجي فحسب، وإن كان له الدور الأكبر في نشر هذه الأيديولوجيا. حتى القوى التي تقاتل وتحارب السلفية، داعش وغيرها، لم تكلف نفسها عناء إنشاء مراكز أو مؤسسات لتفكيك الفكر السلفي، وتحليل خطابه بغية فهمه واستيعابه. وإذا كان يمكن أن نصف حزباً من أحزاب اللّه بالشمولية، فهي بحق صفة تنطبق على السلفية بصورة جلية، وإن كان الاستقراء دلنا على أنه لا يمكن للحزبية إلا أن تكون شمولية، إنهما متصاحبان دوماً، والعلاقة بينهما علاقة تضايف كما في الاصطلاح المنطقي الأرسطي وإن كان هذا في الاسلام السياسي أوضح وأجلى. لقد أصاب الدكتور مقلد كبد الحقيقة حينما قام بتشريح وتفكيك الظاهرة الحزبية وقد أجاد القول: «أن الأحزاب المعنية في النص لا تقوم شرعيتها على خيار مطابقة برنامجها السياسي للواقع، ولا تستمدها من أعضائها المنتسبين، بل من مقدس ما، يقع خارج بنيتها الداخلية التنظيمية، مقدس صريح في خطاب حزب الله، ومضمر لدى سواه من الأحزاب»، ونحن سنوجه اهتمامنا إلى هذا «المقدس» بغية إظهار ما يحتويه من شحنات تحريكية فاعلة، إنه أشبه شيء باللاوعي في مصطلحات فرويد، أو بتعبير أدق، يشبه اللاوعي الجمعي عند تلميذه «يونغ» فهذا اللاوعي، هو المحرك الأساس، ويستمد قوته من ارتباطه واتصاله مع التراث بوشائج القربى. وتتجلى براعة المؤلف في تفكيك الظاهرة الحزبية، وفي تحليله العميق لهذه العقلية التي تصاحب النزعة الاقصائية في أوسع مدياتها، إنها - كما يقول الدكتور مقلد - تشيطن الآخر، والقاعدة الحاكمة عادة هي: أن من ليس معنا فهو ضدنا، وبذلك تكون محكومة بالتناحر والتحارب، وأول ما يتبدى في تشريح الظاهرة الحزبية، هو عقلية الاقصاء الذي يستدعي العنف أحياناً، وهو أمر عادي، فالحروب قاطرة التاريخ، كما قال ماركس. وهنا، لا يسعنا إلا أن نكبر ونحيّي معاً الروح النقدية التي يتمتع بها الدكتور مقلد، والتي ترى فيها تحرراً من العقلية الآنفة ا لذكر. والملاحظة التي لا بد أن نذكرها على هذا الكتاب القيم، هي أن المؤلف أخذ على عاتقه أن لا يدخل في بحث الأسس الفلسفية واللاهوتية للمعتقدات الدينية، وأنه لن يكون البحث في الدين، بل في الفكر الديني، ربما لأنه يعتقد أن بين هذه الاسس وبين الممارسة النظرية التي أسهب في درسها علاقة محايثة ومجاورة، في حين نرى العلاقة بينهما علاقة ارتباط عضوي، لذا يكون إغفال البحث في هذه الأسس الفلسفية واللاهوتية، يفوِّت علينا فهم الاسلام السياسي فهماً عميقاً، ويجعلنا في عجز عن فهم الظواهر والممارسات التي يقوم بها أتباعه، كما قلنا سابقاً. وإذا كانت المذاهب والفرق الاسلامية بمثابة صورة تعكس تجليات النص في عقول أتباعها ومؤسسيها، والمنظرين لها، فإن الاسلام السياسي يشكل صورة الصورة، ويعكس بدوره تطور هذه التجليات. وكما ألمحنا سابقاً، الصراع المذهبي شيمة كل دين وثقافة، فالانقسامات والاختلافات جزء من منطق كل فكرة التي غالباً ما تكون دينية، وهي تسري في أنساغ التطور التاريخي لهذه المذاهب، فتتشظى الأفكار الأساسية منها والفرعية، وتتلون متخذة مسارات وطرقاً، ما كان من الممكن توقعها ولو في الخيال، ولذلك، لا يمكن التنبؤ بها بحال لكل مراقب وراصد لمفاصل هذا التطور، لكنها ممكنات كامنة في بنية الفكرة الأساسية. لكن هذا الكمون مخادع، إذ سرعان ما تظهر هذه التشظيات الكامنة ظهوراً طبيعياً، نتيجة الممارسات التاريخية والاجتماعية، ويلعب التحدي والاستجابة - وهنا نستعير المصطلح من أرنولد توينبي مؤرخ الحضارات المشهور - دوراً فاعلاً، فتتحول هذه الممارسة إلى ممارسة صراعية، تقودها قوى لها مصالح متضاربة فتندفع بكل قوة إلى صياغة مسار جديد، مستل من الفكرة الأصلية، بغية التميز بدافع من نزعة تقدير الذات، وبقوة ضغط «التيموس» - والمصطلح أستعيره أيضاً من كتاب فوكوياما «نهاية التاريخ والانسان الأخير - لتسويغ مصالحها، وتبرير وجودها الفاعل، وتالياً، شرعنة التقوقع الذي تلجأ إليه عادة عبر جدر اسمنتية معرفية، فتكتسب المسارات المحصنة داخل هذه الجدر قوة تفوق ما كان للفكرة الأصلية من قوة. هذه الفكرة تقبع تحت ركام القراءات المغلوطة للنص، وكلٌّ يدعي أنه الحق، لكن من أين تأتي هذه القراءات؟ لا شك أن ظروفاً مجتمعية، وتاريخية، وخارجية، عادة لها الدور الأساس مثل التماس مع حضارات أخرى (عصر الترجمة) وتطور المجتمع داخلياً وخارجياً، فصار الاسلام نسخاً متعددة بتعدد هذه المجتمعات. من أين يأتي العنف في أتون الصراع الديني؟ في رأيي الشخصي - كما سبق - العنف الديني وليد اليقين الديني في الإطار الاجتماعي، والعلاقة مع الآخر المغاير والمخالف، وكما ألمحنا إليه، ينبغي إقصاء اليقين الديني بالميتافيزيقيا. اليقين الديني تجاه الآخر هو الذي يجعلنا خاضعين لمتلازمة الاختلاف والعداوة على كل الصعد الديني والسياسي والاجتماعي، حيث كلما كان هناك اختلاف، كان لا بد من وجود عداوة وتالياً صراع مذهبي، يُدخل المجتمع في أتون التدمير وما يترتب عليه من إهدار للطاقات البشرية والاقتصادية، وبالتالي فإن مسألة الفشل والإحباط والهزيمة وسوء الإدارة وضياع الحقوق، ظواهر تتعلق بطريقة في التفكير، وطريقة في رؤية العالم، وهي إذا ما تغيرت قمينة بأن تنتج ظواهر مختلفة، وتقضي على ظواهر نرزح تحتها بكسل وإحباط. في كتابه القيم «البنية البطريركية» يسلط هشام شرابي الضوء على تركيبة المجتمع العربي، ومن وحي هذه الدراسة، يمكن القول إن الاسلام السياسي يعود إلى بنية مجتمعية اولاً، كما هو رأي فرنسوا بورجا (Francois Bourgat)، وبيرك(Edmund Burke) ولابيدوس(Ira M Lapidus) في كتاب الاسلام والسياسة والحركات الاجتماعية، من دون أن نهمل عوامل عديدة سرعت بصورة جدية في ظهوره، هل يمكن إغفال ما كان لاعتقالات 1965 التي طالت تنظيم الاخوان في مصر من أثر في ظهور الراديكالية الاسلامية المتمثلة بحركة التكفير والهجرة، وتنظيم القاعدة، والقائمة تطول (راجع: النبي والفرعون، جيلز كيبل Gilles Kepel). هذه الاعتقالات التي تعرض فيها أفراد التنظيم لأبشع صور التعذيب ما تقشعر له الأبدان والذي جاء نتيجة مراكمة، تبدأ من زمن إنشاء حسن البنا تنظيم الاخوان عام 1928، مروراً باغتيال النقراشي باشا على يد التنظيم السري للاخوان، إلى محاولة اغتيال عبد الناصر في حادثة المنشية بالاسكندرية، ولم تنته هذه المراكمة باغتيال السادات فيما بعد. على كل حال، لنشرع في بيان أهم الأسس اللاهوتية التي ترتكز عليها إيديولوجيات أحزاب اللّه الدينية عامة، والسلفية خاصة. نظرية التوحيد السلفية: «لا اله الا الله» تنطلق النظرية السلفية في التوحيد من هذه النقطة، وهي تحليل الشهادة الأولى في الاسلام، فإنه بالإمكان تشريحها إلى سلب وإيجاب، السلب يعني نفي كل الآلهة مطلقاً، والإيجاب هو إثبات الألوهية لله وحده. وهذا التوحيد على أنحاء: توحيد الخالقية، وتعني أن لا خالق في الكون إلا هو سبحانه. توحيد الربوبية، وتعني أن لا فاعل في الوجود إلا اللّه تعالى فهو الرازق، المحيي، المميت. توحيد العبودية، وتعني أن العبودية لا تكون لغيره بحال. ظهر الاسلام في مجتمع وثني، كما هو معروف، يؤمن أبناء هذا المجتمع الوثني بوجود اللّه تعالى، وبأنه هو وحده الخالق، لا يشاركه في ذلك أحد، قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) (لقمان/25 الزمر/38 العنكبوت/61 الزخرف/9). كذلك يؤمن أبناء هذا المجتمع بأن اللّه تعالى هو الرب لا غيره، فهو الذي ينبت النبات، ويرزق ويعطي، بل هو الفاعل الوحيد في هذا الكون، قال تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمَّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون اللّه فقل أفلا تتقون (يونس/31 النمل/64 فاطر/3 سبأ/24 الملك/21). ولما كانت رسالة الاسلام ردة فعل تجاه معتقدات المجتمع الجاهلي وممارساته، فإن القرآن لم يصطدم معه في هذين النوعين من التوحيد (الخالقية/الربوبية) فهم (أعني الجاهليين)، على وئام تام معه من هذه الناحية. وإنما وقع الكلام والنزاع في النحو الثالث من التوحيد، فإنهم كانوا يعبدون اللّه تعالى ويعظمونه، لكن كانوا يشركون مع عبادته عبادة أصنام لهم، لذا سموا بالمشركين، لأنهم أشركوا مع عبادة اللّه تعالى عبادة غيره من الأصنام التي كانت منتشرة في جزيرة العرب والتي يجمعها وصف واحد، وهو أنها «غير الله». فإذاً، العرب كانوا يعبدون اللّه ويعبدون غيره، وفي ذلك وقع الاشتباك بين النبي محمد (ص) ورسالته، وبين مجتمعه الذي كان يؤمن بالتعددية الدينية، فقد كان في كعبتهم 360 صنماً، ولم يكن عندهم معضلة تذكر في أن يكونوا 361 لذا عرضوا على النبي المال، والُدور، والنساء، فقال قولته المشهورة: والله لو وضعوا الشمس في يميني... فكانت رسالته إقصائية، لا ترضى بشريك في العبودية مع اللّه مطلقاً، وتاريخ الاسلام الجهادي مع العرب هو تاريخ توحيد العبودية لله تعالى، قال تعالى: (ما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون (الذاريات/56) ولو اطلعت على مادة عبد في أي معجم قرآني، لأدركت أهمية هذا النوع من التوحيد (توحيد العبودية) لكن ما هي العبادة. لما كانت الإلفة تقتل المعاني، اعتبرنا هذا المصطلح واضحاً ومفهوماً، لكنه في الحقيقة معقد وشائك جداً، العبادة في الاسلام ليست هي الصلاة والصيام والحج (وهذا موضوع آخر) لكننا إذا وصفنا إنساناً بأنه يعبد الله، كان بمعنى أنه يقوم بهذه الأعمال التي صنفت فقهياً بأنها عبادة. ترى، كيف كان المشركون يعبدون أصنامهم قبل وجود هذه المنظومات الفقهية؟ أعني، ما هي الأعمال، والحركات، والممارسات التي زاولوها تجاه أصنامهم، واعتبر اللّه تعالى هذه الأعمال والحركات عبادة لغيره، حيث لا صلاة، ولا صيام. إن قراءة هادئة وذكية للعصر الجاهلي، وللحياة الدينية فيه قمينة بأن تسلط الضوء للإجابة على هذا التساؤل، على أنه مشترك بين كل مجتمعات الأنبياء، ولا خصوصية فيه للمجتمع الجاهلي. هذه الأعمال العبادية في الجاهلية وفي القرآن، يمكن تعدادها على الشكل التالي: التقديس، فقد كان العرب يعتقدون بقداسة هذه الأصنام، وقوام المقدس الغموض والرهبة. التعظيم: فكانوا ينظرون إليها بكل أنواع التعظيم والتبجيل. التوسل بها، لتنصرهم في الحروب والغزوات، ولتدفع عنهم الضرر، وغائلة الطبيعة. الذبح وتقديم القرابين، وبالبشر في أزمنة تاريخية قديمة. النذر، وكانت تقدم النذور لأصنامهم. الاعتكاف عندها، قالوا نعبد أصنامًا فنظل لها عاكفين (الشعراء/71). الخوف والخشية منها، فلا يدنسها أحد بسوء، أو يقول فيها مقالة سوء. الاعتقاد بأن الأصنام شفعاء لهم إنما نعبدهم ليقربونا إلى اللّه زلفى. (الزمر/3). الحلف بها، فقد كان الجاهلي يحلف باللات والعزى وهبل. إتباع سدنتها والقيمين عليها، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. (التوبة/31) روي عن الصادق (ع) عندما قيل له: إننا لم نجد أحداً من أهل الكتاب، يعبد حبراً أو راهباً: قال والله ما صلوا لهم ولا صاموا ولكنهم قالوا قولاً فاتبعوهم. راجع النص بألفاظه: تصحيح اعتقادات الصدوق للشيخ المفيد ص 73، الكافي باب التقليد، وسائل الشيعة، باب عدم جواز تقليد غير المعصوم. اتباع الهوى، أرأيت من اتخذ الهه هواه. (الجاثية/ 32). الدعاء، والاستعانة، والاستغاثة بها، إلى جانب الخوف، والرجاء، والتوكل عليها، والمحبة لها والخشية منها، والتذلل والتعظيم لها، وغير ذلك مما يمكن استنباطه من كتاب اللّه تعالى. هذه أهم الممارسات التي قال اللّه فيها إنها عبادة، وهي ليست هنا على نحو الحصر، ومن أراد التوسع في معرفة ممارسات المشركين تجاه أوثانهم، فعليه بكتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام لجواد علي. هذه هي العبادات في الاسلام، وأقسام التوحيد التي ذكرناها: توحيد الأسماء والصفات (الخالقية)، أو توحيد الأفعال (الربوبية) لا تصيّر من يعتقدها مسلماً، ولا تدخله في زمرة المسلمين، وإن صلى وصام، لأن التوحيد في العبادة (الألوهية) هي الضابطة في دخول الاسلام، فمتى وحَّد الانسان اللّه تعالى توحيد العبودية بحصر ما ذكرناه سابقاً فيه سبحانه كان هو المسلم، ومن أداها كلها أو بعضها لغيره - فقد أشرك. لكن المنظومة الفقهية، منذ العصر الأموي زمن ابن شهاب الزهري، وعروة بن الزبير، وصولاً إلى عصرنا الحاضر، ماذا فعلت بهذه الأقسام؟ مزقتها شر ممزق، وارتكبت جريمة كبرى حين أقصي بعضها عن ساحة البحث في الدراسات الدينية، مثل: التقديس، التعظيم، التوسل، الخوف، التبعية، الشفاعة، والدعاء، أو أدرجته ضمن المعاملات دون العبادات، مثل اليمين، النذر، الذبح. وبذلك خبت لحظة التنوير القرآنية، وضاعت مفاهيم القرآن، وانحرفت عن جادتها، وساعد على ذلك أن هذه المنظومة الفقهية، أخذت من الأحاديث والروايات التي يسمونها السنة المحكية والتي تم تصنيفها على هذا النحو. والسلفي المشبع بهذه الأفكار المحكمة الإغلاق في كتاب اللّه تعالى في رأيه، ولا يمكن معارضتها، ينظر إلى معتقدات أتباع المذاهب الاسلامية، فيجد هذه الممارسات واضحة مع غير الله، ولا يجد فرقاً بين أصنام الأمس وأوثان اليوم، إذ كلها تدخل تحت وصف (غير الله) وكون أصنام الجاهلية كانت تعبد بوصفها الهة بخلاف غيرها، فرق غير فارق - كما قلنا. فالسنة يقدسون الأولياء والصالحين، ويحجون إلى قبورهم، ويعتقدون بشفاعتهم، ويحلفون بهم، ويتبركون بمقاماتهم بالمسح، وتعليق الخرق، وطلب الأمنيات، وغير ذلك، وهذا منتشر في شرق العالم الاسلامي وغربه، بل إنهم يعتقدون بقدرتهم على الشفاء، والرزق، لذا قال محمد بن عبد الوهاب: إن الشرك اليوم أعظم من الشرك في الجاهلية، وفق هذا، فنحن، واقعاً في «جاهلية القرن العشرين» كما قال محمد قطب. ولا يخلو مذهب من مذاهب المسلمين، أو فرقة من فرقهم، أو طرقهم الصوفية إلا ويعاني من هذه الظواهر، دعني من الفرقة الحقّة والطائفة المحقّة، فإن ما اقوم به مجرد عرض، وتشريح للأساس العقائدي في الفكر السلفي. هذا السلفي ينظر يمنة إلى العصر الجاهلي، فيجد الشرك الذي جاء الاسلام لمحاربته بقوة السيف ثم ينظر يساراً إلى عصرنا الحاضر، فيجد الصورة هي هي، ومطابقة للنسخة القديمة في الاشتراك في الوصف، وهو أن هذه العبادات (الممارسات) يتوجه بها الانسان لغير اللّه تعالى، فاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وهبل، وذو الخلصة كلها غير الله، وكذلك سيدي أبو العباس ومقام السيدة نفيسة، ومصباح أم هاشم، هي توجه لغير الله، طابق النعل بالنعل. يا الله، شرك، وبدع، وخوض فيما شجر بين المسلمين في صدر الاسلام (والسلفية تنهى عنه) كيف يكون المجتمع مسلماً بهذا الحال، آلاف البدع في مجتمعات المسلمين، التعصب المذهبي الذي يشل قدرات المسلمين كما يشهد على ذلك التاريخ، فلا غرو أن يصاب السلفي بالعصاب، ويستحضر النصوص المتوحشة في تراثه، فإذا فجر مقاماً لولي أو إمام، أو لأحد الصالحين، فلأنه يعتقده وثناً يعبد من دون اللّه على الأرض. ولا يظنن أحد أننا نتحدث عن شرذمة قليلين بين المسلمين، فمما لا شك فيه أن السلفية في العصر الحديث تجتاح الحياة الدينية، وهي آخذة في الانتشار لما تتصف به العقيدة التي يحملونها بالبساطة والعمق في آن، وقد أشارت إلى ذلك دراسة كتبها تمام حسان بعنوان: «تسلف الإخوان» وإذا أمكن أن تتعايش المذاهب الدينية مع بعضها البعض، أو هي مع القوى الوطنية والتقدمية والاشتراكية واليسارية عامة في وثيقة تفاهم أو بأي صيغة ما، فإنه من غير الممكن ذلك مع وجود الفكر السلفي ونظريته في التوحيد المعتمدة في زعمهم على حقائق تاريخية، ويلقون اللوم على غيرهم بأنهم لم يفرقوا في التاريخ بين الواقع من جهة وبين المتخيل. ويتهم العقل الشيعي لدى نقاد الفكر، أنه إذا بحث في التاريخ فإنه يقوم بعملية النحت لا الاكتشاف، كما ينبغي أن يكون عليه البحث التاريخي، سواء تعلق الأمر بالأحداث التاريخية، أم بالشخصيات مع اختلاف درجتها في القداسة أي أن العقل الشيعي - كما كل المذاهب - يقرأ التاريخ قراءة عقائدية، ويصبها في قوالب متخيلة جاهزة، وهكذا يلج الماضي بعد صهره في هذه القوالب بكل أبعاده في الحاضر، ويصار - لعوامل سياسية واجتماعية - الانتقاء، والتضخيم، تمهيداً للدخول الاحتفالي إلى عرين المقدس، ومن ثم توظف لتحقيق الأهداف الآنفة الذكر - سياسية واجتماعية. وهكذا، تستلب الأمة لعقول الموتى، وتقوم السلطات السياسية بتغذية هذا الاتجاه بشكل أو بآخر لتكريس التكاره المذهبي، وتستعين لذلك على شيوع الميديا الجديدة، الذي كشف عن الوجه المخيف، وعن حجم التباغض المذهبي، والديني، وإذا لم يتم ضخ حزمات من المفاهيم الجديدة، فلا جدوى عن عمل آخر، ولا يمكن الاطمئنان إلى قول من يعتقد أن السلفية جوقة جنائزية لأحلام محنطة، ستضيع في محفل الحداثة، لأن الاصولية تمتلك مناعة عجيبة، فهي تخفض بصورة فنية من نشاط العقلانية في الفرد كما في الجماعة، إلى مستوى الردود الانفعالية والعصبية، لذلك تتفاوت درجة محركية النص باختلاف إيديولوجيا هذه الحركات الاسلامية، واختلافها في مرجعية النصوص فبينما يحضر النص القرآني وبقوة، ويؤسس لمحركية عجيبة في العمل الجهادي عندهم، نرى هذا النص يكاد تغيب محركيته في الجهاد الشيعي، لتحل محله المعتقدات المذهبية حول أئمة أهل البيت (ع) إلى جانب كرامات الشهداء، ورؤية الأئمة (ع) معهم في ساحة الجهاد، تخيلات تنم عن قوة الإيمان في نظر البعض، وهذا ما أعرفه من كلام كثير من الأخوان المقاتلين على الجبهات. العقل الايماني ومستقبل الاسلام السياسي هنا يقف السلفي في ذهول، وهو الذي يرى في نفسه غيرة على دينه، ويرى مجتمع المسلمين في كل بلدان عالم المسلمين - في زعمه - بلاد كفر وشرك، فهو بين فكي كماشة، بين أن ينزوي عن المجتمع (حركة التكفير والهجرة) وبين أمر اللّه تعالى إليه بالدعوة لدينه، وأن لا يخاف في ذلك لومة لائم، وأن لا يخشى في اللّه أحداً، لذا تراه انغماسياً في المجتمع، كما في ساحة صراعه مع من يخالفه في العقيدة، وقد سيطرت على عقله وعواطفه عقيدة غير قابلة للتفكيك، وهو إذ يُرمى بسيل من هذه العناوين مع غياب الوعي السياسي، تراه لقمة سائغة بأيدي القوى الغربية التي تدفعه ليعيث فساداً في الأرض، فيهلك الحرث والنسل، ويمعن تخريباً في البلاد وتشريداً، وقد يفجر نفسه بين الناس، ولا ضير، فهؤلاء بنظره مشركون، وقد يفجر مقاماً للصالحين وفي اعتقاده إنما يفجر وثناً على الأرض يعبد من دون اللّه تعالى. أما زمانه، فلعنة اللّه عليه، لأن نفسه المبتورة - والمصطلح أستعيره من داريوش شايغان - تعيش بين زمانين: ماضٍ، وهو زمن ظهور الاسلام، وهي لحظة التنوير القرآني وزمن التدشين وهو زمن يحن إليه السلفي كثيراً، فيستحضره ولو في مظهره ولباسه وممارساته اليومية، والزمن الثاني مستقبلي، زمن ينتصر فيه الحق على الباطل، ويكون الأمر كله لله، أما حاضره فهو قذر دائماً، ومذموم، ولا خير فيه، فهو أبداً في حنين إلى الاصول، والمصطلح من مرسيا الياد(Merci Eliad). وعلى غرار الجابري ومقولته عن العقل المشرقي والعقل المغربي، أقول إن العقل الإيماني أصابه الانزياح في بنيته التي كان عليها في القرون الذهبية للإسلام إلى مطلع القرن الرابع للهجرة، أعني أن ثمة قطيعة معرفية، حدثت في هذه الفترة، لأن العقل الإيماني قبلها كان عقلاً مبدعاً ومنتجاً للمعرفة، لكنه صار مستهلكاً ومكرراً إلا ما شذ وندر. ويمكن تصور الأمر على شكل موجات مر بها العقل الإسلامي، من دون أن ننفي سيطرة العقل الأرسطي عليها إلى الآن: ومصطلح الموجات مقتبس من «الفرد تايلر». الموجة الأولى: لحظة التنوير القرآني التي امتدت إلى مطلع القرن الرابع للهجرة، كما قلنا. الموجة الثانية: تبدأ من انتهاء الموجة الأولى إلى سقوط بغداد سنة 656 للهجرة ومن أهم سمات هذه المرحلة، إعادة إنتاج المعارف الاسلامية، والحفاظ على مكتسبات الموجة الأولى. الموجة الثالثة: تبدأ من سقوط بغداد إلى عصرنا الحالي، وتتميز إلى جانب ما مرَّ، بكسل عقلي آخذ بالانحدار، وكما قلنا، لم يفد عصر النهضة العربية، إلا في إعادة إنتاج التراث وإحيائه، مع أن الهاجس المسكون في الثقافة العربية إلى الآن هو الجديد لكن لم يظهر في عصر النهضة إلى الآن إلا دعوات متتالية إلى النهضة فحسب. وإذا كان ثمة فائدة تذكر لهذا العصر، فهي تهيئة الأرضية لبروز طبقة جديدة في المجتمع العربي وهي طبقة المثقفين بعد أن كان العلم والثقافة حصراً بيد رجال الدين!!! بدأ بروز هذه الطبقة الجديدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم أخذت في التنامي إلى أن أمسكت بالخطاب الاسلامي الفكري بعد نزعه من سلطة المؤسسات الدينية، التي لم يبق لها إلا الخطبة الدينية في المساجد والمناسبات وعمادها عبث الموتى في ذاكرة الأحياء. ولقد ساهمت حركة الاستشراق في بروز وتطور حركة المثقفين هذه، مع تجاوزنا لملاحظات ادوار سعيد وأنور عبد الملك. هذا، ولم تكن معوقات النهضة خارجية فحسب، كما يحلو لمفكري المؤامرة أصحاب مقولة الغزو الثقافي، وهؤلاء لم يدركوا أن الغرب ضنين جداً بثقافته، وحريص دائماً على تفوقه الثقافي الإيجابي بأوسع ما للكلمة من معنى، وحبذا لو يغزونا الغرب، ونحن في محطات كثيرة من التقاطع الثقافي والحضاري معه، نحتاج إلى التلاقح مع الحفاظ على الخصوصيات الذاتية، (وقد ذكرت في دراستي على رواية دون كيخوته -طبع دار الهادي- أنه لا بد من حديبية جديدة بصيغة ما في العلاقة مع الغرب) وإذا لم يتم هذا التلاقح الإيجابي بين الحضارة الاسلامية والحضارة الغربية، سنبقى أسرى لطريقتين من أكثر الطرق سلبية في التفكير وهما طريقة «التوسل بالمرجعية»(1) وطريق «تأثير ووزل» وتعدّان من أهم المغالطات المنطقية انتشاراً، ومن أهم معوقات الفكر على النهوض. لكن من جهة أخرى، ساهمت الحركات الاسلامية بشكل أو بآخر في تعاظم العداء للغرب، أو للإمبريالية في الأدبيات الماركسية، أو للمستكبرين في أدبيات الاسلام الشيعي، وما تعاون الاسلام السياسي مع الغرب والولايات المتحدة الأميركية إلا اعتماداً على فتواهم بجواز الاستعانة بالكفار، فالقاعدة بتحليلها السياسي ترى أنها استغلت عداء الغرب للاتحاد السوفياتي آنذاك إبان غزوه لأفغانستان، لتصبح أقوى وأجدر على اللعب في الساحة الدولية. ويبدو أن تطور الأحداث حرفت الاستراتيجية التي كانت متبعة زمن إبن لادن وفق التفصيل التالي: كان العمل السياسي والصراع مع الغرب واسرائيل تتنازعه استراتيجيتان: الأولى: تقول يجب أولاً تحرير البلدان العربية من الاستعمار ومن الأنظمة الحاكمة المتحالفة معه قبل مواجهة العدو الصهيوني، وهي السياسة التي كان يتبعها جمال عبد الناصر، وعلى أثرها خاض حروب اليمن، ودعم حركات التحرر في العالم العربي وفي دول عدم الانحياز. الثانية: ترى أن الأولى ضرب رأس الأفعى، والخطر الأساس المتمثل بالغرب الذي يقوم في المنطقة بدور المحافظ على الأنظمة الاستبدادية التي تتعاون معه، وتقوم بتنفيذ خططه في المنطقة، فكانت الهجمات التي طالت أميركا وأوروبا، هدف الاسلام السياسي من خلالها إلى ربط أمن منطقة الشرق الأوسط بأمن الغرب وأوروبا، وأنه قد ولى الزمن الذي نضرب فيه ويعيشون هم بأمان. لكن الحركات الاسلامية في زمن الربيع العربي، سلكت طريقاً آخر، نأى بها عن استراتيجية القاعدة زمن إبن لادن، كما هو معروف، ناهيك عن الصورة المشوهة عن الاسلام التي ارتسمت في عقول الذين يقتصرون في فهم الأمور على الظواهر. يصعب التكهن بما ستكونه الأمور في المستقبل على الصعيد الاجتماعي والسياسي، لكن ما أنا على يقين منه هو أن أيديولوجيا الفكر السلفي عامة، ستكون دوماً معيناً ثرّاً لإمكان ظهور الاسلام السياسي على الساحة الدولية والاقليمية، ولا سيما بعد انهيار اليسار والتجربة الاشتراكية الذي يقول فيه كريم مروة: إن السبب يعود إلى خلل بنيوي رافق التجربة منذ البدايات مكرراً ذلك في كتابه: «التجديد في الاسلام كالتجديد في الاشتراكية» ضرورة تاريخية في شروط العصر. ولا يفوتنا القول، إن موقف الاسلام السياسي من الفكر المعاصر، وطريقة تعامله، ستؤدي - مع اتساع شعبيته - إلى تجهيل المجتمع، ويعزز هذا التجهيل حالة اسلامية عامة ستؤثر بصورة أو بأخرى على الفرد حسب دراسات «سولومون آش» وتجاربه على تأثير الجماعة على الفرد من خلال آثار النظام على تشكيل الانطباع، والنتيجة نمو مفرط للحركات الاسلامية في المستقبل، وتالياً، استمرار الحروب الدينية التي بشَّر بها كسينجر بين أحزاب اللّه الذين يتقاتلون على اللّه وبينهم وبين الأنظمة من جهة أخرى. التجديد في الاسلام هل هناك مجال للتجديد في الاسلام في ظل الحركات الاسلامية المعاصرة؟ إن البحث في موضوع التجديد طويل ومتشعب، لكن نقول فيه قولاً عاماً مقدار ما يتحمله هذا التقديم. تطور، تجديد، حداثة اسلامية، عصرنة، وغيرها من المقولات، يراها البعض لا تعدو أن تكون ترفاً فكرياً. لماذا؟ لأن المجدد ليس هو من أضاف فكرة هنا أو مفهوماً هناك، أو عارض رأياً هنا أو مسألة هناك، إن بالفقه أو بالأصول، أو بتأويل النص القرآني، وكذلك لا يكون مجدداً من ألبس القديم حلة جديدة وكفى. التجديد في الاسلام، كما في العلم، يقوم على إحداث منظومات فكرية للنهضة، ولكي تنزل هذه المنظومة المفاهيمية من عليائها في سماء الفكر إلى أرض الواقع، لا بد لها من سلطة تتبناها، وتعمل على تسويقها، ولا بد لهذه المنظومة أيضاً أن تكون جديدة إبداعية، وقلنا سابقاً، إن أفكار عصر النهضة العربية، لم تكن إلا مقولات قديمة، وتراثاً جرى تعويمه فحسب، إنه إعادة إنتاج لتراث القدماء، وخطوة ناقصة فرضتها صدمة الحداثة، وليست صفة المجدد مجرد لقب نمنحه لمن اتخذ موقفاً متسامحاً تجاه فئة، أو فكر ما مخالف. وفي الحقيقة، نحن أسخياء جداً بهذا الوصف (مجدد) - كما في كثير من الألقاب - نطلقه على من نرغب، وعلى من نحب. على كل حال، فإن إحداث منظومة، أو ثورة مفاهيمية، لا يكون إلا بقراءة جديدة للنص القرآني، ولكن يشترط في هذه القراءة الجديدة أن لا تحمل في أحشائها بذور فنائها، فتقوّض نفسها بنفسها. وأمثل لذلك بما ذكره الأستاذ كريم مروة، وأنا أقدّر غيرته، وسعيه للتجديد في الاسلام كما في الاشتراكية، وأثمن دعوته تلك، فقد اقترح للتجديد في الاسلام الأخذ بالقرآن المكي إلى زمن صحيفة المدينة وكانت الدعوة حينها إلى القيم الانسانية والأخلاقية، وعدم إظهار القرآن المدني، لأنه ينادي بالحرب، والقتال، والإلغاء للآخر، والقسوة عليه. وهذه الرؤية، حسب تتبعي، أول من قال بها محمود محمد طه من السودان وكانت مثار جدل كبير آنذاك، وقد بينت في كتابي: دراسات في فلسفة أصول الفقه والشريعة ونظرية المقاصد، ان التجديد لا يكون إلا من خلال قراءة النصوص قراءة مقاصدية وهي نظرية شرحتها، وبينت مكوّناتها، وما تنطوي عليه من إمكانات، وتعرضت فيه لنظرية محمود طه، ومن أراد فليراجع. يقول كريم مروة أن من الممكن تأسيس علاقة جديدة بين الاسلاميين والعلمانيين، بعد وقف العمل بالقرآن المدني. يمكن أن يعترض البعض، لأن قول مروه يتضمن إلغاءً لبعض الآيات بل الكثير من السور القرآنية المدنية. والحال أن نظرية النسخ تقضي بأن اللاحق من الآيات ينسخ حكم السابق منها لا العكس، يضاف إليه، أن القرآن نفسه نهى عن التفريق بين الآيات، فقد ذم اللّه تعالى من اتخذ القرآن عضين (الحجر/91) كما ذم من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض (البقرة/85) ومن أراد التوسع فليراجع كتابنا الآنف الذكر، فصل نظرية الإنساء.أما نحن فلنا ملاحظتان على كتاب مروه: الأولى: ملاحظته أن سبب انهيار التجربية الاشتراكية، يعود إلى خلل بنيوي رافق التجربة منذ البدايات، وخلت ملاحظته هذه من بيان هذا الخلل البنيوي، كما خلت من الإحالة إلى أي مرجع. الثانية: تكرر في كتابه أن القول بولاية الفقيه بدعة إيرانية، وسبق منا القول: إن الاسلام بنصوصه المؤسسة لم يتعرض لشكل الحكم في الناس، وأن ذلك موكل إليهم، لأن النظام السياسي من الوسائل والشريعة تهتم بالمقاصد. وقد ذكرت في كتاب دراسات في فلسفة أصول الفقه، باب الأحكام الولائية، أننا لسنا في حاجة إلى مستند شرعي لولاية الفقيه، كما أننا لسنا في حاجة إلى ليّ عنق النص الديني ليتوافق معها، ما دام أن نظام ولاية الفقيه يحقق مقاصد الشريعة في إقامة العدل وحفظ الحقوق والحريات، إلى غيرها من المزايا الموجودة في الأنظمة الديمقراطية، فلتكن نظرية ولاية الفقيه بعد ذلك بدعة سريلانكية فهذا لا يضر. ومن جهة أخرى ضَمِن نظام ولاية الفقيه أن تكون إيران دولة قوية، وهي الآن رأس الحربة في مواجهة قوى الاستعمار، والناهبين الكبار، ومعهم اسرائيل، وهذا منتهى أمل كل اشتراكي تقدمي ومناضل، وأنا أتفهم مخاوف كريم وغيره من هذه النظرية، لئلا يقال عن ولي الفقيه فيها: أردناه عوناً فصار فرعوناً. ثم، أليس النظام الجمهوري بدعة، والنظام الديمقراطي بدعة، وما زلنا نعاني من النظم الديمقراطية في أوروبا وامريكا التي لم تجلب سوى الويلات على شعوب العالم الثالث؟ وعلى أبعد تقدير، إذا تبين فيما بعد أن نظام ولاية الفقيه قصّر عن أن يكون قوة تقدمية في العلوم والمعارف والفكر والتكنولوجيا وغيرها من التقنيات، أو أنه تحول إلى نظام استبدادي تركناه لأنه بذلك خلاف مصلحة المسلمين. والدعوة إلى اعتبار ولاية الفقيه وغيرها من أشكال الحكم بدعة تتضمن دعوة مبطنة إلى نظام الخلافة ولا أظن كريم مروة يقصد ذلك. على كل حال، قلنا إن التجديد الديني لا يتم إلا من خلال منظومات مفاهيمية جديدة، وهاكم بعضها: القول بعدم حجية الروايات، هذه التي يسمونها سنة، في التشريع. الغاء منظومة المستحبات والمكروهات من الفقه، هذه المنظومة التي ترهق المسلم في سلوكه اليومي، ولا سيما أن القرآن لم يتعرض لها. سد باب الاجتهاد في فروع العبادات. التزاوج بين دراسة الفقه ودراسة القانون الوضعي. الغاء منظومة الطهارات والنجاسات المادية من منظومة الفقه، إذ لا ذكر لها في القرآن. ومن المؤكد أن زملائي وإخواني من رجال الدين لن يعرفوا مغزى ما أقول إلا إذا أخرجوا الحوزة من رؤوسهم، أو خرجوا هم من الحوزة، وكأني بهم وقد تجعدت وجوههم استغراباً. وطبعاً، كل ذلك لا يمكن إنتاجه إلا في مناخ ترتع فيه حرية النقد، ولا أقول ذلك في المتحرك دون الثابت في الفقه والعقائد وإلا بممارسة منهجية لا تغلق على نفسها روح الابداع بتقديس السلف، ولن تستكمل هذه الخطوات وغيرها إلا بدخول الثقافة العربية والاسلامية عامة في عصر ترجمة جديد على غرار ما جرى في العصر العباسي الأول زمن المأمون. هذا، ويجب أن يساوق التجديد في الأفكار التجديد في اللغة، لمتانة العلاقة بين اللغة والفكر، أعني في الأساليب النثرية المتبعة، وقد بينت في كتاب»المقدمة في نقد النثر العربي» أن النثر العربي السائد بصورته الحالية، هو نثر مريض، يعاني من جملة من العاهات المزمنة، منها التكرار والحشو والأطناب، وقد رصدت في هذا الكتاب تطور النثر من العصر الجاهلي إلى زماننا الحاضر، ومع هذه العاهات، لا عجب أن أعرض العربي عن القراءة، وإنك لتجد من يؤلف كتاباً من (800) صفحة مثلاً، وعندما تنتهي من قراءته - طبعاً بتقنية القراءة السريعة (هذا إذا كان يستحق أن يقرأ) - تسأل نفسك السؤال التالي: كان بإمكان المصنّف أن يعطيني المعلومات المودعة في كتابه في بضع صفحات، فلماذا يرهق بصري، ويقتل وقتي؟ وقد تكون المعلومات معروفة، في حين أن الهاجس المسكون في الثقافة العربية اليوم هو الجديد والابداع لكن ماذا تفعل مع أناس لا يميزون بين البدعة والابداع والسلام. إلى هنا، تنتهي رحلتنا المختصرة في الكلام عن أحزاب اللّه الدينية، وإنما خضت فيما أعرض الدكتور مقلد عن الخوض فيه، وهي الأسس الفلسفية واللاهوتية لإيديولوجيات الاحزاب الدينية، ففي حين خاض الدكتور مقلد في الممارسة النظرية - وقد أجاد وأبدع - اعتبرت، أن ما أعرض عنه، فجوة يحتاج القارئ العزيز إلى سدها، فكان هذا التقديم الذي يتكامل مع النص بغية إعطاء صورة أكثر وضوحاً. أما أحزاب اللّه غير الدينية، فلم يترك الدكتور مقلد زيادة لمستزيد، فأصاب الهدف الذي رسمه لنفسه في خارطة الطريق، أما تاريخ هذه الأحزاب، فقد اعتمد فيه المؤلف العزيز على ثقافة القارئ النخبوي، ذلك أن الكتاب أكاديمي بامتياز، فقارئه سيكون بلا شك بالمستوى الثقافي للكتاب، وتالياً، هو مطلع على تاريخ هذه الأحزاب التي لا يتجاوز عمرها المائة سنة من عمر الأمة العربية والإسلامية، فنحن أبناء هذا الجيل المصاب بالخيبة، وخسارة الرهان وأحياناً اليأس والكآبة، وما نكتبه عويل جيل منهك،» . شاهدت أفضل عقول أبناء جيلي يدمرها جنون السياسة، والمصالح القبلية، والحزبية الضيقة، ما يجعلنا قرابين «لمولوخ» على مذبح التخلف السياسي والديني والفساد الاقتصادي» صور 27/4/2019 الشيخ علي حب اللّه
تمهيد في منهج البحث لماذا «أحزاب الله»؟ لأن أحزابنا الرئيسية في الوطن العربي، في الحكم أو في المعارضة هي، ببساطة قد تبدو للبعض نوعاً من التبسيط، أحزاب شمولية. إذن هي متشابهة رغم كل الذي بينها من اختلافات جوهرية أو تمايزات في التفاصيل. متشابهة في شموليتها وفي برامجها وفي كونها أحزاباً إيديولوجية. سيحاول هذا البحث أن يزيل عن هذا الجواب «السهل» احتمالات التبسيط، وسيسعى إلى إثبات وجود أوجه الشبه بينها من خلال النصوص «الرسمية» الصادرة عن هيئاتها القيادية أو عن أفراد فيها من منظّريها وفلاسفتها. كما سيحاول النص أن يستكمل نصوصاً أخرى من القراءات النقدية، سبق لي أن أصدرتها في الصحف وفي دور النشر، من بينها كتب ثلاثة: الأصوليات(دار الفارابي، 1999)، وهو بحث في معوقات النهوض العربي؛ اغتيال الدولة(مؤسسة الانتشار،2006)، وهو بحث في مسؤولية الأحزاب عن الحروب الأهلية وتدمير الوحدة الوطنية؛ هل الربيع العربي ثورة(منشورات ضفاف2015)، وهو بحث في مضامين الثورة على الاستبداد. الفرضية الأساسية ذاتها التي ينطلق منها ويحاول إثباتها هذا النص كما سائر النصوص السابقة، هي أن أحزاب الأمة العربية التي ستشكل مادة البحث، اليسارية منها والقومية والدينية، تجسد النموذج الصارخ للاستبداد في بنية النظام الحاكم أو في بنية القوى المعارضة. إذن، كان يمكن أن يحمل الكتاب عنواناً آخر، مثل «أحزاب البعث» أو «الأحزاب الشيوعية» أو «الأحزاب الناصرية»، من غير أن يحدث ذلك أي تعديل في متنه. ولأنها جميعها متحدرة من مرحلة النضال القومي ضد «الاستعمار»، ولأن برامجها معدة لمواجهة عدو هو، على الدوام، عدو خارجي، كان يمكن أن تندرج تحت اسم «الاحزاب القومية». لماذا وقع الاختيار على هذا العنوان، «أحزاب الله» لا على واحد من العناوين الأخرى المحتملة؟ لأن هذا الاسم بالذات يعبر، أكثر من سواه، عن أن الأحزاب المعنية في النص لا تقوم شرعيتها على معيار مطابقة برنامجها السياسي للواقع، ولا تستمدها من أعضائها المنتسبين، بل من مقدّس ما، يقع خارج بنيتها الداخلية التنظيمية، مقدس صريح في خطاب حزب الله، ومضمر لدى سواه من الأحزاب التي تستبدل المقدس الإلهي بآخر بشري، قد يوازيه أو يضاهيه في سطوته على المحازبين. أوليس «القائد الخالد» و»الرئيس إلى الأبد» وعبادة الشخصية من علامات ظهور القداسة الدنيوية، مثلما هو الإيمان الراسخ بالغيبة الكبرى، الممتدة منذ أكثر من ألف عام، في أصل الانتظار الطويل، انتظار ظهور المهدي؟ في الدين، كل شيء زائل، ولا يبقى إلا وجه الله. هذه المعادلة تجد ترجمتها السياسة في تخليد القيادة، ومن يموت منها قد يـ»بعث» حياً بقرار حزبي أو من خلال الورثة. هذا البحث يستكمل النصوص الأخرى لأنه يشبهها أيضاً في وقوعه في منزلة بين المنزلتين. فلا هو كتاب في الفلسفة ولا هو كتاب في السياسة. لا هو في النظرية ولا هو في تطبيقاتها )الممارسة (السياسية، بل هو في التطبيق النظري للنظرية، أي «الممارسة النظرية». وهذا مصطلح اقتبسته من استاذي ورفيقي وصديقي مهدي عامل (حسن حمدان)، الذي ستشكل أفكاره جزءاً من مادة هذا الكتاب النقدية. لقد اتبعت هذا النهج في جميع كتاباتي، ما جعل الصحافية منها خاصة، أي المقالة، تنطلق من الحدث اليومي، أي الحدث السياسي، من غير أن تنحبس فيه ومن غير أن تحلق في التجريد الفلسفي، فتظل، بذلك، محافظة على راهنيتها، مهما ابتعدت في الزمن عن تاريخ نشرها (كان موقع الفيسبوك يذكرني بمقالات منشورة منذ سنوات فأعيد نشرها وكأنها مكتوبة للتو، من غير أي تعديل عليها). بين ثنائية النظرية والتطبيق(الممارسة، البراكسيس) ماذا تعني الممارسة النظرية؟ هناك ثلاث فئات تعمل في حقل الثقافة، فئة تهتم بإنتاج الأفكار والنظريات، كالعالم أو الفنان أو الفيلسوف، وأخرى بتطبيقها كالطبيب أو المحامي أو المهندس، كل في مجال اختصاصه، أو كالحزب في المجال السياسي، وثالثة بنشرها، كالناشطين الحزبيين أوالعاملين في حقلي الاعلام والتعليم. الفئة الرابعة التي ينتمي إليها أهل «الممارسة النظرية» هي تلك التي تبحث في العلاقة بين الحقول الثقافية الثلاثة، مسترشدة بالفكر النقدي منهجاً، وإلا فهي لا تعدو كونها جزءاً من الفئة التي تهتم بنشر الأفكار أو الترويج لها فحسب. لقد أتاحت لي تجربتي، في السنوات الأولى من حياتي الحزبية، أن أكون واحداً من الناشطين في الفئة الثالثة، التي تهتم بالترويج لخط الحزب، بالكتابة أو في الاجتماعات الداخلية أو بالخطابة في المناسبات الحزبية والمهرجانات، وتعرضت خلالها لما كان يتعرض له «أهل الممارسة التطبيقية» من المناضلين، وأصابتني شظايا العدوان الاسرائيلي عندما كنت أقوم بمهمة سياسية في مدينة صور من الجنوب اللبناني. مع نهاية السنوات العشر الأولى من هذه التجربة، أخذت تتفاعل أزمة الحزب والصراعات في صفوف القيادة وبصورة صامتة في البداية، قبل أن تظهر إلى العلن في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، غير أن التوازنات الداخلية استمرت تمنحني فرصة تجديد عضويتي في القيادة، من مؤتمر إلى مؤتمر، لكن، من غير مهمات، على امتداد خمسة وعشرين عاماً، ما أبقاني على مسافة من «الممارسة السياسية» اليومية، قادراً على نقدها وقراءتها عن بعد، من غير أن أكون خارجها، أي أن أكون في موقع وسط بين المناضل والمراقب، بين من يبشر بالأفكار ومن يقرأها بعين نقدية. «المنزلة بين المنزلتين» تعني أن الممارسة النظرية ليست «التجريد الفلسفي» ولا هي «التطبيق» العملي المادي الملموس للنظرية الفلسفية، بل هي تطبيقات نظرية على النظرية، أو معادلات واشتقاقات منها أو قراءات وتأويلات وشروحات متنوعة لها. استناداً إلى هذا التعريف، لا يدعي النص الانتماء إلى باب الفكر الفلسفي، كما أنه، في المقابل، يسعى إلى النأي بنفسه عن مناورات الممارسة السياسية اليومية ومتاهاتها وتعقيداتها ومماحكاتها وكرّها وفرّها بين سلطة ومعارضة، ولهذا فهو يستدعي ما يناسبه من مصطلحات تخص هذا الحقل من النشاط الفكري، ويستخدم لغة تسعى إلى التعبير عن جهد نظري أعلى درجة من الانخراط الحماسي في العمل السياسي المباشر وأدنى درجة من التجريد الفلسفي المحايد. على ضوء هذا المنهج في تناول القضايا لن يهتم هذا الكتاب لا بنقاش الأساس الفلسفي لنظرية ماركس عن الصراع الطبقي ولا بترجماتها العملية التطبيقية على أرض الواقع في النضال اليومي الذي تخوضه أحزاب «الطبقة العاملة»، بل سيحصر اهتمامه بقراءات «تزعم» أنتماءها إلى الماركسية وبتأويلات وتفسيرات وتحليلات وجهود فكرية بذلها بعض أتباع ماركس ومريديه لنقل النظرية من مستواها الفلسفي إلى حيز التطبيق في النضال الحزبي. هذا الكتاب، «يزعم» أن «تحويمه» في فضاء الفكر الماركسي لا يمنح صاحبه حق تصنيف نفسه منتمياً انتماءً قطعياً إلى هذا الفكر، مع أنه غرف من معين أساتذة كبار في الفكر الماركسي، من أمثال سمير أمين ومهدي عامل وحسين مروة والطيب تيزيني، غير أنه يدين في بعض ما يعرفه عن الماركسية إلى مفكرين لم يدّعوا الانتماء إلى هذه المدرسة الفكرية، من أمثال محمد عابد الجابري، كما إلى نصوص من خارج حقل السياسة تمحورت حول قضايا الفن والشعر والأدب، كان أولها كتاب «الفن والمجتمع عبر التاريخ» للألماني أرنولد هاوزر. هذا الزعم نابع من الاعتقاد بأن التصريح بالانتماء إلى منظومة فكرية معينة لا يكفي لتأكيد صحة هذا الانتماء. وقد تعزز اقتناعي بأن التصنيف القطعي أمر صعب ومعقد، بعد اطلاعي على نصين رائعين، الأول كتاب لمهدي عامل نشرته دار الفارابي بعد اغتياله، عنوانه، في نقد الفكر اليومي، حاول أن يثبت فيه كيف أن بعض العلمانيين «يمارسون» التفكير الديني فيما هم يزعمون انتماءهم إلى العلمانية، وكيف أن آخرين «يمارسون» التفكير الغيبي فيما هم يزعمون انتماءهم إلى الماركسية. والثاني فصل من كتاب لحسن قبيسي، المتن والهامش(المركز الثقافي العربي، 1997) من المفيد أن نورد منه اقتباساً طويلاً، وهو جزء من جوابه على سؤال: لماذا غادرت الماركسية؟ يقول فيه: «...فيما كنا منهمكين حتى الشوشة بتغيير هذا العالم وبتفجير طاقات شعبنا، مكرسين جل قراءاتنا لخدمة هاتين المهمتين الشريفتين، جاءنا إسحق دويتشر، وهو من جملة الذين تفقهنا عليهم في معرفة اللينينية والثورة الروسية، ليروي لنا تجربته الشخصية، وهو المؤرخ اللينيني الكبير، في قراءة رأس المال. يقول الرجل: «إن طريقة ماركس في عرض المشكلات كانت تبدو لي على جانب كبير من البطء والدقة، خاصة بالنسبة لشخص مثلي يتشوق بفارغ الصبر لفهم العالم وتغييره بالسرعة القصوى. لكنني ما لبثت أن وجدت بعض العزاء حين علمت إن إينياس دازيفسكي، وهو نائبنا الشهير ورائد الاشتراكية والخطيب المفوه الذي تنشد أسماع برلمانات فيينا إلى بنات شفتيه، كان يعترف بأنه وجد رأس المال عسيراً على الفهم، فكان يقول، وكأنما هو يتباهى بقولته، الحقيقة أنني لم أقرأ رأس المال، لكن كارس كاوتسكي قرأه ووضع تلخيصاً أقرب إلى الأفهام. غير أني لم أقرأ تلخيص كاوتسكي هو الآخر، بل إن كليس كراوس، منظّر حزبنا، قرأ كاوتسكي ولخص تلخيصه، وأنا لم أقرأ تلخيص كليس كراوس، لكن ذلك اليهودي الذكي هرمان ديامند، خبيرنا المالي، قرأ كليس كراوس وأخبرني بكل ما ينبغي أن أعرفه حول هذا الموضوع...» ويعلق حسن قبيسي قائلًا: «هكذا كان اطلاعنا على بعض كتابات ماركس ونقاشنا لها... إن كثيراً من الموبقات، على صعيد الفكر والسلطات، تبرر باسم النظرية الماركسية والحزب الماركسي والحكم الماركسي، مما يحدو بالعاقل إلى التهيب والتحفظ وأحياناً إلى النفور» (ص250-248) كما لن يكون من بين هموم الكتاب تحليل المضمون الطبقي للصراعات القومية ولا البحث في الأسس النظرية والعوامل التي تنهض عليها قضايا الأمة العربية الموجزة بالثالوث المقدس، الوحدة والحرية والاشتراكية، بل سيركّز على الطرق والوسائل والأساليب التي استخدمتها الأحزاب لتوظيف هذه الأسس وتلك العوامل في عملية التعبئة الحزبية وفي رسم خطوط المواجهة بين جبهة الأعداء وجبهة الأصدقاء. وكذلك الأمر في ما يتعلق بمسائل الفقه والمعتقدات الدينية التي لن يتناول هذا الكتاب أسسها الفلسفية واللاهوتية، بل سيتوقف عند الحلقة الوسيطة، حلقة التأويل والتفسير والاجتهاد. لن يكون موضوعه الدين بل الفكر الديني، أي تجسيدات الوعي الديني في عقول شراح ومعممين ومبشرين لا يبتغون من شرح العقيدة للمؤمنين توجيههم لممارسة طقوس الإيمان بطريقة «شرعية»، بقدر سعيهم إلى إعداد جنود في جيش الاستيلاء على السلطة السياسية. الفكر النقدي جعلنا نتجرأ، لا على الممارسة السياسية المستلهمة من الماركسية فحسب، التي نزعم التحويم في فضائها، بل على»الممارسة السياسية» في كل المنظومات الفكرية الأخرى، ولاسيما الدينية. بيد أن هذه النزعة النقدية هي صيغة متطورة من منهج الشك الديكارتي التي تأسست في وعينا من خلال اطلاعنا على مناهج البحث العلمي، ثم رسّخها حضور طه حسين في ثقافتنا الحديثة؛ وهي بذرة يعود الفضل في رعايتها إلى أبوين كانا يمارسان طقوس الإيمان من غير تزمت، وإلى بيئة قروية(جرجوع في جنوب لبنان) متحررة دينياً، يتبادل المسيحيون والمسلمون فيها طقوس الفرح والحزن والأعياد الدينية ويتجاور فيها الجامع والكنيسة، وإلى ظروف مرحلة من عمر الوطن نشأنا فيها(المرحلة الشهابية) وتربينا على التسامح وعلى أن التعصب الطائفي والديني آفة تفتك بالوحدة الوطنية وبالوحدة الدينية على حد سواء. في كل منظومة فكرية نسخة من «إسحق دويتشر». لكنها، في الأديان، ظاهرة معمّمة، لأن منهج اكتساب المعرفة لدى المتدين- السياسي يعتمد على تلقي الأجوبة الجاهزة، تطبيقاً للحديث الشريف، «أول العلم الصمت والثاني حسن الإستماع والثالث حفظه والرابع العمل به ...». من الطبيعي ألا يشكل هذا المنهج أي حافز لطرح الأسئلة، وألا يساور من «يصمت ويستمع ويحفظ» أي نوع من الشك في ما يتلقاه عن طريق السمع، وهو أكثر مصادر المعرفة ضعفاً وهشاشة، لأنه عرضة للتزوير والتحريف، كما كل الثقافة الشفوية غير المكتوبة، ومنها الأحاديث المعنعنة. مصطلح «الممارسة النظرية» ليس ترفاً فكرياً ولا مجرد اقتباس، بل هو المفتاح الأساس لقراءة هذا البحث قراءة سليمة. من دونه تنزاح القراءة عن مسارها، وهو ما حصل مع بعض قراء كتاب «الشيعية السياسية»(الدار العربية للعلوم ناشرون،2012)، إذ وقع ضحية هذه القراءة لأن هذا البعض نظر إليه كأنه بحث في مذهب الاثني عشرية الشيعي، واختلط عنده مفهوم الشيعة كمذهب ديني مع مفهوم الشيعية السياسية كتيّار سياسي. كذلك حصل التباس مشابه في التعامل مع كتاب «اغتيال الدولة»، لأن المعنى يتشوش في عين المعارضة الحزبية التي لا تميز بين الدولة والسلطة. أما كتاب «هل الربيع العربي ثورة؟» فقراءته بعين «المناضل» هي قراءة خيبة الأمل بالأنظمة العربية وبأحزاب المعارضة على حد سواء وبما آلت إليه الأحداث في مراحلها الأولى، خصوصاً أن النضال باندفاع عاطفي من أجل التغيير السريع وبحسب المفاهيم السائدة عن الثورة، يوقع صاحبه في عدم التمييز بين الثورة كسيرورة وبين الثورة كانقلاب. من العوامل التي ساعدت على تبلور هذا المصطلح، فضلاً عن العلاقة اللصيقة بصاحبه، تجربة طويلة في قيادة الحزب الشيوعي اللبناني كنت فيها، كما ذكرت أعلاه، من موقع الانتماء المخلص والصادق إلى اليسار، في»منزلة بين المنزلتين»، أي عضواً، من غير مهمات، في اللجنة المركزية والمجلس الوطني لأكثر من ربع قرن، ما أتاح لي الفرصة لنقد التجربة من داخلها وكأنني بعيد عنها، فتفرغت لتحليل الخلفيات النظرية للقرارات الحزبية والآليات المتبعة في تنفيذها وتقويم نتائجها. أما العضوية من غير مهمات فتجد تفسيرها وتبريرها في كون الحزب كان يمر في أزمة سياسية تنظيمية، وفي كون القيادة الفعلية في الأحزاب الشمولية محصورة في يد الأمين العام، ذلك أن المؤتمرات الحزبية ليست سوى شكليات فولكلورية لآليات اختيار القيادة عن طريق التعيين، فيختار الأمين العام مكتبه السياسي ويسمي المكتب السياسي أعضاء اللجنة المركزية (من وثائق المؤتمر السادس للحزب الشيوعي اللبناني) ربما كان استشهاد مهدي عامل هو الذي جعلني أستحضر هذا المصطلح، وهو الذي أيقظ في داخلي سلسلة من أسئلة، هي في وجه من وجوهها دفق عاطفي وجداني، لكنها في جوهرها بحث داخل الفكر السياسي، يتمحور حول تساؤلات: لماذا اغتاله «حلفاء وإخوة» له في النضال ضد الامبريالية والصهيونية والاستعمار؟ وهل يمكن أن يقتل المناضل مناضلاً مثله في جبهة المواجهة ذاتها ؟ هل يتجرأ غير الجاهل على قتل المفكرين؟ أليس قاتله واحداً ممن لم يقرأوا عنواناً من عناوين كتبه؟ أليس يشبه كل القتلة؟ أليس يشبه ذاك الأمّي الذي قتل فرج فوده أو الأمي الآخر الذي لم يقرأ رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ ثم حاول أن ينتقم من كاتبها، فقط لأنه كاتبها؟ أليس يشبه قاتل الصحافي كامل مروة في مكاتب جريدة الحياة؟ والشيخ صبحي الصالح على منبره الجامعي؟ والمفكر حسين مروة في سرير المرض؟ وقادة حركة أمل الثلاثة في الجنوب؟ وذيب الجسيم وكامل صبّاح وهاني زين الدين وخضر جوني، وهم على صهوة النضال في مقاومتهم الوطنية ضد الاحتلال الاسرائيلي؟ كررت مع الشاعر بدر شاكر السياب تعجّبه: «إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون، أيخون إنسان بلاده؟ إن خان معنى أن يكون فكيف يمكن أن يكون؟» أسئلة قد تبدو ساذجة، مشحونة بالعاطفة، ولا تناسب بحثاً أكاديمي المنحى، غير أنها تنطوي على إشكاليات سياسية وفكرية شتى. قد يخون الخائنون، وقد يقتل القتلة، هذا هو الأصل في تكوينهم النفسي والسياسي. أما «المناضلون» من أهل الخندق الواحد، فلماذا يقتتلون؟ بل لماذا تكون الحرب أكثر ضراوة بينهم، أي بين أهل المعتقد الواحد، السني والشيعي، اللينيني والتروتسكي، الحرب الأهلية بين رفاق الدرب في اليمن الجنوبي، حرب الجزائر بين جبهة التحرير والجبهة الاسلامية، بين داعش والنصرة؟ كأني بهم يقرأون المتنبي بتصرف في قوله: يكفّر(بدل يدفّن) بعضنا بعضاً وتمشي..... أواخرنا على هام الأوالي. التكفير، وجه الشبه الصارخ بين تلك الأحزاب موقفها من الرأي الآخر. الرأي الآخر عندها مصيره القبر أو السجن أو المنفى. الممارسة أو البراكسيس، هي الأخرى، درجتان. في الأولى يتم تحويل الأفكار الفلسفية إلى أفكار سياسية وتبقيها في إطار الأفكار، أما الثانية فتهتم بكيفية الانتقال من الأفكار السياسية إلى النضال اليومي، أي بتحويل الأفكار النظرية إلى مهمات سياسية ملموسة. الممارسة النظرية في هذا الكتاب هي نقاش مع الصنف الأول، وخصوصاً مع كتابات مهدي عامل التي اقتبست منها هذا المصطلح. التمييز بين الدرجتين واجب لضرورات منهجية، خصوصاً أن جزءا من الكتاب سيكون حواراً مع أفكار مهدي، ولأن الخلط بين المستويين يسيء إليهما معاً. (ووضع الندى في موضع السيف بالعلى ....مضر كوضع السيف في موضع الندى. المتنبي). لنضرب على ذلك مثلاً. النظرية الماركسية تقول بوجود صراع بين رأس المال والعمل، وهو في رأي ماركس، محرك التاريخ. تدرجت «الممارسة النظرية» من ماركس إلى الترجمة الأممية في البداية، التي تجسّد الصراع، في نظرها، بين النظام الرأسمالي العالمي(الامبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية كما سماها لينين) والمنظومة الاشتراكية )صراع دولي). على الدرجة الثانية نزولاً، في «الممارسة النظرية» المحلية، صار صراعاً محلياً بين عملاء الامبريالية من الأنظمة الرأسمالية، ومعها الصهيونية دوماً، في حالتنا، من جهة، وبين أحزاب الطبقة العاملة من جهة أخرى. لكن المحلي يندرج ضمن العالمي بين معسكرين، أحدهما»على رأسه الاتحاد السوفياتي»، والثاني بقيادة الامبريالية الأميركية. الدرجة الثالثة من الممارسة النظرية جعلته بين حزب الطبقة العاملة داخل كل بلد، وهو على العموم الحزب الشيوعي المعترف به من موسكو، والطغمة المالية(حيتان المال، بحسب تعبير نقابيين شيوعيين). أخذاً بعين الاعتبار ما في هذه الترسيمة من اختزال لا يشوه المضمون، يمكن أن نتساءل عن مدى نجاح الماركسيين في ترجمة النظرية الماركسية ترجمة أمينة؟ وإن كانت أمينة حقاً فمن منهما يتحمل مسؤولية الاخفاقات، النظرية أم التطبيق؟ ما ينطبق على الماركسية ينطبق على النص الديني، ما يبرر طرح السؤال، هل كان الاسلاميون، على اختلاف مدارسهم وتنظيماتهم، أمينين على ترجمة النصوص، ومن بينها تلك التي تتناول الشأن المتعلق بحزب الله، كما ورد في النص القرآني؟ وردت كلمة «الحزب» بالمفرد أو «الأحزاب» بالجمع، سبع عشرة مرة في سور القرآن الكريم، المائدة، المؤمنون، الروم، المجادلة، فاطر، الكهف، هود، الرعد، مريم، الأحزاب، غافر، الزخرف. فهل نجح الاسلاميون في ترجمة هذا المصطلح الديني ترجمة أمينة، وهل كان «حزب الله» المعاصر هو التطبيق الصحيح للمصطلح الوارد في النص القرآني، أم هو تأويل، مع أن التأويل لا يعلمه إلا اللّه ؟ سنعود إلى آية التأويل في سياق البحث. أما الآيات التي ذكر فيها مصطلح «الحزب» فهي التالية: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (المائدة،5) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًاۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ(الروم32) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ(المؤمنون53) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (المجادلة19) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّاۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ(فاطر6) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا(الكهف12) وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ(هود17) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ۖ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُۚ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِۚ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (الرعد36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْۖ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (مريم37) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا ۖ وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ ۖ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا(الأحزاب20) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا(الأحزاب22) جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ(ص11) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ ۚ أُولَٰئِكَ الْأَحْزَابُ(ص13) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ(غافر5) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ(غافر30) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْۖ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (الزخرف65) لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(المجادلة22) «حزب الله» في هذه الآيات هو حزب المؤمنين، وخصومه هم حزب الشيطان. كل أحزابنا في العالم العربي تشيطن الآخر تمهيداً لتكفيره ثم لإلغائه ثم لتصفيته الجسدية إذا لزم الأمر. ثنائية المؤمن والمشرك، تشبه كل الثنائيات التي تتحول في العمل الحزبي إلى صراع «تناحري»، بحسب تعبير مهدي عامل، بين الرأسمالية والاشتراكية، أو بين القومية والقطرية، أو بين الاستقلال والاستعمار، وأصحاب الرأي الآخر هم دوماً، في لغة الأحزاب هذه، «عملاء للعدو» ومصيرهم النار، باللغة الدينية، أو الاغتيال والنفي والسجن، بلغة الأجهزة وسلطات الاستبداد الديني والقومي واليساري. لم تبخل اللغة علينا بالمفردات والمصطلحات، من السحل والإطاحة والقضاء على والتدمير والتكفير، والأدلة على هذا في حياة الأحزاب والبلدان التي حكمتها لا تحصى ولا تعد. هذه الأحزاب، على اختلاف التسميات، لا تعتمد المواطنية شرطاً للانتماء إليها، بل الولاء الديني أو الإيديولوجي أو القومي. الفرد فيها ليس مواطناً، بل هو ينتمي إلى ما دون الوطن، كالمذهب أو الملة أو الاتنية، أو إلى ما فوق الوطن، كالأمة الاسلامية أو العربية أو السورية أو إلى الأممية. ولهذا فإن المرجع الأعلى في الحزب هو دائماً فوق الحزب، هو اللّه في الأحزاب الدينية، أو خليفة اللّه من الحكام المستبدين، أو الإمام المعصوم، وهو «الأمة» في السودان أو في سوريا، والأمة العربية الواحدة أو «بعث» الأمة في الأحزاب القومية، وهو الأممية الاشتراكية في الأحزاب الشيوعية التي تنوب، من غير توكيل، عن الطبقة العاملة، بصرف النظر عما إذا كانت طبقة بذاتها أم طبقة لذاتها.(لا يشكل العمال طبقة، بالمعنى الماركسي للمصطلح، إلا بإضافة عامل الوعي الطبقي الذي تعامل معه الماركسيون، في الممارسة النظرية والسياسية باستنسابية مفرطة). تسميات ليست تعبيراً عن الهوية، بل تطغى فيها شحنة الايديولوجيا على منسوب الحقيقة. الشكل التنظيمي في هذه الأحزاب يشبه تركيب الجيوش. وإن اختلفت التسميات. المجموعة والفصيلة والسرية والكتيبة واللواء، قيادة الأركان، القيادة العليا، القائد العام. هناك ما يوازيها في الأحزاب، خلية أو فرقة، فرع أو فرعية، منطقة أو منطقية، لجنة مركزية أو مجلس وطني، مكتب سياسي، رئيس أو أمين عام، أو ما يوازي هذا الترتيب الهرمي وما يرادف التسميات لدى جميع الأحزاب. أحزاب لها شكل التنظيم العسكري لأنها معدة لأعمال عسكرية، فهي أحزاب انقلابية، بحسب تعبير الحزب الشيوعي اللبناني(وثائق المؤتمر السادس)، تتحين الفرصة للانقضاض على السلطة والاستيلاء عليها، ولذلك فهي تركز على زرع خلايا لها داخل الجيوش، وتولي اهتماماً خاصاً بالاستقصاء وتجميع المعلومات والمخابرات، الأساس الذي يقوم عليه نشاطها السري وتنفيذ الاغتيالات. التكفير قاسم مشترك في سياسة هذه الأحزاب. ينشأ المحازب في مناخ من التربية الصارمة (العسكرية) تجعله ضحية تعصب أعمى لحزبه ولأفكاره، وتحرمه بالتالي القدرة على حل كل المعضلات والإجابة على كل الأسئلة المستعصية، وتزرع فيه وهم امتلاك الحقيقة المطلقة بالعودة إلى الينابيع الإيديولوجية الخاصة بكل حزب، والاستعانة بالنصوص المقدسة، الديني منها والبشري، من الصحابة والسلف الصالح والفلاسفة والقادة الذين يضعهم التعصب، في نظر المحازب، في مقام القديسين. إن التثقيف الحزبي القائم على هذه الأسس يرسخ في ذهن المحازب اقتناعاً بتوجيهات الحزب وأفكاره وقراراته، ويزرع وعياً يشبه الإيمان، ويحرمه من فضيلة التفاعل الإيجابي مع الرأي المختلف، ويصعّب عليه الخروج عن سكة هذه الأفكار أو عليها، وإن فعل ذلك يعامله حزبه بصفته «مرتداً» عن «دينه». هذه القواسم المشتركة وغيرها لا تلغي الفوارق بين هذه الأحزاب، فهي متمايزة في أكثر من وجه، مع أن موقفها واحد من الحضارة الرأسمالية، ولكل منها ذرائعه ومبرراته. ففيما تعترض أحزاب اللّه الدينية على الحداثة من حيث المبدأ والأساس، تتوخى أحزاب اللّه «العلمانية»، في برامجها، الدخول في عالم الحداثة من باب العلوم الوضعية ومنتجات الحضارة الحديثة في ميادين الصناعة والزراعة والتكنولوجيا والثقافة وتعترض اعتراضاً عملياً على الصيغة السياسية للحداثة. ومع أن أسلوبها واحد في الاستعانة بالسلف الصالح وبالنصوص المقدسة، الديني منها وغير الديني، إلا أن أحزاب اللّه الدينية لا تكتفي من الماضي باستحضاره، بل تحاول شد الحاضر نحوه معاندة في ذلك دورة الزمن واستحالة عودة الماضي أو تكراره، فيما تفترق الأحزاب العلمانية، فتحاول القومية منها صياغة التاريخ الحديث من مفردات التوحيد القومي القديمة، كاللغة والدين والعادات والتقاليد، بينما تسعى الأحزاب الماركسية إلى استشراف المستقبل وصياغة التاريخ وإعادة قراءته على ضوء هذا الاستشراف، واستناداً إلى نظرية الصراع الطبقي وأولية العامل الاقتصادي. الأحزاب الدينية لا تستشرف بل تترقب وتنتظر، لأن المستقبل، في نظرها، ليس من صناعة البشر بل هو إرادة سماوية، فلا نصر ولا هزيمة، ولا إنجاز ولا إخفاق، ولا فرح ولا حزن، ولا تقدم ولا تأخر، ولا موت ولا حياة، إلا بمشيئة الله، باستسلام كامل للقدر، إذ «لا يصيبكم إلا ما كتب اللّه لكم». الأحزاب الدينية ترى في دور هذا «اليقين الإيديولوجي» ما يراه الماركسيون «يقيناً» في دور البنية التحتية، كعنصر محدِّد «في نهاية التحليل»، لا ينفي دور البشر في صناعة المستقبل، بل يجعله ثانوياً بالقياس إلى ما هو مكتوب في لوح السماء أو في الحتمية التاريخية. إنه فارق جوهري لصالح الأحزاب اليسارية، القومي منها والماركسي. ذلك أن هذه تولي اهتماماً كبيراً بمناهج العلوم الوضعية وبمنجزاتها الحديثة، في حين تكتفي تلك بتصوير هذه المنجزات كأدلة على صحة معتقداتها. ظهر هذا الفارق جلياً خلال القرن العشرين، إذ بدت الماركسية ملهماً غنياً لأهم الابداعات في الحقل الفني، في الشعر والأدب والموسيقى والرسم والنحت والسينما والمسرح، وفي حقول الفلسفة والاقتصاد والعلوم الاجتماعية، وشهدت البلدان الشيوعية تقدماً علمياً ريادياً وسبّاقاً في اكتشاف مجاهل الفضاء، كما شهدت بلدان العالم العربي التي حكمتها الأحزاب القومية نهضة علمية مشهودة، بينما ظلت حركة الاسلام السياسي في أفغانستان(القاعدة) تشغل معاول الهدم والتدمير في تماثيل بودا وتعيد النساء من ميدان العمل العام وتكسر شاشات التلفزيون، إلى أن تفوقت عليها «داعش» بمضيها في اتجاه معاكس لاتجاه الحضارة الحديثة. هذا الفارق الجوهري بيّن أن الأحزاب اليسارية والقومية لعبت دوراً فاعلاً، وإن مرتبكاً، في نهضة البلدان العربية وتقدمها على طريق الحداثة ودخولها في حضارة القرن العشرين، في حين اقتصرت جهود حركة الاصلاح الديني على إعادة تأويل النصوص وتحويل المعتقدات الدينية إلى طقوس جامدة والوقوف ضد كل مظاهر التقدم، في محاولة لجرّ عجلة التاريخ جرّاً مستحيلاً إلى الوراء، إلى ماضي السلف الصالح، بل إلى مرحلة «ما قبل العقل» بحسب تعبير محمد عابد الجابري. هناك فرضيات ينطلق منها هذا الكتاب ويسعى إلى إثباتها أيضاً. أولها أن الاستبداد يشكل العقبة الرئيسية التي حالت دون تقدم العالم العربي ودون دخوله في حضارة العصر. وهي فرضية لا تنفي وجود عقبات وعوامل أخرى، داخلية وخارجية، عرقلت مسار التقدم. غير أن الاستبداد تخفّى خلف الصراع مع الغرب الاستعماري ومع الرأسمالية ومع المشروع الصهيوني، وتجسّد في أنظمة وأحزاب حاكمة وأخرى معارضة احتلت المشهد السياسي، منذ بداية القرن العشرين، أو على الأقل، على امتداد مرحلة الاستقلال. هذه الفرضية تعني أن عوامل التخلف داخلية ومحلية في الدرجة الأولى، وأن التأثيرات المتفاوتة للقوى الخارجية تحتل درجة ثانية من الأهمية. حتى المشروع الصهيوني الذي كان له الدور الأساس، كعامل خارجي، في اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها، فهو لم يشكل، في نظر الأصوليات الدينية والقومية واليسارية، إلا ذريعة لممارسة أبشع صنوف الاستبداد على الشعوب التي حكمتها أو التي «ناضلت» باسمها من أجل ما كانت تسميه «المصالح العليا» للأمة. الفرضية الثانية هي أن مصطلح الدولة، بالمعنى الحديث للكلمة، لم يتأصل في العالم العربي، وظل يحمل الدلالة القديمة ذاتها، أي «الجماعة المستقلة بالسلطة المستأثرة بالخيرات» (عبدالله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، ط10، 2014، ص119)، «التي تستعمل السلطة لتحقيق أهداف خاصة، وتحوّل الحكومة إلى مجموعة أمناء على مصالحها والخزينة إلى بيت مال خاص تحت تصرفها...» (م.ن. ص228). وكان من نتيجة ذلك اختلال عام في جميع المفاهيم المتحدرة من شجرة العائلة الخاصة بالدولة الحديثة، أي العلمانية، المدنية، الديمقراطية، السلطة، النظام، الكيان، الوطن، السيادة، القانون. الفرضية الثالثة هي أن ظاهرة القوميات، بقدر ما شكلت حاجة لتكوّن العصبيات الحديثة وبناء الدولة، الدولة-الأمة، سرعان ما تحولت من عصبية، بالمعنى الخلدوني للكلمة، إلى تعصب، أي إلى أداة لتأصيل الاستبداد وبالتالي لتدمير الديمقراطية التي تعتبر الثمرة الأبرز والأغلى، على الصعيد السياسي، من بين إنجازات الحضارة الرأسمالية الحديثة. الفرضية الرابعة هي أن «أحزاب الله» وقفت موقفاً واحداً من الرأسمالية لكنها عبرت عنه بطرق مختلفة. فقد شكلت الرأسمالية، في نظر الأحزاب الدينية، عدواناً صريحاً على الدور الذي لعبته الأديان في الحضارة السابقة على الرأسمالية، أدى إلى إزاحتها عن مسرح التاريخ، وسلاحها في هذا العدوان هو الدولة الحديثة التي نقلت إدارة المجتمع والشأن العام من داخل الكنيسة إلى البرلمانات، ومن الملكيات، أي السلطنة والخلافة والإمارة والولاية في الحالة العربية، المكللة ببركة رجال الدين، إلى الجمهوريات المكللة بتاج الديمقراطية وحكم الشعب. كما شكلت، في نظر الأحزاب القومية، عدواناً على الحاضر لا على التاريخ، من خلال النزعة التوسعية(التطور الأفقي للرأسمالية) التي اتخذت شكل الاستعمار المباشر. أما الأحزاب الماركسية فقد رأت فيها عدواناً على المستقبل، لأن الاشتراكية، في نظرها، هي مستقبل البشرية الوحيد. ولهذا التقت الأحزاب الأصولية كلها على موقف موحد من الدولة الحديثة، فرفضت الصيغة السياسية للرأسمالية، واختارت، للتهرب منها، ذرائع تفضي إلى قيام أنظمة استبدادية. الأحزاب الدينية طالبت بعودة الخلافة، والأحزاب القومية اعتمدت الأنظمة العسكرية والانقلابات وحكم ضباط الجيش، والشيوعية تبنّت نظرية الحزب الطليعي ودكتاتورية البروليتاريا، ثم ترجمتها على الصعيد العملي بتفرد الحزب بالسلطة وإقامة الأنظمة التوتاليتارية. حتى يكون حوار الأفكار في هذا الكتاب مثمراً، عملنا على توضيح معاني المصطلحات. ذلك أن الأسباب التي جعلت الحوار، الذي ساد على امتداد القرنين الماضيين، عقيماً عديدةٌ، وأهمها في رأينا إثنان، الأول هو أن المتحاورين لا يتعاملون مع المصطلح كأداة معرفية بل»يتراشقون» به، أي يستخدمونه أداة للمنازلة والصراع. فالعلمانية كفر والرأسمالية استعمار وشيطان، والديمقراطية قاتلة واليسار أفكاره مستوردة، وعلى الجبهة الأخرى، الأصوليات الدينية تخلف وجهل وظلامية. الحوار في هذا الحالة لا يكون سوى معارك كلامية تبدأ بالشتائم وتنتهي بالاغتيالات، وكثيراً ما كان يحصل ذلك داخل الخندق الواحد تحت خيمة التحالف المشترك ضد الإمبريالية والصهيونية والاستعمار. أما السبب الثاني فيتعلق بظروف الحوار وآلياته. ولئن كانت بدايته مع الوهابية فهو لم ينته مع أحزاب اللّه المعاصرة، وقد تميز، في معظم مراحله، بافتقاره إلى الديمقراطية، باستثناء فترة وجيزة تولى فيها زمام النقاش، عن الجانب الديني، جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وعن العلمانيين شبلي الشميل وفرح أنطون. بعدها أخذ يتقهقر الفكر الديني نحو الأصولية منذ ألغى أتاتورك الخلافة، وصارت الحضارة الحديثة، في نظره، «جاهلية القرن العشرين»، وانغلق كل فريق على ثقافته ثم تدرج من الانغلاق إلى عدم اعتراف بالأخر إلى عدم معرفة به. فكيف يمكن أن يكون حوار بين فرقاء يجهلون بعضهم بعضاً؟ هذا فضلاً عن أنه تحول إلى سجال سياسي خارج المنصة الفكرية. ولم تتبدد هذه اللوحة القاتمة رغم دخول مفكرين كبار حلبة النقاش الفكري والفقهي، لأنه كان حواراً من طرف واحد لم تنخرط المؤسسة الدينية الإسلامية فيه ولم تجد نفسها معنية به بل ظلت خارجه. حاولت أن أجنّب الكتاب منزلق الوقوع في مونولوغ فكري فبحثت عمن يكون شريكاً لي في غنم الكتاب وغرمه، لكنني، بعد أن كنت قد مضيت بعيداً في عملية النقد والنقد الذاتي، ملت إلى عدم تحميل أحد سواي وزر أفكار صادمة في الكتاب ومثيرة للنقاش، وبحثت عمن يغني مادته ويشكل قيمة مضافة على منهجه النقدي، من خارج حسابات التوافق بيني وبينه على الأفكار والفرضيات، وكان من جميل الصدف أنني كنت، في وقت مضى، قد تعرفت على الشيخ علي حب اللّه في دارته في مدينة صور، ولفت نظري، وأنا أجيل النظر على عناوين الكتب في الرفوف والخزائن، أن مكتبته العامرة تزخر بالمراجع والمصادر التي غرفنا منها، نحن اليساريين والعلمانيين، ثقافتنا، وزعمنا انتماءنا، من خلالها إلى الحداثة؛ فضلاً عما يمكن أن تضمه مكتبة رجل دين من مجلدات كتب التراث. ولفت نظري أكثر من ذلك، أنه أهداني قبيل مغادرتي، وهو الباحث في حقل الفقه، كتابين له أحدهما في النقد الأدبي، المقدمة في نقد النثر العربي، دار الهادي، بيروت، والأخر، عن الدار ذاتها، تحليل نقدي وتاريخي لرواية سرفانتس، دون كيشوت. إنه، إذن، منفتح على أنواع أخرى من المعرفة من خارج حقل العلوم الدينية؛ ولفت نظري أخيراً أنه كتب في نقد محمد عابد الجابري وسيد محمود القمني وتركي علي الربيعو في كتاب صادر عن دار المحجة البيضاء في بيروت، كما كتب في نقد كتاب «فلسفتنا» لمحمد باقر الصدر ورأى أن الصدر لم يقدم في كتابه صورة دقيقة عن الماركسية. حين توجهت إليه طلباً لشراكة في التأليف غير عادلة لأنها غير متساوية، تكرم بالموافقة على كتابة مقدمة للكتاب أراد أن يثبت فيها أن الحوار لا يكون مثمراً إلا من موقع احترام الرأي الآخر واحترام الحق في الاختلاف. ربما كانت هذه الفكرة هي ما يبتغيه الكتاب: الديمقراطية في الفكر وفي السياسة وفي كل شؤون العلاقات بين البشر، بديلاً من كل اليقينيات القاتلة. إذا كان الكتاب قد جانب النقاش في القضايا السياسية، فلأنه ركز على نقاش نصوص في الفكر السياسي، ولاسيما تلك المتعلقة بالمصطلحات المتحدرة من شجرتي عائلة الدولة والديمقراطية. وبعد أن لاحظنا تشابهاً كبيراً بل تطابقاً بين مواقف الأحزب ذات المنشأ الإيديولوجي الواحد، توقفنا بشكل خاص عند نصوص لمفكرين في الحزب الشيوعي اللبناني، وبشكل أخص عند نصوص مهدي عامل المتعلقة بالدولة، وافترضنا اننا نناقش من خلالها كل النصوص الموازية لدى الأحزاب الشيوعية العربية، بمشرقها ومغربها. كما توقفنا بشكل خاص عند نصوص لحزب اللّه الشيعي وعنه، مع مرور عابر على أحزاب السنية السياسية التي سبق أن أشبع موقفها من الدولة والديمقراطية بحثاً منذ كتاب علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم ونشوء حركة الإخوان المسلمين في عشرينات القرن الماضي. وقد اكتفينا في هذا المرور العابر باختيار نصوص من وثائق حزب التحرير، وافترضنا أننا نناقش، من خلال هذه وتلك، موقف الإسلام السياسي بفرعيه الشيعي والسني من الدولة والديمقراطية. الإسلام السياسي في المغرب تميز بخصوصية لم تشهدها سائر الحركات الإسلامية في العالم العربي، وقد قدم الدكتور محمد الشيخ بانن صورة وافية عنه في كتابه، الدولة في فكر الجماعات الإسلامية في المغرب: دراسة حالات، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، ظهر من خلاله أن الأحزاب الدينية الأساسية هناك كانت تغرد خارج سرب الأحزاب الأصولية الشقيقة، إذ إنها، على الأقل في السنوات القليلة الماضية، تأقلمت مع عملية الإصلاح الدستوري في البلاد والتزمت في تطبيقها. هذه الظاهرة، فضلاً عن تجربة التيار الإسلامي المعتدل في تونس، تمليان علينا أن نبحث عن الأسباب التي جعلت بعض تيارات الإسلام السياسي المغاربي تتأقلم مع الأنظمة الدستورية، وعن السبل الكفيلة بجعل الإسلام السياسي في كل مكان يحذو حذوها ويتخلى عن شعار الإسلام هو الحل. ولهذا اكتفينا بأن نخرج الإسلام السياسي المغاربي من دائرة اهتمام بحثنا، على أن يتولى البحث عن الأسباب والسبل باحثون يستندون إلى تجربتي المغرب وتونس، وإلى دراسات ميدانية، من بينها هذا البحث الهام للدكتور بناني. إن حرصنا على عدم الخوض في نقاشات سياسية حتم علينا أن نختار منهجاً أكاديمياً للبحث، التزمنا فيه أصول البحث العلمي والاستناد إلى النصوص والمراجع والمصادر الموثقة، واخترنا تقنية أخرى جعلنا بموجبها الهوامش جزءاً من متن الكتاب، تسهيلاً للقراءة.
الفصل الأول في منهج القراءة: بحث في المصطلح قل لي ما مصطلحك أقل لك من أنت مصطلح «الممارسة النظرية» ليس ترفاً فكرياً ولا مجرد اقتباس، بل هو المفتاح الأساس لقراءة هذا البحث قراءة سليمة. من دونه تنزاح القراءة عن مسارها، وهو ما حصل مع كتاب «الشيعية السياسية»(الدار العربية للعلوم ناشرون2012)، إذ وقع ضحية هذه القراءة لأن البعض نظر إليه كأنه بحث في مذهب الاثني عشرية الشيعي، واختلط مفهوم الشيعة كمذهب ديني مع مفهوم الشيعية السياسية كتيار سياسي. كذلك حصل التباس مشابه في التعامل مع كتاب «اغتيال الدولة»، لأن قراءته بعين المعارضة الحزبية تشوش المعنى ولا تساعد على التمييز بين الدولة والسلطة. أما كتاب «هل الربيع العربي ثورة؟» فقد قرأه «المناضل» من زاوية خيبة الأمل بالأنظمة العربية وبأحزاب المعارضة على حد سواء وبما آلت إليه الأحداث في مراحلها الأولى، حين أوقعه اندفاعه العاطفي في عدم التمييز بين الثورة كسيرورة وبين الوقائع والأحداث اليومية. هذه الالتباسات تعود إلى عدم التوضيح الكافي لمعاني المصطلحات ومدلولاتها في الكتب المشار إليها، وهو ما سيحاول هذا الكتاب تفاديه، من خلال المزيد من تسليط الضوء على مصطلحات كثيرة يشيع استخدامها بمضامين مطاطة، أو بمدلولات متناقضة بين المتحاورين، من بينها مصطلحات الرأسمالية، الدولة، العلمانية، الديمقرطية، الأمة. من العوامل التي ساعدت على تبلور هذا المصطلح، فضلاً عن العلاقة اللصيقة بصاحبه، تجربة طويلة في قيادة الحزب الشيوعي اللبناني كنت فيها، كما ذكرت أعلاه، من موقع الانتماء المخلص والصادق إلى اليسار، في»منزلة بين المنزلتين»، أي عضواً، من غير مهمات، في اللجنة المركزية والمجلس الوطني لأكثر من ربع قرن، ما أتاح لي الفرصة لنقد التجربة من داخلها وكأنني بعيد عنها، فتفرغت لتحليل الخلفيات النظرية للقرارات الحزبية والآليات المتبعة في تنفيذها وتقويم نتائجها. أما العضوية من غير مهمات فتجد تفسيرها في كون القيادة الفعلية في الأحزاب الشمولية محصورة في يد الأمين العام، وفي كون المؤتمرات الحزبية مجرد شكليات فولكلورية لآليات انتخاب القيادة عن طريق التعيين، فيختار الأمين العام مكتبه السياسي ويسمي المكتب السياسي أعضاء اللجنة المركزية (من وثائق المؤتمر السادس للحزب الشيوعي اللبناني) ربما كان استشهاد مهدي عامل هو الذي جعلني أستحضر هذا المصطلح، وهو الذي أيقظ في داخلي سلسلة من أسئلة، هي في وجه من وجوهها دفق عاطفي وجداني، لكنها في جوهرها بحث داخل الفكر السياسي، يتمحور حول تساؤلات: لماذا اغتاله «حلفاء وإخوة» له في النضال ضد الامبريالية والصهيونية والاستعمار؟ وهل يمكن أن يقتل المناضل مناضلاً مثله في جبهة المواجهة ذاتها ؟ هل يتجرأ غير الجاهل على قتل المفكرين؟ أليس قاتله واحداً ممن لم يقرأوا عنواناً من عناوين كتبه؟ أليس يشبه كل القتلة؟ أليس يشبه ذاك الأمّي الذي قتل فرج فوده أو الأمي الآخر الذي لم يقرأ رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ ثم حاول أن ينتقم من كاتبها، فقط لأنه كاتبها؟ أليس يشبه قاتل الصحافي كامل مروة في مكاتب جريدة الحياة؟ والشيخ صبحي الصالح على منبره الجامعي؟ والمفكر حسين مروة في سرير المرض؟ وقادة حركة أمل الثلاثة في الجنوب؟ وذيب الجسيم وكامل صبّاح وهاني زين الدين وخضر جوني، وهم على صهوة النضال في مقاومتهم الوطنية ضد الاحتلال الاسرائيلي. كررت مع الشاعر بدر شاكر السياب تعجّبه: «إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون، أيخون إنسان بلاده؟ إن خان معنى أن يكون فكيف يمكن أن يكون؟» أسئلة قد تبدو ساذجة ومشحونة بالعاطفة، غير أنها تنطوي على إشكاليات سياسية وفكرية شتى. قد يخون الخائنون، وقد يقتل القتلة، هذا هو الأصل في تكوينهم النفسي والسياسي. أما «المناضلون» من أهل الخندق الواحد، فلماذا يقتتلون؟ بل لماذا تكون الحرب أكثر ضراوة بينهم، أي بين أهل المعتقد الواحد، السني والشيعي، اللينيني والتروتسكي، الحرب الأهلية بين رفاق الدرب في اليمن الجنوبي، حرب الجزائر بين جبهة التحرير والجبهة الاسلامية، بين داعش والنصرة؟ كأني بهم يقرأون المتنبي بتصرف في قوله: يكفّر(بدل يدفّن) بعضنا بعضاً وتمشي..... أواخرنا على هام الأوالي. التكفير، وجه الشبه الصارخ بين تلك الأحزاب. الرأي الآخر عندها مصيره القبر أو السجن أو المنفى. وجه الشبه الثاني هو أن لدى كل حزب يقينياته القاتله. الحوار المثمر مع أفكار هذا الكتاب يتطلب تدقيقاً في معاني المصطلحات الملتبسة، حتى لا يبقى حواراً «بالتراشق» بعيداً عن أي أرض مشتركة. فكيف يمكن أن يصل الحوار بين التيارات الفكرية حول العلمنة مثلا إلى خواتيمه المرجوة إذا كانت دلالة المصطلح تتراوح بين معانٍ متباعدة: الكفر أو فصل الدين عن الدولة أو فصل سلطة رجال الدين(الكنيسة) عن سلطة الدولة، وإذا رآه البعض مشتقاً من العلم وآخرون من العالم. الأمر ذاته يصح على مصطلح الرأسمالية. هل هي ظاهرة عرضية أم حضارة؟ هل هي دين أم عدوان على التاريخ وعلى الأديان؟ هل هي ثورة أم معيق للثورة؟ هل هي ممر إلزامي على طريق الحضارات البشرية أم محطة عبور نحو مرحلة أرقى من تلك الحضارات؟ بالإضافة إلى أسئلة أخرى يمكن أن تطرح عن مصطلحات متحدرة من الحقل المفاهيمي ذاته، مثل البرجوازية، الصراع الطبقي، البنية الفوقية والبنية التحتية، الطبقة العاملة لذاتها. ذلك لأن استخدام هذه المصطلحات بمدلولات مختلفة وأحياناً متناقضة، جعل الحوار في العالم العربي،حول القضايا المتعلقة بها، على امتداد القرن العشرين.
1ــ الرأســماليــة اللغة الكفاحية لدى «أحزاب الله» لم تر في الرأسمالية سوى الوجوه السلبية. فهي استغلال الانسان للانسان في نظر الشيوعيين، وهي الاستعمار في نظر القوميين، وهي خليط من هذا وذاك مضافاً إليهما، في نظر الاسلاميين، كل التهم الممكنة المتعلقة بالفكر المادي في مواجهة الروحانيات، إو بالعلمنة الملحدة مقابل الايمان، أو بالاستكبار العالمي ضد المستضعفين في الأرض. من لينين وقوله إن الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية حتى الخميني ونعته الولايات المتحدة الأميركية ب «الشيطان الأكبر» استمرت الأصوليات القومية والدينية واليسارية تبني استراتيجياتها الكفاحية انطلاقاً من تفسير أحادي لمدلول المصطلح، ما جعل مسارها الكفاحي محفوفاً بمخاطر المشي عكس إرادة التاريخ. من الطبيعي ألا يضطلع الحزب السياسي بدور الباحث العلمي، لكن من الضروري، لتأمين نجاحه في رسم الخطة وفي تنفيذها، أن يعتمد على ما تتوصل إليه البحوث العلمية من اكتشافات وخلاصات. هذا ما فعلته الرأسمالية حتى غدا نشوؤها قريناً للنهضة العلمية الهائلة، وبدت العلاقة بينهما علاقة علة بمعلول، يتبادلان فيها طرفي المعادلة. هذا ما أجمع عليه الباحثون وخصوصاً من درسوا خصائص الرأسمالية بعين نقدية. فؤاد مرسي تحدث عن رأسمالية الثورة الصناعية وعن رأسمالية الثورة العلمية (الرأسمالية تجدد نفسها، منشورات عالم المعرفة، الكويت، 1990)، وكرر كلامه عن «مزايا» الرأسمالية في أكثر من مكان في كتابه، قائلاً عنها أنها «تولت، بفضل الثورة العلمية والتكنولوجية التي قادتها، تطوير القوى المنتجة بنجاح» (ص177)، ويقول في مكان آخر، «إن الثورة العلمية والتكنولوجية هي وريثة كل ذلك التقدم الذي حدث في مجال تطوير قوى الانتاج على أيدي الرأسمالية» (ص22)، و «لا يمكن فهم الرأسمالية المعاصرة دون فهم الثورة العلمية والتكنولوجية الراهنة»(ص19). أُشبع تاريخ نشوء الرأسمالية ارتباطاً بالثورة الصناعية درساً، وقد أشرنا إلى ذلك بنوع من التفصيل في كتابنا، هل الربيع العربي ثورة(منشورات ضفاف،بيروت،2015). في البداية كانت صناعة النسيج والآلات والسفن البخارية، والانتقال من الصناعة اليدوية إلى الصناعة الآلية، والتقدم في علوم الكيمياء والفيزياء وتطوير وسائل الاتصال من القطار إلى السيارة والطائرة والهاتف والتلغراف إلى وسائل التواصل الحديثة عبر الانترنت، الخ ألخ. بحيث يمكن القول إن الثورة الصناعية الأولى أدت إلى ظهور المجتمع الرأسمالي، كما يمكن قراءة هذه المعادلة بطريقة أخرى والقول بأن نمطاً جديداً من الانتاج تزامن مع ثورة علمية ليكوّنا معاً حضارة جديدة اسمها الحضارة الرأسمالية. مع الثورة الصناعية أصبحت البشرية «قادرة على مضاعفة الناس والبضائع والخدمات» (ص80 من مجلد عصر الثورة، للباحث إريك هوبزباوم، الجزء الأول من ثلاثية من 2000 صفحة تحكي عن نشوء الرأسمالية في أوروبا، صدر عن المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية. تتضمن هذه المجلدات استعراضاً لتطور الرأسمالية، من مرحلتها الأولى، عصر الثورة، الممتد بين عامي 1789 و1848، والثانية، عصر رأس المال بين عامي 1848 و1870، أي «المرحلة التي صار فيها العالم رأسمالياً»(ص68)، والثالثة، عصر الإمبراطورية، الممتد حتى الحرب العالمية الأولى 1914)، وهي تنطوي على أهمية استثنائية بالنسبة إلى بحثنا هذا، لأنها تتضمن استعراضاً مسهباً للظروف التي أضافت على مزايا الثورة الرأسمالية وفضائلها الكثيرة سلبيتين اثنتين، الامبريالية والاستعمار. غير أن اللافت في موقف الأحزاب الأصولية، أحزاب الله، إشاحتها النظر عن المزايا وتركيزها على ما يمكن تصنيفه في خانة المثالب والبشائع الرأسمالية. ورد في البيان الشيوعي لكارل ماركس وفريدريك إنغلز أن «من نتائج التحسين السريع لأدوات الانتاج كلها، عبر وسائل الاتصالات المسهلة بصورة هائلة، أن البرجوازية تجر الجميع، حتى الأمم الأكثر بربرية، إلى حلبة الحضارة...» ما يعني أن الرأسمالية، في نظر ماركس، هي بالدرجة الأولى «حلبة حضارة». كما أكد البيان في أكثر من مكان على أن الرأسمالية شكلت ثورة تقدمية بكل ما تعنيه الكلمة، لأنها قضت على نمط الانتاج القديم ودفعت البشرية إلى عصر الوفرة والبحبوحة والاكتشافات العلمية. هذا الميل إلى التغيير والتقدم والثورة تلازم مع نزوع إلى التوسع، لأن الاقتصاد الجديد هو اقتصاد السلعة، اقتصاد السوق، فكان لا بد من توسيع إطار السوق، بعد أن ضاقت الأسواق المحلية على تصريف منتجات المعامل والمصانع. وإذا كان صحيحاً أن الرأسمالية «تجر الجميع ... إلى حلبة الحضارة»، فالصحيح أيضاً أن نزوعها إلى التوسع هو استجابة لمصالح تجارية بالدرجة الأولى، وبالتالي فلا بد من أن يكون المستفيد من عملية التوسع وصاحب المصلحة فيها هم منتجو السلع بالدرجة الأولى، أي أصحاب المصانع في البلدان التي كانت سباقة إلى الرأسمالية، فضلاً عن حاجة هؤلاء لمواد أولية للتصنيع. النزوع إلى التوسع هو، إذن، جزء من آليات عمل النظام الرأسمالي. فلا رأسمالية من دون توسع. لقد انصبت جهود ماركس على كشف الآليات الخاصة بالانتقال إلى الحضارة الرأسمالية من تلك التي سبقتها، واستشرف زوال الرأسمالية بفعل العوامل ذاتها التي دفعت السابقة إلى الزوال، أي بفعل الصراع الطبقي الذي يدخل في مرحلته الثورية عندما تغدو علاقات الانتاج عاملاً معيقاً لتطور القوى المنتجة. تم تصنيف الكشف عن الآليات في باب البحث العلمي، أما الاستشراف ففي باب الإيديولوجيا، أو على الأقل هكذا استخدمته الأحزاب المكافحة المنافحة للرأسمالية، فاستبدلت مصطلحاً علمياً (نزعة توسعية) بمصطلح سياسي، بل أخلاقي (نزعة عدوانية) الرأسمالية، باللغة الماركسية، حضارة قبل أن تكون نمط إنتاج. لأنها ثقافة وطريقة عيش ومنظومة قيم، تجسدت فيها علاقات جديدة بين البشر، وتولدت من رحمها روابط اجتماعية مبنية على فلسفة الحرية، حرية الانسان الفرد، التي شكلت الأساس الفلسفي للديمقراطية على الصعيد السياسي. وهي، في نظر بعض الماركسيين، ليست سوى «وغْدٍ وسيمٍ» بحسب تعبير الكاتب وليد الرجيب في كتابه الصادر تحت عنوان رئيسي «الرأسمالية... الوغد الوسيم» وعنوان فرعي: في بعض مستجدات العصر(دار الفارابي، بيروت، 2015). وهو كتاب يعبر بصورة نموذجية عن الطريقة التي ينظر فيها كاتب يساري إلى هذه الحضارة. استبعد الكاتب كل المزايا والفضائل الممكنة في الرأسمالية ولم يسترع انتباهه إلا ما ورد في الأدبيات السياسية الماركسية عن القيمة الزائدة والربح والتفاوت الطبقي، فبدت الرأسمالية مجرد «وغْدٍ، وغير أخلاقية لأنها تضع نفسها في خدمة البعض في حين تستغل العمال وتنكر عليهم استقلالهم» (ص43)، ولأنها لا تهمها حياة الإنسان أو سلامته أو صحته ولا حتى سعادته أو تطوره، كل ما يهمها هو الربح ولا شيء سواه، وهي في سبيل ذلك لا تتوانى عن استخدام أكثر الطرق اللاأخلاقية واللاإنسانية في تجاربها العلمية والتي تهدف بالنتيجة من ورائها إلى تحقيق هذا الربح بأي ثمن حتى لو أبيدت شعوب بأكملها (ص44)». من هنا ما كان يمكن أن تنجز الرأسمالية ما أنجزته إلا بدافع الربح، الاختراعات والاكتشافات والمصانع وطرق المواصلات ووسائل النقل، بما فيها السيارات والبواخر والطائرات والبرق والهاتف والفاكس والانترنت ووسائل التواصل والمحادثات المرئية والأنترنت... وحفر القنوات لتقريب القارات (بنما والسويس) والتلفزيون (خدمة للرأسمالية)، والمخترعات الدوائية والعلاجية والمنتجات الطبية، والمصابيح الكهربائية، والهواتف الذكية والألواح الرقمية (راجع الفصل الأول ص21-60) غير أن ماركسيين آخرين قرأوا بعين أخرى ورأوا أن الرأسمالية لم تقم فحسب على «استغلال الإنسان للإنسان» بل هي حضارة ونمط إنتاج مادي ومعرفي واجتماعي وقيمي، وأن استبدالها لا يتم كما «نتبادل الراقصات في المقهى» بحسب تعبير الشاعر محمد الماغوط، وهي «لا تموت بالذبحة القلبية» (جورج لابيكا، نحو تجديد الفكر الاشتراكي، بحوث ومناقشات مهداة إلى مهدي عامل في الذكرى العاشرة لاغتياله، منشورات الفارابي، 1997، ص495) وهي بالتأكيد لا تموت اغتيالاً، لا برصاصة ولا بطعنة خنجر ولا بعبوة ناسفة. ما يعني أن قوانين التاريخ لا النوايا الثورية، مهما كانت حسنة وصادقة، هي التي تحكم المواجهة معها. ما هي قوانين التاريخ هذه؟ وما هي آليات عملها؟ وهل للبشر قدرة على التأثير فيها او على تغيير مسارها؟ ابن خلدون تحدث عن مسار وخط بياني يشبه حياة البشر، تولد الحضارات، بموجبه، وتنمو وتبلغ قمة شبابها، ثم تشيخ وتهرم، ثم تموت. تلك كانت حالة الحضارات السابقة والتاريخ المكتوب، البابلية والكنعانية واليونانية والرومانية والفارسية وسواها، فتحيا واحدة على حساب الأخرى، وربما تولد واحدة من رحم الأخرى. أما الماركسيون فتحدثوا عن خمس حقبات حضارية تبدأ بالمشاعية البدائية وتنتهي بالشيوعية مروراً بالاقطاعية والرأسمالية والاشتراكية. استلهمت «أحزاب الله» نظرية ابن خلدون عن تعاقب الحضارات، ونظرية «الحتمية التاريخية» المشتقة من المدرسة الماركسية، فتخيلت الرأسمالية عدواً يعيش آخر أيامه وخاضت حروبها «المقدسة» ضدها، بغية استبدالها وإزاحتها تعسفاً عن مجرى التاريخ. الحقيقة التي أجمع عليها الباحثون هي أن تمرحل التاريخ مرتبط بتطور قدرات البشر على السيطرة على الطبيعة وعلى أدوات الإنتاج، أي بتطور العقل البشري وأدوات العمل ووسائل الانتاج. ماركس تحدث عن بنية فوقية وبنية تحتية، وقال إن هذه الأخيرة هي العامل المحدِّد. وأشبعت هذه الفكرة بحثاً واجتهادات وتفسيرات. المتشددون أحاطوا دور الاقتصاد بهالة من القداسة، وآخرون كانوا أكثر مرونة (ماكس فيبر، جورج لوكاش، محمد عابد الجابري). فؤاد مرسي رأى أن تاريخ البشرية مر في «ثلاثة عصور اقترنت بثلاث ثورات: ثورة العصر الحجري ... والثورة الصناعية التي أدت إلى ظهور المجتمع الرأسمالي... والثورة العلمية والتكنولوجية الراهنة» (م.ن. ص15-16). سمير أمين رأى أن لكل بنية اقتصادية بنية إيديولوجية توازيها وتتزامن معها (نحو نظرية للثقافة، معهد الانماء العربي، بيروت، 1989) استناداً إلى هذه الاجتهادات التي تناولت علاقة البنية الفوقية بالبنية التحتية، الايديولوجيا بالاقتصاد، اقترحنا في كتاب «هل الربيع العربي ثورة؟» تصنيف الحضارات في ثلاثة أجيال، الأول هو جيل الاقتصاد الريعي والعقل الاسطوري الذي انتهى في آخر أيام الفراعنة في مصر، وفيه تعايشت أو تعاقبت مجموعة من الحضارات كالفينيقية والبابلية والكنعانية واليونانية والفرعونية، الثاني هو جيل الحضارة الاقطاعية، أي الاقتصاد الزراعي والعقل الغيبي، أو (الأديان السماوية وغير السماوية)، ومن بينها الحضارة الاسلامية وحضارات الشرق في الهند والصين. أما الجيل الثالث فهو الحضارة الرأسمالية والعقل العلمي. تميز الجيلان الأولان بتعدد الحضارات المتجاورة أو المتزامنة أو المتعاقبة، فيما تميزت الرأسمالية بنزوعها إلى الكونية، فكان أول إنجازاتها، بعد الآلة والصناعة، ربط العالم بشبكة من الاتصالات في البحر والبر وعبر الأثير، فكانت شبكة المواصلات النهرية والبحرية وسكة الحديد والسيارة والطيارة والهاتف والتلغراف والفاكس والراديو والتلفاز وصولا إلى الثورة التكنولوجية والثورة الرقمية وعالم الميديا ووسائل التواصل الالكترونية. في الجيل الأول كان الله، الإله، يتجسد في الحاكم، في الجيل الثاني صار الحاكم يمثل اللّه (ممثل اللّه على الأرض)، أما في الرأسمالية فالحاكم يمثل، أو يفترض أن يمثل الشعب. فضلا عن كل هذه البحوث الغنية، تيسر للكثيرين من أبناء جيلي من أهل الريف، أي من أهل الحضارة الاقطاعية، في لبنان كما في سائر بلدان الأمبراطوريات الكبرى، من الصين والهند الصينية إلى روسيا والسلطنة العثمانية، (نمط الحياة الذي عاشه والمنزل الذي وصفه محمد عابد الجابري في مذكراته، وكان يسكن فيه مع أجداده في المغرب، يشبه نمط حياة أجدادنا ومنازلهم في لبنان) أن نعيش مرحلة الانتقال بين «حضارتين». من مدرسة الكتّاب ثم مدرسة «تحت السنديانة»(مارون عبود) أو مدرسة «الحطب» (كان واحدنا يحمل معه كل صباح من أيام الشتاء الباردة قطعة حطب للتدفئة في مدرسة القرية) إلى جامعة السوربون في باريس؛ ومن بيوت الطين وقناديل الكاز إلى فيلات مشعشعة بالمصابيح الكهربائية؛ من علاقات الريف العائلية إلى رحاب الوطن والأحزاب والنقابات؛ من حضارة القلة وشظف العيش إلى حيث الوفرة والرفاهية ووسائل الاتصال والتواصل. من الاقطاع إلى الرأسمالية. غير أن قراءة التاريخ شيء ومعايشة الوقائع شيء آخر. نقرأ عن عملية انتقال أنجزت في أوروبا ونقرأ عن صعوبات وأثمان باهظة ودماء وتضحيات، كلها صارت جزءا من التاريخ، فيما الولادة الصعبة للرأسمالية في بلادنا معاناة، تكاد تتكرر فيها الحروب ذاتها والأحداث التي شهدتها أوروبا بعد الثورة الفرنسية (لمقارنة التفاصيل يمكن الاطلاع على ثلاثية إريك هابزباوم). لم تكن الرأسمالية في بلادنا موضع ترحيب من قبل معارضيها والمحتجين عليها، ولا كانت محل رعاية ممن كان ينبغي أن يكونوا رعاتها، أي من قبل البرجوازية. من هنا تبدأ صياغة الاشكالية وطرح التساؤلات التي لم يكن التفسير الطبقي للإجابة عليها مقنعاً، ولا التحليلات القومية والدينية. لماذا لم تقم البرجوازية المحلية بدورها الطبقي كحامل لهذه الحضارة أي لنمط الانتاج الرأسمالي؟ ولماذا تخلت عن مهمتها لصالح طبقة متحدرة من الحضارة السابقة، فارضة على السردية اليسارية مفردة من خارج قائمة المصطلحات الكلاسيكية في الرأسمالية، أي مفردة «الاقطاع السياسي»؟ لماذا اختار اليسار الماركسي أن يحارب على جبهة الاقتصاد خصماً هو «الطغمة المالية»، وعلى جبهة السياسة خصماً آخر هوالاقطاع السياسي؟ هل هما يمثلان طرفين متمايزين حقاً ام هو توزيع أدوار؟ ولماذا تحسب عقود ثلاثة من الوجود «الغربي» استعماراً واحتلالاً فيما تظل القرون العثمانية الخمسة في خانة المسكوت عنه أو خارج التصنيف؟ حاول سمير أمين أن يجيب على هذه التساؤلات وعلى سواها من خلال نظرية «المركز والأطراف والتطور اللامتكافئ» كما حاول مهدي عامل من خلال نظرية «نمط الانتاج الكولونيالي» وجرب الفكر القومي بالاستناد إلى نظرية المؤامرة، فيما عادت الأصوليات الاسلامية إلى سيرة السلف الصالح لعلها تجد تفسيراً للأسئلة الصعبة التي طرحتها الرأسمالية على جدول عمل التاريخ، فكانت نظرية ولاية الفقيه والمهدي المنتظر أبلغ تعبير عن هذا النمط من التفكير. غير أن تنوع الإجابات التي قدمها المفكرون والفقهاء لم تمنع «أحزاب الله» من الاجماع على مواجهة الحضارة الرأسمالية، لا بصفتها حضارة، بل غرباً وامبريالية واستعماراً، أي بأسماء ذات دلالة سياسية وعدائية وصراعية، مستبعدة الدخول فيها والمشاركة في انتشارها وتوسعها الأفقي. هل كان يمكن أن يتبدل مسار الحداثة العربية لو تعاملت الأصوليات مع الرأسمالية كحضارة لا كوافد غريب؟ كمنافس لا كعدو؟ إننا نميل إلى الإجابة بنعم، استناداً إلى بدايات التجربة النهضوية ممثلة بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وخير الدين التونسي ومحمد علي باشا والتجربة في جبل لبنان. واستناداً أيضاً إلى التجربة اليابانية التي بدأت حضارتها الاقطاعية احتكاكها بالرأسمالية بعد نصف قرن من حملة نابليون بونابرت على مصر، لكنها تمكنت، قبل مصر والعالم العربي، من أنجاز دخولها في الحضارة الجديدة. التجربة اليابانية انتهت بنجاج منقطع النظير، لأن الأمبراطور موتسوهيتو، الذي عرف بالميجي، أو الحاكم المستنير هو الذي قاد حركة الاصلاح، فقلص نفوذ الساموراي(الاقطاعيين) وجردهم من امتيازاتهم، وقام بثورة حقيقية في نظام التعليم، واستعان بتجربة الغرب الرأسمالية وأرسل البعثات العلمية إلى كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا. كان من أولى نتائج تلك النهضة زوال الأمية في اليابان في أقل من نصف قرن، بين 1850 و 1896 (المعجزة في الاقتصاد،آلان بيرفيت، ترجمة بسام الحجار، دار النهار للنشر، بيروت،1997). أما في العالم العربي فقد أجهضت حركة الاصلاح لأن السلطات السياسية تخلت عن مهمتها في رعاية النهضة، فلم تلعب السلطنة دوراً مساعداً لإنجاج تجربة خير الدين التونسي، ولا تمكنت بعثة محمد علي باشا العلمية إلى فرنسا من الاستمرار بعد نفي رائدها رفاعة رافع الطهطاوي ووفاته في السودان، فيما سارت حركة الاصلاح الديني القهقرى من الأفغاني إلى تلميذه محمد عبده إلى تلميذه رشيد رضا، ثم إلى حسن البنا وحركة الإخوان المسلمين. الحضارات في التاريخ لم تكن خياراً، لا فردياً ولا جماعياً. هي، بلغة الدين، قدر. لكنه ليس قدراً مكتوباً في لوح السماء. بل قدر محكوم بقوانين التاريخ. في الحضارة السابقة على الرأسمالية، والتي أتيح لجيلنا أن يختبرها بحلوها ومرها، لم تكن المقايضة خياراً، بل هي قانون الممكن الذي تتطلبه الحاجة وتوفره وسائل الانتاج والمخيلة البشرية، ولا هي من قبيل الصدفة أن تكون بيوت الفلاحين متشابهة، وموزعة بالتساوي بين العائلة وثورين للفلاحة مع بقرة حلوب وحمار، وأن تكون قصور الاقطاعيين متشابهة. وليس من الصدفة في تلك الحضارة أن يختار الملوك والأمراء أنسباءهم من الأزواج والزوجات ممن يوازيهم في الرتبة والجاه ولو من بلاد بعيدة. ولم تكن الجواري ظاهرة عربية اسلامية في بلاط الخليفة بل هي ظاهرة موجودة في كل بلاط. ترسيمة العمر لأبناء الفلاحين واحدة. ما أن يصبح الطفل قادراً على مساعدة والده في أعمال الزراعة حتى يرافقه إلى الحقل، ويتزوج في مقتبل العمر من قريبته، ويحج إلى بيت اللّه في الأربعين. بينما يحظى ابن الاقطاعي بمربية وبمعلم يلقنه القراءة والكتابة ويدربه على طقوس التشريفات في القصور. أول المتغيرات التي أدخلتها الحضارة الرأسمالية على نمط العيش السابق استند إلى الاستثمار في العلم. المدرسة ثم الجامعة، وترسيمة عمر مختلفة تنتهي بالتخصص العالي في فرع من فروع المعرفة، وإن لم يكن في العلم فاستثمار في أي مجال تجاري أو صناعي. الاستثمار مصطلح رأسمالي بدأ منذ أن ألغيت المقايضة وظهرت النقود والبورصة وعالم البنوك. وما كان ذلك ليحصل لولا تكثيف وسائل الاتصال والتواصل والاكتشافات العلمية، التي شكلت أفضل الحوافز والسبل لانتشار الحضارة الرأسمالية وتوسعها الأفقي والعامودي. حاولنا أن نثبت أن الرأسمالية ليست مجرد «نمط إنتاج»، وليست سلطة سياسية فحسب، أي أنها ليست مما يمكن تبديله بقرار، ولا هي مما يمكن «القضاء عليه» تحقيقاً لرغبة أو لحلم. بل هي حضارة ونمط عيش وثقافة وعادات وتقاليد، ويقاس عمرها، كما باقي الحضارات، بالقرون، وربما فاقت سواها لأنها أكثر قدرة على تجاوز أزماتها، ومن بينها اثنتان خطيرتان، الأولى في الثلاثينات من القرن العشرين، والثانية في بداية القرن الحادي والعشرين، وأكثر قدرة على «تجديد نفسها» (فؤاد مرسي. م.س.)، وهي، بهذا المعنى، لا يمكن أن تكون «خصماً» أو عدواً أو طرفاً في نزاع، بل هي إطار تنشب فيه، بالتناسب مع تطور البنى السياسية والثقافية في المجتمع، أشكال متعددة من الصراعات والنزاعات تؤدي إلى إحداث تبدلات وتغيرات بطيئة، وتفضي، في نهاية المطاف، وعندما يحين أجل هذه الحضارة، إلى تغيير جذري، لا في بنية السلطة وحدها، بل في كل البنى الاقتصادية والسياسية والثقافية التابعة لها. بين أن تكون الرأسمالية خصماً، أو أن تكون إطاراً ينتازع فيه الخصوم على السلطة وعلى القيمة الزائدة وعلى ملكية وسائل الانتاج وعلى التفاوت الطبقي وعلى حقوق الانسان، فارق شاسع. ذلك أن الحضارة الرأسمالية لم تكن الحضارة الوحيدة التي يمارس فيه القوي بماله أو بسلطته استبداده بالضعيف، ولا هي الوحيدة التي يتم فيها استغلال الانسان للانسان. قبلها، بحسب ماركس، في البيان الشيوعي «تاريخ كل مجتمع، إلى يومنا هذا، لم يكن سوى تاريخ نضال بين الطبقات. فالحر والعبد والنبيل والعامي والسيد الاقطاعي والقن، والمعلم والصانع، أي بالاختصار، المضطهدون والمضطهدون، كانوا في تعارض دائم، وكانت بينهم حرب مستمرة تارة ظاهرة وتارة مستترة، حرب كانت تنتهي دائما إما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره وإما بانهيار الطبقتين المتصارعتين معاً» (مختارات ماركس وانغلز الجزء الأول، ص.49-50). وبالتالي، إذا كان التوصيف الماركسي صحيحاً، وهو صحيح، فإن الحرب التي خاضتها الأحزاب الأصولية ضد الرأسمالية كانت نوعاً من التعامل الطفولي مع قوانين التاريخ و حتمياته وطفراته، لأنها لم تكن تناضل لإحداث تغيير داخل الرأسمالية بل كافحت من خارجها أو في سبيل الخروج منها، متحدية قوانين التاريخ، وكان التاريخ هو الأقوى. تمثلت الرأسمالية لأحزاب اللّه رجلاً، (ينسب إلى الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب قوله، لو تمثل لي الفقر رجلاً لقتلته). الرأسمالية، في نظرها، هي الشخص الرأسمالي، أو، على الأكثر، هي الشخص الحاكم. وفي الحالتين تغييرها يبدو سهلا، عن طريق الالغاء، بقتل صاحب رأس المال أو بإنقلاب عسكري يطيح رأس السلطة الحاكمة. وغابت الصورة الحقيقية للرأسمالية بما هي حضارة وشبكة معقدة من العلاقات المركبة والقيم وآليات الانتاج المادي والفكري والتقدم العلمي والتقني والوفرة والبحبوحة وتاريخ يمتد على مسافة قرون طويلة من الزمن؛ واختزلت التناقضات والصراعات بثنائيات دينية لا تقبل التعايش ولا المساكنة، الخير والشر، اللّه والشيطان الأكبر، دار الحرب ودار الإسلام، حلف الأطلسي أو حلف وارسو. إما قاتل أو مقتول. الرأسمالية ذاتها لم تسلم من هذا العنف، وما زالت تمارسه بأشكال جديدة، إلا أنها تعلمت من تجربتها، بعد قرنين من الصراعات الدامية، وبعد حربين عالميتين مدمرتين، أن الحروب الأهلية بين مواطني الدولة الواحدة، والحروب بين الدول الرأسمالية ليست السبيل إلى حل المشكلات، وأن تنظيم الاختلافات بدل تفجيرها هو السبيل إلى تأمين الحد الأدنى من شروط السلم الأهلي. أما أحزاب اللّه فما زالت تصر على خوض غمار التجربة، وعلى ممارسة العنف وعلى استدراجه، وتتوسله لتحقيق أهدافها السياسية. والعنف المشروع، العنف الحلال، هو عنف الثورة، متسلحة بإيديولوجية الثنائيات الدينية، مع أن ماركس، ملهم الفكرة المتعلقة بالصراع الطبقي والعنف الثوري، أشار إلى أن تلك الحروب الطبقية «كانت تنتهي دائماً إما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره وإما بانهيار الطبقتين المتناضلتين معاً» (بيان الحزب الشيوعي)، لكن الحزب الشيوعي، وهو التنظيم المصنف في خانة أحزاب الله، يصرّ على انتصار الطبقة العاملة على خصمها الطبقي، ويغفل تجربة الثورة الرأسمالية، أقرب الثورات زمناً إلينا، تلك التي لم يكتب فيها النصر لا للنبلاء ولا للفلاحين، بل لطبقة ثالثة هي البرجوازية.
2 ــ الـثــــورة التغيير الجذري لا يحصل إلا بالثورة. هذا صحيح. لكن مصطلح الثورة يحتاج، هو الآخر، إلى تحديد وتعريف، إلى اتفاق على مضمونه ودلالته. سمير أمين أحصى ثلاث ثورات في العصر الحديث، الفرنسية والسوفياتية والصينية. فؤاد مرسي تحدث عن ثلاث ثورات في التاريخ: ثورة العصر الحجري التي تميزت «بظهور المحاصيل وتربية الماشية... والانتقال من الوضع المشاعي إلى المجتمع الطبقي» (الرأسمالية تجدد نفسها، ص15)، الثورة الصناعية التي أدت إلى ظهور المجتمع الرأسمالي، والثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة، التي تشكل المرحلة الأخيرة بعد مراحل «الرأسمالية التجارية والرأسمالية الصناعية والرأسمالية المالية» (م.ن.). آخرون تحدثوا عن ثورة علمية أو ثورة معرفية أو «ثورة ثقافية» (الصين الشيوعية بقيادة ماوتسي تونغ). بيار شونو تحدث عن «ثورة الأفكار من 1620 إلى1650 والقفزة المتقدمة لعلوم الرياضيات وميكانيك الفضاء من 1650 إلى 1680» كما تحدث عن «ثورة ميكانيكية» وعن «انفجار المعرفة المتصاعد»(ص.214 وص.327 وص.328 من كتاب، الحضارة الأوروبية في عصر الأنوار، ترجمة سلمان حرفوش، دار كنعان، دمشق، 2003). ألتوسير أشار، من غير أن يستخدم مصطلح الثورة، إلى قارات معرفية، افتتح اليونانيون الأولى، قارة الرياضيات، وغاليليه الثانية، الفيزياء، وماركس الثالثة، وهي قارة التاريخ. (محمد الوقيدي، العلوم الانسانية والإيديولوجيا، دار الطليعة، بيروت، 1983، ص33). كما أشار غاستون باشلار إلى ما أسماه «القطيعة الابستيمولوجية»، التي تحمل معنى «الانقلاب الثوري» على منهج التفكير السابق. آخرون تحدثوا عن تثوير العقول وتثوير الدين وتثوير القرآن، فيما دعا الشاعر أدونيس إلى تثوير اللغة الشعرية. بيد أن «أحزاب الله» شحنت مصطلح الثورة هذا بمدلول وحيد هو الاستيلاء على السلطة السياسية عن طريق الانقلابات العسكرية، وفي ظنها أنها تقلد آليات التغيير التي استخدمها لينين في الثورة البلشفية لتغيير النظام السياسي الاجتماعي الاقتصادي في الاتحاد السوفياتي، أو وسائل الاغتيال التي سادت في القرون الوسطى. غير أن لينين استدرك باكراً، مباشرة بعد إعلانه «كل السلطة للسوفيات»، الحاجة إلى الرأسمالية وآلياتها الاقتصادية من أجل الانتقال إلى المجتمع الاشتراكي، فيما قرأت الأصوليات تجربته بعين واحدة وراحت تتفنن بتنظيم خلايا عسكرية داخل الجيوش للقيام بانقلابات وإذاعة «البيان رقم واحد» وإطاحة النظام «البائد» ومحاكمة «عملاء الامبريالية والصهيونية والاستعمار». الحقيقة أن فكرة الانقلاب الثوري التي وردت في نص البيان الشيوعي كانت تستند إلى قوانين المادية الجدلية، لا كما هي الحال لدى أحزاب الله. ويمكن تفسيرها بقانون التراكم الكمي والتحول النوعي. بموجب هذا القانون لا تكون الثورة بنت اللحظة بل هي عملية طويلة وشائكة تشكل لحظة الانقلاب فيها تتويجاً لسيرورة من التحولات المتراكمة، ويضرب عليها مثلاً تراكم درجات الحرارة في الماء درجة درجة، حتى إذا بلغت المئة تحول الماء إلى بخار، أو تراكم التحولات الجزئية في الزهرة إلى أن تغدو ثمرة، الخ. مثل هذا المعنى ينطبق على الثورة في المجال العلمي، فيندرج الانقلاب تحت اسم القطيعة المعرفية أو الابستيمولوجية. وفي جميع الحالات لا يكون الانقلاب أو القفزة النوعية أو التحول الكيفي في العلم إلا اللحظة الأخيرة من سلسلة التحولات المتراكمة، التي لا تلغي ما سبقها بل تستند إليه لتتجاوزه بعد أن يكون قد بلغ حدوده التاريخية. وقد أكدت النصوص الماركسية هذه الدلالة لمصطلح الثورة، حين رأت أن مهمة الفلسفة هي تغيير العالم لا الاكتفاء بتفسيره، وأشارت بوضوح إلى أن التاريخ «يفتتح فترة ثورية مجتمعية» (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، ص، 4، من النص الفرنسي،(editions sociales تبدأ حين تصبح علاقات الانتاج عائقاً أمام تطور القوى المنتجة. الفكرة القائلة إن الثورة لا تكون بنت لحظتها بل هي سيرورة تمتد طويلا في الزمن، تتجلى بمزيد من الوضوح حين يتعلق الأمر بالثورة المعرفية والإيديولوجية. سمير أمين تناول الموضوع بشيء من التفصيل في كتابه، نحو نظرية للثقافة (معهد الانماء العربي 1989). فهو يرى أن الفكر الإيديولوجي مر في ثلاث مراحل. الأخيرة منها هي المرحلة الرأسمالية، وقبلها الإيديولوجيا الخراجية في العصر الوسيط والفكر الميتافيزيقي، وقبلها العصور القديمة التي سادت فيها الميثولوجيا والفكر الأسطوري. يشدد سمير أمين على نقطتين، الأولى هي أن التحولات في الفكر كانت بطيئة، بحيث لم يكن «هناك فرق جوهري بين نظم الفكر في المجتمعات البدائية القائمة على نمط انتاج جماعي، وبين نظم فكر المجتمعات الخراجية في مرحلتها الأولى» (ص19) ثم يؤكد هذه الفكرة حين يرى أن «إتمام تبلور الإيديولوجيا استغرق حوالي ثلاثة قرون هي قرون الانتقال إلى الرأسمالية... بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر»، (ص83-84)، وأن «التكوين الايديولوجي للمجتمع الخراجي لم يتبلور مرة واحدة في فترة وجيزة، بل تشكل بالتدريج وببطء» (ص17). كما تحدث عن ثورات لا عن ثورة واحدة، اقتصادية وإيديولوجية ودينية، وعن مراحل ثورية لا عن ثورة ناجزة. والثانية هي أن الانتقال من سيطرة إيديولوجية إلى سيطرة إيديولوجية أخرى كان يتم في لحظة ثورية هي ما يسميه غاستون باشلار بالقطيعة، وهي التي حصلت مرة حين سيطرت الإيديولوجيا الخراجية الميتافيزيقية، فيما تلازم حصول الثانية مع «الانتقال من نمط الانتاج الخراجي في شكله الاقطاعي إلى نمط الانتاج الرأسمالي»(ص18) يقول محمد الوقيدي في كتابه (العلوم الانسانية والإيديولوجيا، دار الطليعة، 1983، ص68): «إذا صح أن نعتبر نشأة العلوم الانسانية ثورة معرفية في تاريخ الفكر الانساني، فإن ذلك لا يكون إلا مرفوقاً باعتبارين. فأولاً لقد تم بصورة تدريجية تهييء الشروط اللازمة لقيام هذه الثورة المعرفية، وثانيا إن الشروط المتعلقة بقيام هذه الثورة المعرفية لم تكن تتعلق بمجال العلوم الانسانية وحده، بل كانت تتعلق أيضاً بتحقيق قطيعات ابستيمولوجية في ميادين معرفية أخرى». ثم يعدد العوامل المساعدة والممهدة، فيرى أن «سيادة النظرية الميكانيكية في القرن السابع عشر مهدت لاعتبار الانسان جزءاً من الطبيعة» ...وأن علوماً كثيرة أصبحت تنظر إلى الانسان كموضوع من موضوعاتها... ومن أهم هذه العلوم التاريخ الطبيعي، الذي نجح في إلقاء الضوء على تاريخ النوع البشري، ممهداً بصورة قوية لتقدم الدراسات الطبية من جهة، ولتقدم الوعي بضرورة نشأة العلوم الانسانية من جهة ثانية»(ص69-70). كما رأى أن الاتجاهات التجريبية الانكليزية، شأنها شأن الاتجاهات العقلانية، قد ساهمت هي الأخرى في التمهيد لنشأة تلك العلوم (ص71)، وأن جميع العلماء الذين أرسوا قواعد المنهج العلمي قد ساهموا بصورة غير مباشرة في خلق الوعي بضرورة تأسيس هذه العلوم(ص73). ثم يؤكد أن تحرير العقل من سلطة النصوص المقدسة والتاريخ من الخضوع للاعتبارات اللاهوتية مهد لنهضة علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، التي كان لها تأثيرها على نهضة العلوم الانسانية(ص75). كل ذلك، من غير أن تجبّ الثورة المعرفية ما قبلها، بل هي تستند إليه وتنطلق منه، فتتناسل المعارف وتتوالد من غير أن يلغي بعضها الجديد بعضها القديم. وهكذا فإن العلوم ما زالت تستند إلى قوانين بيتاغوروس وأرخميدس ونيوتن، كما أن شعر الملاحم والجداريات والتماثيل القديمة والمقطوعات الموسيقية ما زالت تحافظ على قيمتها الفنية بعد مرور مئات السنين. التمهيد الذي يشير إليه الوقيدي لا يتجاوز عمره القرنين من الزمن، لكن بعض هذه العلوم التي ساهمت في نهضة العلوم الانسانية يعود ميلادها إلى عشرات القرون، فهل يحتاج التغيير في المجال السياسي مثل هذا المدى الزمني من التمهيد؟ بما أن السلطة السياسية في الحضارة السابقة على الرأسمالية تعجز حكماً عن إدارة علاقات الانتاج الجديدة الرأسمالية، لأن قدراتها الإدارية تكون قد بلغت «حدودها التاريخية»، يكون من الطبيعي أن تتولى السلطة في الحضارة الجديدة فئة أو طبقة تعتمد آليات جديدة في إدارة شؤون المجتمع ومنهجاً جديداً في التفكير والعمل. إذن كان لا بد من أن تزيح واحدة الأخرى، فكانت اللحظة التاريخية التي جسدتها الثورة الفرنسية عام 1789، وما تلاها من تداعيات في كل أنحاء أوروبا ثم على صعيد الكرة الأرضية. بدأت التحولات الثورية بقيام الجمهورية في فرنسا، ثم بحروب خاضها نابليون لتعميم تجربته على امتداد القارة العجوز، واستمرت بقوانين التنافس الرأسمالي والتوسع الأفقي ولم تنته بحربين عالميتين، بحيث يمكن القول إن الثورة الفرنسية اختتمت تاريخاً من التحولات البطيئة في الميدان الاقتصادي وفي مجالات العلوم والمعارف والثقافة والعادات والتقاليد، لكنها دشنت «فترة ثورية مجتمعية» عنوانها انتقال المجتمعات البشرية على الكرة الأرضية من حضارة العصر الاقطاعي إلى الحضارة الرأسمالية. إذا جاز لنا، على سبيل المقارنة، أن نحدد بداية الحضارة الاقطاعية، أو العصور الخراجية، بحسب التسمية التي اختارها لها سمير أمين، من بداية ظهور فكرة التوحيد، منذ الفرعون أخناتون ثم في الأديان السماوية من بعده، ومما يوازيها في الديانات الشرقية (البوذية والكونفوشية حوالي 600 قبل الميلاد، و الهندوسية قبلهما بكثير)، فإن الحضارة السابقة على الرأسمالية تكون قد عمّرت أكثر من ألفي عام في أجزاء كبيرة من آسيا وأوروبا. وإذا جاز لنا أن نتخيل أن التاريخ لا يتوقف عن توليد عوامل التطور والتغيير، يحق لنا أن نستنتج أن التمهيد «للفترة الثورية المجتمعية» في المجتمعات التي سادت فيها الحضارة الاقطاعية قد استمر قروناً طويلة، قبل أن تبلغ الثورة الاقتصادية في بريطانيا وهولندا والبلدان المنخفضة مرحلة متقدمة، وقبل أن تندلع الثورة السياسية في فرنسا عام 1789. كما يمكن القول إن الثورة على الحضارة الاقطاعية حصلت من داخلها وفي رحمها، بعد أن كان جنينها قد نما في نمط العيش ونمط الانتاج ونمط التفكير. إذا جاز لنا أن نختصر دوافع الثورة على الحضارة الاقطاعية، مع ما في الاختصار من مجازفة واحتمالات لتشويه المعنى، فيمكن القول إن الدافع الأساس إلى الثورة هو الحرية، حرية العمل وحرية التفكير. حرية الانسان الفرد وتحرير قدراته من كل أنواع القيود التي كان يفرضها عليه النظام الاجتماعي السياسي والمنظومة الدينية. ولهذا كانت الحرية واحداً من شعارات ثلاثة رفعتها الثورة الفرنسية إلى جانب شعاري الإخاء والمساواة. لم تطرح الحرية على جدول عمل التاريخ إلا حين نضجت ظروفها، لأن «الإنسانية، كما يقول ماركس، لا تطرح من المشاكل إلا ما تكون قادرة على حله»(م.س. مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، ص4-5). إذ باتت حرية الانسان الفرد، حرية العقل والتفكير والإيمان والعمل، حاجة لتطور الفرد ولتطور المجتمع، لتطور الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والفنون والآداب. وقد بدأ التمهيد لطرح شعار الحرية مع الكوجيتو الديكارتي بتحرير العقل من سيطرة الميتافيزيق ومع لوثر بتحرير الدين من سيطرة الكنيسة وأخيراً مع الثورة الفرنسية بتحرير الفلاح من سيطرة الاقطاعي وشرعة حقوق الانسان وقيام الجمهورية. احتاجت الحرية إلى مرحلة تحضيرية امتدت، افتراضياً، قرنين من الزمن، من بداية السابع عشر(ديكارت 1596-1650)حتى الثورة الفرنسية في نهاية الثامن عشر، مع ذلك لم تكن تلك الفترة الطويلة كافية لتكريس الحق بالحرية لجميع البشر على وجه الكرة الأرضية، إذ مازالت بلدان كثيرة ومنها كل البلدان العربية تشكو، بعد مرور قرنين ونصف على الثورة الفرنسية، من غياب الحريات وعدم الالتزام بالشرعة أو بالاعلان العالمي لحقوق الانسان. خمسة قرون إذن بدت الرأسمالية خلالها كأنها في بداية الطريق السياسي لتعميم التجربة الجمهورية وإزالة أنظمة الاستبداد، مع أنها أنجزت في الميادين الأخرى، ولا سيما العلمية والمعرفية والاقتصادية، خلال القرن الأخير أضعاف ما أنجزته في كل عصور التاريخ المكتوب. تقودنا هذه المقارنات إلى خلاصتين. الأولى هي أن الثورة الرأسمالية لم تبلغ حدودها التاريخية بعد، طالما أنها لم تنجز مهماتها التاريخية، ولاسيما على صعيد الحرية، خصوصاً أن بلداناً كثيرة على الكرة الأرضية، ومنها بلدان العالم العربي كلها، مازالت محكومة بأنظمة متحدرة من الحضارة السابقة على الرأسمالية، أي من الحضارة الاقطاعية والحكم الوراثي الذي كان معتمداً فيها. أما الخلاصة الثانية فهي التالية: إذا صح أن نختزل بالحرية دوافع الثورة على نظام الاستبداد الاقطاعي، فأي دافع يمكن أن يختصر الثورة على النظام الرأسمالي؟ وهل يمكن أن تكون المرحلة التحضيرية كافية قياساً بتلك التي احتاجتها الثورة على الحضارة الاقطاعية؟ إننا نميل إلى الظن، استناداً إلى تجارب القرن العشرين، وإلى الشعارات التي رفعتها الثورات والمحاولات الثورية والثورات المزعومة ضد الرأسمالية، بإن العدالة، بمعنى التوزيع العادل للثروة وإزالة الفوارق الطبقية، هي الدافع الأساس والذريعة المفضّلة. وقد وظفت الحركات الثورية ما كتبه ماركس، في هذا الصدد، عن التنازع على القيمة الزائدة بين العمل ورأس المال، وعن الاشتراكية كحل لهذه المعضلة، في معركتها ضد الحضارة الرأسمالية، كما وظفت شعار الحرية، الرأسمالي النسب، في مواجهة الاستعمار، واستعانت بشعار المساواة، الرأسمالي هو الآخر، فأزاحته عن حقيقة معناه كمساواة أمام القانون وشحنته بدلالة طبقية. إذا كان ذلك كذلك، فمن الممكن الاستنتاج أن «أحزاب الله» رفعت شعار الثورة على الرأسمالية من خارج جدول عمل التاريخ، لأن الرأسمالية أثبتت، على ما دلت أزماتها المتلاحقة، قبل القرن العشرين ثم في الثلاثينات منه ثم في بداية القرن الحادي والعشرين، أنها ما زالت تملك القدرة على حل أزماتها أو في الأقل على تجاوزها. كما يمكن القول إن هذه الأحزاب شحنت المصطلح بمدلول يتناسب مع استعجالها الوصول إلى السلطة أكثر مما يتناسب أو يتطابق مع قوانين التاريخ. ومن الطبيعي، حين ينحصر معنى الثورة بالاستيلاء على السلطة، أن يصير الانقلاب العسكري والبيان رقم واحد والاغتيال من أهم علامات الثورة في نظر الأحزاب، بل وعند بعضها من «علامات الظهور». أما الاستنتاج الأهم فهو الذي توصل إليه فالح عبد الجبار في قوله إن التجربة الروسية تعيدنا إلى أصل نظرية ماركس عن الثورة الاشتراكية، حيث «لا تجاوز للرأسمالية إلا في إطارها، وبفضل إنجازاتها وتطورها بالذات، ولا يمكن تجاوزها بمراسيم وادعاءات إيديولوجية» (ما بعد ماركس، الفارابي، 2010، ص101)
3 ــ الاستعمار والتحرر الوطني «في الفترة بين عامي 1876و1915 كان ربع مساحة المعمورة قد وزع أو أعيد توزيعه كمستعمرات بين ست دول كبرى، وزادت بريطانيا مساحة مستعمراتها بنحو أربعة ملايين ميل مربع، وفرنسا بنحو ثلاثة ملايين ونصف المليون، واتسعت المستعمرات الألمانية بنحو مليون، والبلجيكية والإيطالية بما يقرب من مليون ميل مربع لكل منهما، وغنمت الولايات المتحدة من إسبانيا مئة ألف ميل مربع، واقتطعت اليابان قدرا مماثلا من الصين وروسيا وكوريا، واتسعت مستعمرات البرتغال الأفريقية القديمة بنحو ثلاثماية ألف ميل مربع، أما إسبانيا التي كانت قد خسرت جانباً من أراضيها(لصالح الولايات المتحدة)، فقد تمكنت من الاستيلاء على مساحات من الأراضي الصخرية في مراكش والصحراء الغربية. ومن الصعب قياس التوسع الامبريالي الروسي لأن أغلبه تم على حساب الأراضي المجاورة، وكان استمراراً للتوسع الاقليمي الذي كان يمارسه القياصرة لعدة قرون؛ يضاف إلى ذلك، أن روسيا خسرت بعض الأراضي لصالح اليابان. ومن بين الامبراطوريات الاستعمارية الكبرى كانت هولندا هي الوحيدة التي أخفقت، أو رفضت، اغتنام أراض جديدة، باستثناء نشر سيطرتها الفعلية على الجزر الإندونيسية التي كانت تمتلكها رسمياً» (إريك هوبزباوم، م.ن. المجلد الثالث، ص126-127) تحكي مجلدات هوبزباوم الثلاثة، ورابعها عن عصر التطرفات، عن تاريخ الرأسمالية ونشوئها في أوروبا، الأول عن عصر الثورة(1789-1848)، الثاني عن عصر رأس المال(1848-1915)، الثالث عن عصر الإمبراطورية (1875-1915)، وهو العصر الذي تم فيه تقاسم المعمورة وتوزيعها على «ست دول كبرى»، على ما يقول النص المقتبس، أي عصر الاستعمار. لم يعدّد الكاتب في النص الدول الست، لكنه ذكر أسماء عشر دول هي، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، بلجيكا، البرتغال، هولندا، روسيا، اليابان، الولايات المتحدة، وهي الدول التي كانت سباقة إلى الانخراط، بوتائر متفاوتة، في الحضارة الرأسمالية. وإذا كان الكاتب قد حدد تاريخ النزوع الاستعماري لدى هذه الدول مع بدء عصر الامبراطوريات، أي بعد عصر الثورة وعصر رأس المال، فإن فرناند بروديل يحدده، في كتابه الضخم، المتوسط ومحيطه في عصر فيليب الثاني، بنهاية القرن الخامس عشر، بالتزامن مع سقوط غرناطة (1492) واكتشاف أميركا في العام ذاته، وبعد عقود أربعة على سقوط القسطنطينية (1452). ما من تناقض بين المؤرخين الكبيرين، فقدر ركّز الأول اهتمامه على الثورة (الثورة الفرنسية) وما بعدها، والثاني على المراحل التحضيرية للثورة، أي على التحولات البطيئة التي مهدت لنشوء الحضارة الرأسمالية من قلب الحضارة السابقة، والتي لم تكن الثورة الفرنسية سوى لحظة تتويج سياسي لها، ومحطة انتقال نحو توسع الرأسمالية الأفقي، في المرحلة الأولى داخل أوروبا، وبعدها على صعيد الكرة الأرضية كلها. في الواقع كانت مرحلة التوسع قد بدأت مع رحلتي كريستوف كولومبوس وفاسكو دو غاما، الأول باتجاه القارة الأميركية والثاني باتجاه الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح. وكان ذلك نقطة انطلاق لاكتشاف سلع وأسواق جديدة، كالبهار والتوابل في الهند الصينية، أو مصادر جديدة للسلع، كمناجم الذهب والفضة في أميركا، وإعلاناً عن ولادة النسخة التجارية من الرأسمالية، بقيادة كل من إسبانيا والبرتغال، لينتقل الدور القيادي في مرحلة لاحقة إلى كل من بريطانيا وفرنسا. في البداية، كان النزوع إلى التوسع حاجة لنشوء الرأسمالية كحضارة جديدة، ثم صار ضرورة من ضرورات نموها وتطورها، إلى أن غدا السمة الأساسية التي تميزها عن الحضارات السابقة، وذلك لأنها نجحت في تخطي العوائق الطبيعية والحدود وقصرت المسافات باستخدامها أساليب ووسائل جديدة للاتصال والنقل، بدءاً بالباخرة وسكة الحديد و التلغراف وصولا إلى كل وسائل التواصل الرقمي ووسائل الاتصال الحديثة البرية والبحرية والجوية، التي بفضلها تحول العالم كله إلى قرية كونية. تعاقب الحضارات يشبه سباق البدل. العدّاء البديل يواكب زميله الأصيل ويشاركه العدْوَ في خطواته الأخيرة قبل أن يستلم الراية منه، حتى لا يحدث انقطاع بين خطوات العدّاءَين، فتصير خطوات الثاني استكمالاً، بالتتابع، لخطوات الأول. غير أن تعاقب الحضارات لا يحصل بمثل هذه السلاسة وذاك التنسيق الدقيق، بل إن ولادة حضارة جديدة من القديمة تبدو عسيرة وتكلف البشر حروباً وصراعات دموية، ربما لأن الوتيرة في خطوات الأولى لا تناسب خطوات الثانية، أو بالتعبير الماركسي، لأن علاقات الانتاج في الأولى تصبح عائقاً أمام تطور القوى المنتجة، فيحصل الانتقال بالثورة أي بالانقلاب الجذري، لاستيلاد علاقات في الاقتصاد والثقافة والسياسة تناسب مستوى التطور في هذه الميادين. نشب الصراع بين القديم الاقطاعي والجديد الرأسمالي، أول مرة، داخل أوروبا، قبل أن ينتقل إلى خارجها. هناك كانت تولد الرأسمالية من أرحام الاكتشافات العلمية والجغرافية والفلكية، ومن وسائل الانتاج المبتكرة. لم يبدأ بين مستعمر(بكسر الميم) ومستعمر(بفتح الميم)، بل بين نمطين من العلم، الوضعي والغيبي؛ وبين نمطين من التفكير ونمطين من العيش ونمطين من المُلْكية، بين الموسوعات ومختبر الحياة، بين كوبرنيكوس وغاليليه من جهة والعقل الكنسي من جهة أخرى، بين إقطاعي يملك الأرض وما عليها ومن عليها وبرجوازي يملك وسائل الانتاج. من الطبيعي أن يتخذ الصراع والتوسع شكل العدوان. الطرف المعتدي صاحب مشروع جديد يحمل في طياته انقلاباً جذرياً على كل منظومة القيم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي كانت سائدة في الحضارة الاقطاعية، وقد بدأ «عدوانه» ضد أوروبا لا ضد سواها، عندما حاولت فرنسا تصدير الثورة بالقوة، من خلال حملات نابليون العسكرية التي توقفت على أبواب موسكو، قبل أن تقرر أوروبا هزيمته ونفيه إلى جزيرة هيلانة، وقبل أن يتمدد العدوان إلى خارج القارة. أفضت الحروب داخل القارة إلى نتائج حاسمة. بين 1794 و1815، تمكنت فرنسا من الحفاظ على الثورة، وتوسيع رقعة نفوذها، باحتلالها الأراضي المنخفضة وأقليم الراين وأجزاء من إسبانيا وسويسرا وسافوي، ثم كل إيطاليا. غير أن نابليون الذي كاد يحتل أوروبا، هزم مرتين، الأولى حين أرغم على سحب قواته من الشرق بعد صمود عكا وتدخل بريطانيا وقطعها خطوط الامداد عن جيشه، والثانية حين اجتمعت الدول الأوروبية على مواجهته وفرضت عليه الإقامة في المنفى على أرض الجزيرة البريطانية الواقعة في المحيط الأطلسي بين أفريقيا والبرازيل. أما النتيجة الأهم فهي أن بذور الثورة الرأسمالية التي زرعت داخل أوروبا الأنوار والموسوعات والمطبعة والمكوك، أي أوروبا قبل ترسيم الحدود بين كياناتها، لم تعد محصورة، على الصعيد السياسي، في فرنسا الثورة وشعاراتها الثلاثة، الحرية والإخاء والمساواة، بل بدت حروب نابليون بمثابة القمة من جبل جليد ثورة مزدوجة عمت كل أنحاء أوروبا، وجهها الأول التحرر من الهيمنة الفرنسية ومن أية هيمنة أوروبية أخرى على شعوب القارة، ووجهها الثاني الانتقال إلى الحضارة الرأسمالية. أعيد رسم خارطة الكيانات القائمة، مع المحافظة على توازن القوى بين الدول الخمس الكبرى التي برزت خلال مرحلة الحروب، روسيا وبريطانيا وفرنسا والنمسا وبروسيا. حصل ذلك انطلاقاً من النموذج الحديث للدولة الذي جسدته دولة الثورة الفرنسية وقانون نابليون Code Napoleon، وهي الدولة القومية التي «تطورت على مدى عدة قرون، في منطقة متماسكة الأراضي، موصولة الأطراف، ذات حدود واضحة المعالم، تحكمها سلطة واحدة ذات سيادة، وفق نسق واحد في المجالات الإدارية والقانونية»(إريك هوبزباوم، م.س.ص183). في إطار إعادة رسم الخارطة، انتقلت السيطرة على النرويج من الدانمارك إلى السويد، وتوحدت هولندا وبلجيكا، بعد أن كانت خاضعة لمملكة النمسا، ودخلت تحت السيطرة الروسية فنلندا وجزء كبير من بولندا وعدد من المقاطعات الإيطالية، ونالت اليونان استقلالها بدعم روسي بريطاني وتحولت إلى مملكة يحكمها أحد الأمراء الألمان. (راجع هوبزباوم، عصر الثورة، الفصل الخامس، وعنوانه السلام. ص.203) تمكّن نموذج الثورة الفرنسية من القضاء على الكثير من الكيانات التي كانت معروفة في ظل الحضارة الاقطاعية، واختفت الدول-المدن، وتقلص عدد الأقاليم التابعة للأمبراطورية الرومانية المقدسة، وباتت فرنسا تحكم القسم الأكبر من ألمانيا، إضافة إلى بلجيكا وهولندا ومعظم إيطاليا وإسبانيا، وجزءاً كبيراً من بولونيا، حيث كان يلغى الاقطاع وتطبق القوانين الفرنسية، وبدت الكيانات الأوروبية كلها غير محصنة ضد أفكار الثورة الفرنسية، التي نشرت أفكاراً جديدة حول الحرية والدولة والكنيسة والسلطة، أفكاراً ألغت الاعتقاد الشائع بين الناس في تلك المرحلة، الذي ينظر إلى الملوك على أنهم آلهة الأرض المطوّبون من الكنيسة. «العدوان» الرأسمالي، بشعاراته الثلاثة، حرية إخاء مساواة، وبتطبيقاته السياسية النابليونية، يمم شطر القارة الأوربية وملحقاتها أو مستعمراتها في القارة الأميركية، واتخذ شكل الثورة على ما هو قائم، طلباً للحرية بالدرجة الأولى أو للعدالة أو لكليهما. لكن الثورة لم تكن واحدة في منطلقاتها ولا في أدواتها. فقد كان «الهدف الأسمى لجميع الدول التي واجهت فرنسا هو الحؤول دون اندلاع ثورة ثانية على غرارها» (هوبزباوم، عصر الثورة، ص.220). اندلعت الموجة الأولى من الثورة في «إسبانيا (1820) ونابولي (1820)، واليونان (1821)... وفي أمريكا اللاتينية التي تحررت من السيطرة الاسبانية، وانفصلت البرازيل عن البرتغال في حدود العام 1822. أما الموجة الثانية فقد تركت آثارها على جميع أنحاء أوروبا وعلى قارة أميركا الشمالية، «فنالت بلجيكا استقلالها عن هولندا (1830)، وأثيرت قلاقل في عدة أجزاء من ألمانيا وإيطاليا، كما بدأت في إسبانيا والبرتغال فترة من الحرب الأهلية بين الليبراليين ورجال الكنسية، وانفجر بركان بريطانيا الداخلي في إيرلندا (1829). (م.ن.ص220-222) الموجة الثالثة «بدت كأنها ربيع الشعوب في القارة الأوربية، فتحول السخط من حركة تململ إلى ثورة، والتقت حركات المعارضة في جبهة مشتركة ضد الملكية المطلقة والكنيسة والأرستقراطية» (م.ن. ص224-226)، وقد أخمدت جميع الثورات وحالات التمرد في ألمانيا وإيطاليا المدعومة من النمسا وبولندا، كما أجهضت حركة التمرد في روسيا، ونشبت حرب أهلية في سويسرا عام 1847. موجة رابعة من الحروب الأوروبية وحركات التمرد نشبت في مرحلة تشكل الدول واستقلالها في أوروبا. قال هوبزباوم عن عقد الستينات من القرن التاسع عشر بأنه «العقد الدموي» وأعاد السبب إلى «التوسع الرأسمالي الذي ضاعف التوترات في عالم ما وراء البحار» (م. ن. ص149 من المجلد الثاني). لقد شهد القرن التاسع عشر إعادة رسم الخارطة الأوروبية وزوال دول وولادة أخرى. باستثناء بريطانيا الواقعة خارج اليابسة الأوروبية، كانت تتوزع الجغرافيا الأوروبية بين خمس أمبراطوريات أو ممالك، مملكة إسبانيا، مملكة فرنسا، مملكة هابسبيرغ، الأمبراطورية الروسية والسلطنة العثمانية. بعد الثورة الفرنسية وانتشار الرأسمالية، توحدت المدن/ الدول الإيطالية التي كانت تتوزع السيطرة عليها الممالك الثلاث المحيطة بها، وقاد عملية التوحيد غاريبالدي على صعيد السلطة وكافور على الصعيد الشعبي. كما توحدت المقاطعات الجرمانية بقيادة بسمارك، واستقلت المجر عن مملكة هابسبورغ بمساعدة عسكرية روسية، وتشيكيا عن مملكة النمسا، كما استقلت اليونان وبلغاريا عن السلطنة العثمانية، وتحولت بعض المناطق من مقاطعات إلى دول، مثل رومانيا التي تشكلت من اثنتين من المقاطعات التي كانت تحت السيطرة التركية، أو بولندا التي كانت السيطرة عليها محل تنازع بين بروسيا وروسيا، أو سويسرا وبلجيكا اللتين تضم كل منهما أكثر من قومية. يصف هوبزباوم الحالة في أوروبا خلال تلك الفترة قائلاً: «برزت مملكة إيطالية موحدة بين عامي 1858 و1870، وألمانيا موحدة بين 1862و1871، ما أدى، بالتزامن، إلى انهيار أمبراطورية نابليون الثانية وكومونة باريس 1870-1871 واقتطاع النمسا من ألمانيا وإعادة هيكلتها بصورة موسعة. ومجمل القول إن «الدول» الأوروبية كلها، عدا بريطانيا، تغيرت تغيراً جوهريا، وتغيرت رقعتها وأراضيها أحيانا، بين عامي 1856 و1871، وأسست دولة جديدة اندرجت في عدادها بعد قليل وهي إيطاليا» (م.ن.ص148) كل هذا وسواه حصل بعد الثورة الفرنسية، الثورة التي أعلنت قيام الرأسمالية كنظام سياسي. غير أن حروباً عديدة أخرى ومراحل دموية مرت بها شعوب أوروبا، قبل الثورة الفرنسية، وبالتحديد منذ بدأت الحضارة الرأسمالية تبزغ في نمط الانتاج كما في نمط التفكير، إذ إن تاريخ أوروبا كما أميركا كان تاريخ حروب طاحنة طيلة القرنين السادس عشر والسابع عشر، حروب بين جيلين حضاريين، الرأسمالية ضد الاقطاعية في اوروبا، والرأسمالية ضد ما قبل الاقطاعية في أميركا، حيث ارتكب ممثلو الحضارة الرأسمالية في أميركا الشمالية مجازر وعمليات إبادة بحق سكان البلاد الأصليين، أهل البداوة من الهنود الحمر. أما أوروبا، ولاسيما سويسرا وفرنسا وألمانيا والنمسا وبوهيميا وهولندا وإنكلترا وسكوتلندا وإيرلندا والدنمارك، فقد شهدت، على امتداد قرن ونصف القرن، حروباً عرفت بالحروب الدينية و منيت بمجازر من نوع آخر، كان من بين نماذجها دفن الناس أحياء في مرحلة محاكم التفتيش الاسبانية. أكبر تلك الحروب «التحضيرية» هي حروب الأساطيل بين مملكة إسبانيا و السلطنة العثمانية، على حلبة البحر الأبيض المتوسط، خلال مرحلة طويلة من القرنين السادس عشر والسابع عشر. المملكة كانت تهاجم تحت راية حقبة حضارية جديدة بعد اكتشاف أميركا ورأس الرجاء الصالح. والسلطنة كانت هي الأخرى، تهاجم بقوة الحضارة القديمة، لتوسع حدودها وتحتل نصف مساحة أوروبا. غير أن رحى الحروب انحصرت في المياه، ووصلت إلى جزيرة جاوا في الشرق، فيما أذعنت مملكة النمسا التي تحكمها السلالة الملكية الاسبانية نفسها، سلالة هابسبورغ، وأوقفت الزحف العثماني على اليابسة، بعد أن وافقت على أن تدفع للسلطنة الأتاوة السنوية، أو ما يشبه الجزية، مقابل عدم توغل الجيش الانكشاري إلى ما بعد حدود النمسا - المجر. حروب أوروبا مع السلطنة اتخذت، في البداية، من جانب السلطنة شكل الغزو التقليدي، للسيطرة وللحصول على الغنائم، فيما بدا، في ظاهره صراعاً تبشيرياً بين الاسلام القادم من الشرق بقيادة تركيا والمسيحية الغربية بقيادة إسبانيا والدولة البابوية. توسلت الأمبراطورية العثمانية حروب الغزو واعتمدت عليها كمصدر من مصادر الثروة، فيما كانت أوروبا تخوض حروبها داخل القارة باسم الدفاع عن الكنيسة في مواجهة حركة الاصلاح الديني أو في مواجهة الاجتياح الاسلامي، وحروبها خارج القارة، في الشرق كما وراء الأطلسي، دفاعاً عن النسخة الأولى من الرأسمالية، أي الرأسمالية التجارية، وأهمها المعارك على تجارة البهار (حرب البهار). تلك كانت الحروب التوسعية الأولى التي خاضتها الحضارة الجديدة. في مرحلة لاحقة، لم يعد يكفي الرأسمالية البحث عن أسواق جديدة فحسب، بل صارت تحتاج أيضا إلى مصادر للمواد الأولية، ولذلك عمدت إلى احتلال أفريقيا بأكملها ومناطق وبلدان أخرى، وإقامة قواعد عسكرية ونقاط ارتكاز لحماية طرق المواصلات البحرية، على رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا، ثم في عدن على طرف الجزيرة العربية، وصولاً إلى الهند والصين. ثم شقت قناة السويس في القرن التاسع عشر وإزيل الفاصل البري بين البحرين الأبيض والأحمر،اختزالاً للمسافات بين أوروبا والشرق وتفادياً للالتفاف حول أفريقيا ورأس الرجاء الصالح. خاضت الحضارة الجديدة إذن ثلاثة أنواع من الحروب، صراعات على السيطرة بين القوميات الأوروبية، أو تنافساً على الاستثمار الرأسمالي خارج القارة، أو استباق الثورات وحركات التمرد الداخلية بحرب خارج الحدود القومية. ولم توقف أوروبا الرأسمالية مسيرة هذا التاريخ الدموي إلا بعد حربين عالميتين مدمرتين ذهب ضحيتهما عشرات الملايين من الضحايا. ربما كانت النتائج الكارثية لتينك الحربين هي التي أقنعت الدول الرأسمالية المتحاربة بالتوقف عن توسل الحرب سبيلاً لحل قضايا الخلاف والتنافس فيما بينها. غير أن أهم ما في نتائجهما هو إعلان نهاية مرحلة الاستعمار المباشر في العالم، إذ شهدت السنوات والعقود القليلة اللاحقة حصول الكيانات السياسية القديمة كالهند والصين ومصر أو المستحدثة كباكستان وبنغلادش والمملكة العربية السعودية وسائر بلدان العالم العربي على استقلالها وإقامة دولة في كل منها. وقد حصل ذلك إما بنضال سلمي، نسبياً، كما مع غاندي الهند، أو مسلح كما مع الثورة الجزائرية، فيما تأجلت نهاية الحكم العنصري في جنوب إفريقيا عقوداً أخرى، ولم يبق من تركة الاستعمار القديم إلا الاحتلال الصهيوني لفلسطين والصراع على ملكية بعض الجزر، كالمالوين التي تتنازع السيطرة عليها بريطانيا والأرجنتين، أو سبتة وملليلة بين المغرب وإسبانيا. لئن كانت الدول الرأسمالية قد اقتنعت بمخاطر الحروب، بل بعدم جدواها في حل المشكلات فيما بينها، فهي تمكنت من تجديد تفوقها على مناطق الحضارات السابقة، باستخدامها وسائل جديدة ومبتكرة للسيطرة على الطبيعة، واقتطاعها الحصة الأكبر من الأرباح في استثماراتها داخل المستعمرات. أما البلدان التي نالت استقلالها أو انتزعته فقد خضعت لقسمة عمل جديدة، أطلق عليها الماركسي سمير أمين مصطلح التطور اللامتكافئ بين المركز الرأسمالي والأطراف المتخلفة، واقتضت هذه القسمة وضع الأطراف على سكة التطور الرأسمالي، ولا سيما في مجالي التعليم والمواصلات، وذلك لتوفير أفضل شروط الحماية لمصالح المركز وأفضل الظروف المناسبة لاستثماراته التجارية والصناعية. هذا العرض لحروب الرأسمالية ليس مدحاً ولا ذماً، بل هو لإثبات حقيقتين اثنتين. الأولى هي أن الرأسمالية لم تخض حروبها، في المرحلة الأولى، لا ضد الشرق ولا ضد الاسلام، بل ضد الحضارات السابقة عليها، أي أن النزاع لم ينشب بين شرق وغرب أو بين ديانة اسلامية وأخرى مسيحية، بل بين حضارة ناشئة وأخرى بلغت حدودها التاريخية، والدليل على ذلك هو أن حروبها الأولى التي استمرت أكثر من ثلاثة قرون اندلعت داخل القارة الأوروبية وانحصرت بين أبناء الديانة المسيحية، وأن حربيها الأخيرتين العالميتين، اللتين انفجرتا على مساحة العالم، تتحمل أمبراطوريات القارة ودولها القومية وحدها المسؤولية عن تفجيرهما. ولهذا يصبح أكثر جدوى وأكثر عقلانية النظر إلى العنف المرافق لقيام الرأسمالية بوصفه ثمناً فرض على البشرية أن تدفعه لكي تنتقل من الحضارة السابقة على الرأسمالية إلى الحضارة الرأسمالية، والنظر إليه، بالتالي، لا بعين «التحرر الوطني» من الاستعمار، بل بعين التحرر من التخلف. الاستعمار شكّل، كما الدولة، حاجة للرأسمالية في تطورها الأفقي، أي جزءاً من تكوينها البنيوي، مثلما شكلت نهاية الاستعمار المباشر عن طريق الاحتلال حاجة لها في تطورها العمودي. لكنها لم تدخل إلى هذا الخيار طوعاً بل أرغمت عليه غداة الحرب العالمية الثانية ووقوف الاتحاد السوفياتي إلى جانب البلدان المستعمرة في مواجهة النظام الرأسمالي العالمي، واحتدام الصراع بين الثنائية القطبية. غير أن هذا الصراع انتهى بانهيار الاتحاد السوفياتي ودخول الرأسمالية في نسختها الثالثة أي العولمة والاستعمار الاقتصادي، لا بالاحتلال المباشر بل بسيطرة الاقتصاد الأقوى على الاقتصاد الأضعف، أو المركز على الأطراف، بحسب تعبير سمير أمين، أو بسيطرة النمط الرأسمالي في بلدان الشمال والكولونيالي، بحسب تعبير مهدي عامل، في الجنوب وبلدان العالم الثالث النامية أو ما كان يصنف كمستعمرات سابقة. أما الدولة فقد عملت الرأسمالية على بنائها على أسس الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان. بيد أن تلك الأسس لم تترسخ في العلاقات بين الدول الرأسمالية الكبرى أو داخل كل منها إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وهي لم تكن تجد حرجاً في انتهاكها، حين يحتاج الأمر، وهذا ما حصل مراراً، ولاسيما في مرحلة العولمة، حين تخلت عن آليات عمل الدولة في إدارة الشأن العام، وتخلت كذلك عن الأسس والمبادئ التي قامت عليها، مطلقة العنان للاقتصاد للحلول محل الدولة في إدارة شؤون الكرة الأرضية. غير أن ذلك كلّف البشرية ويكلّفها أثماناً وتضحيات أضخم من تلك التي دفعتها في المراحل الأولى من قيام الرأسمالية. الاقتصاد أو البنية التحتية، بحسب المصطلحات الماركسية، هو العامل المحدد «في نهاية التحليل» في الحضارة الرأسمالية، في حين كانت الإيديولوجيات الدينية هي المهيمنة في حضارة العصور الاقطاعية. غير أن تجربة نشوء الرأسمالية أثبتت أن البنية السياسية لعبت دوراً مفصلياً في انتصار الحضارة الجديدة، وذلك بعد أن فتحت الثورة الفرنسية الباب أمام تغيير جذري في طبيعة السلطة وأنظمة الحكم، وأفسحت في المجال للطبقة البرجوازية الراعية لمصالح رأس المال في أن تتولى إدارة المجتمع. كما أثبت تطور الرأسمالية أن التنازع بين البنيتين السياسية والاقتصادية في الرأسمالية ونزوع الثانية إلى السيطرة جعلا هذه الحضارة تدخل في أزمات دورية، من بينها أزمة الثلاثينات من القرن العشرين، وتلك التي عصفت باقتصادات الدول الرأسمالية الكبرى في بدايات القرن الحادي والعشرين. وفي كل المرات كانت الرأسمالية قادرة على تجاوز أزماتها بتدخل مباشر من قبل الدولة للحد من جنوح الاقتصاد إلى الهيمنة وسعيه إلى التحكم بإدارة المجتمع بالآليات ذاتها التي يستخدمها الاقتصاد في إدارة الاستثمارات. يمكن القول باختصار إن الموجة الاستعمارية الأولى بدأت عند بداية القرن السادس عشر، في أعقاب الاكتشافات الكبرى وكريستوف كولومبوس وفاسكو دو غاما، أي مع النسخة التجارية من الرأسمالية، فيما بدأت الموجة الثانية مع الرأسمالية الصناعية، أي في القرن التاسع عشر. وفي الحالتين بدا النزوع إلى التوسع حاجة للرأسمالية لتأمين الأسواق والمواد الأولية. كما يمكن القول إن النزوع إلى التوسع ميز الحضارة الرأسمالية عن سائر الحضارات، القديمة منها والأكثر قدماً في التاريخ، كالرومانية واليونانية والفارسية والعربية. ذلك أنها انفردت وحدها بالنزوع إلى الكونية وإلى السيطرة، ولم تنحصر محاولاتها للتوسع عند حدود اليابسة بل شملت الفضاء وأعماق المحيطات. كيف تعاملت أحزاب العالم العربي مع ظاهرة الاستعمار ومع المصطلح؟ نبدأ الإجابة بالبحث عن المعنى القاموسي للكلمة. فقد ورد في الآية رقم 61 من سورة هود في القرآن: «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا». تفاوتت التفسيرات فأشارت بعض القواميس العربية إلى أن معناها «جعلكم تعمرونها». وفسر لسان العرب «استعمر اللهُ عبادَه في الأرض» أي جعلهم ساكنيها. ورد في المعاجم (معجم المعاني الجامع و المعجم الوسيط ولسان العرب) أن فعل استعمر مشتق من الثلاثي ع م ر، ومعنى استعمر الأرض عمرها وأمدها بما تحتاج من الأيدي العاملة لتصلح وتعمر، كأن نقول، استعمر الصحراء. ومن اشتقاقاته استعمر يستعمر استعماراً فهو مستعمر(بكسر الميم) والمفعول مستعمر (بفتح الميم). ما يعني أن العبارة بمعناها الاصطلاحي الحديث لم ترد في القواميس القديمة. أما القواميس الحديثة فشحنت المصطلح بدلالة سياسية مباشرة. وردت العبارة بدلالتها الاصطلاحية بمعنى استعمرت دولة دولة أخرى، أي احتلتها وفرضت سيطرتها عليها، فيقال، دولة مستعمرة(بفتح الميم). والدولة الاستعمارية هي التي تحتل غيرها وتفرض سيادتها وسيطرتها عليها وتستغلها. وينهي القاموس بحثه بعبارة «تحررت معظم الدول من الاستعمار». في قاموس المعجم الوسيط في اللغة ورد أن الاستعمار هو «إقامة مستعمرة، ويشكل ذلك أحيانا تحويل جماعات من الأشخاص من البلد المستعمر إلى المستعمرة من أجل التحكم فيها وتسييرها. «وأنه من الثلاثي ع م ر «(مصدر اِسْتَعْمَرَ ).:- دَخَلَ الاِسْتِعْمارُ البُلْدانَ العَرَبِيَّةَ في أَواخِرِ القَرْنِ الماضِي:-: القُوَّةُ الأجْنَبِيَّةُ الْمُسْتَعْمِرَةُ لِبَلَدٍ مَّا، وَتَحْتَلُّهُ بِالسِّلاَحِ وَالقَهْرِ وَالقُوَّةِ، وَتُخْضِعُهُ لِسُلْطانِها السِّياسِيِّ وَالاقْتِصادِيِّ .:- قاوَمَ الشَّعْبُ الاسْتِعْمارَ - اِنْتَهى عَهْدُ الاسْتِعْمارِ». تفيدنا هذه الاطلالة العابرة على حقل الدلالة اللغوي بأن مصطلح الاستعمار حديث العهد في اللغة السياسية، ولهذا لم يجد مؤلفو المعجم غضاضة في أن يحوّلوه من مرجع لغوي يبحث في معاني المفردات إلى كتاب في التاريخ السياسي، أو من مرجع للبحث في حقل الدلالة السياسية إلى مادة نضالية، تسويغاً لاستخدام المصطلح كسلاح إيديولوجي في يد الأحزاب والقوى السياسية. غير أن هذا الالتباس الدلالي طال معظم المصطلحات الحديثة، ولاسيما السياسية منها، التي رافقت نشوء الرأسمالية، كالوطن والأمة والعلمانية وسواها من المصطلحات، نتيجة هيمنة الفكر الديني والاصرار على التنقيب على جذور تلك المصطلحات في اللغة القرآنية، دون الأخذ بالاعتبار حقيقتين اثنتين، الأولى بلوغ تلك اللغة والحضارة التي احتضنتها حدودهما التاريخية مع عصر الترجمة الذهبي أيام هارون الرشيد وولديه الأمين والمأمون، والثانية هي أن هذه المصطلحات متحدرة من حضارة جديدة شكلت قطيعة مع سابقاتها على كل المستويات. عبدالله العروي عبّر في هذا المقطع من كتابه» مفهوم الدولة» (المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء، 2014، الطبعة العاشرة) عن نظرة سادت في أنحاء العالم العربي حيال الغرب، حيث يقول: «كانت الدول الأوروبية مسيحية تعادي الإسلام، استغلالية تتوخّى امتلاك الأرض واحتكار التجارة والصناعة، توسّعية تريد الاستقلال بالسيادة. كانت في آن صليبية، استعمارية، أمبريالية. فعارضت أهدافها مصالح الفقهاء أنصار الشريعة، ومصالح النخبة الحاكمة، ومصالح الجماعات الشعبية من تجّار وصنّاع وملّاكين عقاريين. لا يجب أن نتخيّل أن الناس آنذاك كانوا ساهين عن الأهداف البعيدة والملابسات المتشابكة. إن مسلمي المشرق والمغرب، وإن لم يعرفوا بالضبط قوانين المجتمع الغربي الحديث، كانوا بمقتضى تجاربهم المريرة في الأندلس وفلسطين والبلقان، يدركون أن الخطر الأوروبي يستهدف الدين والدولة والمجتمع. كان إذن اتفاق ضمني بين السلطان والرعية، بجميع مكوناتها، ضد الأجنبي، لكنه اتفاق مؤقت لا يمحي تماماً تناقض المصالح، وهذا ما سيتضح مع مرور الأعوام وتوسع رقعة الصراع بين الشرق العربي الإسلامي والغرب الأوروبي» ص174-175 في اللغة الأجنبية لا مجال لأي التباس في المعنى. فالاستعمار، كحقيقة واقعة، «بدأ مع توسع وانتشار الشعوب والدول الأوروبية بدءاً من القرن السادس عشر» (معجم لاروس الفرنسي) مع الغزو البرتغالي لمناطق في أفريقيا والهند والبرازيل، والغزو الاسباني لأميركا الوسطى، والفرنسي والأنكليزي لأميركا الشمالية، الخ. (م.ن). وفعل استعمر يعني احتل واجتاح واستوطن وحوّل الأرض إلى مستوطنات (م.ن). والحقيقة أن الدافع إلى عملية التوسع لم يكن دافعاً جغرافياً ولا دافعاً دينياً، بل اقتصادي بالدرجة الأولى. ولئن كانت الدول والشعوب الأوروبية، بحسب تعبير القاموس الفرنسي ذاته، هي التي قامت بتلك العملية، إلا أن الدافع الاقتصادي يجعلنا نميل إلى القول إن آليات تطور الحضارة الرأسمالية هي بالذات التي دفعت تلك الدول والشعوب للبحث عن أسواق جديدة وعن مصادر للمواد الأولية، ما يعني، بتعبير آخر، أن علاقة الرأسمالية بالتوسع الاستعماري هي علاقة علة بمعلول، أو أن ولادتهما كانت متزامنة، وأن الاستعمار هو من الخصائص البنيوية لتطور الرأسمالية، وهو تجسّد، في الطور الأول لنشوئها، بالاحتلال والسيطرة العسكرية المباشرة، وفي أطوارها اللاحقة، بأشكال مختلفة من السيطرة الاقتصادية والتدخلات السياسية والمخابراتية. يمكن القول إن الرأسمالية والاستعمار ولدا خلال القرن الخامس عشر، مع رحلات الاستكشاف الأولى التي أوصلت البرتغاليين والاسبانيين إلى الهند شرقاً وإلى البرازيل وكل أميركا اللاتينية غرباً. قبل هذا التاريخ كانت تسود البشرية حضارة أخرى ذات قيم واحدة وهي كانت معممة، على الأقل في البلدان ذات التاريخ المكتوب، في قارتي آسيا وأوروبا، من الصين في أقصى الشرق حتى بريطانيا غرباً، مروراً ببلدان العالم العربي. وإذا كان الاقتصاد الحر، التجاري ثم الصناعي، هو الذي صنع القيم الرأسمالية، فإن الأرض (الزراعة) هي التي صنعت قيم الحضارة الاقطاعية. من هذه الزاوية لم يصنف الاحتلال التركي العثماني للعالم العربي بصفته استعماراً، مع أنه اتخذ شكل احتلال صريح نفذته قبائل من آسيا الوسطى في عملية غزو واسعة كانت محطتها الأولى احتلال القسطنطينية في منتصف القرن الخامس عشر، أي قبل عقود من الاحتلال الاسباني البرتغالي لأميركا اللاتينية، وذلك لأنه كان استمراراً لتقاليد الغزو القديمة التي كانت تمارسها القبائل، ولأنه شكل احتلالاً من داخل الحضارة ذاتها التي كانت سائدة في تلك الفترة من تاريخ البشرية، و لأنه لم يحمل قيماً جديدة بل كرس القديمة السائدة في المجتمعات الزراعية، في حين كتب الغزو الأوروبي»الرأسمالي» بداية تاريخ جديد للبشرية. تبين خارطة الجغرافيا الاستعمارية لتلك الفترة أن بلدان أوروبا بدأت بالسعي إلى التوسع بدافع الاستكشاف والتجارة، ولهذا تركز الاحتلال على مناطق الشرق الأقصى والغرب الأقصى، الصين وأميركا، فيما استمرت المنطقة العربية خاضعة إما لاحتلال تركي مباشر في معظم الجزء الآسيوي، إما لوصاية من السلطنة العثمانية على شؤونها، ولا سيما بلدان المغرب العربي التي كانت تستنجد بها عندما تتعرض لخطر غزو أوروبي على سواحلها، إما لنوع من الاستقلال النسبي خلال حكم محمد علي باشا في مصر والحكم الوهابي السعودي في الحجاز. ذلك أن الرأسمالية لم يكن يهمها من تلك المنطقة، في ذلك الحين، إلا تأمين طرق المواصلات التجارية مع الشرق، ولهذا اكتفت طلائع الاستعمار البرتغالي باحتلال نقاط ارتكاز استراتيجية في الخليج ومسقط ومضيقي هرمز وباب المندب، واستكمله الانكليزي لاحقاً بشق قناة السويس التي تربط البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، وتختصر الرحلة بين أوروبا والشرق من غير المرور عبر رأس الرجاء الصالح. ويبين التاريخ الاستعماري أن أوروبا بدأت باحتلال الشرق الأقصى والقارة الأميركية عند نهاية القرن الخامس عشر، في العام 1492 مع اكتشاف أميركا على يد كريستوف كولومبوس، وفي العام 1497 مع رحلة فاسكو دو غاما إلى الشرق عبر رأس الرجاء الصالح، وفي الفترة ذاتها بدأت بريطانيا رحلتها الاستعمارية باحتلالها إحدى الجزر على الساحل الشرقي لكندا. كما أثبتت الوقائع التاريخية أن الحروب الاستعمارية الأولى اندلعت بسبب التنافس بين الرأسماليات التجارية الناشئة، فكانت إسبانيا والبرتغال وهولندا سباقة في احتلال مواقع لها ما وراء البحار خلال القرن السادس عشر، إلى أن تم إقصاؤها على يد الاستعمار الانكليزي والفرنسي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتمكنت دول أميركا الجنوبية من نيل استقلالها عن إسبانيا والبرتغال في القرن التاسع عشر، بعد أن كانت «انكلترا الجديدة» قد استقلت بثورة متزامنة مع الثورة الفرنسية وتحولت إلى «الولايات المتحدة الأميركية». تبين وقائع التاريخ والجغرافيا، إذن، أن الصراع بين أوروبا الرأسمالية والسلطنة العثمانية احتدم ودارت معاركه الكبرى في مياه البحر الأبيض المتوسط وكان نصيب المنطقة العربية هامشياً، إذ تحملت موانئ المغرب العربي عبء بعض الحروب الطاحنة بين الأساطيل. وعند انتهاء كل معركة كانت تنسحب الأساطيل وتستتب أمور تلك البلدان بإشراف إدارات محلية تعكس التوازنات القبلية والنفوذ العثماني، وهي، كما كل إدارات تلك المرحلة من الحضارة الاقطاعية، إمارات يحكمها متنفذون محليون يوالون السلطنة ويطلبون دعمها في مواجهة الغزوات الأوروبية، ويشرعون لها الموانئ حين تندلع الحرب بين الأسطولين العثماني والإسباني. وقد استمرت الحال على هذا المنوال خلال القرن السادس عشر، وحتى هزيمة العثمانيين في معركة ليبانتا البحرية(راجع المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني، فرنان بروديل، دار الكتاب الجديد، ترجمة محمد علي مقلد)، وبات البحر المتوسط ممراً آمناً للتجارة مع الشرق قبل شق قناة السويس وبعده. في القسم الشرقي من البحر المتوسط، استغلت دول أوروبا تمرد محمد علي باشا على السلطنة لتتدخل ضده وتعيد جيشه من حدود الأناضول، كما استغلت الصراع حول جبل لبنان لتتدخل بحجة حماية الأقليات الطائفية فيه. لكن التدخل في الحالتين لم يتخذ شكل احتلال واستعمار، بل على العكس من ذلك، ففي جبل لبنان بدا نشاط الإرساليات الغربية حافزاً على قيام نهضة ثقافية، أما مصر فقد أدخلها محمد علي باشا إلى رحاب الحضارة الرأسمالية من البابين الثقافي(البعثة العلمية إلى فرنسا بقيادة الشيخ الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي) والاقتصادي(الاصلاح الزراعي وبناء المصانع)، لكن شق قناة السويس أضاف إلى موقع مصر الجغرافي أهمية استراتيجية وشكل ذريعة لتسلل الاستعمار الانكليزي. بالعودة إلى التواريخ الدقيقة، يمكن اعتبار العام 1492 هو ميلاد الرأسمالية والاستعمار. ففي هذا التاريخ افتتحت اسبانيا والبرتغال مرحلة الاحتلال المباشر لأميركا الجنوبية، وفي العام 1512 بدأ الاستعمار البرتغالي في الشرق. بعد ذلك تناوبت بلدان أوروبا الأخرى، فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وهولندا على استعمار قارة أفريقيا وبلدان الشرق وصولاً إلى الصين. في القرن الثامن عشر قامت الثورتان الأميركية والفرنسية وتحررت القارة الأميركية من الاستعمار الانكليزي والاسباني والبرتغالي، واستمر الاستعمار في أفريقيا وفي المنطقة الواقعة شرق العالم العربي حتى القرن العشرين. لم يطأ الاستعمار،إذن، أرض الجزء الآسيوي من العالم العربي إلا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين، مكتفياً في البداية بنقاط ارتكاز بحرية على الطريق الموصلة إلى مستعمراته في الشرق، ثم بوجود عسكري مباشر عند نهاية القرن، كانت حصة بريطانيا من ذلك احتلال جزيرة برسم على مدخل البحر الأحمر عام 1799، عدن 1839، السودان 1898 الصومال 1884،العراق 1914، الكويت 1916؛ وحصة فرنسا فترة انتداب على لبنان وسوريا بين الحربين العالميتين. وظل الجزء الأكبر من منطقة الجزيرة العربية خارج الخارطة الاستعمارية وخارج النفوذ العثماني على حد سواء، باستثناء عقد من سني التعاون بين محمد علي باشا والسلطنة. شهد الجزء الأفريقي من العالم العربي استعماراً صريحاً واضحاً في الجزائر التي احتلتها فرنسا عام 1830، واستمرت سيطرتها إلى ما بعد منتصف القرن العشرين(1962). كما احتلت تونس بعد خمسين عاماً(1881) ولم تخرج منها إلا في العام 1956؛ فيما اكتفت بفرض نظام الحماية على المغرب في بداية القرن العشرين. أما ليبيا، وكذلك الحبشة (أثيوبيا)، فكانت محط أطماع إيطاليا، والتوقيت بداية القرن العشرين. السودان خضع للنفوذ الانكليزي في العام 1898، والصومال في العام 1904. أما مصر فللاستعمار فيها قصة أخرى. عام 1898 هو عام حملة نابليون بونابرت على مصر. خرج منها في 1801، ليترك فيها نسخة مصرية من «نابليون» جسّدها جندي في الجيش العثماني من أصول ألبانية هو محمد علي باشا، الذي حكم وسلالته مصر حتى عام 1952. كان أمراً لافتاً أن تقفز الأطماع الاستعمارية البريطانية فوق مصر ومنطقة الشرق الأوسط كله لتصوّب بعيداً على الشرق الأقصى والصين والهند الصينية، غير أنها، من ناحية أخرى، لم تكن مطمئنة لمطامع فرنسا، ولذلك ساهمت في إنهاء الحملة الفرنسية وإخراج جيش نابليون والحلول محله، وحين فشلت حملتها هي الأخرى اكتفت بالعمل على تحييد مصر وتأمين طريق المواصلات عبرها من الشرق وإليه. ومن المفيد ذكره هنا أن التجارة مع الشرق، قبل شق القناة، كانت تمر عبر البحر الأحمر ثم تنقل البضائع داخل البر المصري إلى موانئ المتوسط . وقد ازدادت مخاوفها من تعاظم الدور الفرنسي بعد شق قناة السويس، بعد أن منحت الشركة الفرنسية برئاسة دولسبس امتياز الحفر والتشغيل لمدة 99 عاماً، ولذلك تحيّنت الفرصة لتكون شريكاً في هذا المشروع، وتمكنت من تحقيق ذلك بشرائها حصة مصر من تشغيل القناة، مقابل تسديد الديون المترتبة على الحكومة المصرية، ثم باحتلال مصر في العام 1881، بعد ثورة قادها أحمد عرابي تحت شعار سيادة الدولة المصرية على أراضيها، وخصوصاً سيادتها على قناة السويس. بعد حوالي أربعين عاماً نالت مصر استقلالها في ظل حكم السلالة الخديوية ذاتها المتحدرة من محمد علي باشا. وفي العام 1952، انتهى حكم السلالة بانقلاب عسكري أبعد الملك فاروق إلى المنفى. وفي العام 1956 عدوان جديد على مصر الهدف المباشر منه هو تأمين الممر المائي الستراتيجي، قناة السويس، للتجارة مع الشرق. علاقة الاستعمار بالمنطقة العربية تختلف عنها بسائر المناطق والبلدان المستعمرة في شرق آسيا وإفريقيا السوداء والقارة الأميركية. فهي دامت قروناً في تلك المناطق، من بداية القرن السادس عشر حتى منتصف التاسع عشر في أميركا، وحتى منتصف القرن العشرين في آسيا وإفريقيا، في حين ظل الجزء الآسيوي من العالم العربي في منأى عن الاستعمار المباشر، وكذلك معظم الجزء الإفريقي، باستثناء الجزائر ومصر وتونس، حتى بدايات القرن العشرين وانفجار الحرب العالمية الأولى، التي كان من نتائجها توزيع تركة الرجل المريض، وإخضاع الولايات العثمانية إلى نظام حماية أو نظام انتداب، بقرار دولي من عصبة الأمم. هذا الاستثناء للمنطقة العربية يعود، كما ذكرنا أعلاه، إلى طبيعة الصراع الذي استمر محتدما مع السلطنة العثمانية طيلة قرن بكامله من الزمن، وتوقف جزئياً على البر عند حدود النمسا، وفي البحر بعد معركة الأساطيل في ليبانتا على الساحل الغربي لليونان في العام 1571، التي انتهت بهزيمة الاسطول التركي، وبترسيم حدود افتراضية لتقاسم النفوذ، قضت بجعل البحر المتوسط منطقة آمنة نسبياً لطرق المواصلات، وباتفاقية غير معلنة بعدم الاعتداء لم يلتزم بها أي من الطرفين التزاماً كاملاً، إذ كان الاسطول التركي يعاود نشاطه الحربي في الإغارة مستفرداً بسواحل المدن- الدول الإيطالية، مثلما كان الاسطول الاسباني الأرمادا يشن غاراته على السواحل الشمالية لبلدان المغرب العربي كلما أرخت السلطنة قبضتها على البحر، ولاسيما حين تنشغل بحروبها لناحية الشرق مع الدولة الفارسية، أو لناحية الشمال مع روسيا القيصرية في منطقة القرم. مع حلول القرن التاسع عشر انتقلت راية التوسع الرأسمالي- الاستعماري من الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال) إلى فرنسا وبريطانيا، اللتين، بالرغم من أن النزوع الرأسمالي لا تحده حدود ولا تقف في وجهه عوائق، في البر والبحر ولاحقاً في الفضاء وأعماق المحيطات، وبالرغم من أن انتشار مستعمراتهما قد توزع من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ركزت الأولى منهما في البداية على أفريقيا وسعت إلى تأمين ممرات مائية وبرية ونقاط ارتكاز لها على الشاطئ الجنوبي للمتوسط، فيما ركزت الثانية اهتمامها على الشرق، ولاسيما بعد الثورة الأميركية، مع ما يتطلبه ذلك من تأمين طرق المواصلات. وقد تزامنت هذه المطامع مع ارتخاء القبضة العثمانية على أراضي السلطنة، بعد صعود نجم محمد علي باشا في مصر ومحاولات قامت بها دولة المعنيين في جبل لبنان لبناء علاقات مباشرة مع الحضارة الجديدة في أوروبا (علاقات مع توسكانا والبندقية). في ظل هذه الظروف ولهذه الأهداف بالتحديد، تمكنت فرنسا من احتلال الجزائر وفرضت سيطرتها في وقت لاحق على تونس، كما تمكنت بريطانيا من تعزيز نفوذها داخل مصر. «في الفترة بين عامي 1876و1915 كان ربع مساحة المعمورة قد وزع أو أعيد توزيعه كمستعمرات». بالعودة إلى هذه العبارة التي افتتحنا بها أعلاه الكلام عن هذا المصطلح، يؤكد لنا هوبزباوم في مجلده الثالث أن عصر الأمبراطورية الممتد بين 1876 و1915 هو العصر الذهبي للاستعمار، أي أنه بلغ ذروته، أو حدوده التاريخية بالتعبير الماركسي، مع الحرب العالمية الأولى. من جهة أخرى، تؤكد لنا وقائع التاريخ الحديث، أن النظام الاستعماري برمته بدأ بالتفكك ثم بالانهيار مع الحرب العالمية الثانية. وإذا أخذنا بالاعتبار أن العالم العربي من المحيط إلى الخليج(باستثناء مصر وتونس والجزائر) كان لا يزال، حتى بداية الحرب العالمية الأولى، جزءاً من تركة الرجل المريض (الولايات التابعة للسلطنة العثمانية في بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية وما تبقى خارج الاستثناء في إفريقيا الشمالية)، يكون من المنطقي الاستنتاج أن بلدان العالم العربي، (ما عدا الاستثناءات الثلاثة) لم تكن، حتى نهاية العصر الذهبي للاستعمار، في عداد قائمة الدول التابعة للتاج البريطاني ولا تلك التابعة لاحقاً للكومنولث، ولا جزءاً من قائمة المستعمرات الفرنسية، وإن صار بعضها محسوباً على مجموعة الدول الناطقة بالفرنسية. يجمع المؤرخون على أن الاستعمار بدأ بتوزيع تركة الرجل المريض عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، إلى أن جاءت الحرب العالمية الأولى فتوزعت الولايات والكيانات العربية بين الحلفاء ودول المحور، وراحت كل منها تؤيد وتناصر من يساعدها على إقامة دول مستقلة عن السلطنة العثمانية، فيما أيد البعض منها ألمانيا، حليفة السلطنة، إما انتصاراً لدولة الخلافة، إما أملاً في أن تساعد، في حال انتصارها، على منح الاستقلال للكيانات التي تمركزت فيها قوات الحلفاء. في اعتقادنا أن هذا الاستعراض الواسع يفيد في فهم موقف «أحزاب الله» من المصطلح ومن الاستعمار، ولاسيما أن هذه الأحزاب تأسست في الفترة التي دخل فيها الاستعمار في أزمته وبدأ يشهد بداية نهايته. الأحزاب الشيوعية العربية تأسست في العشرينات من القرن العشرين، تنظيم الإخوان المسلمين في مصر عام 1928، السوري القومي الاجتماعي 1932، حزب البعث العربي الاشتراكي 1947، أما حزب اللّه اللبناني فقد تأسس عام 1982. وضعت «أحزاب الله» الاستعمار في رأس لائحة الأعداء التي تضم الأمبريالية والقوى الرجعية باعتبارها من «عملاء» الاستعمار، ثم الصهيونية في مرحلة لاحقة بعد اغتصاب فلسطين، باعتبارها دولة عنصرية زرعها الاستعمار. ورفعت شعارات الحرية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية ووحدة الأمة، العربية أو الإسلامية. واللافت أن الموقف العملي من الاستعمار لم يكن مطابقاً للموقف النظري والمبدئي. فقد كان حزب الإخوان في مصر على علاقة بالدول الغربية، ولاسيما بريطانيا وأميركا، طمعاً منه بنيل الدعم ضد الأنظمة القائمة، وطمعاً منها باستخدامه في مواجهة المد الشيوعي، كما أن الأحزاب القومية ركزت هجومها اللفظي على الاستعمار واقتصر عداؤها له على تحالف غير وطيد مع الاتحاد السوفياتي. تصوّرت «أحزاب الله» أو صوّرت لشعوبها أن مصدر المخاطر التي تهددها هو، في نظر الأصوليات الاسلامية، «عدوان» غربي مسيحي على الشرق الاسلامي، أو عدوان استعماري في نظر الأحزاب القومية، أو امبريالي في نظر الأحزاب الماركسية واليسارية المرتبطة بجبهة البلدان الاشتراكية. ولهذا فإننا نميل إلى الظن بأن الأحزاب الأصولية استخدمت شعار محاربة الاستعمار لتستفيد من خطاب الثورة السوفياتية التي استقطبت مؤيديها حين طالبت بحق تقرير المصير للشعوب والدول ولتبعد الأنظار عن الخطر الحقيقي الذي كان يهدد بلدان العالم الثالث، خطر التخلف عن ركب الحضارة الرأسمالية. ولذلك يمكن القول إن شعار العداء للاستعمار جاء استجابة لمطلب سوفياتي أكثر منه لدوافع وطنية، لأن هذا الشعار طرح فيما الاستعمار القديم في طريقه إلى الزوال. وبالرغم من أن أشكال الاستثمار الرأسمالي والهيمنة على العالم قد تبدلت، إلا أن أحزاب اللّه أصرت على مواجهة «العدوان» الخارجي لتسوغ هيمنتها وطريقة إدارتها الاستبدادية لشؤون بلدانها، تحت شعار التحرر الوطني من الاستعمار. وقد يتحول هذا الظن إلى يقين حين نستعرض ثلاثة نماذج من التحرر الوطني، الجزائر التي احتلتها فرنسا ما يقارب قرناً ونصف القرن، مصر التي خضعت للاحتلال الانكليزي أربعة عقود، لبنان سوريا والعراق، البلدان التي تحولت من ولايات تابعة للسلطنة العثمانية إلى بلدان مستقلة بعد خضوعها، خلال عقدين من الزمن، للانتداب الفرنسي الانكليزي، بمباركة من عصبة الأمم. نالت الجزائر استقلالها، عام 1962، بعد نضال مسلح دفعت ثمنه غالياً فسمّيت ببلد المليون شهيد. ثم توالى على الحكم فيها قادة من جبهة التحرير الجزائرية، تعاقبوا على السلطة فيها، عن طريق الانقلابات العسكرية، وأنهوا ثلاثة عقود من الاستقلال بحرب أهلية تنافست فيها الأصولية الدينية والأصولية المتحدرة من حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار على إلغاء الحياة الديمقراطية والمجاهرة باعتماد نظام استبدادي، حديث على الطريقة السوفياتية أو قديم على الطريقة السلفية. عام 1922، بعد سنوات ثلاث لا تخلو من العنف، وافقت المملكة المتحدة على إعلان استقلال مصر وإنهاء نظام الحماية وقيام نظام دستوري، واستمرت السلالة الخديوية المتحدرة من محمد علي باشا في حكم مصر وتحويله إلى نظام ملكي، إلى أن ألغى مصطفى أتاتورك الخلافة، فقام من يطالب بتنصيب الملك فؤاد خليفة على المسلمين. غير أن معركة التنصيب الفاشلة لم تنته من دون ضحايا، إذ تمّ عزل علي عبد الرازق من الأزهر بعد صدور كتابه عن الإسلام ونظام الحكم، ومنع من الصدور كتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي، وتأسس بعد سنوات قليلة حزب الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنّا، ليبدأ الإسلام السياسي مشواره المسالم في البداية والدموي في وقت لاحق. بعد موت الملك فؤاد اعتلى ابنه فاروق العرش عام 1936، إلى أن خلعه انقلاب عسكري قام به فريق من ضباط الجيش بقيادة جمال عبد الناصر في العام 1952. في الحقيقة، يمكن القول إن مصر بدأت الدخول في الحضارة الرأسمالية منذ الأيام الأولى لحكم محمد علي باشا، لكنها دخلت من البابين الاقتصادي والثقافي وبقي الباب السياسي شبه موصد، إلا من بعض مظاهر من التمثيل السياسي هي أقرب إلى نظام الشورى منها إلى الديمقراطية، ثم أدخلت تحسينات عليه في عهد الخديوي اسماعيل، وأيام الاستعمار البريطاني، وصولاً إلى إعلان الدستور عام 1923، واستمرت هذه التقاليد الديمقراطية، على علاتها، حتى ثورة تموز / يوليو، التي استبدلت التعددية بنظام الحزب الواحد مع مندرجاته كلها، ولاسيما الدور المتزايد للجيش في الحياة السياسية والانضمام إلى حركة التحرر الوطني العربية في مواجهة الاستعمار، تحت شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية. تجربة لبنان وسوريا والعراق كانت حديثة العهد بالمقارنة مع تجربة مصر. فقد خضعت هذه المنطقة ببلدانها الثلاثة لنظام الانتداب من غير المرور، كما شرحنا ذلك أعلاه، في المرحلة الاستعمارية، وكانت هذه الفترة القصيرة، التي لم تدم أكثر من ثلاثة عقود، فترة تمرين على دخول هذه البلدان في عصر الحداثة، ولاسيما في مجال بناء الدولة، انتهت بإعلان استقلالها التام كدول ذات سيادة تمثلت في الجامعة العربية وفي منظمة الأمم المتحدة. بعد سنوات على الاستقلال بدأت الانقلابات العسكرية، عام 1949 في سوريا وعام 1958 في العراق(ويقال إن أول انقلاب حصل في العراق عام 1936) التي ألغت التعددية والحد الأدنى من الحياة الديمقراطية واختارت الانخراط في حركة التحرر الوطني من الاستعمار، من غير أن تجد استعماراً تحاربه، بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في كل من سوريا والعراق، تحت شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، فيما نجا لبنان من انقلاب عسكري فاشل خطط له الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1961. غير أن الحربين العالميتين الأولى والثانية لم تمرّا من غير نتائج مأساوية على المنطقة العربية، إذ تمكنت الصهيونية العالمية، بالتعاون مع الانتداب الإنكليزي، من إقامة دولة لليهود على جزء من أرض فلسطين على حساب الشعب الفلسطيني الذي تشرد قسم كبير من سكانه في البلدان المحيطة بفلسطين وفي أربع أرجاء الأرض. أما الأكثر مأساوية فهو أن القوى والدول والأحزاب المنضوية في حركة التحرر الوطني العربية تذرعت بالقضية الفلسطينية وبعجز الأنظمة العربية الناشئة عن مواجهة المشروع الصهيوني، فعملت على ترسيخ سياسة الاستبداد ضد شعوبها، وعلى تحويل بلدانها إلى جمهوريات وراثية ليكتمل عقد أنظمة السلالات من المحيط إلى الخليج، ما جعل الشعوب تعلن ثورة الربيع العربي، وتنتفض، عند بداية القرن الحادي والعشرين، في عدد من الدول ضد حكامها، رافعة شعارات التحرر من الاستبداد بدل شعار التحرر من الاستعمار. العامل الخارجي هو المسؤول دائما، في نظر أنظمة الاستبداد وأحزابه، عن تخلف الأمة العربية، ولهذا شكل المشروع الصهيوني في فلسطين فرصة لا تعوض للتصويب عليه، بصفته عدواً خارجياً، وعلى من قدم له الدعم، فكان الاستعمار مادة دسمة استخدمتها الأنظمة والأحزاب لتحميله مسؤولية ضياع فلسطين وتسليمها للصهيونية تحت رعاية الانتداب الانكليزي، ولتحميل اتفاقية سايكس بيكو مسؤولية إقامة كيانات «مصطنعة». مع أن تلك الكيانات كانت قبل الانتداب مجموعة من الولايات التابعة للسلطنة العثمانية، فقد كان من الطبيعي أن ترسم الحضارة الرأسمالية خرائط المنطقة بالطريقة ذاتها التي رسمت فيها خرائط بلدان أوروبا(راجع ما ورد أعلاه عن هذا الموضوع). وربما يكون كارثياً أن تكون أحزاب الاستبداد رفضت سايكس بيكو وتقسيم المنطقة ونادت بوحدة الأمة أو بوحدة بلاد الشام، لكنها لم تستطع أن تحافظ على وحدة الأقطار التي سيطرت عليها. ربما لأنها سيطرت عليها بقوة الأحكام العرفية والسجون والمشانق، أي بالاستبداد. هل يمكن القول بعد هذا العرض لتاريخ المصطلح أن «أحزاب الله»، التي رفعت شعار التحرر من الاستعمار لم تجهز نفسها لمقاتلة «العدو خارجي»، وأنها، بدل أن تقاتل الاستعمار المزعوم، تفرغت لتنظيم الحروب الأهلية داخل كل بلد من بلدان الأمة، وللحؤول دون دخول بلدانها في رحاب الحضارة الرأسمالية من بابها السياسي، أي من باب الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص؟ ويكتسب هذا التساؤل مشروعيته حين نأخذ بالاعتبار أن تلك الأحزاب، في المشرق العربي، وضعت نفسها في مواجهة مع استعمار غير موجود، فدخلت في معركة افتراضية، أما المعركة الحقيقية مع الصهيونية فقد احتلت رقماً ثانوياً في قائمة الأولويات بعد معارك الاحتفاظ بالسلطة لفترات قياسية. أما الحزب الشيوعي في الجزائر فقد كانت أولويته مرضاة رفاقه الفرنسيين، وفي المقابل استفاقت الأصولية الدينية بعد ثلاثة عقود على تحرير الجزائر لتنافس على السلطة بعيداً عن أعين الاستعمار، وفي مصر لم تنقطع العلاقات الودية بين الأصولية الاسلامية والقوى الاستعمارية، فيما حلّ الحزب الشيوعي المصري نفسه تطبيقاً لنظريات سوفياتية عن الثورة والعداء للاستعمار.
4 ــ الـدولـــــــــة ربما كانت دلالة هذا المصطلح هي الأكثر التباساً، لا لأنه مترجم عن لغة أجنبية، بل لأن من استخدموه شوّشوا معناه حين لم يميزوا بوضوح لا بين السلطة والدولة، ولا بين المصطلحات الأخرى ذات العلاقة. ففي الفرنسية كما في الإنكليزية، هناك تمييز واضح بين Etat ،pouvoir d’Etat ،Autorites publiques ،Autorite ،Regime ،systeme ،State ،State Power ،Public Authorities ،Authority ،Regime ،System، إلا أن الممارسة السياسية رسخت في الوعي الشعبي نوعا من التطابق أو التجانس أو الترادف بين مصطلحات في علم السياسة ليست في الأصل متطابقة ولا متجانسة ولا مترادفة. «أول ما ينبغي أن يتسلح به العالم الاسلامي لتحقيق النهضة، برأي كمال عبد اللطيف، هو الدولة العصرية»، وهذا ما عمل بهديه محمد علي باشا وبايات تونس والمتأخرون من سلاطين الدولة العثمانية، (مفاهيم ملتبسة في الفكر العربي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، 1992، ص19). غير أن رياح السياسيين مضت بغير ما تشتهي لغة النهضة المأمولة، بحيث بدا أن الدولة في العالم العربي شيء والدولة العصرية شيء آخر. يقول عبد اللّه العروي في كتابه، مفهوم الدولة(المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، ط10، 2014): «... كل دولة مكوّنة إذن من مسلحين وجباة وقضاة، وفوق هؤلاء جماعة تقوم بربط الاتصال فيما بينهم، ويوجد فوق الجميع السلطان (أي صاحب السلطة العليا الحاكم المتفرد بالكلمة). هذا هو هيكل كل دولة، حديثة كانت أم قديمة، نراه بسيطاً واضحاً في أثينا، ونجده هو هو في الدولة الحديثة عندما نتجاوز التعقيدات والزخارف المتراكمة مع مرور الأيام» (ص81). فما هي هذه التعقيدات والزخارف المتراكمة؟ أن يكون الحاكم هو اللّه كما في الحضارات الريعية، أو أن تجعله حضارة العصور الاقطاعية ظله على الأرض أو خليفته في الأرض، أو أن يصير ممثلاً للشعب في الحضارة الرأسمالية، فهذا يعني أن الفوارق ليست مجرد زخارف وتعقيدات، بل هي تغييرات جوهرية في بنية النظام وفي آليات عمله. فما هي هذه التغييرات التي طرأت على الدولة في صيغتها الحديثة والمعاصرة؟ يعرض العروي ثلاثة نماذج نظرية عن الدولة الحديثة، «الدولة الهيغلية الناتجة عن فصل المصلحة العامة عن المصلحة الخاصة، والدولة التاريخية الماركسية الناتجة عن نشأة الملكية الخاصة، والدولة الحديثة الفيبرية (نسبة إلى ماكس فيبر) المبنية على عملية العقلنة»(م. ن. ص116). هذا على الصعيد النظري الفلسفي. أما على الصعيد العملي، فالذي أنشأ الدولة الحديثة وبنى أولى مؤسساتها هو نابليون. فهو من أرسى أسس القوانين، وأولها (Code Napoleon). «والكل يعلم، على ما يقول العروي، أن نابليون هو منظم التعليم الثانوي والعالي في فرنسا، ومؤسس البكالوريا، ومنشئ المدارس العلمية العليا. كان التعليم قبله تحت مسؤولية الكنيسة فجعله تابعاً للدولة، وأدخل عليه نظاماً يشبه النظام العسكري ووجهه وجهة علمية تقنية» (م. ن. ص94). هذه الدولة الحديثة تختلف عن سابقاتها، إذن، بالقانون الذي يساوي بين الأفراد ولا يعترف بانتماءاتهم التي تنال من معنى المواطنة ومن الولاء للدولة، كالانتماء إلى الملة أو العشيرة أو الطائفة أو إلى مذهب من المذاهب الدينية، إذ «لا يمكن التفكير في الدولة الديمقراطية الحديثة، إذن، إلا بالتلازم مع التسليم بمركزية الفرد في هذه الدولة» (عبدالإله بلقزيز، الدولة والمجتمع، جدليات التوحد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر، منتدي المعارف، بيروت، ط2، 2015، ص35) من ناحية أخرى تتميز الدولة الحديثة عن سابقاتها باعتماد الديمقراطية آلية للحكم ولحل النزاعات. فهي تستند إلى مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون. ولئن كانت الديمقراطية قد تعرضت للتشويه بعد إدخالها في لائحة المصطلحات الملتبسة، وحصر التعبير عنها في الانتخابات والاقتراع العام، غير أن أساسها الجوهري هو الاعتراف بالآخر وبالتنوع و بحق الاختلاف، وبالتالي فهي نقيض ما كانت تتصف به أنظمة الاستبداد السابقة على الحضارة الرأسمالية. كما أنها تستند إلى مبادئ حقوق الإنسان التي نصت عليها الشرعة والإعلان العالمي، وعلى رأسها الحرية بكل أنواعها، أي التعبير والتفكير والضمير والملكية والزواج، الخ. «ربما كانت الدولة أعظم اختراع انساني في التاريخ، على ما يقول بلقزيز، إذ لولا الدولة لكانت الحياة الاجتماعية جحيماً لا يطاق.... فقد لا يعرف قيمة الدولة إلا من عاش تجربة غيابها في المجتمعات المنغمسة في حروب أهلية» (م. ن. ص28). هذا ينطبق على الدولة مطلقاً، وعلى الدولة الحديثة خصوصاً، لأن الحروب الأهلية في صورتها المعاصرة لم تظهر إلا في غياب الدولة المعاصرة، فيما كانت الصراعات الداخلية في الدول القديمة تتخذ شكل حروب بين القبائل والعشائر، أو شكل مكائد وتصفيات بين أهل الحكم، إلى أن تمكنت الحضارة الرأسمالية من اكتشاف السلاح الناري وكل مشتقاته من المتفجرات والعبوات الناسفة والصواريخ الموجهة، فتبدلت أساليب القتل والقتال وصارت أكثر فتكاً وأكثر قدرة على التدمير، وصارت شظايا العنف تطال المجتمع والدولة بعد أن كانت دائرتها أقل اتساعاً. بيد أن مصطلح الدولة ذهب ضحية التباس مع مصطلح السلطة. فالدولة كيان معنوي، أو شخصية معنوية، أو بتعبير بلقزيز، «نصاب تمثيلي مجرد ومحايد وهي تطابق الأمة وتعبر عن كيانيتها السياسية والاجتماعية، أما سلطتها فمحطّ منافسة سياسية بين الفئات والجماعات والأحزاب: تتداولها وتتغير نخبها وسياساتها، لكن الدولة تستمر للجميع ويستمر ولاء الجميع لها. هذه حقيقة مستقرة في أذهان الناس في المجتمعات التي قامت فيها دولة حديثة» (م.ن. ص27). كما إن مصطلح الدولة الحديثة والمعاصرة يرتبط ارتباطاً عضوياً بمصطلح الوطن، لأن الدولة هي التي تجسد سيادة الشعب على أرضه وعلى حدوده من خلال سيادة القانون، ولهذا يصبح المساس بها مساسأ بالوطن، ويتحول التعرض لها إلى تهديد للوحدة الوطنية، والذي يدفع ثمن اغتيالها هو الوطن، فانهيارها يعني انهياره وتفككها يعني تفككه وتدميرها يعني تدميره، وهذا ما أثبتته تجارب الحروب الأهلية الممتدة في طول الوطن العربي وعرضه. يعيد بلقزيز الخلط بين الدولة والسلطة إلى أسباب شتى، «أولها وأهمها الفقر المعرفي وضعف الصلة بمصادر الفكر الانساني... ومن بينها مصادر الفكر العربي الإسلامي الوسيط المتعلقة بالموضوع، وهو أمر ينطبق بالتبعة على مسائل الحرية والمواطنة والمجتمع المدني»(ص32-33). وقد سبق لعبد اللّه العروي أن طرح فرضية الفقر المعرفي، عندما لاحظ أن مسألة الدولة لم تدرس جدياً على الصعيد النظري وأن التفكير في مشاكل الدولة شيء وتقديم نظرية عن الدولة شيء ثان(العروي، مفهوم الدولة. م. س. ص14). ثم أعاد الدكتور عمرو حمزاوي تأكيد الفكرة ذاتها حين تحدث عن «القصور المعرفي والمفاهيمي البادي اليوم على دراسة السياسة في الوطن العربي» (أزمة الدولة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بحوث ندوة فكرية، بيروت، 2011، ص91). من جانبنا، نميل إلى الاعتقاد بأن الفروقات الدقيقة بين معاني المصطلحات المتفرعة عن المصطلح الأساسي والتي تشير إلى الأساليب والأدوات التي تستخدمها الدولة في ممارسة نفوذها، مثل مصطلح ((Pouvoir d Etat بالفرنسية، ومعناه سلطة الدولة، أو Appareil d Etat ومعناه جهاز الدولة، وAutorites بما هي سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية، وAutorites publiques أي السلطات العامة المدنية والعسكرية، قد تعرضت، بسوء نية من أصحاب النفوذ والسلطة في بلداننا، إلى عملية دمج لتصير الدولة والسلطة والأجهزة شيئاً واحداً، وحصل الخلط بينها وبين مشتقات أخرى من شجرة العائلة، مثل النظام والمنظومة والسلطات العامة، وذلك تسويغاً وتسهيلاً لقيام أنظمة استبدادية غير ديمقراطية عن طريق إزالة الفصل بين السلطات باعتبارها كلها بعضاً من الدولة. وبهذا يكون مصطلح الدولة قد أفرغ من مضمونه المعاصر ليستعيد دلالته السلطانية بأبهى صورها. أدى هذا الخلط المفاهيمي إلى معضلة جعلت قيام الدولة الحديثة في عالمنا العربي أكثر صعوبة، لأنه يحوّل الدولة إلى «مجرد سلطة سياسية، ويجعلها مجرد امتداد تلقائي للمجتمعي في الحيز السياسي، أي متماهية مع المجتمع الأهلي في حقائق وجودها». وحين تصير الدولة مجرد سلطة تصبح أداة في يد فريق اجتماعي ونخبة سياسية ضيقة، فتفقد شرعيتها الديمقراطية والشعبية فتلجأ إلى القوة والعنف والاستبداد. من ناحية أخرى، لم يقتصر الخلط المفاهيمي على أهل السلطة بل تعداها إلى المعارضات الساعية إلى الحد من وظائف الدولة أو إلى الدفع بالمطالب الاجتماعية إلى الحد الذي يؤدي إلى إضعاف الدولة لا إلى إضعاف السلطة (راجع بلقزيز، ص83-85) نظرة سريعة على طبيعة الأنظمة السياسية في العالم العربي من المحيط إلى الخليج تؤكد أن جيل الاستقلال الأول تدرب، عندما استلم مقاليد الحكم من الاستعمار أو من الانتداب، على بناء دولة حديثة، لكنه تواجه بإحدى عقبتين أو بكليهما معاً، الأولى أنه حمل معه الحنين إلى تقاليد الحكم السابقة على الرأسمالية، والثانية أن الانقلابات العسكرية لم تعطه الفرصة لاستكمال التجربة، حتى كاد لبنان أن يكون البلد الوحيد داخل هذه الأمة، الذي نعم بنظام يحمل بعضاً من ملامح الديمقراطية، كالانتخابات الدورية للمجلس النيابي ولرئاسة الجمهورية. لم يكن العالم العربي وحيداً في هذا المجال، فبعد أن كانت التجربة الديمقراطية محصورة داخل حدود البلدان الرأسمالية الاستعمارية الكبرى التي خاضت الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين، أي في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، توسعت رقعتها في النصف الثاني من القرن العشرين إلى أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وإفريقيا.غير أن أرجاء الأمة الاسلامية والأمة العربية من المحيط إلى الخليج، كادت تكون الوحيدة على الكرة الأرضية التي ظلت تخيم عليها أنظمة الاستبداد. فما هو تفسير ذلك؟ التفسير الاقتصادي أعاد السبب إلى عجز الرأسمالية المحلية عن بناء «أنظمة متمحورة على الذات» (نظرية سمير أمين عن التطور اللامتكافئ بين مركز الرأسمالية وأطرافها) أو عجزها عن فك التبعية كما في وثائق الأحزاب الشيوعية (نظرية مهدي عامل عن نمط الإنتاج الكولونيالي). في هذا المجال يشكل كتاب فوزي منصور، خروج العرب من التاريخ، محاولة جادة لتفسير الفشل في انتقال العالم العربي من الاقتصاد الخراجي، أي اقتصاد الحضارة الاقطاعية الزراعي، إلى الاقتصاد الرأسمالي، ما يعني، في نظره، أن البرجوازية، بصفتها الطبقة المعنية ببناء الدولة الرأسمالية، لم تكن هي التي تولت مهمة بناء الدولة الحديثة، تماماً مثلما لم توكل إلى الطبقة العاملة مسؤولة بناء الاشتراكية في بعض الدول العربية التي رفعت هذا الشعار من ضمن أولوياتها. الدكتور هيثم غالب الناهي اختار منهج التفسير السياسي فحصر الأسباب بالعوامل الخارجية. ففي كتابه، الدولة وخفايا إخفاق مأسستها في المنطقة العربية(مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2016) خصّص الكاتب فصلاً، هو الأول قبل المقدمة، لعرض «خلاصة الكتاب»، حمّل فيها الاستعمار المسؤولية عن الفشل العربي في بناء الدولة الليبرالية، ما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بانتماء الكاتب إلى إحدى تفرعات منظومة الفكر القومي، رغم كونه نهل من معين التجربة الرأسمالية وحصّل تعليمه فيها واختار العيش في ربوعها والتنعم بخيراتها المادية والمعنوية. فكيف ينظر الناهي من خلال منظومته الفكرية إلى علاقة «الغرب» بقضية بناء الدولة؟ يرى الناهي أن «هيكلة الدولة مرت بحالات عديدة»(ص8) وكان يقصد بالحالات تطور المفاهيم والمصطلحات استناداً إلى «قراءة المجتمع من الناحية السوسيولوجية والنفسية»(ص8)، ومن خلال «الكم الفكري... والكنز المعرفي خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر... و بروز ماركس عام 1848 ...الذي طرح ضرورة مساهمة الطبقة العاملة في قيادة الدولة»(ص9)، وصولاً إلى «الحرب العالمية الأولى التي انتهت بالاستعمار...» ثم إلى «ثمانينيات القرن العشرين وسبعيناته، وأفول نجم الدولة الليبرالية الحديثة في المنطقة العربية واستبدالها بدكتاتوريات عسكرية تعسفية(ص11)... سمح لها الغرب أن تأخذ مكانها لتعمل على تقوقع المجتمع ... وحرص على استمرارها لفترات طويلة... ونجحت الفضائيات وبثها الطائفي والعرقي في تفتيت المجتمع العربي وحرمانه من مأسسة الدولة ...» (ص10-21) يشكو النص من لغته المليئة بأخطاء في النحو وتركيب الجملة. ربما يكون مؤلفه قد وضعه باللغة الانكليزية ثم قام بترجمته بنفسه، ولم تبذل دار النشر جهداً لمراجعته. أما في المضمون فمن المؤسف أن يكون الكتاب قد صدر بطبعته الأولى عام 2016 أي بعد أربعة عقود على صدور كتاب عبدالله العروي، «مفهوم الدولة»، وبعد عقد على صدور كتاب عبد الإله بلقزيز، «الدولة والمجتمع، جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر»، وبعد صدور عشرات المؤلفات والأبحاث والمقالات، خصوصاً الكتاب الصادر عن دار النشر ذاتها وعن الموضوع ذاته، وفيه وقائع ندوة عقدت في بيروت، تحت عنوان «أزمة الدولة في الوطن العربي». فضلاً عن مؤلفات كثيرة صدرت بأقلام مفكرين وكتّاب كبار، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، برهان غليون، ابراهيم سعد الدين، إيليا حريق، أحمد طربين، عزيز العظمة، هشام شرابي، خلدون النقيب، غسان سلامة، نزار يونس وغيرهم. لماذا وقع اختيارنا على كتاب الناهي ما دامت المكتبة العربية زاخرة بأسماء هؤلاء الباحثين؟ السبب الأساسي هو أنه الأحدث عهداً بين المنشورات المتعلقة بقضية الدولة، وكنا نأمل أن يرشدنا إلى مسار التطور وحجم التقدم الذي أنجزته الكتابة في هذا الحقل من البحوث، مفترضين، من جهة، أنه استند إلى المراجع العربية وأضاف إليها وانطلق منها ليستكمل مهمة البحث في قضية الدولة، ومفترضين، من جهة أخرى، أن الإقامة في بلد غربي والحياة العلمية والأكاديمية فيه، قد تجعلان الكتابة في قضايا الأمة العربية أكثر موضوعية وأقل تأثراً بالروح «الكفاحية». غير أن الكتاب أصابنا بخيبة أمل لكثرة ما فيه من ثغرات في منهج البحث وفي استعراض الوقائع، من بينها إهمال جهود السابقين، واعتماد قراءة مغلوطة للتاريخ العربي ولرسم حدود الدول والأوطان فيه، فضلاً عن أن الكتاب يكرّر السردية الكفاحية ذاتها التي روّجت لها أنظمة الحكم والأصوليات القومية واليسارية والدينية. المصطلحات أدوات معرفية، لكنها ليست هي المعرفة. وبتعبير آخر، الدولة شيء والكلام عن الدولة شيء آخر. هذا يحيلنا أيضاً إلى ما كتبه عبدالله العروي وأكده عبدالإله بلقزيز عن الفارق الكبير بين الكتابة عن الدولة وكتابة نظرية عن الدولة، أو إلى التمييز، الذي يشير إليه محمد الوقيدي، بين الرأي والحقيقة العلمية، معتبراً أن الرأي ضد العلم. من ناحية ثانية، أشار الناهي إلى «كنوز» القرنين السادس عشر والسابع عشر، وربما كان يقصد بها كتابات جون لوك وتوماس هوبز وجان جاك روسو، لكن تلك الكنوز لم تعالج موضوع الدولة بقدر ما ركزت على العقد الاجتماعي بين الحاكم والرعية وعلى الحرية كحق من حقوق الأفراد، وعبرت عن إرهاصات الكتابة عن دولة لم تكن قد ظهرت بعد، دولة يعتبر نابليون بونابارت هو من بنى مدماكها الأول في أواخر القرن الثامن عشر، بعد الثورة الفرنسية. من ناحية ثالثة، يقول الناهي إن الحرب العالمية الأولى «انتهت بالاستعمار»، والحقيقة أن الاستعمار بدأ في أواخر القرن الخامس عشر، وبالتحديد مع اكتشاف أميركا في العام 1492 واكتشاف رأس الرجاء الصالح عام 1497، وأن الحرب الأولى شكلت بداية النهاية للاستعمار، للصيغة الأولى التي ظهر فيها، صيغة الاحتلال المباشر، لتبدأ الحضارة الرأسمالية رحلة بحثها عن صيغ جديدة للسيطرة على العالم وعلى الطبيعة وعلى أعماق المحيطات وأعالي الفضاء. أما القول بأفول نجم الليبراليات العربية في ثمانينات القرن العشرين وسبعيناته فهو قول يجافي حقيقة الوقائع التاريخية. ذلك أن المحاولات الليبرالية الأولى أشرف على تنفيذها «الاستعمار» ذاته الذي عينته عصبة الأمم وأسمته انتداباً، ولم يتم تعميمها على كل بلدان العالم العربي، وسرعان ما انطوت صفحتها مع أول انقلاب عسكري أطاح بمقومات الدولة الدستورية في العراق عام 1936، ثم في سوريا عام 1949، إلى قائمة الانقلابات التي سبق ذكرها أعلاه، والتي استعجلت القضاء على التجربة الطرية العود، مستبقة ولادة الفضائيات ووسائل التواصل، ولم تنتظر سبعينات القرن وثمانيناته، ولا انتظرت إذناً من «الغرب». أما ماركس فلم يقترح أن تكون الطبقة العاملة شريكاً فحسب في قيادة الدولة، بل أن تتولى هي وحدها إدارة الدولة الاشتراكية كاملة غير منقوصة على حساب البرجوازية ودولتها الرأسمالية. من ناحية أخرى، الدولة سابقة على الحضارة الرأسمالية، لكنها في الرأسمالية غيرها في الحضارات السابقة، بل يمكن القول إن صيغتها الرأسمالية أحدثت قطيعة بنيوية مع سالفاتها. فهي محصلة تحولات اقتصادية ومعرفية وسياسية جذرية من نمط الإنتاج الزراعي إلى النمط الصناعي، ومن علم الغيب إلى العلم الوضعي ومن حكم السلالات إلى حكم الشعب، ومن أهم تلك التحولات الفكرية والفلسفية أن محورية الكون انتقلت من اللّه إلى الإنسان، وأن مصطلح الحرية صار محدداً بدقة، وبات يعني حرية الإنسان الفرد، بالمعنى الديكارتي للكلمة، حرية التفكير، حرية العقل، التي اكتسبت مدلولات جديدة في السياسة شملت حرية التعبير والمعتقد وصولاً إلى حرية الضمير. غير أن بعض المثقفين المعاصرين لم يؤمنوا بفكرة القطيعة، وظلوا يعتقدون أن الحرية كما الديمقراطية كما المواطنة، هي مصطلحات ذات منشأ سابق على الرأسمالية، وأن «الفكر الإسلامي توقف عند حقوق الأفراد، مسلمين وغير مسلمين ...فظلت (تلك الحقوق) مصونة، مع أن فكرة المواطنة لم تكن واضحة ولا كانت فكرة الدولة القومية بقوامها القانوني والسياسي موجودة» (عدنان السيد حسين، أزمة الدولة في الوطن العربي، م.س. ص47). ربما لم ينتبه الكاتب إلى أن فكرة القطيعة تجسدت أول ما تجسدت في إقصاء المؤسسة الدينية، الكنيسة، عن التدخل في شؤون الدولة، فباتت الدولة شأناً بشرياً محضاً بعيداً عن أي مقدس ديني. في غياب «القطيعة» عن فكر المتأسلم تزداد المفاهيم والمصطلحات التباساً، ولاسيما حين يتوزع بين الإقرار بأن «الدولة الحديثة في طبيعتها هي دولة مدنية، أي أنها ليست دولة دينية مقدسة» والرغبة في أن يكون للمقدس مكان في صياغة مشروع الدولة، وذلك خشية «التنكر للدين والاتجاه نحو مفهوم إلحادي»(م.ن. ص55). ومع تأكيد الباحث على أنه «لا يوجد تصور إسلامي حول فكرة الدولة ... ولا يوجد تصور علمي لمؤسسات الدولة ولا للسلطات التي تحكمها» إلا أنه يصر على الحفاظ على حيز للدين والشريعة في مقاربة المسائل المتعلقة بالدولة، ومن هذا المنطلق يرى أن من المفيد دراسة التراث الإنساني، لكن «على ضوء الحضارة الإسلامية»، وأن على «الدولة والسلطة عامة والحكومة والحاكم... أن يحتكموا إلى القانون العام غير المخالف لأحكام الشريعة» وأن تطبيق العدالة يحتاج إلى قانون وقضاة ملتزمين بشرع اللّه وبالقواعد الوضعية»، وأن «الدولة المدنية تقوى وكذلك المجتمع المدني... بقدر ما ينسجم القانون أو يعكس جوهر الشريعة»، وأن «الحركات الإسلامية مدعوة إلى الارتقاء بإنسانية الإنسان ودائماً على هدي الشريعة والثقافة العربية الأصيلة»(م.ن.ص55-64) تحت عنوان «وافدة، متغربة، ولكنها باقية: تناقضات الدولة العربية القطرية» نشر د. بهجت قرني بحثاً في مجلة المستقبل العربي عام 1987، يتضمن نوعاً آخر من الالتباسات، هي التباسات علاقة الدولة العربية بالغرب. فهو يرى أن الدولة القطرية هي صناعة أوروبية، و«جزء من عملية دولية، ومن توسع المجتمع الدولي أو من تصدع عالمي». وربما كان يقصد بالتصدع أن الدولة الحديثة جاءت في أعقاب الأمبراطوريات القديمة الرومانية والبيزنطية والصينية والهندية واليونانية ويحدد تاريخ ولادتها بما بعد معاهدة وستفاليا. لم يذكر من بين تلك الأمبراطوريات لا دولة الخلافة العربية ولا السلطنة العثمانية، لكنه أشار إلى أن صراع هذه الأخيرة مع أوروبا كان يمثل صداماً بين ثقافتين سياسيتين متضاربتين، كان من نتائجه أن السلطنة صارت أكثر ميلاً نحو الحضارة الأوروبية، ما دفعها، في البداية، إلى «مسايرة التحديات والقيام بعملية الاصلاحات الداخلية، في السياسة والتعليم... إلى أن سقط الحاجز الأخير أمام ابتلاع أوروبا للأمبراطورية العثمانية» . يتابع الدكتور بهجت قرني سرديته بالقول إن «اتفاقية سايكس بيكو ونظام الانتداب غرسا بذور التجزئة في الدول العربية» - كأنها كانت موحدة قبل ذلك- و«إن نظام الانتداب لا يختلف كثيراً عن الاستعمار... لأن كلاً منهما وضع مؤسسات الدول القطرية ورسخها على صورة النمط الأوروبي»، الذي أثبت فشله في احتواء الاختلافات الثقافية والدينية، كردي-عربي،اسلامي- مسيحي، عرب- بربر، وكان لبنان «مثالاً صارخاً في السوء بدليل الحرب الأهلية المستعرة منذ أكثر من أثنتي عشرة سنة». بعد ثلاثين عاماً وجد الكاتب من يؤيده في نعت الدول القطرية بالاصطناعية والنظر إليها كصناعة استعمارية وترجمة لصراعات القوى الدولية، والنظر إلى الاستبداد كظاهرة موروثة عن الاستعمار، (الدكتور مصطفى كامل السيد، أزمة الدولة في الوطن العربي، م. س. ص104)، أو في النظر إلى «البلاد العربية مجزأة إلى دويلات صغيرة أكثر شرعياتها من التقسيم الاستعماري» (عبد الإله بلقزيز، م. ن. ص305) ليس مبرراً كافياً أن يكون الكاتب قد نشر هذا النص عام 1987 أي قبل ثورة الربيع العربي واندلاع العنف في بلده مصر وفي أنحاء الأمة العربية كلها من المحيط إلى الخليج بعد حادثة بوعزيزي في تونس أواخر عام 2010، وليس مبرراً أبداً استنتاجه «أن عدد الدول الاصطناعية قد تزايد بعد 1945»، أولاً لأن الدول الاصطناعية التي يقصدها هي حصرا لبنان وسوريا، البلدين اللذين كانا يتألفان قبل الحرب العالمية الأولى من مجموعة من الولايات التابعة للسلطنة العثمانية: بيروت، طرابلس، صيدا، دمشق، حمص، حلب، الموصل. أما الدولة الاصطناعية الوحيدة فهي الدولة الصهيونية التي تندرج في سياق مختلف من البحث. وثانياً لأن رسم حدود الدول الحديثة كان بمثابة ولادة قيصرية عانت منها أوروبا قبل العالم العربي، ولم يكن ذلك افتعالاً لوقائع غير موجودة، بل تكريساً لمعطيات تاريخية استند إليها ميثاق عصبة الأمم في نص يذكره القرني في دراسته، ويتعلق بـ«شعوب ليست قادرة بعد على الوقوف على قدمها، ويؤلف رفاههم وتطويرهم أمانة مقدسة في عنق الحضارة، وبالتالي ينبغي أن يعهد إرشاد مثل هذه الشعوب إلى أمم متقدمة ... بصفتها منتدبة نيابة عن العصبة». العوامل التي لعبت دوراً حاسماً في قيام الدولة القطرية في العالم العربي لا تنعت بأنها خارجية أو غربية أو أوروبية أو مسيحية، بل إن هويتها المميزة تتمثل في كونها من أركان الحضارة الرأسمالية التي كان العالم العربي على موعد مع الانتقال إليها انتقالاً عصيّاً عرقلته عوامل داخلية، على غرار ما حصل في أوروبا في مرحلة التوسع الأفقي للرأسمالية، وعوامل خارجية عندما قررت الدول الرأسمالية الصاعدة منع قيام قوة كبرى في مصر بديلاً عن سلطنة كانت تتهاوى أمام قوة الهجوم الحضاري الرأسمالي، وعملت على رسم حدود النهضة العربية بما يؤمن مصالح الرأسمالية في المواصلات والتعليم والصناعة والزراعة (نموذج إصلاحات محمد علي باشا في مصر و خير الدين التونسي في تونس والمعنيين والشهابيين والإرساليات في جبل لبنان)، من غير أن يسمح لها (للنهضة) بأن تعرقل عبور المستعمرين إلى مستعمراتهم في الشرق. (راجع، أعلاه، الكلام عن الرأسمالية والاستعمار) فضلاً عن ذلك، إن تحميل التنوع بكل أنواعه مسؤولية تفكك المجتمعات العربية واندلاع الحروب الأهلية فيها لا يعكس حقيقة الواقع، ذلك أن «عدد الدول في العالم لم يبلغ بعد 200 دولة، وأن قلة من هذه الدول تستطيع الادعاء بامتلاك تجانس إثني أو نقاء قومي» (فالح عبد الجبار، أزمة الدولة في الوطن العربي، م. ن.ص278)، ويؤكد الدكتور غسان سلامة الفكرة ذاتها في كتابه، (المجتمع والدولة في المشرق العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 1987) إذ يقول: «قليلة هي الدول في العالم التي تقوم في مجتمع احادي الدين والعرق واللغة» (ص.71). غير أن الحروب الأهلية لم تنشب في البلدان الأكثر تنوعاً كالهند أو الولايات المتحدة، بل في البلدان المحكومة بالأنظمة الأكثر استبداداً، والتي سدت فيها أبواب الانتقال إلى الدولة الحديثة من بابها السياسي، أي من باب الديمقراطية والدستور والقانون والمؤسسات. الاختلاف على تاريخ ولادة الدولة وعلى تعريفها وهويتها يشكل واحداً من أسباب الالتباس حول معنى الدولة. فمنهم من يعيد ولادتها إلى غابر الأزمان، أي إلى الحضارات القديمة كاليونانية والاغريقية والبابلية، وإلى شريعة حمورابي والقانون الروماني، أو إلى الأحدث منها كالعربية، ومنهم من لم يعثر لها بعد على تعريف واضح، متردداً بين «سبعة احتمالات لمفهوم الدولة، وثماني عشرة نظرية مختلفة عن الدولة، و145 تعريفاً منفصلاً للدولة» (بهجت قرني، م.س.) قد يكون التعريف الدقيق واحداً من هذه الاحتمالات والنظريات والتعريفات، لكن وضعه ضمن هذه المروحة الواسعة لا يضفي ضبابية على المفهوم وحده بل على الدولة ذاتها، وهو ما يفسر كيف أن الدولة في كل بلدان العالم العربي احتفظت بكثير من مميزات الدولة ما قبل الرأسمالية، وعلى وجه الخصوص الوراثة والاستبداد و» السلطة طريق إلى الثروة» بحسب تعبير سمير أمين، أي أعلى نسبة من الفساد في العالم. في الندوة المشار إليها أعلاه التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية ونشر أعمالها في كتاب بعنوان، أزمة الدولة في الوطن العربي، قدم فالح عبد الجبار بحثاً معمقاً حدد فيه بدقة مفهوم الدولة ودلالته قائلاً بوضوح إن الدولة المعاصرة «ظاهرة حديثة تنتمي إلى العصر الصناعي ولا سابق لها قبله... وهي اصطناع بشري... أي أنها لا تنمو على الأشجار ولا تنتمي إلى حقل الطبيعة بل إلى حقل المجتمع»(م. س. ص272). كان فالح عبد الجبار قد نشر قبل ذلك بحثاً عن الدولة في كتاب «ما بعد ماركس» (دار الفارابي، بيروت، 2010) ركز فيه على ما تشكو منه الأدبيات الماركسية من نقص فادح في الكتابة عن الدولة، ورأى مع باحثين آخرين، أن الدولة المعاصرة التي تأسست مع الثورة الرأسمالية هي تلك التي وضع هيغل أسسها الفلسفية وماكس فيبر أسسها السياسية، انطلاقاً من تجربة الثورة الفرنسية والنسخ المتعددة من الدولة التي أقيمت، بعد ذلك، على أنقاض الملكية. يكتسب بحث عبد الجبار أهميته من تأكيده على أن الدولة الحديثة هي نتاج العصر الصناعي، ما يعني، بتعبيرنا نحن، أنها نتاج الحضارة الرأسمالية، وهذا استنتاج يختلف اختلافاً نوعياً عن نعتها بإنها نتاج أوروبي أو مسيحي أو استعماري أو علماني أو مادي أو إلحادي. ذلك أن هذه النعوت، على اختلافها، تجعل من الدولة الحديثة ظاهرة معادية وعدوانية، وتظهرها على شكل كائن غريب فرضه الاستعمار على المنطقة من خارج تاريخها وتقاليدها وقيمها الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية. والحقيقة هي أن الحضارة الرأسمالية قدمت للبشرية، في طور توسعها الأفقي، من الإغراءات ما يكفي لإدخال أكثر البلدان تخلفاَ إلى «حلبة الحضارة»، بحسب تعبير ماركس. فهي قدمت وفرة في الإنتاج، وإنجازات علمية، وقربت المسافات وعممت المعرفة من خلال المطابع والمدارس، الخ. بحيث باتت كل الكرة الأرضية خارج أوروبا على موعد مع الدخول إلى رحاب تلك الحضارة، بالعنف الرأسمالي الذي بلغ ذروته مع استئصال الهنود الحمر في أميركا، أو بالعنف الطبيعي الذي يرافق أي ثورة من غير سلاح، على غرار ما حصل عند انتقال اليابان من حضارة الساموراي الإقطاعية إلى الحضارة الرأسمالية التي ولدت في الغرب الأوروبي وأخذت تنتشر في أربع أرجاء الأرض. (لدراسة هذه التجربة، يمكن العودة إلى كتاب ألان بيرفيت عن المعجزة اليابانية. م. س.) الدولة الحديثة حاجة لكل مجتمع في طور الانتقال إلى الحضارة الجديدة، أي الانتقال، على الصعيد الاقتصادي، من نمط الانتاج الزراعي إلى نمط الإنتاج الصناعي، أي الرأسمالي، وعلى الصعيد السياسي، من الدولة الوراثية إلى الدولة التي تتشكل فيها السلطة عن طريق الانتخابات الديمقراطية. بهذا المعنى يمكن القول إن العالم العربي باشر الدخول إلى عالم الرأسمالية، منذ بداية احتكاكه بالغرب الأوروبي، خصوصاً عبر تجربتي مصر وجبل لبنان، لكن هذا الدخول اقتصر على المجالين الاقتصادي والثقافي فيما بقيت صيغة الدولة تنتمي إلى عصر الحضارة الزراعية، حيث تخضع الأرض لقانون «الملك لله» ويتولى صاحب السلطة والسلطان إدارة الأملاك «الأميرية» ويشرف على توزيع خيراتها، وكأنها خيراته، بحسب قوانين المحاصصة، التي اعتمدتها كل السلطات في العالم العربي، في الدول السلطانية كما في الجمهوريات الوراثية، رافضة الأسس الجديدة المعتمدة في دولة الحق الهيغلية التي سلكت مساراً من التطور الشائك والصعب من صيغة الثورة الفرنسية حتى صيغة ما بعد الحرب العالمية الثانية. أنْ تُنسب فكرة الدولة الحديثة إلى غير أصلها ومصدرها الحقيقيين، أي المجتمع الصناعي، وأن تُسبغ عليها نعوت تشوش هويتها ولا تعبر بدقة عن طبيعتها وخصائصها، هو جزء من الدفاع عن القيم السياسية التي سادت قبل الحضارة الرأسمالية. إنّ النظر إليها كنتاج «أوروبي أو غربي أو مسيحي أو استعماري أو مادي أو إلحادي أو كدولة علمانية أو مدنية»، لا يقول كل الحقيقة، بل هو يخفي المهم منها. ذلك أن الدولة الحديثة نشأت حقاً في الغرب المسيحي، في ظل انتشار الفلسفات المادية والتيارات الإلحادية، وأن الاستعمار هو الذي بشر بها وعممها على العالم. غير أن رمي فكرة الدولة بشبهة العدوانية، وتصويرها غريبة عن تاريخنا وجغرافيتنا وعن تراثنا الديني، ومفروضة علينا من الخارج، هو سلاح إيديولوجي في مواجهة هذا «الوافد الأجنبي المعادي»، يستحضر المستطاع «من قوة ومن رباط الخيل» الراسخة جذوره في الفكر الأصولي الديني، ويتمسك بها حد التعصب، فتتوارى الحقيقة الأهم المتمثلة بمنعطف الرأسمالية التاريخي الذي غيّر وجه العالم وأحدث قطيعة حضارية مع ما سبقه، ولاسيما مع الأقرب إليه زمنياً، أي الحضارة العربية الإسلامية.
5 ــ الديمقـراطيــة يجمع الباحثون على أن مصطلح الديمقراطية مشتق من كلمتين، ديموس وتعني الشعب، وقراطوس وتعني السلطة، ويجمعون على أنه من أصل يوناني اعتمدته أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد حافظ المصطلح خلال خمسة وعشرين قرناً على جزء أساسي من دلالته القاموسية التي تعني في ما تعنيه الحؤول دون استفراد الحاكم بالحكم ودون استئثاره بحق اتخاذ القرارات، وبالتالي، توزيع هذا الحق على أفراد الشعب. غير أن عملية التوزيع هذه وآلياتها لم تكن موضع إجماع في أي وقت خلال هذه القرون الطويلة، بل كانت عرضة للتبدل والتغير، وللتعطيل في معظم الأحيان، إلى أن جاءت الحضارة الرأسمالية التي أضافت إلى حق أفراد الشعب بالمساواة حقهم بالحرية، وجمعتهما إلى الإخاء في شعارات الثورة الفرنسية الثلاثة. الدلالة الحديثة للمصطلح التي تعنينا يعود منشأها الفلسفي إلى الكوجيتو الديكارتي، إلى العقل، إلى حرية الإنسان الفرد: أنا أفكر إذن أنا موجود. ويعود منشأها السياسي إلى الثورة الفرنسية التي استبدلت النظام المَلَكي، أي نظام الاستئثار والوراثة، بالنظام الجمهوري، أي النظام القائم على حق الشعب في اختيار الحاكم وفي مراقبته ومحاسبته. غير أن الولادة العسيرة للديمقراطية الحديثة سلكت مساراً طويلاً ومعقداً على امتداد قرنين من الزمن تقريباً، ولم تستقر على صيغتها المعاصرة إلا بعد الحرب العالمية الثانية. صحيح أن الديمقراطية في أدنى مراتبها أعطت الشعب الحق في اختيار الحاكم، لكن مصطلح الشعب لم يكن يحمل الدلالة ذاتها أيام الديمقراطية اليونانية. فمن ناحية أولى اكتسب مصطلح الشعب، مع عدد من المصطلحات المنتمية إلى شجرة عائلة واحدة لم تكن معروفة قبل الثورة الفرنسية، دلالة جديدة بعدها، كالعلمنة والوطن والسيادة والقانون والدولة المدنية وأجهزتها والفصل بين السلطات. ومن ناحية ثانية، كان يمنح هذا الحق لفئات من الشعب دون أخرى، للسادة دون العبيد في أثينا القديمة، للرجال دون النساء إلى ما قبل منتصف القرن العشرين، وظل يحرم منه، بعد الثورة الفرنسية، الأميون والنساء والذين لا يدفعون الضرائب. حتى في الديمقراطيات الحديثة لا تزال تعتمد صيغ من الديمقراطية غير المباشرة، يوكل المواطن بموجبها من ينوب عنه في اختيار الحاكم، كانتخاب الرئيس من قبل المجلس النيابي، أو كتصويت المفوضين في الولايات المتحدة الأميركية. وهكذا بدا كأن التعديلات انحصرت في الآليات المتبعة لممارسة هذا الحق، وفي تحديد هوية من يحق لهم ممارسته، ما جعل الاعتقاد بحصر الديمقراطية في حق الاقتراع يسود ثم يترسخ بفعل إجراءات «خبيثة» يلجأ إليها الحاكم لينتزع هذا الحق من أصحابه أو ليفرغ الديمقراطية من مضمونها الحقيقي. إذا لم تكن الديمقراطية صندوق اقتراع فحسب، فماذا عساها تكون؟ سؤال أجاب عليه باستفاضة الفيلسوف الفرنسي ألان تورين في كتاب يحمل عنوان، ما هي الديمقراطية؟ (ترجمة حسن قبيسي، منشورات دار الساقي، الطبعة الثانية،2001)، وفيه يختصر الكاتب خلاصة التجربة الديمقراطية الفرنسية والأوروبية منذ ظهور نسختها الحديثة قبل قرنين من الزمن. لا يكتفي الكاتب بتعريف واحد بل ولا بعشرات، إذا جاز لنا تصنيفها في خانة النعوت والخصائص والمميزات، فإن كلاً منها يصلح أن يكون بمثابة تعريف. سأحاول أن أستخرجها من صفحات الكتاب المئتين والستين، وأن أصوغ منها، بنصها الحرفي أو معدّلاً قليلاً، مادة تكفي لتوضيح دلالات عديدة متنوعة للديمقراطية تجاهلتها الأصوليات والأنظمة الاستبدادية عمداً، لتصوّر نفسها أنها هي حصن الديمقراطية وحاميها الأمين، لكن، لتمارس، في الحقيقة، عبر صناديق الاقتراع، أكبر عملية تشويه وسطوٍ على الديمقراطية وقيمها. قبل صناديق الاقتراع، الديمقراطية هي، ببساطة، «أن نتعلم كيف نعيش معاً رغم اختلافاتنا، أن نبني عالماً منفتحاً على أكبر قسط من التنوع، ألا نفرّط بالوحدة ولا بالتنوع... فالديمقراطية هي سياسة الاعتراف بالآخر» (ص8)، و«احترام الحريات والتنوع» (ص21)، «ولا مكان للديمقراطية في مجتمع يتناهبه تدخل الدولة السلطوي والمقاومات الطوائفيه، لأن ذلك يحوّل الدولة إلى دولة توتاليتارية» (ص25)، إذ «لا يجوز إطلاق صفة الديمقراطية على ستالين لمجرد أنه كان»ثورياً» أو على هتلر لمجرد أنه فاز في الانتخابات» (ص27)، لأن هناك «وحشاً توتاليتارياً يعسّ بين التحرر والحريات» (ص 28). «وليس هناك مبدأ ذو أهمية مركزية، بالنسبة لفكرة الديمقراطية، أشد من أهمية الحد من سلطة الدولة التي ينبغي عليها احترام الحقوق الإنسانية الأساسية (ص53) وعلى رأسها حرية اختيار المحكومين لحكامهم» (ص95)، ولا وجود للديمقراطية «ما لم تكن مزيجاً من الحرية والمساواة في الحقوق» (ص101). «الديمقراطية ثقافة، لا مجرد مجموعة من الضمانات المؤسسية»(ص168)، وتفقد من معناها «إذا لم تتغلغل الذهنية الديمقراطية في جميع جوانب الحياة المجتمعية المنظمة، من المدرسة إلى المستشفى، ومن المنشأة إلى البلدة» (ص191)، و«لا يسع المرء أن يكون ديمقراطياً ما دام يؤمن بمبدأ أعلى مركزي، سواء كان هذا مشيئة إلهية أو تراثاً قومياً أو العقل أو اتجاه التاريخ» (ص195)، ولهذا يمكن القول إن «الديمقراطية والدين ينتميان إلى عالمين لا يقلان في تضاربهما عن تضارب الحداثة والتقليد»(ص224). الديمقراطية بمعناها الحديث متحدرة من شجرة عائلة، ولا وجود لها من غير الدولة. الدولة التي تحميها من غير أن تتسلط عليها. الدولة هذه متحدرة هي الأخرى من الحضارة الرأسمالية، وهنا بالضبط يكمن مأزق الأصوليات التي إن ألزمت نفسها بالعمل من داخل هذه الحضارة ستجد نفسها ملزمة بدولة هذه الحضارة، أي بالدولة الديمقراطية، ولهذا ارتأت، لحل مأزقها، أن تشن حرباً على الدولة ولا سيما على الديمقراطية في هذه الدولة، فابتكرت أساليب وطرقاً شتى أفرغت بواسطتها الديمقراطية من محتواها، إذ هي تعطي الشعب، بيدٍ، الحق باختيار ممثليه وحكامه، ثم سرعان ما تنتزعه منه باليد الأخرى، إما بالمركزية الديمقراطية المعروفة في التنظيم اللينيني، أو بالاستفتاء على مرشح وحيد بدل انتخاب واحد من بين المرشحين كما كانت الحال في سوريا البعث ومصر الناصرية وسائر الأنظمة القومية، أو في مصلحة تشخيص النظام في إيران، وهي كلها تمنح الحاكم ما يشبه حق الفيتو ضد إرادة الأكثرية إذا ما تعارضت هذه الإرادة مع توجهاته، وفيها كلها يجري تنصيب الحاكم، حتى في البلدان التي تعتمد صناديق الاقتراع، بتعيينه وفرضه من قبل الحزب الحاكم، وبإلغاء مبدأ التنافس، أي بإلغاء الخيار الحر للناخبين. قد يعترض معترض فيطرح أسئلة مشروعة: ما المعيار الذي يجعل مواصفات آلان تورين للديمقراطية هي المواصفات الصحيحة؟ ألا يمكن أن تكون مستخلصة من التجربة الأوروبية ومناسبة لها وحدها؟ أو أن تكون جزءاً من الترويج للسياسة الاستعمارية في بلادنا؟ أليس علينا أن نبتكر مواصفات للديمقراطية خاصة ببلادنا، أو أن نستحضر من تاريخنا ما يناسب تقاليدنا كالشورى في دولة الخلافة الإسلامية مثلاً؟ ربما كان الجواب على هذه الأسئلة متضمناً أعلاه في الكلام عن الحضارة الرأسمالية. فمما لا شك فيه أن كل حضارة من الحضارات العالمية تأثرت بما سبقها أو زامنها، وتركت تأثيرها في ما بعدها، في العادات والتقاليد والمعارف والمعتقدات وأساليب العيش والإنتاج. غير أن خصوصية الحضارة الرأسمالية تتمثل في كونها، دون سائر الحضارات الأخرى، حضارة كونية الطابع، وفي كونها قامت في الأساس على اقتصاد السوق، السوق التي لا تحدها حدود وطنية أو قومية أو أممية. ومن الطبيعي أن تكون هذه الحضارة قد نحت منحى التوسع والانتشار الجغرافي الذي اتخذ شكل الاستعمار في جانب منه، لكن مبتغى مشروعها من البداية هو تعميم التجربة في التصنيع وفي العلوم كما في السياسة والتواصل والاعلام، كما في الحروب، مهما كان ثمن ذلك باهظاً، ولو على حساب دماء الشعوب، مثلما حصل مع السكان الأصليين من الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأميركية. لقد مضت هذه الحضارة كالسيل الجارف، فوقعت شعوب أوروبا وأميركا، في البداية، ضحايا حروب أهلية داخل القارة، إما بسبب التنافس بين الرأسماليات والقوميات الأوروبية، إما بسبب رفض شعوب أخرى، كالهنود الحمر، الدخول إلى «حلبة الحضارة». ولم تتوقف القوميات والرأسماليات الكبرى عن خوض حروبها التنافسية إلا بعد أن دفعت، مع شعوب القارات الأخرى، الثمن كبيراً جداً جداً في حربين عالميتين، لكنها استخلصت من تجاربها الدموية درساً في إدارة الأزمات، قوامه أن العنف ليس سبيلاً صالحاً لحل النزاعات، وبديله الديمقراطية والحوار بين المختلفين. قد يقول قائل إن الرأسمالية لم تعمم الدرس المستخلص على مستعمراتها التي استمرت الحروب تندلع فيها بعد استقلالها. هذا صحيح من دون شك. غير أن الدول الاستعمارية التي سبق لها أن تطاحنت قومياتها استفادت من التجربة وأوقفت لغة العنف فيما بينها. وقد يقال إنها لم تبذل جهداً لتعميم الدميقراطية يوازي جهودها لتعميم نمط الانتاج الرأسمالي، وهو قول صحيح أيضاً، لكن الحروب استمرت تنشب داخل البلدان التي رفضت الدخول إلى رحاب الحضارة الرأسمالية، إما بالانكفاء والتقوقع على ماضيها كما في مشاريع الأصوليات الاسلامية، إما بالقفز فوق الرأسمالية نحو حضارة جديدة بشر بها الفكر الاشتراكي وفرضت نفسها على الساحة الدولية على امتداد القرن العشرين، إما بإقامة توليفة سياسية جمعت فيها أسوأ ما في الرأسمالية، الاستثمار الجشع، وأسوأ ما في الأنظمة الاشتراكية والإسلامية، الاستبداد. في أنظمة الممانعة هذه تعصف حروب أهلية نعتقد أنها لن تتوقف، على ما تستشرفه فرضيتنا،) النصف الأول من استشرافنا كان صحيحاً، وقد قدمنا الأدلة في كتاب، هل الربيع العربي ثورة؟) إلا إذا استبدلت أنظمة الاستبداد القائمة فيها بأنظمة قوامها الدستور والقوانين وتداول السلطة. هذا ما بينته تجارب الانتقال إلى الديمقراطية في البلدان الاشتراكية سابقاً، وفي كل بلدان أميركا اللاتينية وإفريقيا، وكذلك في بدايات تجارب الربيع العربي. معايير آلان تورين ليست أوروبية إذن، بل هي معايير الحضارة الرأسمالية، الكونية الطابع، بعجرها وبجرها، أي بكل ما فيها من علوم ومعارف ورفاهية ووفرة وصناعة وإعلام وتواصل وتنافس وحشي بين الرساميل، وبأنظمة سياسية اختارت آخر نسخة من الديمقراطية كآلية لتنظيم التنوع والاختلاف والصراع داخل بلدانها. فماذا ستكون النتيجة لو طبقت هذه المعايير على بلداننا؟ يمكن القول، براحة ضمير علمي، إن أياً من هذه المعايير المذكورة أعلاه لا يحظى بالحد الأدنى من الاحترام في بلادنا، بل إن الأنظمة على اختلافها وأحزاب اللّه أيضاً تطبق نقيض مضامينها بالتمام والكمال. فهي تسعى إلى تفجير الاختلافات بدل تنظيمها وتأمين ظروف ملائمة لتفاعلها وتعايشها. فوق ذلك، هي لا تحتمل أي شكل من أشكال التنوع السياسي والإيديولوجي والديني والطائفي والعرقي، بل تعمل، من موقع عدم الاعتراف بالآخر، على قهر الأقليات أو التخلص منها في الحروب الأهلية، على غرار ما حصل في لبنان و سوريا والعراق ومصر والسودان. وهي تميل إلى إقامة توتاليتاريات حزبية وأنظمة تسلطية و»مقاومات طوائفية تعسّس بين الحرية والتحرر». وهي تعمل على نشر ثقافة معادية للديمقراطية، قوامها تحويل الخصومات إلى عداوات، وتخوين الآخر وإلغاؤه بالقتل أو السجن أو النفي، وهو ما يحفل به تاريخ الاستبداد الحديث، مع القائمة الطويلة الممتدة من تروتسكي إلى صهري صدام حسين المغدورين ورفاق حافظ الأسد الذين ماتوا في سجونهم المؤبدة، وسائر ضحايا الاغتيال من مفكرين، منهم مهدي عامل، الذي شكلت صداقتي معه منعطفاً في حياتي الثقافية والسياسية، كما أحدث اغتياله منعطفاً في منهج قراءتي الأحداث وكتابتي عنها وعنه؛ إلى سياسيين منهم كمال جنبلاط ورفيق الحريري وجورج حاوي، الذين قضوا ضحية رأيهم المختلف وتجرؤهم على صاحب السلطان، إلى عديدين سواهم في كل بلدان الممانعة، وما أكثر الأسماء.
الفصل الثاني الحتميات القاتلة «علمنا مهدي أن المناقشة من الموقع الواحد، وعلى أرض الفكر الواحد، شاقة شاقة» عصام الخفاجي نبدأ من المحل الشاق، من نصوص منسوبة إلى قادة ومفكرين في الحزب الشيوعي اللبناني. وهو شاق بنوع خاص لأن أصحاب النصوص أصدقاء تعلمت منهم كيف أخطو خطواتي الأولى في صفوف اليسار وفي مسيرة الثقافة الماركسية، مع تحفظ ذكرته في المقدمة وأعيد التذكير به، وفحواه أن انتماء المرء إلى الحزب الشيوعي لا يمنحه الزعم بأنه صار ماركسياً. وهو شاق بنوع أخص لأن أحد أصحاب هذه النصوص هو مهدي عامل، استاذي وصديقي ورفيقي، وأنا مدين له بالتجرؤ على الكتابة أول مرة، قبل انفجار الحرب الأهلية، نصاً في نقد مجلة شعر ورئيس تحريرها أدونيس، يوم كان الشاعر الكبير محصّنا بهالة من المهابة جعلت المشرفين على مجلة الطريق التي يديرها المكتب السياسي للحزب يمتنعون عن نشر مقالتي فيها. قد يقول قائل، ماذا عدا مما بدا لنعود، بعد ثلاثة عقود على استشهاده، إلى قراءة مؤلفاته قراءة نقدية في سياق الكلام عن الأصوليات وأحزاب الله. وللحقيقة، أنني بدأت ورشة إعادة النظر قبل ذلك بكثير، منذ لحظة اغتياله الذي أثار أسئلة تتعلق بتجربتنا الحزبية والوطنية، ولا سيما أن ذلك تزامن مع بداية أزمة الحزب واليسار والحركة الشيوعية، فكتبت ما يتجاوز الرثاء إلى رفع صوت الشكوى ملمّحاً إلى ما آلت إليه حال الحزب، (جريدة السفير، 20 - 6 - 1987) «غداة موتك اهتزت خطواتنا، وفي ما ترسّب منك في آذاننا وعلى أوتار قلوبنا نستجمع أحزاننا وأحلامنا كاليتامى بحثاً عن كلام تنضح منه الحقيقة... وإذا كنا يا حسن قد فقدنا بغيابك بعضاً من نكهة الصبر وشهية العناد، فلأن الكورس قد شرد عن اللحن، ولأن أفراد الجوقة تاهوا في ركام من عزف منفرد» عام 1994 نشرت في مجلة الطريق بحثاً طويلاً عن الأصوليات اليسارية، وفي عام 1998 أنتقلت من التلميح إلى التصريح في كلمتي أمام المؤتمر الثامن للحزب: «أيها الشيوعيون احذروا من تبشير الشيوعيين بأنهم ماركسيون، وإن فعلتم فإنكم تجعلونهم ينامون على حريرالجهل. لا تطمئنوهم إلى ماركسيتهم، بل دعوهم يقلقون عليها، حتى يدفعهم القلق إلى نبش ما في نفوسهم من قيم ومبادىء تشبه ماركس. لا تجعلوا النصوص مقدسة لكن لا تتنكروا لها أو تتراجعوا عنها أو تنقلبوا عليها، فنصوصنا كأولادنا، ليست لنا بل هي للحياة. دعوها تنمو وتكبر برعايتنا وبرعاية الحياة. تحرروا منها ودعوها تتحرر منكم حتى لا نكون عبيداً لها وأصوليين، ولطالما كنا أصوليين، ولطالما أفرطنا في أصوليتنا.» ثم إلى النقد في تكريمه في الذكرى السنوية لاغتياله، عام 2002 «حسن حمدان أصولي ماركسي بامتياز. هو مفكر ثوري أصيل بامتياز. ولئن كانت الأصولية الماركسية تشبه كل أصولية، بما هي عودة إلى أمهات الكتب لفك رموز الحاضر، غير أن أجتهاد مهدي في الحقل السياسي أنتج نظرية نمط الانتاج الكولونيالي، على غرار اجتهاد سمير أمين المتعلق بالتطور اللامتكافئ في حقل الاقتصاد، واجتهادات سواهما على صعد أخرى، وهي اجتهادات تتوخى دفع عجلات التاريخ إلى الأمام، لكي تمضي البشرية نحو مستقبلها التقدمي . أما الأصوليات الأخرى، بما في ذلك أصوليات ماركسية، فهي تمضي في شد التاريخ إلى الوراء.» (جريدة السفير18-5-2002) من الواضح أن منسوب الشكوى بدأ باكراً وأخذ يتصاعد مع نمو القراءة النقدية للتجربة. شكوى؟ ممن؟ شكوى منه وعليه وعلينا نحن، عائلته وأصدقاءه ورفاقه وحزبه. فقد بات معروفاً أنه هو الذي حمل إلى عائلته خبر اغتياله منشوراً في صحيفة، وأصر على ألّا يحمي نفسه من موت معلن، وعلى ألّا يغادر «لأنها البداهة في ضرورة أن يكون المثقف ثائراً، أو لا يكون، وفي ضرورة أن تكون الثقافة للفرح الكوني ضد كل ظلامية، أو لا تكون» (محاضرة منشورة بصوته على الأنترنت). ولأن البداهة تقول بتلازم المعرفة والثورة، في نظره، تلازماً لا يساويه تلازم الجفن والعين(فيصل دراج، مجلة الطريق، عدد 5-6 - 1988ص82)، ما ألزم هذا المفكر الثوري بالمواجهة حتى لو كانت غير متكافئة بين القلم وكاتم الصوت. شكوى بل صرخة مكتومة استبطنت أسئلة ليست كتلك التي تطرحها أجهزة الأمن والمباحث الجنائية لمعرفة هوية القاتل والجهة التي ينتمي إليها، بل أسئلة سياسية وجدانية نطرحها، نحن أهله ورفاقه وحزبه، عن حصتنا من المسؤولية عما إذا كان وكنا شركاء، من حيث لا ندري، عن عملية اغتياله. وهي ليست من نوع التشكيك أو الاتهام أو التخوين، بل هي بحث في البراكسيس النظري والسياسي، الأثير على منهجه في التفكير، وعلى منهج النقد والنقد الذاتي في الحزب. سيل من الأسئلة احتشد في عقولنا: لماذا مهدي بالذات، ولماذا في هذا الوقت بالذات؟ لماذا لم يعمل ولم نعمل على تأمين حمايته ؟ لماذا لم يهاجر؟ لماذا لم يتخفّ؟ هل قُتل بسبب أفكاره؟ وهل أفكاره هي ملكه أم هي من الأملاك العامة الحزبية؟ هل هذا هو مصير كل مثقف ماركسي؟ ما مسؤوليتنا نحن، المريدين والمعجبين والمروجين لأفكاره على المنابر؟ هل نتحمل جزءاً من المسؤولية في لفت الأنظار إلى «خطورة» أفكاره؟ هل كان يمكن تفادي موته؟ هل كان ضرورياً أن يوظف «مغامرته» الفكرية في معركة التغيير؟ هل كانت الظروف ملائمة حقاً للتغيير الثوري؟ هل كان ضرورياً أن ننخرط في هذه الحرب منذ البداية؟ إلى آخر سلسلة الأسئلة التي ظاهرها تعبير عن ألم، وباطنها بحث عن حقيقة توهمناها جلية في إجابات مهدي الحاسمة والقاطعة على كل الأسئلة، لكنها إجابات تنطوي على غموض يختصره مهدي بلازمته المعروفة عن الحرب وأزمة «البرجوازيات العربية» وأزمة حركة التحرر الوطني قيادة وبديلاً: إنها طويلة طويلة أكثر مما تتصورون. اغتيال كمال جنبلاط لم يكن كافياً لتبديد الغموض. فقد اعتقدنا، نحن العامة من المناضلين، أن قائد الحركة الوطنية ذهب ضحية اختلاف على نهج المواجهة مع العدو الخارجي، غير أن اغتيال مهدي وضعني وجهاً لوجه أمام حقيقة مؤلمة، وهي أن الحروب الداخلية أكثر خطراً على الوحدة الوطنية من أي عدو خارجي، وأنها المولود الطبيعي لسياسة الاستبداد الشامل، استبداد الأنظمة بالأحزاب والأحزاب والميليشيات بالشعوب. ثم صارت الإجابة أكثر إيلاماً بعد أن دخل الحزب والحركة الشيوعية مرحلة «زمان القطع»، بتعبير مهدي، من أزمة عميقة الجذور. كان من الطبيعي أن تتفاوت الإجابات على السؤال ذاته بين المراحل، إذ لا يمكن أن تكون الإجابة هي ذاتها في لحظة كان فيها الاتحاد السوفياتي في ذروة نفوذه العالمي والحزب الشيوعي اللبناني في قمة دوره القيادي المحلي، أو في مرحلة الأزمة، أو غداة انفجارها وبعد انهيار المنظومة الاشتراكية وحركة التحرر العربية والحركة الوطنية اللبنانية؛ ومن الطبيعي أيضاً أن تكون عقود ثلاثة كافية لتستقر الإجابات على أعلى قدر من الموضوعية، ولهذا تدرجت الجرأة في النقد من إشارة وتلميحات إلى فرضية متكاملة أعادت النظر بالبراكسيس النظري والسياسي الذي تعلمناه من مهدي، إلى الحد الذي بتنا معه مقتنعين بأن من واجبنا القيام بما كان سيقوم به هو بالتأكيد، فيما لو بقي حياً، رغم اقتناعنا الراسخ بأن مهدي هو الأقدر والأجدر والأولى والأكثر جرأة منا للقيام بعملية النقد والنقد الذاتي، وذلك انطلاقاً من «أن الأفكار التي بلورها مهدي، مثل كل الأفكار العظيمة، لم تعد ملكه، وأن أفضل طريقة لإبقاء الأفكار العظيمة حية هي مناقشتها» (عصام الخفاجي، مجلة الطريق، كانون الأول 1988، ص127) لئن كنت أزعم أنني أشرت إلى الأزمة أكثر من مرة وحاولت أن أقدم إجابات غير مكتملة على هذه الأسئلة الصعبة، فإن ورشة القراءة النقدية لأفكار مهدي عامل كانت قد بدأت، في الحقيقة، غداة اغتياله وشارك فيها عدد من كبار المفكرين الماركسيين، تولت نشر أبحاثهم دار الفارابي ومجلة الطريق التي أصدرت عدداً خاصاً في كانون الأول من العام 1988، شارك فيه، تكريماً لمهدي، عدد من أصدقائه ورفاقه اللبنانيين والعرب؛ ونقداً لأفكاره، كلٌّ من هادي العلوي وفالح عبد الجبار وفيصل دراج وعصام الخفاجي ورفعت السعيد وماهر الشريف وعبد الإله بلقزيز وفيصل دراج وأحمد بعلبكي وغيرهم. لن أكرر ما قاله هؤلاء الأساتذة الكبار في نقد مهدي عامل، لكنني سأستفيد من أبحاثهم في دعم فرضياتي عن الاستبداد وأولية التناقض الداخلي وتصنيف الحزب الشيوعي في خانة أحزاب الله. وسأركز بحثي على الجانب المتعلق بموضوع الكتاب، أي بالأسس الفكرية-السياسية (البراكسيس) في كتابات مهدي والقادة الحزبيين الآخرين التي تبرر هذا التصنيف.
1 ــ الحتميات اليسارية تتكرر في نصوص مهدي مفردات وعبارات يقينية مبنية على مسلّمات سوفياتية الأصل، تحولت على يده إلى «بداهات» ديكارتية لا يرقى إليها شكّه. غير أن الوقائع والأحداث التي تزامن فيها موته مع انهيار التجربة الاشتراكية خلخلت تلك اليقينيات وكل البناء الفكري السياسي الذي شيدته الحركة الشيوعية عليها. تقول المسلّمة السوفياتية الأم بأن «ثورة أكتوبر دشنت العصر الذي سمته الأساسية هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية» (يمكن العثور على هذه العبارة أو على ما يوازيها في كل وثائق الحزب الشيوعي اللبناني الصادرة عن مؤتمراته من الثاني حتى التاسع، أي ما بين 1968 و1992 والعبارة هنا وردت في الصفحة العاشرة من تقرير عن النقاشات التحضيرية التي جرت داخل الحزب والتي شارك فيها مهدي وانتخب على أساسها عضواً في اللجنة المركزية). النقاشات في الاتحاد السوفياتي كانت تدور حول توقيت الانتقال إلى الشيوعية، انطلاقاً من أن مهمة بناء الاشتراكية هناك أوشكت على بلوغ منعطفها التاريخي، فيما وجدت الأفلاك التابعة للكوكب الاشتراكي نفسها أمام ثورة انتقالية التحاقية، «متخلفة» عن تلك التي أنجزتها قيادة الثورة في موسكو، انطلاقاً من «الحقيقة» الثابتة في الأدبيات الستالينية، أي من المسلّمة القائلة بأن السمة الأساسية لهذا العصر هي سمة الانتقال إلى الاشتراكية، السمة التي شحنت مصطلحات الثورة والديمقراطية والدولة، في بلدان العالم الثالث، بمدلولات جديدة، بتميّز من داخل الكونية، بحسب تعبير مهدي عن «التميز والكونية في الماركسية اللينينية» الثورة في بلادنا لا تحمل معنى الانقلاب الجذري على البنية السياسية الاجتماعية الاقتصادية الثقافية، فهي ثورة انتقالية، وهي «في ضوء ما هو متعارف عليه في الحركة الشيوعية والعمالية، وفي ضوء التعريف اللينيني، ثورة وطنية ديمقراطية، تشكل مرحلة تاريخية انتقالية جديدة ومعقدة، تفصل بين نظامين اجتماعيين متناقضين، متناحرين: النظام الرأسمالي الذي أصبح هو النظام السائد، كعلاقات إنتاج على الصعيد العالمي، وفي كل دولة غير اشتراكية، أية كانت الأشكال الخاصة لهذه العلاقات ولهذا النمط من الانتاج، من جهة، والنظام الاشتراكي الذي يتجه إليه سير التطور التاريخي العام، في عصرنا، من جهة أخرى»(م.ن، ص10-11). وكان الحزب قد حدد معنى الثورة الوطنية الديمقراطية في مؤتمره الثاني عام 1968(في هذا العام باشر مهدي عمله في التعليم في لبنان وانخرط في الحزب الشيوعي من باب النضال الإيديولوجي)، بصفتها ثورة تؤدي إلى «قيام الحكم الوطني الديمقراطي الذي يفسح في المجال للانتقال إلى الاشتراكية» م.ن.ص11) في الأممية الثالثة توزعت المهمات. للاتحاد السوفياتي منها ثلاث: قيادة الثورة الاشتراكية والتحضير للانتقال إلى المرحلة الشيوعية ومواجهة الأمبريالية الأميركية، ولأحزاب البلدان الرأسمالية التحضير للثورة البروليتارية، أما حركات التحرر في بلدان العالم الثالث فعليها واجب القيام بثورتها، الثورة الوطنية الديمقراطية، التي هي بالتعريف اللينيني- الستاليني، مرحلة تمهيدية تفسح في المجال للانتقال إلى الاشتراكية. وفي جميع هذه المهمات والبلدان تكون القيادة معقودة اللواء للحزب الطليعي، الحزب الشيوعي، حزب الطبقة العاملة، على أن يتشكل من جميع هذه القوى، حركات التحرر والأحزاب الشيوعية في البلدان الرأسمالية والمعسكر الاشتراكي، تحالف سياسي بقيادة الاتحاد السوفياتي لمواجهة معسكر الأمبريالية والرجعيات المحلية، وتضاف إليها الصهيونية في عالمنا العربي. الثورة الوطنية الديمقراطية تشكل حيز التمايز العالمثالثي في إطار الكونية الأممية، وهي خاصة «بالبلدان المستعمرة أو شبه المستعمرة» بحسب التعبير المتداول في الأدبيات الشيوعية، والمعتمدة لدى الأحزاب الماركسية دليلاً عملياً على حسن انخراطها في التحالف الدولي بقيادة الاتحاد السوفياتي. غير أن هذا الشعار لم يكن سهل التطبيق، لأن الظروف التي طرحه فيها لينين لم تكن هي ذاتها في كل بلدان العالم، ذلك أن الصيغة الأولى من الاستعمار المباشر، أي الاحتلال، كانت قد بدأت تتفكك في الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين، بعد ولادة الشعار، ما جعله يبدو غير ذي جدوى في البلدان التي نالت استقلالها، وما جعل «الثورة الوطنية» تبدو كأنها ليست لخدمة الشعوب المحررة والأوطان المستقلة، طالما أنها أنجزت تحررها واستقلالها، بقدر ما هي حاجة سياسية وعسكرية تخدم مصالح المعسكر الاشتراكي، بقيادة الاتحاد السوفياتي، في مواجهة المعسكر الرأسمالي، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ما خلا بلدين اثنين في العالم العربي، تونس والجزائر، استمر الاحتلال فيهما إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. أما البلدان الأخرى فلم تكن مستعمرة ولا شبه مستعمرة، بل هي موسومة بالطرفية (سمير أمين) أو بالتبعية(الأحزاب الشيوعية) أو بالكولونيالية (مهدي عامل). (راجع ما ورد أعلاه في مقدمة الكتاب عن الاستعمار). لم يتطابق تمايز المهمة الثورية (ثورة وطنية ديمقراطية) مع تمايز الظروف المحلية، لأن العدد الكبير من البلدان استقلت بفعل ضغوط الحرب ونتائجها على القوى الاستعمارية، وربما بضغط أيضاً من الاتحاد السوفياتي، فتم استبدال الاحتلال المباشر للمستعمرات بإدارتها عن بعد عبر آليات السيطرة الاقتصادية. غير أن الأصوليات اليسارية رأت أن عدم التطابق هذا ناجم عن كون الواقع السياسي الملموس، لا النظرية، هو المسؤول عن «الانحراف-الانزياح» عن النص «المقدس»، فلجأت إلى التشكيك بالاستقلال لتبرر صحة الشعار اللينيني المتعلق بالتحرر الوطني والثورة الوطنية الديمقراطية. ومن المفارقات الفاقعة أن الحزب الشيوعي اللبناني، على سبيل المثال، يذكّر سنوياً، خلال الاحتفالات بالعيد الوطني، بانخراط الشيوعيين وتضحياتهم في معركة الاستقلال الوطني اللبناني، ثم يعود بعدها إلى ترداد الشعار النضالي، الاستقلال يؤخذ ولا يعطى، في إشارة إلى أن استقلال لبنان كان منّة من الانتداب الفرنسي. لم يكن التشكيك كافياً ولا مقنعاً، وكان لا بد من تأويل النظرية لتتوافق مع مهمات التحرر الوطني، فظهرت نظرية فك التبعية ونظرية المركز والمحيط ونظرية المتروبول والأفلاك، ونظرية الاقتصاد المتمحور على الذات ونظرية الاستقلال الاقتصادي(عن الاقتصاد الرأسمالي)، وقد وضعت كلُّها على محك التجربة النظرية، على امتداد عقود. غير أن انهيار الاتحاد السوفياتي هو الذي أثبت فشلها العملي، حين تأكدت بسقوطه استحالة الحل الاشتراكي ضمن المعطيات والظروف التاريخية الراهنة، أي استحالة الخروج من الحضارة الرأسمالية قبل بلوغها حدودها التاريخية غير المرئية في المدى المنظور. مفهوم نمط الانتاج الكولونيالي الذي أطلقه مهدي عامل يندرج في سياق هذه التأويلات التي حاولت أن تطابق نظرية التحرر الوطني مع الأوضاع الملموسة في بلدان العالم الثالث؛ أو هو محاولة لإنتاج نظرية عن التخلف، لتفسير التخلف بالاستعمار، أي أنه يحيل التخلف إلى عوامل خارجية، فهو يقول: «إن الاستعمار أوجد اختلالاً جذرياً في البنية الاقتصادية للبلدان التي تمت عليها سيطرته. فالرأسمالية، بربطها البلدان المستعمرة بحركة تجارتها الخارجية، استطاعت أن تحدث في نظام الإنتاج السائد في هذه البلدان تفككاً داخلياً (مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، القسم الثاني، في نمط الانتاج الكولونيالي، دار الفارابي، 1976، ص242). تأكيداً منه على دور العامل الخارجي، أعاد صياغة الفكرة في مكان لاحق، قائلاً «أن الاستعمار يظهر لنا كنتاج تايخي لصدام عنيف بين ضرورة تطور تكمن في صيرورة المجتمع الرأسمالي وإمكانية تطور تكمن في صيرورة مجتمع ما قبل الرأسمالية، ولقد تم تحقيق هذه الضرورة بسد أفق هذه الإمكانية» (م. ن. ص251). وفي تفاصيل هذا الصدام يقول مهدي: «إن الوحدة البنيوية والتاريخية بين الانتاج الكولونيالي والانتاج الرأسمالي تجعل من تطور الأول كإنتاج كولونيالي شرطاً أساسياً للثاني وفي الوقت نفسه نتيحة له، وتجعل تطور الثاني أساساً لبقاء الأول وفي الوقت نفسه نتيجة له»(م. ن. ص213) اعتراض أول على هذا التحليل نقدمه في صيغة تساؤل: كيف يمكن أن نفسر، بمنطق التحليل ذاته، انتقال المجتمعات الرأسمالية الأولى، أي الفرنسية والإنكليزية والهولندية وسواها، من إمكانية صيرورتها رأسمالية إلى ضرورة صيرورتها رأسمالية، من غير أن تؤدي الضرورة إلى سد أفق الإمكانية؟ نجيب على السؤال بالقول إن الحضارة الرأسمالية قامت على «أنقاض المجتمع الإقطاعي المتداعي» بحسب تعبير البيان الشيوعي، وأن العوامل الداخلية المتمثلة بحلول المانيفاتورة محل المشغل الحرفي في الصناعة، وحلول الصناعيين المتوسطين محل أصحاب المشاغل الحرفية، كانت أسبق في تأثيرها على تحويل الإمكانية إلى ضرورة من العوامل الناجمة عن التوسع الرأسمالي نحو المستعمرات. اعتراض ثان مفاده أن تعميم التجربة الرأسمالية بدأ في داخل أوروبا ولم يحل تخلف بعضها من انخراطها في الحضارة الرأسمالية بالاستناد دوماً إلى قانون تفاوت التطور، كما أن تجربة اليابان تؤكد إمكانية عدم وقوع بلدان الحضارة الإقطاعية غير الأوروبية تحت السيطرة الاستعمارية. وكذلك تؤكد تجربة النمور الآسيوية، الحديثة العهد نسبياً، والتجربة الصينية من بعدها، أن العلاقة الكولونيالية البنيوية ليست قدراً يستحيل رده، وأن حل التناقض المأزقي، بحسب تعبيره، لا يكون بهدم تلك العلاقة والانتقال إلى الاشتراكية، خصوصاً بعد أن اختارت الصين الانتقال من الاقتصاد الموجه إلى ما أطلق عليه اقتصاد السوق الاشتراكي. نعترض ثالثاً على تحليل مهدي الذي يقرر أن الإنتاج الكولونيالي شرط أساسي لتطور الإنتاج الرأسمالي متجاهلاً القانون الأساس في الماركسية، أي الصراع الطبقي، والمبادئ الأولية في المادية التاريخية الواردة في البيان الشيوعي، ومن نافل القول إن مهدي يعرفها جيداً، ومنه تعلمنا دروسها الإبتدائية، لكن من المفيد، لتفنيد اعتراضاتنا، أن نقتبس العبارات الأولى في البيان الشيوعي التي تؤكد على أن الصراع الداخلي بين الطبقات هو الذي يصنع تاريخ الشعوب. ورد في بداية البيان: «إن تاريخ أي مجتمع، حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية. حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع، وبكلمة، ظالمون ومظلومون، في تعارض دائم، خاضوا حرباً متواصلة، تارة معلنة وطوراً مستترة، حرباً كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، إما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين» «... ففي روما القديمة كان ثمة نبلاء وفرسان وعامة وعبيد، وفي القرون الوسطى أسياد وإقطاعيون ومقطعون، ومعلمون وصناع وأقنان...» والمجتمع البرجوازي العصري الذي قام على أنقاض المجتمع الإقطاعي... » فاكتشاف أمريكا و الطواف البحري حول إفريقيا أوجد للبرجوازية الناشئة مرتعا جديدا. إن سوق الهند الشرقية والصين، واستعمار أمريكا، والتبادل مع المستعمرات، وازدياد وسائل التبادل، والسِّلع عموما، وفرت للتجارة والملاحة والصناعة دفعاً لم يسبق له مثيل، وبالتالي وفرت نمواً سريعاً للعنصر الثوري في المجتمع الإقطاعي المتداعي و مع الأسواق الجديدة لم يعد نمط الإنتاج الإقطاعي أو المشغل الحرفي في الصناعة يسدُّ الحاجة المتنامية، فحلّت المانيفاتورة محل هذا النمط، و أزاح الصناعيون المتوسطون أصحاب المشاغل الحرفية، وزال تقسيم العمل بين الجمعيات الحرفية المختلفة أمام تقسيم العمل في الورشة الواحدة. بيد أن الأسواق كانت تـتسع و الطلب كان يزداد باستمرار فأمست المانيفاتورة عاجزة بدورها؛ و عندئذٍ، ثوَّر البخار و الآلة الإنتاج الصناعي، و حلت الصناعة الكبيرة الحديثة محل المانيفاتورة، و حل الصناعيون أصحاب الملايين، أساطين جيوش صناعة بأكملها أي البرجوازيون العصريون محل الصناعيين المتوسطين... و الصناعة الكبيرة أوجدت السوق العالمية التي مهد لها اكتشاف أمريكا. والسوق العالمية أنمت، بما لا يُـقاس، التجارة والملاحة والمواصلات البرية. وهذا النمو أثّر بدوره في توسيع الصناعة، فبقدر ما كانت الصناعة والتجارة والملاحة والسكك الحديدية تتوسع، كانت البرجوازية تتطور، وتُـنمّي رساميلها، و تدفع إلى المؤخرة بكل الطبقات الموروثة عن القرون الوسطى و هكذا نرى كيف أن البرجوازية العصرية نفسها، هي نتاج مسار تطور طويل، وسلسلة تحولات في نمط الإنتاج و المواصلات.» وصولاً إلى قوله عن البرجوازية أنها لعبت في التاريخ دوراً ثورياً بارزاً» استناداً إلى نص البيان الشيوعي، نسوق اعتراضاً رابعاً مفاده أن التحولات الثورية في المجتمع، تنجم دوماً عن حروب متواصلة، معلنة أو مستترة، تخوضها الطبقات داخل المجتمع، أي أنها حروب بين الطبقات، داخل المجتمع الواحد. غير أن التأويل السوفياتي لمفهوم الصراع الطبقي تعمم على أحزاب الأممية الثالثة، ومنها الحزب الشيوعي اللبناني، فصار يعني صراعاً عالمياً بين الرأسمالية كحضارة والدول الأخرى التي لم تكن قد دخلت بعد في حلبة هذه الحضارة. والحقيقة الثابتة هي أن أحد طرفي الصراع الطبقي في القرون الوسطى، وهو ما يعنينا هنا، هم الإقطاعيون، وأن الصراع انتهى بانتصار البرجوازية التي قامت بدور ثوري بارز. إن هذا الكلام، معطوفاً على عبارة أخرى في مكان آخر من البيان تقول إن الثورة البرجوازية قادرة على أن تسحب أكثر البدان تخلفاً إلى حلبة الحضارة، لم يحدد ما إذا كان الدور الثوري للبرجوازية محصوراً داخل البلدان الرأسمالية، بل على العكس، هو يعني أن البرجوازية قادرة، أينما حلت، على إدخال المجتمع إلى حلبة الحضارة. قد نجد من يعترض على هذا الاستنتاج بالقول إن نظرية مهدي عامل لحظت تميّز دور البرجوازية الكولونيالية عن دور البرجوازية الاستعمارية، واستدرك احتمال الاعتراض على تأويله، فناقش هذا الاعتراض الافتراضي مستنداً إلى نص آخر لماركس مقتبس من كتاب رأس المال، لا من البيان الشيوعي، وفيه تفصيل لآليات النشاط الاقتصادي الرأسمالي في البلدان المستعمرة ماذا يقول نص ماركس وماذا يقول تأويل مهدي؟ يحكي نص ماركس المقتبس من كتاب الرأسمال، الكتاب الأول، الجزء الثاني، الطبعة الفرنسية، باريس، المطبوعات الاجتماعية (يشدد مهدي على أنه يرجع دائماً إلى النص الفرنسي) عن تأثير التجارة الخارجية على طرفي العلاقة الكولونيالية، المستعمِر والمستعمَر، فيقول: «الصناعة الميكانيكية تحوّل الأسواق الأجنبية بالقوة إلى حقول إنتاج للمواد الخام التي هي بحاجة إليها... إن تقسيماً جديداً عالمياً للعمل، فرضته المراكز الرئيسية للصناعة الكبرى، يحوّل بهذه الطريقة قسما من الكون إلى حقل إنتاج زراعي للقسم الآخر الذي يصير فعلاً حقل إنتاج صناعي»(ص131-132)... كما أن اتساع التجارة الخارجية التي كانت في بدء نظام الانتاج الرأسمالي قاعدة له، صارت نتيجةً لهذا النظام، بفعل تقدم الإنتاج الرأسمالي (ص250) ماذا يحمّل تأويل مهدي النص ما قد لا يحتمل؟ يقول التأويل «يمكننا القول بأن الوحدة البنيوية والتاريخية بين الإنتاج الكولونيالي والإنتاج الرأسمالي تجعل من تطور الأول كإنتاج كولونيالي شرطاً أساسياً للثاني وفي الوقت نفسه نتيجة له» (مهدي عامل، نمط الانتاج الكولونيالي، ص213). . لكن الأهم هو استدراك على الاستدراك إذ يقول: «أننا (مهدي عامل) «واعون تماماً للمخاطرة التي نقوم بها في محاولة تحليلنا لنصوص ماركس، وهي أن نحمّل النص ما قد لا يستطيع أن يحتمله، أو بالأحرى ما قد لا يحتمله»(م.ن.ص211) ثم يضيف: «كيف يكون الإنتاج الكولونيالي، إذن، من الوجهة التاريخية، قاعدة للإنتاج الرأسمالي مع أنه في الحقيقة أي تاريخياً، نتيحة له ولأعلى مراحل تطوره؟ يظهر أن في هذا النص التباساً أو في التأويل تحريفاً»(م.ن.ص213). يستبعد مهدي التحريف ويشرح الالتباس الناجم عن أن نص ماركس يتناول دور التجارة الخارجية وعلاقتها بالنظام الرأسمالي فيرى(مهدي) فيها «قاعدة لهذا الانتاج في بدء هذا الانتاج، والدليل على ذلك استعماله لعبارة في البدء». ثم يميز بين ثلاثة أطوار مرت بها الرأسمالية، طور تكونها التاريخي وطور تطورها الداخلي وطور تكاملها. لماذا وقع اختيار مهدي على نص من الرأسمال لا على نص من البيان الشيوعي، مع أنهما يعالجان المسألة ذاتها؟ ربما لأن العودة إلى كتاب الرأسمال، عند الكلام عن «نمط الانتاج»، أي عن العلاقة الاقتصادية في الكولونيالية، هي أكثر جدوى وأكثر دقة، في نظره، من العودة إلى البيان الشيوعي الذي يغلب عليه طابع التحليل السياسي والتاريخي، فيما هو يحتاج إلى تحليل اقتصادي تتلائم مفرداته مع حقل المصطلحات المتعلقة بنمط الإنتاج. نستعين ببحث عصام الخفاجي لنختار مفردات «اقتصادية» تصلح لتعريف نمط الإنتاج الرأسمالي: «الشرط الأساسي المميز للقول بأن الرأسمالية تسود إنتاج بلد ما، وبدونه لا يمكن الحديث عن سيادة الرأسمالية، هو الفصل الفعلي المعمّم للمنتجين عن وسائل الإنتاج، ووجود رأسمال في صورة نقود، والتقاء هذين في صورة شراء لقوة العمل، أي تحويل قوة العمل بصورة عامة إلى سلعة» (مجلة الطريق،م.س.ص154). السؤال الذي يطرح نفسه على ضوء هذا التعريف هو التالي: إذا ما سلك بلد من البلدان هذا الطريق الانتقالي من نمط إنتاج سابق على الرأسمالية إلى نمط إنتاج رأسمالي، فهل يفعل ذلك خدمة لمصالح الإمبريالية أم أن حاجة المجتمع إلى التطور هي التي تدفعه إلى تفكيك علاقات الإنتاج القديمة لبناء علاقات إنتاج جديدة؟ إن تجربة محمد علي باشا تبين أن الحملة الفرنسية لم تشكل إلا حافزاً على تفكيك العلاقات القديمة، ابتداء بالثقافة وبالبعثة العلمية إلى فرنسا ثم بالإصلاح الزراعي وشبكات الري ثم بمصانع الحديد والصلب ومعامل القطن، واستمرت مصر حوالي ثلاثة أرباع القرن تطور نفسها من غير تدخل إمبريالي مباشر، باستثناء مساعي الرأسمالية الحثيثة لتقصير خطوط الملاحة مع الشرق من خلال شق قناة السويس. غير أن اللافت هو أن مهدي لا يقدم أي تعريف اقتصادي لنمط الانتاج الكولونيالي على امتداد الكتاب (راجع بحث عصام الخفاجي في مجلة الطريق، م.س. ص145، حيث يقول عن مهدي: «لا نجد عنده تحديداً لمعنى التبعية ولا إشارة إلى العنصر المميز للرأسمالية، ولا لنمط الإنتاج، الذي يستخدمه مرة باسم نظام إنتاج كولونيالي وأخرى باسم نمط إنتاج كولونيالي»، ما يعني أن الدلالة الاقتصادية للمصطلح لم تكن تعنيه بقدر ما كانت تهمه الدلالة السياسية، ولهذا استعمله بمعناه السياسي ووظفه توظيفاً سياسياً ليدفع الصراع، بتحليل منطقي متماسك، لكن بمنطق صوري، إلى النهاية المأمولة في الترسيمة الماركسية اللينينية، إلى الحل الذي لا حل غيره، ألا وهو هدم النظام الكولونيالي بالثورة لإقامة النظام الاشتراكي، والمقصود بذلك، القبض على السلطة، تمثلاً بشعار لينين، غداة الثورة: كل السلطة للسوفيات. ولو كان يقصد الجانب الاقتصادي لاستذكر خطة لينين الاقتصادية بعد الثورة، النيب، (السياسة الاقتصادية الجديدة) التي طالبت البرجوازية بأن تقوم بالدور الاقتصادي الذي لا تقوم به طبقة سواها. من هنا يمكن القول أنه كان أولى بمهدي أن يستند إلى السياسة والتاريخ في البيان الشيوعي، لا إلى الاقتصاد في الرأسمال، فيتفادى مخاطر التأويل، لأن الفكرة في البيان لا تحتاج إلى تأويل، إذ يقول ماركس عن الاستعمار أنه «أوجد للبرجوازية الناشئة مرتعاً جديداً، ووفر للتجارة والملاحة والتجارة دفعاً لم يسبق له مثيل، ونمواً سريعا للعنصر الثوري في المجتمع الإقطاعي»، أي أن الاستعمار لم يخلق للبرجوازية مرتعاً أول، بل أوجد «مرتعاً جديداً»، ووفر لها دفعاً - بعد أن كانت قد انطلقت من قبل- كما وفر لها نمواً سريعاً، بعد أن كان نموها، الموجود أصلاً، بطيئا. هذا ما يؤكد قولنا في المقدمة أن الاستعمار هو شكل طبيعي من تطور الرأسمالية وتوسعها الأفقي، وهو لا يكون إلا نتيجة لهذا التطور وليس سبباً له. قد نجد في نظرية مهدي رداً قوامه أنه قصد مرحلة تطور الرأسمالية لا مرحلة تكونها. لكن مهدي يعرف حقيقة أخرى، وهي أن مرحلة تكوّنها في البلاد المستعمرة أي ذات النمط الكولونيالي للإنتاج تتزامن مع مرحلة تطورها في بلاد المنشأ، وبالتالي فإن علينا أن نطبّق، في دراسة هذا النمط من الإنتاج الجديد، وهو نمط رأسمالي، قوانين الصراع الطبقي ذاتها، التي حددت الصراع بين برجوازية ناشئة، ومستقوية بالتوسع الأفقي للرأسمالية، وبين طبقة من الإقطاعيين، أو بالتعبير الإقتصادي، التناقض بين نمط إنتاج زراعي ونمط إنتاج رأسمالي، لم يكن التبادل التجاري مع المستعمرات سبباً، بل حافزاً على ولادته. هناك فارق كبير جداً إذن بين أن يكون العامل الخارجي، أي الاستعمار في ما يخص موضوع بحثنا، هو السبب في نشوء الرأسمالية في البلدان المستعمرة أو أن تكون نشأتها نتيجة فعل العوامل الداخلية، وأن يقتصر دور الأول على تسريع عملية الانتقال من المرحلة الإقطاعية إلى المرحلة الرأسمالية. إننا نخالف مهدي الرأي معتقدين بأن عملية الانتقال سلكت الآليات ذاتها، في الرأسماليات الأولى كما في البلاد الكولونياية، أخذاً بالاعتبار تفاوت التطور وخصوصيات كل بلد من البلدان الطرفية، وهي تقضي بتفكيك وتقويض علاقات الانتاج التي تعتمد بشكل أساسي على الزراعة وتحويلها إلى اقتصاد صناعي، استناداً إلى الترسيمة الأوروبية ذاتها واقتداء بها وتأثراً بها، بالعنف أو بالحسنى: تحولات اقتصادية مترافقة مع ثورة ثقافية وتقدم علمي ومكتشفات جديدة وآلات ومطبعة وصحافة وأكاديميات؛ من المكوك وتطوير صناعة النسيج وصناعة الألوان وعلوم الكيمياء وعلوم الفيزياء والميكروسكوب والتلسكوب وصناعة المسننات ومحاور الحركة(axes) والساعات...»طريق واحدة وعناصر واحدة، العقل، العلم، المعرفة، الصناعة، المواصلات والاتصالات واختصار المسافات، عناصر تكاملت الثورة فيها ضمن علاقة جدلية بين أطرافها» (راجع محمد علي مقلد، هل الربيع العربي ثورة، منشورات ضفاف، 2015، ص17-18). ولا نظن أن هناك مجتمعاً واحداً في العالم استغنى عن هذه الأبواب عند دخوله إلى الحضارة الرأسمالية. يلتقي مفهوم نمط الانتاج الكولونيالي مع شعار الثورة الوطنية الديمقراطية على تحميل الاستعمار مسؤولية التخلف، وكأني ببعض مفاهيم مهدي عامل تتحدر من أصول لينينية فيما يتحدر بعضها الآخر من أصول ماركسية، ذلك أن إضافة «الشعوب المضطهدة» على شعار «يا عمال العالم اتحدوا» هي اجتهاد سياسي، باللغة الفقهية، أو شكل من أشكال التأويل لنظرية الصراع الطبقي. هذا هو بالضبط ما قصده مهدي في كلامه على الممارسة النظرية، أي نقل الفكرة من مستواها الفلسفي إلى مستواها التطبيقي، ودائماً على الصعيد النظري. غير أن مهدي اللينيني في موقفه من الاستعمار عاد إلى ماركسيته عندما رفض أن تشكل الثورة الوطنية الديمقراطية انتقاصاً من الثورة الاشتراكية، ولهذا مضى في تأويلاته المتطرفة، أي الحادة والحاسمة والحازمة والجازمة، ليسوّغ رفضه المرحلة الانتقالية في الثورة، ويوفر تبريراً نظرياً لاختلافه مع الحزب الشيوعي على استراتيجية التغيير واتفاقه معه على البرنامج التكتيكي، إذ ليس يهم في هذه الحالة أن يخلص في تحليله إلى أن الحل الوحيد لمأزق العلاقة الكولونيالية هو الثورة الاشتراكية، وأن يخلص الحزب إلى حل آخر قوامه الثورة الوطنية الديمقراطية التي تفسح في المجال للأنتقال إلى الاشتراكية . لهذا، بدل أن يعلن افتراقه عن الشعار وعن الحزب، عمد إلى صياغة توليفة نظرية أخرى تجمع الثورتين معاً في ثورة واحدة، وتبقيه على التزامه ببرنامج الحزب، وإن تعارضا في تأويل الأسس النظرية لهذا البرنامج. فيقول في كتابه، نمط الانتاج الكولونيالي: «يتحدد التحرر الوطني بالضرورة كتحويل لعلاقات الانتاج الكولونيالية، فوجود الامبريالية، بالنسبة للبلدان المستعمرة، يكمن في وجود علاقات الانتاج هذه بالذات. لذا كانت عملية التحرر الوطني، من حيث هي بالضرورة عملية الصراع الطبقي الخاصة ببنية هذه العلاقات الكولونيالية، هي نفسها عملية الانتقال إلى الاشتراكية» (م. ن. ص111) شعار»الاشتراكية هي الحل» يشبه، من حيث الشكل فقط، شعار الإسلام هو الحل أو شعار الوحدة العربية هي الحل، أما الفوارق بينها فهي كبيرة جداً لكن ما يعنينا عند الكلام عن أحزاب اللّه هو المشترك الذي أسس لتحالف غير وطيد وتعاون غير صادق، أو لمعارك دامية بين رافعي هذه الشعارات. الحتميات، على تناقضها وتباينها، هي المشترك في منهج التفكير، يضاف إليها الاعتقاد، المشترك أيضاً، بأولية العوامل الخارجية، وتحميلها مسؤولية التخلف، وهو ما جعل أصحاب هذا المنهج يلتقون في حقل نضالي واحد لمواجهة عدو «خارجي» على الدوام، يتمثل على الكرة الأرضية بالإمبريالية أو الشيطان الأكبر، وبالرجعيات المحلية، بصفتها عميلة للأمبريالية، فضلاً عن الصهيونية والمتواطئين معها في منطقتنا العربية. ومن نافل القول أن السلطات الحاكمة عمّمت هذا المنهج من التفكير ورسخته في الوعي العام وحظرت كل فكر نقدي تحت طائلة التخوين والمحاكمة والاغتيال، وفرضت باسم الحقائق المطلقة والحتميات أنظمة تقوم على الأحكام العرفية وتمارس كل أشكال الاستبداد، ولا فرق بين أن تكون هذه الحتميات ذات أصول دينية أو ستالينية أو قومية. على هذا الأساس يكون من المنطقي الظن بأن هذا النوع من الحتميات، دينية كانت أم علمانية، هو المسؤول عن اغتيال مهدي عامل، وبهذا المعنى طرحنا التساؤل الفلسفي والسياسي، أي التساؤل غير الأمني، عن مسؤوليتنا نحن، بصفتنا ننتمي إلى مدرسة الحتميات والحقائق المطلقة ذاتها، التي قد تكون غيبية كما في الأديان أو استشرافية كما في الماركسية اللينينية الستالينية، أو شوفينية كما في الحركات القومية. إن اللغة الجازمة القاطعة في كتابات مهدي مشتقة من الحتمية التاريخية الستالينية المنسوبة زوراً إلى ماركس، وهي التي «تحيل كل مشاهدة من الواقع إلى علاقة سببية بالضرورة»(الخفاجي، م.س.ن.ص169). لكن المفاهيم المتعلقة بالتبعية والكولونيالية وما هو من حقل الدلالة ذاتها، والتي ربطت تطور الانتاج الكولونيالي بتطور الإنتاج الإمبريالي وعبرت عنه بلغة جازمة يقينية، لم تصمد أمام مفاجآت الثورة العلمية التي أدت إلى ظهور «أشكال جديدة من تقسيم العمل الرأسمالي العالمي، تفضح بؤس مفاهيم المركز والمحيط والمتروبول والأفلاك وعجزها عن تفسير التبعية» لأنها «لا تقدم حلا للقضية حين تكتفي بالقول إن التحرر الوطني هو الثورة الاشتراكية» (م.ن.ص171)، تماماً مثلما لم يقدم شعار الإسلام هو الحل ولا شعار الوحدة هي الحل سوى التمهيد للعنف والحروب الأهلية. لقد كان مهدي قاسياً مع من حاورهم من المناضلين معه على الساحة الإيديولوجية، فكم من علماني وقع ضحية السجال معه وبدا، في نظره، متحدراً من الفكر الديني، وكم من ماركسي ساجله ليثبت له نسباً يعود به إلى هيغل ومنظومة الفكر المثالي. وقد تحدث رفعت السعيد، خلال لقاء تعارف معه، عن «ملاحظاته القاسية والحاسمة» وعن «طريقة التعبير الحازم الحاد» وعن «رفضه الحازم والحاسم لطريقتي في التعبير» لأن «الفكرة عنده متكاملة مع الكلمة ... ولا مساومة»(رفعت السعيد، مجلة الطريق، ك 1 - 1988، ص180) إذا كانت نظريات التبعية ومشتقاتها المتحدرة من مصطلحات المؤامرة والاستعمار والعدو الخارجي، ومنها نمط الانتاج الكولونيالي، قد عجزت عن إثبات جدواها العلمية والعملية، فإن وظيفتها الوحيدة اقتصرت على ممارسة نوع من الإرهاب الفكري وتحولت على يد السلطات السياسية، في أنظمة الحكم أو في القيادات الحزبية، إلى سلاح لم يسلم منه كبار المفكرين اليساريين من الذين لم يتجرأوا على فتح باب الاجتهاد الماركسي إلا بعد أن غادروا الصفوف التنظيمية لأحزابهم، أو باب الاجتهاد الديني إلا بعد الانشقاق، أو باب الاجتهاد القومي إلا بعد محاولات اغتيال و تخوين متبادل.
2 ــ الطــائفيـــة الحتميات منطلق لممارسة الاستبداد الإيديولوجي ولتبرير الاستبداد السياسي. فأي دور استبدادي لعبت الطائفية؟ هل كان دورها إيديولوجياً أم سياسياً أم الاثنين معاً؟ وهل استخدمتها القوى الحزبية والسياسية، العلمانية والدينية والليبرالية، بالطريقة ذاتها؟ وما هو أصل المصطلح؟ الطائفية لغًةً، مشتقة من الطائفة، بعد حذف التاء وإضافة ياء مشددة(الطائفي) وتحويل الإسم الجامد إلى إسم منسوب يحمل معنى الصفة ويعمل عمل إسم المفعول فيحتاج إلى نائب فاعل. الطائفي إذن هو الإسم- الصفة المنسوب إلى الطائفة، المؤنث منه هو الطائفية، فيقال انتماء طائفي أي انتماء إلى الطائفة، صفاء طائفي أي صفاء منسوب إلى الطائفة، إي إلى طائفة واحدة، واختلاط طائفي أي أختلاط أفراد ينتمون إلى طوائف متعددة. مثلما يقال ممارسة طائفية، عقلية طائفية، تفكير طائفي، شعور طائفي، وهي كلها نعوت تصح في وصف سلوك الفرد أو تستخدم في تحليل سوسيولوجي. بيد أن هذا المصطلح استخدم في المجال السياسي بغرض تشخيص مرض النظام اللبناني، فلم يكن استخدامه مطابقاً، لأنه من خارج عائلة المصطلحات السياسية المعتمدة في الدول الدستورية. فلا يسمى النظام مثلاً، ولا ينعت، بأنه نظام طائفي، لأن النسبة تكون في هذه الحالة إلى الطائفة بالمطلق أو إلى طائفة بعينها، فيما المقصود بهذا النعت وجود ظواهر طائفية في ممارسات أهل النظام، ما يعني أن النعت الذي يعبر عن هذه الظواهر ينبغي أن يعود للطوائف كلها (طوائفي بدل طائفي) مع أن ذلك مخالف لقواعد اللغة. مصطلح الطائفي والطائفية لا يصلح لا إسماً ولا نعتاً لتعريف النظام، الذي لا يوصف بغير الأوصاف القانونية التي تطلق على الأنظمة السياسية، كالنظام الدستوري والملكي والبرلماني والدكتاتوري والوراثي والديمقراطي والتوتاليتاري والفدرالي والكونفدرالي، ولاسيما في الأنظمة الدستورية التي يفترض، أياً يكن شكل الدستور ومهما بلغت نواقصه والاعتراضات عليه والحاجة إلى إدخال تحسينات عليه، أن تتعامل مع البشر كمواطنين أفراد متساوين في الحقوق وفي الواجبات، أياً يكن انتماؤهم الاجتماعي والديني، إلى أي دين أو طائفة أو ملة أو عشيرة أو قبيلة أو إتنية، وهذه حال الديمقراطيات الكبرى، كما ذكرنا، في كل دول العالم، ولاسيما في الهند أو في الولايات المتحدة الأميركية، التي، باسم الدستور والقانون، تصون حقوق الأفراد مثلما تصون الخصوصيات الثقافية والدينية والإتنية للجماعات، فتحمي العادات والتقاليد والطقوس الخاصة بكل منها، ويتساوى المواطنون في انتمائهم إلى الوطن، مهما تعددت انتماءاتهم الدينية. الطائفي والطائفية نعت ككل النعوت، من المفترض أن يصف ماهية الشيء بحيادية، لكنه، في لبنان، انطوى على دلالة سلبية ومعنى تحقيري عند استخدامه كمصطلح سياسي. فالشخص الطائفي، استناداً إلى هذا التعريف، هو شخص غير وطني، لأنه يقيم التفاضل بين الوطن والطائفة، والأولوية عنده للطائفة لا للوطن. ولا يقع التعارض بين الانتماء إلى الطائفة، أي طائفة، والانتماء إلى الوطن إلا إذا صار الانتماء إلى الطائفة انتماء سياسياً. لكن سؤالاً منطقياً يطرح نفسه هو التالي: إذا كان الانتماء إلى الطائفة أمراً طبيعياً ومقبولاً من الناحية الاجتماعية، ولا يصير نافراً ومتعارضاً مع الانتماء إلى الوطن إلا بتحوّله إلى انتماء سياسي بديل عن الانتماء إلى الوطن أو إلى شرط لهذا الانتماء، فما هي العوامل التي تفرض عليه هذا التحول؟ ربما أتى أبلغ الأجوبة بتعيين فارس الخوري، أول رئيس حكومة مسيحي في سوريا، وزيراً للأوقاف في بلد معظم سكانه من المسلمين. ما يعني أن توظيف الانتماء الديني والطائفي ليس إلا لعبة سياسية في يد الحاكم، إن شاء وظفها في خدمة الوحدة الوطنية وسيادة الدولة والقانون، وإن شاء استخدمها في اتجاه معاكس، وخصوصاً في ظل أنظمة لا دساتير فيها، أو سلطات تنتهك الدساتير ولا تلتزم بموجبات القانون، بل تحتال عليه بكل السبل والوسائل المتاحة والمبتكرة، كإعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية وتهميش السلطة القضائية واستخدام الإرهاب وتعطيل الرأي العام، وتوظيف التعدد والتنوع لتغذية الانقسامات. الطائفية، لغةً، بالإضافة إلى كونها نعتاً بالمؤنث، هي إسم يشبه في تركيبه كل المصطلحات التي تعبر عن مذهب فكري أو اجتماعي أو سياسي، مثل الاشتراكية، الماركسية، المانوية، الأرستقراطية، الرأسمالية، العنصرية، الصهيونية وغيرها. وهي في لبنان ظاهرة بسيطة جداً جعلتها القوى السياسية من الأكثر تعقيداً. بسيطة لأنها شكل من التنوع. كان وجودها طبيعياً ما قبل الحضارة الرأسمالية، ثم صار يبدو نافراً في ظلها، ولاسيما أن قوى متحدرة من الحضارة الإقطاعية تحصنت به لتحافظ على دور بات مستحيلاً عليها الاضطلاع به في الرأسمالية. وهي وإن كانت ظاهرة لبنانية بالدرجة الأولى إلا أنها موجودة، كصيغة تعددية، في سائر البلدان العربية وإن اتخذت أشكالاً متنوعة كالطوائف والإتنيات في لبنان، والتنوع الديني والإتني واللغوي في البلدان العربية الأخرى، من الأكراد في المشرق إلى الأمازيغ في المغرب، مروراً بالأقباط في مصر والانتظام العشائري الممتد من بادية الشام حتى الصحراء في الشمال الإفريقي. أما في بلدان العالم فأشكال التنوع لا تحصى ولا تعد. انطلاقاً من هذا التعريف الأولي يطرح السؤال، لماذا تمكنت دول رأسمالية كبيرة وواسعة كالولايات المتحدة الأميركية والهند من معالجة ظاهرات مماثلة تفوق الحالة اللبنانية تنوعاً وتعدّداً فيما فشلت دول أخرى؟ الجواب الأولي هو أن نجاح مثل هذه التجارب في العالم مرتبط، ارتباط علة بمعلول، بنجاح الدولة الدستورية الحديثة، وفشلها بفشلها. ففي ظل الدساتير الحديثة وسيادة القانون يتساوى المواطنون في حياتهم العامة وعلاقتهم بالدولة، ويتمتعون في حياتهم الخاصة بحرية المعتقد. الدولة هي المسؤولة عن حماية الحق بالاختلاف، من ضمن مسؤوليتها عن حماية «حقوق الإنسان» كافة. أما لماذا تحولت، في لبنان، إلى أكثر الظاهرات تعقيداً، فلأن سياسيي لبنان حرفوا الظاهرة عن مجراها الحقيقي، ولأن مفكري القوى السياسية اللبنانية غاصوا في بحوث عن الطائفية والتنوع والتعدد، هي، من غير شك، مفيدة وصحيحة ومثمرة وذات جدوى في جميع مجالات البحث العلمي، لكن مؤداها العملي التطبيقي على الصعيد السياسي، خلال ما يقارب القرن، أثبت عدم قدرتها على المعالجة وعلى تقديم الحلول، ربما لأنها، كأبحاث سوسيولوجية، لم تجد من يترجمها إلى مهمات سياسية ملموسة، وربما لأنها استعملت في المعالجة مفردات من خارج اللغة السياسية المعتمدة في قاموس الحضارة الرأسمالية ودولة الحق والقانون. وهي لم تثبت عقمها فحسب، بل غدت عائقاً معرفياً وسياسياً أمام بناء الدولة. التيار العلماني في لبنان لم يكن أقل ارتباكاً حيال هذا الوافد الغريب. فقد بدأت ورشة إقامة الدولة الدستورية في المشرق العربي، لبنان وسوريا والعراق، وفي مصر في فترة ما بين الحربين العالميتين (راجع أعلاه ما يتعلق بالاستعمار). ما أن بدأت مرحلة الاستقلال حتى ظهرت الاعتراضات لا على السلطات الحاكمة فحسب، بل وعلى الدولة أيضاً، وكان لبنان الناجي الوحيد من نكبة الانقلابات العسكرية. غير أن القوى التي كانت ترفع راية العلمانية فيه وجدت أن الدولة ليست علمانية ولا ديمقراطية بما فيه الكفاية، وأن النظام السياسي هو نظام طائفي، استناداً إلى أن تركيبة السلطة السياسية فيه تعكس تركيبة المجتمع بتنوعه الطائفي، وقد وصل الأمر بأحد أهم مفكري الحزب الشيوعي اللبناني حد القول «إن الطوائف ليست طوائف إلا بالدولة -لا بذاتها، كما يوهم الفكر الطائفي-، والدولة في لبنان هي التي تؤمّن ديمومة الحركة في إعادة إنتاج الطوائف كيانات سياسية هي، بالدولة وحدها، مؤسسسات.... إن منطق الفكر الطائفي يقلب الأشياء نقائضها، فتظهر الدولة طائفية، كأنها نتيجة تعدد الطوائف في المجتمع اللبناني، بينما بها- أعني بالدولة- تتعدد الطوائف في هذا المجتمع، وبها يعاد إنتاجها، من حيث هي كيانات سياسية» (مهدي عامل، في الدولة الطائفية، دار الفارابي، بيروت، 1986؟ ص23). يستند مهدي عامل في تحليله هذا إلى الفرضية الماركسية القائلة بالدولة الطبقية، أي إلى التفسير الاقتصادي لظاهرة الدولة، ليبلغ في تحليله المعادلة القائلة بأن البرجوازية الكولونيالية أحلّت الطائفية في دولة البرجوازية محل الدين في الدولة الدينية. من جانبنا نميل إلى الاعتقاد بأن الطائفية ظاهرة موجودة، نتيجة التنوع الديني والطائفي، في بنية المجتمع وفي العادات والتقاليد والثقافة، أي قبل قيام الدولة الحديثة، وبالتحديد في ظل حكم السلطنة العثمانية ونظام الملل، وقد تكون موجودة في النظام السياسي وفي أجهزة الدولة وفي السلطة السياسية، أما الدولة ككيان معنوي رمزي فهي، في لبنان، قائمة على الدستور الذي يساوي بين المواطنين، وبالتالي لا يصح القول إن الطوائف ليست طوائف إلا بالدولة. وربما استقام المعنى لو قلنا إن الطوائف ليست طوائف إلا بالسلطة السياسية، أي بأجهزة الدولة وليس بالدولة، مع الإحالة دوماً إلى ضرورة التمييز بين الدولة وأجهزتها وسلطاتها وبينها وبين النظام. ربما كان هذا التمييز هو الذي دفع العلمانيين إلى المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية، ربما اعتقاداً منهم أن الطائفية في المجتمع ظاهرة طبيعية وهي ليست مرذولة إلا في السياسة، وهذا صحيح. وسرعان ما ظهر أن إلغاء الطائفية من السياسة هو شعار غير قابل للتنفيذ، لأن الطائفية، ببساطة، غير موجودة على الصعيد السياسي إلا في ما يعتقد أنه «توزيع للسلطات الدستورية، رئاسة الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي، على الطوائف». في الحقيقة هناك توزيع للسلطات لكنه ليس توزيعاً على الطوائف بل على مسؤولين ينتمون إلى طوائف، وقد أثبتت التجربة أن الطائفة ليست هي المستفيدة من وجود ممثل لها في السلطة السياسية، بل إن ممثلها هو الذي يتقن توظيف الطائفة لخدمة مصالحه ومصالح حزبه وحاشيته، بالتجييش وشحن الغرائز ضد الآخر المختلف داخل الطائفة ذاتها أو خارجها. ولهذا فإن إلصاق نعت «الطائفي «بالنظام والدولة يسيء إلى النظام والدولة ككيان رمزي جامع، وهو نعت قد يصح على أصحاب السلطة الممسكين بمقاليد الحكم وأجهزة السلطة باسم الطوائف. في تفسيرنا لهذه الظاهرة لاحظنا أن النظام اللبناني علماني مدني لا ينتقص من علمانية دستوره البند الذي يوجب عدم حصر المسؤوليات بين أبناء طائفة واحدة، خصوصاً أن معيار الكفاءة كان يجعل المسيحيين، في مرحلة الاستقلال، أوفر حظاً من سواهم لتولي مسؤوليات عامة في الدولة.غير أن الذين تولوا إدارة شؤون الدولة بدل أن يطبقوا الدستور، استحضروا من الحضارة السابقة الأسس التي قام عليها نظام المحاصصة (المغارسة والمساقاة والمرابعة والمخامسة، الخ) وتقاسموا سلطة الدولة وثروتها وإدارتها، كأنها ملك لهم وللورثة من بعدهم، ووظفوا شعار إلغاء الطائفية السياسية فصوروه مطلباً إسلامياً هدفه النيل من صلاحيات رئيس الجمهورية، ليقابله شعار العلمنة الكاملة الذي صوروه مطلباً مسيحياً، ما هيأ لهم المناخ ليجعلوا، عبر الممارسة، انتهاك الدستور والقوانين حاجة لحماية حقوق وهمية للطوائف، وهي ليست في الحقيقة إلا لحماية مصالح مادية لزعماء الطوائف من السياسيين ورجال الدين. كتب الدكتور عبد الرؤوف سنو في جريدة النهار، بتاريخ 27-12-2014 مقالة ورد فيها النص التالي عن اتفاق الطائف: «لقد أرضى الاتفاق السنّة بسبب تقوية صلاحيات رئيس مجلس الوزراء (السنّي) على حساب صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني. صحيح أنهم كانوا قبل حرب لبنان في العام 1975 ينادون بإلغاء الطائفية السياسية لتحسين تمثيلهم في النظام السياسي الممسوك مارونياً، إلا أنهم خشوا بعد الطائف من أن يصبّ إلغاء الطائفية السياسية في مصلحة الشيعة الذين كان حراكهم يتجه صعوداً منذ حرب لبنان للإمساك بالبلاد تحت شعار «ديموقراطية الأكثرية». وكان الشيعة قبل ظهور «حزب الله» ينادون بدورهم بإلغاء الطائفية السياسية وبمشاركة أكبر في النظام السياسي ورفع الحرمان عنهم». ينسب الدكتور سنو الأفعال في النص إلى الجماعة: «ينادون (السنة والشيعة) بإلغاء الطائفية السياسية، يمسكون (الموارنة) بالنظام السياسي، حراكـهم (الشيعة) يتجه صعوداً ...للإمساك بالبلاد». لكي يستقيم المعنى علينا أن نعيد صياغة العبارة على الشكل التالي: الذين كانوا ينادون بإلغاء الطائفية السياسية كانوا يعتمدون على دعم جمهور عريض من السنة والشيعة، في مواجهة رئيس الجمهورية الذي يوظف مخاوف الموارنة من المحيط العربي الاسلامي ومن عودة آليات نظام الملل العثماني. في الواقع، إن الأحزاب اليسارية، هي الأخرى، عملت على توظيف المشاعر الطائفية بهدف إحداث تغييرات في النظام السياسي، ما جعلها تصنف في خانة اليسار الإسلامي في مواجهة ما كان يسمى اليمين المسيحي. الكلام عن صراع طائفي كان يقابله داخل صفوف اليسار أيضاً كلام عن صراع طبقي، وآخر عن صراع على القضية القومية، لكن الصراع الحقيقي كان بين مشاريع سياسية مختلفة توظف المشاعر الطائفية والطبقية والقومية والدينية وتجند المؤمنين بها، كل لصالح مشروعه، ولم يكن في نية أي منها أن يدافع عن طائفة أو عن مذهب ديني، ولاسيما أن اندلاع الحرب الشيعية الشيعية بين أمل وحزب الله، والحرب بين المارونية السياسية ممثلة بالقوات اللبنانية وقائد الجيش الماروني أكد أن الحرب بين الطوائف كما داخل الطوائف لم تكن سوى تعبير عن صراع سياسي للإمساك بناصية السلطة السياسية في لبنان وبناصية القضايا القومية في المنطقة. فضلاً عن كل ذلك، نتبنى تساؤل مهدي عامل من غير أن نتبنى جوابه، فهو يقول: «لماذا الطوائف في فرنسا أو كندا أو أستراليا أو الاتحاد السوفياتي ليست طوائف، بينما هي، فقط في لبنان، طوائف؟ نجيب بالقول إن الطوائف ليست طوائف إلا بالدولة» (في الدولة الطائفية،م.س، ص.23). أما نحن فنضيف إلى اللائحة بلدين يضمان أكبر تنوع طائفي وديني وإتني في العالم، الهند والولايات المتحدة الأميركية، ونجيب على تساؤل مهدي بعكس ما أجاب: إن الطوائف لا تكون طوائف إلا بغياب الدولة، وهي لا تكون طوائف إلا حين تنجح في تأسيس دويلات داخل الدولة وعلى حساب الدولة. لقد صدرت عشرات المؤلفات عن هذه الظاهرة، ساهمت دار الفارابي ومجلة الطريق اللتين يديرهما الحزب الشيوعي اللبناني بنشر العدد الأكبر منها وبعقد عشرات المؤتمرات الفكرية حولها، وكان مهدي عامل من أبرز من كتب وناقش وساجل وحلل، و آخر ما نشره قبل اغتياله كتابان عن الدولة والطائفية: مدخل إلى نقض الفكر الطائفي، مركز الأبحاث الفلسطينية، 1980؛ في الدولة الطائفية، الفارابي 1986؛ وفيهما يساجل مفكرين يمينيين، وآخرين يساريين ماركسيين وعلمانيين ومتشددين ومتدينين. تتميز أبحاث مهدي عامل، وكذلك أبحاث من ساجلهم وعارضهم في موضوع الطائفية، بأنها تنطلق من حتميات تقفل كلها أبواب النقاش بحدة وحزم وجزم، وإن تنوعت مصادرها ومناهجها، على غرار ما فعلت الحتمية القائلة «إن ميزة هذا العصر هو عصر الانتقال إلى الاشتراكية»، التي نميل إلى الظن أن حتميات مهدي مشتقة منها، فيما يتوسل سواه حتميات دينية أو علمانية. تتلخص فرضية مهدي في أن الضعف البنيوي للبرجوازية الكولونيالية هو الذي يدفعها إلى فرض هيمنتها الطبقية من خلال شكل سياسي محدد للدولة هو الطائفية، وأن المعالجة لا تتم إلا بالانتقال إلى الاشتراكية، ولا سيما «أن الانتقال إلى الاشتراكية هو سمة العصر»، وأن هذه الدولة(يقصد الدولة اللبنانية) «هي دولة ما قبل الحرب الأهلية، التي انهارت في الحرب الأهلية، وأقيم البرهان، بالملموس التاريخي، على تعطلها وعدم قابليتها للحياة» (مهدي عامل، في الدولة الطائفية، الفارابي، 1986،ص133).
3 ــ الطائفيـة ـــ الطبقــة نبدأ من تعريف مهدي الطائفية، وبالتحديد، مما عثرنا عليه في كتابه ولم نر فيه تعريفاً دقيقاً، بل مجموعة من خصائص وصفات ومميزات موزعة في صفحات الكتاب، سنحاول أن نجمعها في فقرة لنستخرج منها تعريفاً نصوغه بمفردات مهدي وأسلوبه. يقول مهدي إن «الطائفية هي الشكل التاريخي المحدد للنظام السياسي الذي تمارس فيه البرجوازية الكولونيالية اللبنانية سيطرتها الطبقية، في إطار علاقة التبعية البنيوية بالإمبريالية» (في الدولة الطائفية، ص185)، وقد تكوّن «النظام السياسي البرجوازي كنظام طائفي في ظل أزمة التطور الإمبريالي لنمط الانتاج الرأسمالي. هكذا تظهر، في التفسير المادي، علاقة الارتباط العضوي بين الطائفية والإمبريالية» (م.ن.ص189)، وبما أن الظروف التاريخية تطرح «ضرورة تغيير النظام السياسي الطائفي كمهمة ملحة على جدول أعمال الصراع الطبقي المحتدم في هذه الحرب المستمرة، فإنها يائسة محاولة البرجوازية للحيلولة دون تنفيذ حكم التاريخ في الإجهاز على هذا النظام الطائفي المتعفن»(ص85). وقد خاض مهدي «صراعاً فكرياً تمحور حول المسألة الطائفية، هو صراع طبقي في حقل الفكر بين النقيضين الطبقيين، البرجوازية التي تدعو إلى تأبيد النظام الطائفي والطبقة العاملة التي تدعو إلى تغيير هذا النظام من موقعها الوطني الديمقراطي»(ص101). من الواضح أن يقينيات مهدي الجازمة القاطعة لا تقبل الاحتمالات. فهي مبنية على ثنائيات لا تقبل التفريع، قد تكون كلها متحدرة من ثنائية المادي المثالي، من مثل برجوازية وطبقة عاملة، اشتراكية ورأسمالية، رجعي وتقدمي، ديمقراطية وفاشية، وهو منهج لا يقبل الحلول الوسطى. (راجع ما قاله شربل نحاس بهذا الصدد في نقده منهج مهدي عامل، ما بين دولة الطوائف والدولة الديمقراطية، مؤلف جماعي، دار الفارابي، 2008، ص38). قد يكون ذلك صحيحاً في العلوم البحتة، كالرياضيات أو الفيزياء -إما خطأ إما صواب- ما جعل ثنائياته مغلقة على ذاتها ويقينياته لا تقبل المساومة. فهو يجزم بأن حلاً وحيداً ممكناً لمأزق البنية الكولونيالية، هو القيام بعملية ثورية تنقل المجتمع من بنيته الكولونيالية إلى الاشتراكية، وأن هذه العملية لا يمكن أن تتم إلا بقيادة الطبقة العاملة. لكنه لم يأخذ بالاعتبار أن ماركس نفسه لاحظ أن الصراع الطبقي قد لا ينتهي بانتصار حتمي لأحد الطرفين المتصارعين، بل من الممكن أن ينتهي بسقوطهما معاً وانتصار طرف ثالث. تلك كانت حال الصراع في التاريخ بين «الحر والعبد والنبيل والعامي والبارون والقن، والمعلم والصانع» بحسب الترسيمة الماركسية الواردة في البيان الشيوعي. نبدأ بطرح أسئلة على أفكار مهدي: ألم يكن بإمكان البرجوازية الكولونيالية اللبنانية أن تختار سوى هذا الشكل التاريخي المحدد، الطائفية، لتمارس سيطرتها الطبقية؟ ولماذا اختارت هذا الشكل بالذات؟ وكيف نشأ هذا الارتباط العضوي بين الطائفية والإمبريالية؟ ولماذا وافقت الإمبريالية على هذا الشكل من التبعية دون سواه، فيما ارتضت علاقات تبعية متنوعة مع بلدان عربية أخرى؟ قد يقول قائل «الجود من الموجود» على ما ورد في المثل الشعبي. الطائفية ظاهرة موجودة في لبنان تمكنت البرجوازية الكولونيالية اللبنانية والإمبريالية من استغلالها وتوظيفها في مصلحة علاقة التبعية. غير أن التنوع ليس حكراً على لبنان، ففي البلدان العربية الأخرى أشكال متعددة من التنوع، بما فيها التنوع الطائفي، فلماذا لم تلجأ الإمبريالية إلى هذا الخيار في مصر مثلاً وتضرم نار الصراع القبطي الإسلامي منذ أيام محمد علي باشا أو على الأقل منذ الاحتلال الإنكيزي لمصر في ثمانينات القرن التاسع عشر، ولماذا أرجأته قرناً من الزمن إلى أن تفجّر في عهد أنور السادات، ولماذا لم تنجح في إضرامها بين مكونات المجتمع السوري، وهل هي التي أرجأته لتستخدمه سلاحاً ضد ثورة الربيع العربي؟ ولماذا أرجأت الصراع السني الشيعي في العراق إلى ما بعد سقوط صدام حسين وحكم البعث؟ قبل أن نحاول استخراج الإجابة على هذه الأسئلة باستنطاق المحاورات التي أجراها مهدي مع آخرين لا يشاطرونه الرأي وينتمون إلى اتجاهات فكرية متعددة، أو تلك التي أجراها آخرون معه، نعود إلى تعريف ثانٍ للطائفية أكثر وضوحاً كان قد وضعه مهدي في كتابه الأول، مدخل إلى نقض الفكر الطائفي، أي قبل سنوات ست على صدور كتابه الثاني: «الطائفية هي الشكل الذي يظهر فيه، من موقع نظر البرجوازية المسيطرة، النظام السياسي للسيطرة الطبقية لهذه الطبقة المسيطرة، مظهر النظام السياسي لتعايش الطوائف. في هذا الشكل الطائفي من النظام السياسي الطبقي تظهر، إذن، السيطرة الطبقية للبرجوازية الكولونيالية اللبنانية المسيطرة في شكل السيطرة الطائفية، من حيث أن هذه السيطرة تمثل سيطرة الطوائف كلها عبر ممثليها السياسيين. إنها، إذن، كسيطرة طائفية، سيطرة هؤلاء وليست سيطرة الطوائف. لهذا كان لدولة البرجوازية اللبنانية شكل الدولة الطائفية» (ص240) ربما يتولى هذا التعريف حل اللغز. السيطرة الطائفية لا تمثل سيطرة الطوائف بل سيطرة ممثليها. إنه تأكيد واضح وصريح على أن استخدام مصطلح الطائفية في السياسة(بما هو إسم أو نعت منسوب إلى الطائفة) يقع في غير محله. فالسيطرة لا تنسب للطائفة، لأن الذي يسيطر ليست الطائفة بل ممثلوها السياسيون. ما يعني أن المشكلة ليست إذن في الطوائف بل في ممثليها، وأن الطوائف تستجيب لأهواء ممثليها، فتهوج إن هاجوا وتهدأ إن هدأوا، ولنا في تجربة لبنان المستقل أمثلة عديدة تؤكد لنا هذا الاستنتاج، نعدد أربعة منها، اثنين للدلالة على التوظيف الإيجابي لظاهرة التنوع، واثنين آخرين للدلالة المعاكسة. نسوق الحادثة الأولى في مفاوضات الاستقلال مع فرنسا، حين تضامن أعضاء الوفد اللبناني المسيحيون مع رياض الصلح رئيس الوفد ليفضحوا مزاعم المفوض السامي الذي كان يدعي حماية مصالح المسيحيين ويلعب على وتر الطائفية (مذكرات يوسف سالم، دار النهار للنشر). أما المثل الثاني فقد سبقت الإشارة إليه، وهو أن أهم حكومة في تاريخ لبنان الاستقلال هي تلك التي تشكلت في عهد فؤاد شهاب، في أعقاب الفتنة الأهلية، برئاسة رشيد كرامي، من اثنين من السنة واثنين من الموارنة من غير أن يؤدي ذلك إلى إثارة نعرات طائفية أو إلى نعت الحكومة بغير الميثاقية وغير الشرعية وغير الدستورية، بحسب لغة المحاصصين ما بعد الطائف. أما التوظيف السلبي فحالاته لا تعد ولا تحصى وأبطاله من كل الطوائف، سياسيين ورجال دين، نذكر منها دور الحلف الثلاثي الماروني الذي لعب على وتر الطائفية متهماً عهد الرئيس فؤاد شهاب، الماروني هو الآخر، بانحيازه للمسلمين، وكان ذلك من جملة الأسباب التي مهدت للحرب الأهلية اللبنانية. والرابع حين استخدمت الشيعية السياسية، بعد الطائف، المعتقدات الدينية لتأجيج المشاعر المذهبية خدمة لمصالح الممثلين السياسيين للطائفة لا لمصالح الطائفة، وكان ذلك من جملة الأسباب التي أدت إلى تكريس الهيمنة الخارجية على لبنان والتي مهدت لأوسع عملية سطو ميليشيوي على الدولة ومؤسساتها وعلى المال العام. حين انتبه مهدي إلى أن «السيطرة الطائفية هي سيطرة هؤلاء(الممثلين السياسيين) لا سيطرة الطوائف» حاول أن يطوّع النظرية الماركسية لتتوافق مع التحليل الإيديولوجي ومع النضال الحزبي ومع القول بوجود «سيطرة طائفية»، فعمد إلى اقتراح تعريف آخر، هو الثالث على الأقل، يخلط فيه بين الطائفة والطائفية، لكنه يستخدم، بأكثر ما يكون من الوضوح، منهجاً يتداخل فيه حقل المصطلحات السياسي بالحقل السوسيولوجي، إذ يقول: «نريد أن نقترح تعريفاً آخر للطائفة: ليست الطائفة كياناً جوهرياً أو وحدة اجتماعية قائمة بذاتها. ليست الطائفة شيئاً، أي جوهراً؛ إنها علاقة سياسية قائمة بين فئات من الطبقات الكادحة وفئة من البرجوازية(ما اصطلح على تسميته بالزعماء التقليديين من رؤساء العائلات الكبرى أو ممثلي الطوائف، بحسب اللغة الإيديولوجية البرجوازية) ليست الفئة المهيمنة... بل هي الفئة المتحدرة من الطبقة المسيطرة في علاقات إنتاج ما قبل الرأسمالية. تلك العلاقة هي علاقة تمثيل سياسي ترى فيها فئات الطبقة الكادحة من هذه الفئة من البرجوازية ممثليها السياسيين. في هذه العلاقة من التمثيل السياسي، في هذه العلاقة فقط، تتحدد الطبقات الكادحة ك»طوائف» بينما يتحدد ممثلوها السياسيون في هذه العلاقة كفئة من البرجوازية. فالطوائف تتحدد إذن، على المستوى السياسي والإيديولوجي وحده، وبالنسبة للطبقات الكادحة وحدها، أما بنالسبة للطبقة البرجوازية المسيطرة فلا وجود ل»طوائف» بل ثمة برجوازية مسيطرة (متعددة الفئات، لا بالمعنى الطائفي، أي بمعنى انتماء هذه الفئات إلى طوائف، بل بالمعنى السياسي والاقتصادي) بمعنى أنها تمارس صراعها الطبقي ممارسة طائفية هي التي تهدف منها، بشكل أساسي، إلى الإبقاء على تلك الطبقات الكادحة ك»طوائف» في حقل الصراع الطبقي، إي إلى الإبقاء عليها خاضعة لسيطرتها الطبقية عبر تمثيلها السياسي لها تمثيلاً «طائفياً»... «الطائفة» إذن هي هذه العلاقة السياسية التي تنوجد فيها الطبقات الكادحة في تبعية سياسية طبقية للطبقة المسيطرة. باستقلالها السياسي الطبقي، عبر قطعها، بنضالاتها، علاقة التمثيل السياسي «الطائفي» وإقامتها علاقة تمثيل سياسي طبقي بأحزابها التقدمية، تصير تلك «الطوائف» بالفعل قوة سياسية مستقلة وبالتالي، مناهضة للبرجوازية». (م.ن.ص243) الطائفة ليست شيئاً وليست جوهراً. هذا صحيح. إنها علاقة، وهذا صحيح أيضاً. لكنها ليست كما يراها مهدي «علاقة سياسية بين فئات من الطبقات الكادحة وفئة من البرجوازية»، بل هي علاقة اجتماعية ثقافية دينية تقوم على حقل مشترك من العادات والتقاليد، وهي ككل العلاقات، بما فيها علاقات القرابة والحسب والنسب، قابلة للتوظيف السياسي لحساب «الزعماء التقليديين من رؤساء العائلات الكبرى أو ممثلي الطوائف»، ولكن أيضاً لحساب الأحزاب التقليدية أو الحديثة، التقدمية أو الرجعية، وهذا ما أكدته في أوساط المسيحيين تجربة حزب الكتائب وحزب القوات اللبنانية وحزب التيار الوطني الحر، وهي أحزاب غير متحدرة من سلالة العائلات الكبرى، وما أكدته، في أوساط المسلمين، تجربة الأحزاب اليسارية والقومية، فضلاً عن الأصوليات الدينية، وهي تجارب آلت كلها إلى حلول الميليشيات محل الدولة على طرفي خطوط التماس في الحرب الأهلية، ثم إلى هيمنة منطق الميليشيات على مؤسسات الدولة عند نهاية الحرب الأهلية. يصر مهدي على النظر إلى الصراع الطبقي بصورته النقية، كما حددتها الأدبيات الماركسية، كصراع بين البرجوازية و«الطبقات الكادحة»، متفادياً، في هذا النص، الكلام عن «الطبقة العاملة»، ربما لأنه رأى أن «الطبقات الكادحة تتحدد كـ«طوائف» وأن تلك الطبقات الكادحة هي، في حقل الصراع الطبقي، تمارس هذا الصراع كـ«طوائف»»(م. ن.) فتتحول الطائفة، بحسب هذا المنطق، إلى طبقة، ليتوافق هذا التحويل، بل ليتطابق، مع الممارسة السياسية(البراكسيس) للحزب الشيوعي اللبناني وكلامه، قبيل نهاية الحرب الأهلية، عن طوائف وطنية (خصوصاً الشيعة والدروز) وعن أخرى غير وطنية كالطوائف المسيحية بالجملة، وذلك استناداً إلى المعايير السياسية المعتمدة في المعركة «الوطنية» التي كان يخوضها بالتحالف تحالفاً غير مقدس مع الإسلام السياسي والمقاومة الاسلامية، ضد الطوائف التي اختارت التعاون مع «الامبريالية والصهيونية والاستعمار» بحسب تعابير الخطاب اليساري والقومي. استكمالاً لتقديم الصراع الطبقي في صورته النقية، يرى مهدي أن الطوائف، (بما هي طبقات كادحة) على علاقة تبعية بالبرجوازية، ولهذا فإن صورة الصراع بينهما مشوهة ومشوشة، ولن تستعيد وضوحها إلا «باستقلال الطبقات الكادحة استقلالاً سياسياً طبقياً، عبر قطعها، بنضالاتها، علاقة التمثيل السياسي الطائفي، وإقامتها علاقة تمثيل سياسيي طبقي بأحزابها التقدمية، فتصير تلك الطوائف، بالفعل، قوة سياسية مستقلة، وبالتالي مناهضة للبرجوازية»(م.ن.). لكن مهدي، في كلامه على نمط الإنتاج الكولونيالي، يصر على أن البرجوازية نشأت نشوءاً مشوهاً في إطار التبعية للإمبريالية وفي زمن أزمتها، لكنه يصر بالمقابل على أن يكون الصراع الطبقي نقياً واضحاً وصريحاً بين طبقة عاملة (الطبقات الكادحة) وبرجوازية، من غير أن يشير إلى أن التشوه شمل كل البنية الاجتماعية السياسية الاقتصادية، ومن ضمنها الطبقة العاملة والطبقات الكادحة، وبالتالي من المستحيل أن يظهر الصراع الطبقي في صورته النقية الواردة في الكلاسيكيات الماركسية. فضلاً عن أن مهدي يميل إلى رؤية الصراع الطبقي في شكليه الاقتصادي والإيديولوجي، ويتغافل عمداً، خلال سجاله، عن أبرز أشكال الصراع، الصراع السياسي، الذي يجسده التنافس على السلطة وعلى مغانمها وتستخدم فيه كل الوسائل والأدوات والأساليب، العسكرية والمالية والإعلامية وغيرها، وتوظف فيه الحساسيات بين الطوائف، وهي حساسيات موروثة من أيام السلطة العثمانية.
4 ــ الطائفية في الفكر البرجوازي انطلاقاً من هذا التحليل لظاهرة الطائفية في لبنان، خاض مهدي عامل سجالات حامية مع مفكرين ينتمي فريق منهم إلى «الفكر الطائفي أي البرجوازي»، بحسب تصنيفه وتعبيره، فيما ينتمي فريق آخر، أو «يدعي الانتماء» إلى الفكر الماركسي، من غير أن ينجح، بمعايير مدرسة مهدي، في إثبات جدارته الماركسية، فيبدو كأنه يحارب بسلاح الفكر الغيبي، ليتساوى الفريقان في فهم مغلوط لهذه الظاهرة. فقد كرس كتابه الأول، الصادر عام 1980، القضية الفلسطينية في إيديولوجية البرجوازية اللبنانية، مدخل إلى نقض الفكر «الطائفي»، ليساجل مع أفكار ميشال شيحا، «أحد أبرز ممثلي إيديولوجية البرجوازية اللبنانية إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق» (ص41)، ومع الأفكار الواردة في سلسلة الكراريس الصادرة عن لجنة البحوث اللبنانية في جامعة الكسليك، المنشورة بين عامي 1975 و1977. لينتقل في الكتاب الثاني، في الدولة الطائفية، 1986، إلى نقاش آخرين يأخذ على البعض منهم اعتماده على إيديولوجية طائفية واستناده إلى أفكار شيحا ودفاعه عنها، وعلى البعض الآخر، ممن يناهضون أفكار شيحا، عدم اطلاعهم بصورة كافية على الفكر الماركسي، وانزلاق بعضهم «من حيث لا يدري، أو من حيث يدري، إلى أرض هذه الإيديولوجية الطائفية» (مدخل ...ص. 48)، «فيتوازى، بحكم هذا الانزلاق إلى مواقع الإيديولوجية البرجوازية الطائفية الرجعية والعنصرية، منطق التحليل الطائفي ومنطق التحليل الطبقي، أي منطق التحليل البرجوازي ومنطق التحليل الماركسي» (م.ن.ص150). ما هي معالم هذه الإيديولوجية البرجوازية الطائفية، وكيف تتجلى في فكر ميشال شيحا ومؤيديه أو في فكر معارضيه وناقديه؟ يقول ميشال شيحا عن لبنان «أنه بلد قديم جداً، هو اليوم يانع جداً. موقعه الجغرافي المتوسطي هو من أهم المواقع وأكثرها تعرضاً للخطر. فهو يقع على إحدى الطرق البرية والبحرية الأكثر ضرورة في العالم... تتجابه فيه الأعراق والمعتقدات والطقوس واللغات وأنماط الفكر والتقاليد. وهو، في آن معاً، «ملجأ» وبلد هجرة، بلد جبال وسهول ومناخات متنوعة وثقافات مختلفة. نجد فيه كل أشكال الجنس البشري والعمل البشري... التعارضات الأكثر حدة والعقليات الأكثر تنوعاً والتقاليد الأكثر تبايناً والوجوه الأقل تجانساً. إنه عالم مصغّر». (مدخل إلى... ص. 44، اقتبس مهدي النص من كتاب شيحا، في السياسة الداخلية، بالفرنسية، بيروت، منشورات مؤسسة ميشال شيحا، 1964، ص.15) يعترض مهدي على أفكار وردت في هذا النص وفي نصوص أخرى لميشال شيحا، وخصوصاً على القول ب»قدم لبنان وفرادته»، وعلى «القدر الجغرافي الذي يحكم تاريخ لبنان، وعلى إخفاء سره الطبقي»، وعلى تغييب العامل الاقتصادي والتفسير الطبقي واقتصار التحليل فيه على قضية الحرية الاقتصادية. كما يعترض على قيام «توازن ومشاركة بين المجموعات الطائفية»، وعلى مضمون الديمقراطية في النظام السياسي اللبناني. ويعترض بشكل خاص على انحياز شيحا للغرب الرأسمالي ضد الشيوعية، ليستنتج من كل هذه الاعتراضات أن ميشال شيحا هو من صاغ النظرية التي استندت إليها «البرجوازية الكولونيالية» اللبنانية في بناء سيطرتها الطبقية وخضوعها للهيمنة المارونية وإضفاء الطابع «الطائفي» على النظام السياسي. مما لا شك فيه أن مهدي مساجل بارع. فهو يقلّب أفكار خصومه على جميع وجوهها ويخضعها للفحص النظري على آلة المنهج الماركسي الصارم وعلى آلة الخط السياسي للحزب الشيوعي اللبناني الذي يستلهم النظرية الماركسية. غير أنهما آلتان مشكوك بموضوعيتهما. فالنص الماركسي، ككل النصوص، حمّال أوجه، ولهذا السبب وغيره تعددت تأويلاته وتفسيراته وكثرت الاجتهادات حوله، ما دفع مهدي إلى إعلان تمايز ماركسيته، المستندة، بحسب قوله، إلى نصوص ماركس الأصلية،عن ماركسية الآخرين المستندة إلى التأويلات، ولاسيما السوفياتية منها. أما آلة الخط السياسي للحزب فهي، بالتعريف، منحازة لأنها حزبية، وبالتالي غير موضوعية. لا تهدف هذه الدراسة إلى ترجيح رأي على آخر، ولا إلى الدخول طرفاً جديداً في المساجلات الغنية حول موضوع الطائفية. بل هي محاولة لوضع تشخيص جديد ل»مرض» النظام السياسي اللبناني بعد أن أثبتت الوقائع أن الصراع حول الطائفية لم يكن سوى نوع من المناورة استدرج أطراف النزاع، من ممثلي الطوائف، طوائفهم إليها، لتظل أزمة النظام ومسبّبوها بعيداً عن حقل الرماية. بعبارة أخرى، تتباين آراء المتساجلين في تحليل أسباب هذه «الآفة» ومظاهرها وتجلياتها، في ظل إجماعهم على ضرورة تخليص النظام والدولة والمجتمع من شرورها، غير أن التشخيص بالطائفية لم يكن صائباً، ما جعل جميع «الوصفات» اليسارية غير ناجعة وغير شافية، بل كان لها مردود عكسي وآثار جانبية فاقمت المشكلة بدل أن تحلها. في الحقيقة، الطائفية ظاهرة موجودة بقوة ومتغلغلة في المشاعر والثقافة والعادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية، وهي تشكل مادة غنية يمكن الاستفادة منها لإعداد الأبحاث التاريخية والنفسية والسوسيولوجية والديموغرافية والثقافية وغيرها. لكن، حين تنزاح هذه الأبحاث وتنزلق إلى الحقل السياسي تفقد قيمتها العلمية والمعرفية (وهذا ما حصل في دراسات عديدة أعدّها طلاب في الجامعة اللبنانية، كل عن تاريخ منطقته وطائفته أو عن شخصيات تنتمي إليها) وتتحول إلى مناكفات فكرية أو إلى تمارين نظرية على سجال لا يستفاد منه إلا في الصراع الإيديولوجي الذي كان مهدي قد برع في خوض معاركه الفكرية فيه، مستخدماً كل مهاراته النظرية والسجالية والتأويلية، فيعمل على تفكيك النص إلى عناصره الأولى ويستخرج منه المصطلحات والمفاهيم ويعيد تركيبها ويستنطقها لتقول ما يخفى وراء ظاهر النص، أي ليستخرج منها «المسكوت عنه» ثم يخضعها للفحص في ميزان منهجه الماركسي فتسقط عند الامتحان. ما أن يضع مهدي أبحاثه في خدمة معركة الحزب على جبهة «النضال الإيديولوجي»، حتى تتراجع وتتضاءل قيمتها العلمية والمعرفية لأن هذا النوع من المعارك يبحث عن النصر لا عن الحقيقة. وبهذا المعنى لا يصنّف كتابا مهدي عن الطائفية ولا كتب سواه ولا كل الكلام الذي قيل فيها على لسان «المناضلين» الحزبيين، في خانة البحوث العلمية، بل هي أقرب لأن توضع في خانة السجال السياسي الذي تتطلبه المصالح والظروف. هذا بالضبط ما جعل مهدي يندفع عام 1980، أي في ذروة الصراع على مصير المقاومة الفلسطينية في لبنان إلى شد العصب «الوطني والقومي» ضد «الانعزالية اللبنانية»، ليشارك في معركة الدفاع عن التحالف الوطني اللبناني الفلسطيني في مواجهة «الخطر الصهيوني وأعوانه في الداخل»، بخوضه نضالاً إيديولوجياً هدفه المباشر «نقض الفكر الطائفي» المتجسد في «إيديولوجية البرجوازية اللبنانية»، وتولى مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية على عاتقه نشر الكتاب. عندما عادت القضية اللبنانية بشقها الداخلي إلى الواجهة، بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، راح مهدي يستكمل نضال المقاومة لدحر الاحتلال بنضال إيديولوجي للقضاء على الدولة الطائفية، مساجلاً لا من يحسبهم في عداد المنظرين للفكر الطائفي فحسب، بل، وإلى جانبهم، المعترضين مثله على طائفية النظام السياسي، فنشر كتابه الثاني، في الدولة الطائفية، وتولت دار الفارابي إخراجه إلى النور. في إطار بحثه غير الموضوعي،لأنه حزبي وبالضرورة منحاز، عن جذور الطائفية، طرح مهدي السؤال مرتين وقدم إجابتين متناقضتين، وما كان هذا التناقض ناجماً عن هفوة ولا عن نقص في المعرفة، بل عن حاجة السؤال في المساجلات إلى إجابة مختلفة في كل مرة. يقول مهدي في الصفحة 156 من الكتاب: «ليس للطائفية تفسير طائفي، وليس بالطائفية يتفسر تاريخ لبنان السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ولا يتفسر بالطائفية التفاوت في تطور الرأسمالية التبعية في لبنان. إن الطائفية، بالعكس، هي التي تحتاج إلى تفسير مادي تاريخي، وليست مبدأ تفسيرياً لهذا التاريخ المادي. فلننظر في تاريخ تكون الرأسمالية في لبنان، في طور أزمة النظام الرأسمالي العالمي، ففي هذا التاريخ، لا خارجه، نجد الجذور التاريخية للطائفية» ثم ينتقل إلى الصفحة 229 من الكتاب ذاته ليقول: «إنه السؤال نفسه الذي انطرح على ماركس، والذي طرحه ماركس في مجال آخر هو مجال فهم البنية الاجتماعية الرأسمالية: هل نجد في الماضي مفتاح فهم الحاضر وسره، أم أننا، بالعكس، نجد في هذا الحاضر مفتاح فهم الماضي وسره؟ ولقد أجاب ماركس، كما نعلم، عن السؤال بالقول: إن الحاضر هو سر الماضي ومفتاح فهمه». لم ندقق في قول ماركس، فمهدي أعلم منا به، وإن كنا نميل إلى الاعتقاد بأن جواب ماركس هذا هو جواب غير ماركسي، لما فيه من إهمال للقراءة التاريخية المادية، ونميل إلى الظن بأنه عبارة مقطوعة من سياقها. بنى مهدي على الجواب الأول تحليلاً قوامه أن الرأسمالية تكونت في جبل لبنان، «في ظل تغلغل الرساميل الإمبريالية، ابتداء من نهايات القرن التاسع عشر، بينما تأخر دخول الرأسمالية إلى المناطق اللبنانية الأخرى، ما يطرح فرضية على شكل سؤال: هل يمكن القول بإن القوى الإمبريالية، في صياغتها للبنان مثل هذا النظام السياسي الطائفي، كانت تفكر منذ البداية بمشروع إنشاء وطن قومي مسيحي في لبنان على نموذج المشروع الصهيوني في فلسطين؟»(م.ن.ص156). واستناداً إلى الجواب الثاني، امتنع عن البحث في بنية الماضي ليفسر الحاضر، «فلا نجعل من نظام الملل الذي كان قائماً في العهد العثماني، مثلاً، مبدأ تفسيرياً لظاهرة كالطائفية هي ملازمة للبنية الراهنة للواقع الاجتماعي اللبناني في تميزها كبنية رأسمالية معينة، كما يفعل مؤرخ كوجيه كوثراني مثلاً »(م. ن. ص230) أن يكون الماضي هو مفتاح السر في فهم الحاضر أو أن يكون الحاضر هو مفتاح السر في فهم الماضي، المشكلة ليست هنا فحسب، بل هي في تحديد الماضي زمنياً. الماضي اللبناني يبدأ، في نظر مهدي حين بدأ يتكون نمط الانتاج الكولونيالي. «ليس بنظام الملل العثماني إذن نفسر ظاهرة الطائفية. بنظام الانتاج الكولونيالي علينا أن نحاول تفسيرها» (م.ن. ص234)،أي في زمن دخوله في المرحلة الإمبريالية، وهذا في الأصل تحديد لينيني لدخول الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية. أما في نظر ميشال شيحا فلبنان «قديم جداً»، من غير تحديد، فيما يمتد هذا القدم إلى «أربعة قرون لا إلى ستة آلاف عام» (جاك قبنجي، إشكالية الدولة والمواطنة والتنمية في لبنان، الفارابي، مؤلف جماعي، 2009 ص304)، ويمتد، في نظر بعضهم، حتى أيام الفينيقيين والمصريين القدامى والكنعانيين والساميين أي إلى ما بين 5000 و7000 سنة قبل الميلاد، كما يرى بعضهم الآخر أن اسم لبنان ورد في الكتب المقدسة. وفي جميع الأحوال، تعددت المؤلفات والأبحاث والمقالات التي تناولت الطائفية وتاريخ لبنان القديم والحديث، والصراع على تاريخ لبنان(أحمد بيضون) أو الحرب على تاريخ لبنان (كمال الصليبي)، شارك في وضعها مؤرخون منهم فيليب حتّي ومؤرخون مسيّسون وباحثون جامعيون منهم إيليا حريق ومسعود ضاهر ووجيه كوثراني وفواز طرابلسي وسواهم كثيرون. المادة التي تناولتها هذه المؤلفات تفيض عن موضوع بحثنا، أو هي بمثابة إطاره الأوسع، ذلك أن لبنان الحديث الذي تأسس مع إعلان لبنان الكبير عام 1920 يتكون من مجموعة من المقاطعات أو الولايات التي لم تجتمع في إطار واحد ولا خضعت مجتمعة لسلطة دولة واحدة تحمل إسم لبنان، أو الجمهورية اللبنانية، إلا بعد الحرب العالمية الأولى، أي في فترة الانتداب الفرنسي على لبنان، ثم تكرست في الاستقلال السياسي الناجز عام 1943. ذلك يعني أن تاريخ لبنان ما قبل «لبنان الكبير» (الذي ضم إلى جبل لبنان مناطق الجنوب والبقاع وعكار وطرابلس وبيروت) ليس سوى تاريخ المقاطعات، باستثناء مرحلة حكم فخر الدين المعني الثاني الذي امتد نفوذه إلى شمال فلسطين وبعض مناطق من سوريا، كل منها على حدة، أو ملحقة بمقاطعات أخرى كدمشق وعكا وحمص، أو خاضعة لسلطات أخرى تناوبت على هذه المنطقة ما قبل الفتح العربي وما بعده، مروراً بمرحلة الحروب الصليبية، ووصولاً إلى المرحلة العثمانية. وهكذا يكون للطائفية في ظل الدولة اللبنانية ونظامها السياسي البرلماني الديمقراطي معنى مختلف جذرياً عن معناها قبل قيام الدولة. إننا نميل إلى الاعتقاد بأن أخطاء متوازية ومتقابلة ارتكبت في الكتابة عن الطائفية وعن تاريخ لبنان. فمن جهة خلط غلاة المارونية السياسية بين تاريخ الولاية التي حملت إسم جبل لبنان، وتاريخ «الولايات اللبنانية» التي اتحدت تحت اسم الجمهورية اللبنانية؛ من جهة أخرى، وردّاً على المغالاة بالمغالاة، لم تعترف الأصوليات القومية والإسلامية بالدولة الجديدة التي حملت إسم لبنان، تحت ذرائع انتماء المقاطعات أو الولايات الواقعة خارج جبل لبنان إما إلى تاريخ عربي (الموقف من سايكس بيكو) أو إسلامي (المطالبة بعودة الخلافة)، وراحت «تكافح» ضد قيام هذا الكيان «المصطنع»، أملاً بإعادته إلى حضن الأمة العربية أو الأمة الاسلامية أو الأمة الشامية. أما اليسار الشيوعي فكان يحدوه الأمل بفك تبعية هذا النظام للإمبريالية، كشرط لربطه بالقطار الأممي. مما لا شك فيه أن ميشال شيحا، عندما تحدث عن لبنان الاستقلال وبناء الدولة، كان قد استند إلى تاريخ لبنان ال»قديم جداً»، وإلى تاريخ أحدث منه يعود إلى مرحلة الحكم العثماني، مستلهماً من الأول «السيادة» اللبنانية على الأرض والريادة الفينيقية في المتوسط، متجاوزاً المرحلة العربية الاسلامية الطويلة، ليتفادى من الثاني السيطرة الأجنبية العثمانية واستبداداً سياسياً- دينياً مارسته السلطنة ضد المسيحيين، فبدت أطروحاته عن استحداث دولة ليبرالية في لبنان، بالتعاون مع سلطات الانتداب الفرنسية، متعارضة مع طموحات القوى القومية العربية ومعاكسة لتوجهات القوى الاشتراكية. غير أن ميشال شيحا، أياً تكن خلفياته الفكرية، كان يسعى إلى نقل «الولايات المتحدة اللبنانية» إلى مرحلة أرقى يجسدها قيام وطن ودولة دستورية، رغم كل الملاحظات على الدستور والحاجة إلى تعديله وتطويره، فيما توقف المعترضون على أطروحاته عند حدود الاعتراض، وتذرعوا بخلفيته «الطائفية» وبسلوك المارونية السياسية «الطائفي»، وبالنصوص «الطائفية» الصادرة عن لجنة البحوث اللبنانية في جامعة الكسليك، بعد اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، ولم يقدموا من المقترحات سوى تلك التي تلغي نموذج الدولة اللبنانية الديمقراطية، أو تستبدلها بنماذج أخرى، اسلامية أو قومية(عربية أو سورية) أو اشتراكية، وهي كلها تنتمي إلى نمط الحكم الاستبدادي. (سنفصل ذلك لاحقاً في كلامنا عن الدولة). لا يهم هذه الدراسة أن تدين طائفية شيحا أو أن تبرئه منها، كما لا يهمها ما إذا كانت ملاحظات مهدي عليها صحيحة أم لا. لكن، لنفترض أنها صحيحة، فماذا اقترح مهدي عامل رداً على تلك الأطروحات «الطائفية»؟ يأخذ مهدي على شيحا اعتقاده بأن لبنان قديم جداً. وهو اعتراض صحيح. لأن لبنان الذي نعالج فيه موضوع الطائفية السياسية هو الوطن المستحدث بعد انهيار السلطنة العثمانية، الذي تأسس عام 1920 ونال استقلاله عام 1943 وحصل على اعتراف دولي بحدوده ضمن مساحة 10465 كلمتراً مربعاً. لكن مهدي لا يربط ولادة لبنان بتاريخ تحوله إلى دولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة وفي الجامعة العربية، بل بتاريخ ولادة البرجوازية الكولونيالية المرتبطة تبعياً بالإمبريالية،وهو تاريخ غير محدد بدقة لأن المنظومة الرأسمالية بدأت بالدخول إلى الولايات التابعة للسلطنة العثمانية قبل ولادة الجمهورية اللبنانية؛ فيما يشدد آخرون على وصل التاريخ اللبناني بالفتح العربي الإسلامي. الصحيح في ما قاله مهدي هو أن ظاهرة التنوع الديني كانت تتخذ، قبل الاستقلال أشكالاً أخرى في ظل نظام الملل، من بينها ما بدا كأنه صراع على التبشير الديني فيما هو صراع كانت تخوضه البرجوازية أي الرأسمالية لتنقل المجتمعات من مرحلتها الإقطاعية(مع أن الرأسمالية راحت تبشر بدين جديد لا علاقة له بالكنيسة، فقد وضع عمر فروخ ومصطفى الخالدي كتابيهما عن التبشير والاستعمار في البلاد العربية عام 1973 وصدر عن المكتبة العصرية بيروت). غير أن عجز البرجوازية اللبنانية عن إقامة نظام يحترم التنوع ويصونه ويرعاه تحت سقف القانون والمواطنية لا يعود إلى الطابع «الكولونيالي» لهذه البرجوازية، ولا إلى الأطماع الاستعمارية ولا إلى تحول الرأسمالية العالمية إلى إمبريالية، بل إلى اختيار البرجوازية المحلية الناشئة والمتحدرة من مرحلة ما قبل الرأسمالية والمنتمية إلى كل الطوائف صيغة من المحاصصة يتقاسم فيها ممثلو الطوائف الثروة والسلطة، باسم ما يزعمون أنه حقوق للطوائف، فيما هو في الواقع شكل من التسلط على حقوق المواطنين، أي شكل من الاستبداد المموه باسم الطائفية. بعبارة أخرى، اختارت البرجوازية اللبنانية صيغة تطبيقية للدولة الدستورية كان ينتهك فيها الدستور والقوانين من جانب الفريق الأقوى في السلطة الذي كان يتفوق على سواه بعدد النخب والكفاءات السياسية والإدارية مستظلاً وجود الانتداب الفرنسي ومستقوياً به. واللافت في الأمر أن الإشارات إلى التوازن التي نص عليها الدستور كانت ترمي إلى تشجيع الطوائف الإسلامية والمناطق الواقعة خارج جبل لبنان على الانخراط في كيان سياسي جديد، وحمايتها، بالتالي، من تحوّل هذا التفوق إلى غلبة «مسيحية وجبل لبنانية» داخل بنية الدولة وجهازها الإداري، وذلك على عكس ما كان يعتقد أهل «اليسار العلماني» الذين حمّلوا أفكار ميشال شيحا مسؤولية التخطيط النظري لبناء نظام في لبنان قائم على غلبة طائفية مسيحية مارونية. قبل أن نفصل كلامنا عن الفارق الجوهري بين الممارسة النظرية كما تحددت في كتابات شيحا والممارسة السياسية لدى الطبقة السياسية الحاكمة التي أطلق عليها أسم الاقطاع السياسي، نعدّد المآخذ على شيحا التي تشكل، في نظر مهدي، قرينة على فكره الطائفي. فهو يحدد انتماء لبنان «كبلد متوسطي» بديلاً عن انتمائه العربي، تسويغاً لربطه بالمشروع «الغربي» وبالتالي بالصهيونية، ولم تُجدِ نفعاً كل التأكيدات التي أوردها شيحا عن الخطر الصهيوني على العالم العربي وخصوصاً على الكيان اللبناني، وذلك لأنه ساوى بين الماركسية والصهيونية، قائلاً إن «علينا أن نتصدى للخطر الماركسي والخطر الصهيوني معاً» (م. ن. ص170، وهو مقتبس من الصفحة 128 من كتاب لميشال شيحا بالفرنسية عنوانه تنويعات على المتوسط). كما لم يشفع له أن يكون، من بين مسيحيي لبنان وبلاد الشام، من أوائل المدافعين عن العروبة، بحجة أنهم إنما فعلوا ذلك، لا حباً بالعروبة بل ضداً على سياسة السلطنة ونظام الملل العثماني، وخوفاً من «تذويب» لبنان الصغير ذي الغالبية المسيحية في محيط عربي ذي غالبية إسلامية. ولست أخال مهديّاً، لو بقي حياً لما بعد نهاية الحرب الأهلية، إلا في مقدمة من يعيدون النظر بالشعار الذي قرن انتماء لبنان إلى العروبة بمواجهة «انعزالية لبنانية» رآها مهدي وسواه متحدرة من فلسفة ميشال شيحا، وهو شعار رفعه أصحابه، في المقابل، تسويغاً للتحالف مع «حركة التحرر الوطني العربية» ضد «الإمبريالية والصهيونية وعملائها المحليين»، من غير أن يدركوا أن ذلك شكل إسهاماً عملياً في إذكاء نار الانقسام الذي كانت المارونية السياسية سبّاقة في التمهيد له من خلال الممارسة (الحلف الثلاثي ضد الشهابية) لا من خلال النظرية التي يتهم ميشال شيحا بصياغتها. وفي جميع الأحوال، هل يعتبر تفضيل المتوسطية على العروبة دليلاً كافياً على اتهام الفكر بأنه فكر طائفي؟ يأخذ عليه ثالثاً أنه «يجهل تمام الجهل مفهوماً هداماً كمفهوم نمط الانتاج» (م. ن. ص45) وذلك تهرباً من عائلة المصطلحات الماركسية، وبالتحديد مصطلح الصراع الطبقي، وتبريراً لتوزيع اللبنانيين وتصنيفهم كطوائف لا كطبقات، بحسب تعبير مهدي. مع أن شيحا يحدد، بوضوح لا يقبل الشك، أن الاقتصاد الذي يريده للبنان هو الاقتصاد الحر، وقوامه التجارة والخدمات(في كتاب مهدي فصل كامل يمتد على الصفحات من 59 إلى 92 عنوانه التعريف الاقتصادي يتضمن موقفاً مفصلاً من نظام الاقتصاد الحر أو من الحرية الاقتصادية التي يقترحها شيحا للبنان، قائلاً: إن بلداً كبلدنا ...لا بد من أن تحكمه الحرية بأوسع مجالاتها. ويعلق مهدي قائلاً إن الحرية التي يقصدها شيحا هي حرية هذا الاقتصاد وحرية الخدمات). لكن مهدي يقول، من موقع الاتهام، أن «تبرير نظام السيطرة البرجوازية يقضي بإخفاء السر الطبقي»(م.ن.ص57) وأن التركيب الطائفي يخفي التركيب الطبقي (ص.95)، وأن «فرادة» لبنان تقوم على أساس انتفاء وجود الطبقات الاجتماعية وحلول الطوائف محل الطبقات في تحديد تركيب المجتمع اللبناني(ص97)، ليخلص مهدي إلى القول، بأن «إلغاء وجود الطبقات، بقرار إيديولوجي برجوازي طبقي، وإحلال الطوائف محلها، هو، بالتحديد، الذي يقود، منطقياً،إلى إلغاء الشعب اللبناني... كأن في إلغاء هذا الشعب، كشعب، شرطاً أساسياً لديمومة سيطرة البرجوازية الكولونيالية» (ص98). وهل يكفي أن يجهل المرء جهلاً تاماً المصطلحات الماركسية، ولا سيما منها الصراع الطبقي، ليتحول فكره إلى فكر طائفي؟ وهل يكفي اعتماد التحليل الطبقي لإزالة المظاهر الطائفية عن الصراع السياسي في لبنان؟ يجيب مهدي على السؤال الثاني هذا في فصل كامل من كتابه يحمل عنوان، التعريف السياسي، ويمتد على خمس وستين صفحة، مستكملاً فيه نقد التعريف الطبيعي(الفرادة) والتعريف الاقتصادي(غير الطبقي). يرى شيحا أن ميزة لبنان تكمن في تنوعه «الطائفي»، أي في وجود عناصر متباينة بثقافتها وعاداتها وتقاليدها، لذلك لا بد من تأمين توازن بين العناصر المكونة للمجتمع اللبناني، و«لا يمكن تقريب كل هذه العناصر المتباينة وتوحيدها إلا بالسماح لها بالتعايش سياسيا، وبالسماح لها بوضع قوانين معا ضمن مجلس، وبالتمكن من مراقبة تنفيذ هذه القوانين...»(م. ن. ص95). ويبرر شيحا ذلك بقوله «لبنان بلد أقليات طائفية متشاركة. يجب أن يكون لجميع الأقليات فيه مكانها، وأن تحصل على حقوقها، هذا هو مبدأ وجود هذا البلد وهذه هي فرادته» (م. ن. ص97). ظاهرة التنوع اللبناني، إذن، موجودة، يقر بها شيحا ولا ينفيها مهدي، لأنها جزء من عملية الانتقال إلى عصر الحضارة الرأسمالية. وهي ناجمة، في نظر شيحا، عن تعدد الطوائف، لكن مهدي يسارع إلى الاعتراض على هذه الفكرة التي «هي حجر الزاوية في إيديولوجية البرجوازية اللبنانية» (ص97)، لأن التنوع، من وجهة نظر الطبقة العاملة، لا يكون مشروعاً إلا إذا كان ناجماً عن التنوع الطبقي والصراع بين الطبقات. وعلى هذا الاختلاف في التشخيص ينهض اختلاف في الحلول والمعالجات. يرى شيحا أن الحل يكمن في إقامة نظام سياسي يحمي التوازن بين مكونات المجتمع اللبناني، يكون فيه للطوائف تمثيل سياسي لا تمثيل طائفي، فينشأ مجلس نيابي بديلاً عن المجالس الملية، وتكون مهمته «وضع القوانين والإشراف على تنفيذها». وهو ما تضمّنه الدستور اللبناني. غير أن مهدي رأى أن مهمة هذا النظام هي تأمين الديمومة، لا للتوازن بين مكونات المجتمع، بل «لتجدد السيطرة الطبقية للبرجوازية المسيطرة»(ص95)، لأنه يريد أن «يبقي الناس ذرات تتفتت في طوائف تتماسك ضد بعضها البعض. هكذا يتأمن للبرجوازية وحدة تماسكها الطبقي وتتأمن لها ديمومة سيطرتها الطبقية» (ص98)، ويرى الحل في تفكيك الطوائف وإعادة اللحمة بين ذراتها «لتتماسك ضد البرجوازية كطبقات كادحة في حركة صراعاتها الطبقية... وبمقدار ما تصل إلى وحدة تماسكها الطبقي، بمقدار ما يتجانس لبنان في وحدة تماسك شعبه» (ص98). وبإمكاننا أن نستكمل اقتراح مهدي المتخيل الذي يفضي، في نهاية التحليل، إلى أن الحل يكمن في الاشتراكية. لقد أثبتت الوقائع والتجربة المحققة أمرين لا يرقى إليهما شك. فمن جهة أولى بدا أن الطريق إلى الحل البرجوازي، أي إلى الدولة الدستورية، مليئة بالعقبات والمعيقات والموانع الذاتية الداخلية والخارجية، لكنها الطريق الوحيدة الممكنة لنقل المجتمعات من حضارة الريع الخراجية الاقطاعية إلى الحضارة الرأسمالية، وأن السبيل الوحيد نحو الحل هو تطبيق الدستور والعمل على تطويره بديلاً من انتهاكه على يد قوى السلطة، أو تعليقه وإلغائه وإحلال ميليشيات «قوى التغيير الثوري» محله، على غرار ما حصل ويحصل في تجارب الحروب الأهلية في العالم وفي العالم العربي؛ ومن جهة ثانية بدا المشروع الاشتراكي ومتفرعاته من مشاريع التحرر الوطني وفك التبعية والاستقلال الإقتصادي، بصورة مؤقتة وإلى أجل مسمى، أمام طريق مسدود. وبالتالي فإن الحل البرجوازي بدا أكثر واقعية من «إقامة حكم وطني ديمقراطي يفسح في المجال أمام الانتقال إلى الاشتراكية»، وهو عنوان المشروع الذي نصت عليه الوثيقة الصادرة عن الحزب الشيوعي اللبناني في مؤتمره الثاني عام 1968، والذي يستند إليه مهدي عامل لصياغة كامل مشروعه النظري. نعود إلى الفارق الجوهري بين الممارسة النظرية لدى ميشال شيحا والممارسة السياسية لدى الطبقة السياسية الحاكمة، لنبين أن الطائفية ليست التشخيص الدقيق لأمراض النظام اللبناني، إذ ينص الدستور على أن النظام برلماني ديمقراطي وعلى أن اللبنانيين متساوون أمام القانون، وهو نص يخلو من أية إشارة إلى دين الدولة، خلافاً لما هي الحال في دساتير البلدان العربية، ما يعني أنه دستور علماني، ولا سيما أنه منسوخ أو مستوحى من الدستور الفرنسي، أو هو من وضع نخبة من المثقفين الفرنكوفونيين من خريجي الجامعة اليسوعية في لبنان؛ ولنبين أيضاً أن التشخيص المغلوط لا يمكن أن يقدم علاجاً ناجحاً. يقول وجيه كوثراني في نص يحمل عنوان، في نقد دولة الطوائف أم في نقد المنظور الطائفي للدولة؟: «عندما دخلت المجتمعات العربية، ومن ضمنها المجتمع اللبناني مرحلة التنظيمات الحديثة، ومن بعدها مرحلة الدساتير والقوانين المقتبسة عن الدساتير الأوروبية، دخلت عملياً في تاريخ جديد، أي في مفاهيم جديدة: وطن، مواطنة، جنسية(ناسيونالية)، تمثيل برلماني، أحزاب. ولكنها دخلتها مع حمولة اجتماعية وثقافية وسياسية، يتقاطع فيها المعطى الأنثروبولوجي الثقافي للجماعات والملل، مع ذلك التقليد البنيوي التاريخي لظاهرة قيام الدولة وولاياتها ومراتبها وسلطاتها. وأقصد بذاك التقليد أن تكون العصبية وسيلة السياسة، وأن يكون الدين عنصر الاستقواء في السياسة. وقد تكرس هذا التقاطع، لبنانياً في عدد من الأمور القانونية والمؤسسية والثقافية: تقاطع في المادة 95 التي تنص على مراعاة التوازن بين الطوائف في تشكيل الوزارات. صحيح أن التعديل الذي جاء وفقاً لوثيقة الطائف يقول بالمرحلة الانتقالية التي يجب أن تمهد لإلغاء الطائفية السياسية، لكن المؤقت أضحى أبدياً. تقاطع في اعتماد القيد الطائفي المناطقي في التمثيل البرلماني... صحيح أن إصلاحات الطائف لحظت، بل دعت وجوباً، إلى قيام برلمان خارج القيد الطائفي واستحداث مجلس شيوخ يمثل الطوائف (العائلات الروحية)، إلا أن هذا قلّما كان يذكر في خطاب الطبقة السياسية. تقاطع في اتّباع قوانين الأحوال الشخصية للمحاكم والمجالس الملية، الأمر الذي يصنف المواطنين في انتماءاتهم الشخصية المستقبلية وفقاً لولاداتهم تقاطع في سيادة ثقافة اجتماعية رعوية هي من صميم آلية الاجتماع السلطاني والعصباني (وهذا الأخير هو من تعبيرات ابن خلدون)» تقاطع في سيادة ثقافة اجتماعية رعوية، هي من صميم آلية الاجتماع السلطاني» «... وبالتالي فإن المادة 95 والتمثيل البرلماني الطائفي وقوانين الأحوال الشخصية تكرس انتماء المواطن إلى الطائفة أولاً. ثم يتكرس هذا الانتماء ويستدخل في بنية أنثروبولوجية تكاد تلغي تحولات التاريخ وتبتلع إمكانات تغيره وتحولاته، في لحظات الأزمات والحروب الأهلية» «...إذن المأزق الكبير الذي أعاق عملية تشكيل دولة حديثة في لبنان(دولة مواطنة)، يكمن في الفهم الأبدي والحصري لطائفية الميثاق الوطني، وطائفية بعض بنود الدستور. وهذا الفهم الحصري والأبدي يتجسد في ممارسات معظم أطراف العمل السياسي اللبناني» «... والسؤال هو: لماذا لا يقرأ الدستور بكليته؟ لماذا يشدد على الفقرة «ي» ويسكت على الفقرة «ح» التي تنص على أن إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني ينبغي أن يعمل من أجله، ولماذا يعمل فقط بجزء من المادة 95، المناصفة ولا يعمل بالجزء الآخر،المؤقت، ولماذا لا يعمل على إقرار مشروع الزواج المدني الذي طرحه الرئيس الياس الهراوي؟» (ص27-33) يميّز النص، في مقدمته، بين المعطى الأنثروبولوجي والمعطى السياسي، وهو ما أشار إليه أحمد بعلبكي أيضاً، حين ميز بين الانتظام الإجتماعي الإيديولوجي الطائفي للجماعات وبين النظام السياسي الطائفي، ما دفع مهدي إلى القول: «يقول: الطائفية ...، ويعني بها شيئاً. وأقول الطائفية...، وأعني بها شيئاً آخر، مختلفاً»(في الدولة الطائفية، ص208)، وهو تمييز صحيح جداً، من وجهة نظرنا. بعد التمييز، يقول النص بتقاطع المعطيين في أربعة مواقع، في التوازن الطائفي في تشكيل الوزارات وفي التمثيل البرلماني وفي قوانين الأحوال الشخصية وفي سيادة الثقافة الرعوية، وهذا صحيح أيضاً. يتميز هذا التوصيف بالدقة لكونه يندرج في باب البحث الأنتروبولوجي الذي يهتم بالبشر وسلوك الانسان والظاهرات الاجتماعية والثقافية. أما التفسير الذي قدمه عن «تقاطع المعطى الأنثروبولوجي الثقافي للجماعات والملل مع ظاهرة قيام الدولة» فقد أثبتت الأدبيات السياسية المنشورة على امتداد قرن من الزمن، عدم دقته في الربط بين البنية السياسية والبنية الاجتماعية الثقافية، لأنه استعاد السجالات والمناقشات والمحاججات ووسائل البرهنة وأدوات الإقناع، لا بين المنددين بالطائفية من جهة ومادحيها من جهة أخرى، بل بين أصحاب الموقف ذاته من المعترضين على طائفية النظام السياسي. فيما وقف المستفيدون من هذه الظاهرة يتفرجون على مواجهات بين مناهج بحث تنتمي، أو تدعي الانتماء، إلى العلمانية، وتطلق سهاماً طائشة على هدف ملتبس، فتصاب الطائفة، لا الطائفية بما هي انتماء ديني واجتماعي، وتظل أمراض النظام السياسي في منأى عن أية إصابة. هذا ما يؤكده كوثراني نفسه في قوله «إن العمل السياسي اللاطائفي، أو المدني والعلماني، يراوح مكانه أو أنه يتراجع»(م.ن.ص30) بالعودة إلى المقتطفات الطويلة التي اقتبسناها، أعلاه، من نص كوثراني (ورد في كتاب جماعي ضم أعمال الندوة الفكرية التي أقيمت تكريماً لمهدي عامل بمناسبة الذكرى السنوية لاغتياله، شارك فيه أيضاً كل من شربل نحاس وكمال حمدان وبسكال لحود وجاك قبنجي ودميانوس خطار، منشورات دار الفارابي، طبعة أولى 2008)، يتأكد لنا أن كوثراني يقر هو الآخر بوجود هذه الظاهرة السلبية، لكنه لا يتحدث عنها بالحدة ذاتها التي تظهر في نصوص مهدي عامل. فالنظام اللبناني، في نظره، ليس طائفياً، لكنه محل تقاطع بين الطائفي والمدني، والتقاطع محصور، في نظره، في بعض مواد الدستور، ونميل إلى الظن أن هذه المواد الدستورية هي الوحيدة التي تنطوي على إشارات أو تلميحات أو تضمينات للتوازنات الطائفية في النظام السياسي اللبناني. من ناحية أخرى، يبدو واضحاً أن المأزق، في نظر كوثراني، لا يكمن في نص الميثاق ولا في نص الدستور، بل في الفهم الحصري والأبدي لطائفيتهما، وفي التأويل السياسي، أي في الممارسة السياسية لأطراف العمل السياسي اللبناني. وقد استعاد كوثراني نصاً معبراً لميشال شيحا يبدأه بالسؤال: «متى تصبح البلاد غير طائفية؟ ثم يجيب بصيغة التمني والحلم: يوم تنعقد النية بجد على ألا يبقى لبنان بلاداً طائفية، سيكون لزاماً على كل طائفة القبول دون كثير من الصياح، أن يكون تمثيلها في بعض الأحيان أدنى من حجمها، ويكون التعويض جعل تمثيلها أكبر من حجمها في أحيان أخرى... وأي ضير في أن تغيب عن الحكومة طائفتان أو ثلاث في وقت من الأوقات؟» (م.ن.ص30. لم يذكر كوثراني اسم المرجع الذي اقتبس منه كلام شيحا). لا شك أن الطائفة المقصودة ب»أدنى من حجمها» هي الطائفة المارونية لأنها هي التي كانت ذات الحجم الأكبر زمن الاستقلال، وأن الكلام عن التوازن الطائفي في حينه لم يقصد منه حماية الغلبة المسيحية بل، كما ذكرنا أعلاه، حماية الطوائف الإسلامية منها. إن كلام شيحا هذا يؤكد وجود مسافة كبيرة بين الممارسة النظرية التي تأخذ بالاعتبار «تقاطع المعطى الانثروبولوجي الثقافي للجماعات والملل مع ذلك التقليد البنيوي التاريخي لظاهرة قيام الدولة»(كوثراني)، والتي ترى أن وجود الطائفية في المجتمع والعادات والتقاليد والثقافة أمر طبيعي جداً، أما وجودها في الدولة ومؤسساتها فيتنافى مع الإيديولوجية البرجوازية الساعية إلى بناء الدولة الحديثة، دولة المواطنة. كما يؤكد كلام شيحا أن العطل ليس في النص، بل في الممارسة؛ ليس في النظرية بل في التطبيق، ودليلنا، نحن، على ذلك هو أن رئيس الجمهورية فؤاد شهاب وقّع عام 1959مراسيم تشكيل حكومة برئاسة رشيد كرامي، لم تتمثل فيها جميع الطوائف اللبنانية، بل هي لم تضم غير اثنين من الموارنة واثنين من السنة، وغاب عنها ممثلو الطوائف الأخرى، في حين راح يعلو «صياح» الشيعية السياسية كثيراً، وصياح المارونية السياسية بعد الطائف للمطالبة بحصص لميليشياتهما، بذريعة حماية حقوق الطوائف. كل ذلك تطبيقاً للنصوص ذاتها من الدستور، وكأن المصطلحات الدستورية، كالميثاقية والشرعية تحولت إلى نصوص شعرية أو آيات «حمّالة أوجُهٍ وتحتاج إلى رجال»، ولا رجال. الملاحظة الثالثة هي أن النص يقترح حلولاً تدعو، لا إلى تغيير النظام، بل إلى إدخال تعديلات على الدستور والقوانين تفسح في المجال لا «أمام الانتقال إلى الاشتراكية» كما ترى أحزاب اللّه اليسارية، ولا نحو «الإسلام هو الحل» كما تريد أحزاب اللّه الدينية، بل تعزز المواطنية على حساب الانتماء الطائفي. غير أن هذه الحلول التي يقترحها كوثراني (عدم الاستنساب في قراءة الدستور، برلمان خارج القيد الطائفي ومجلس شيوخ يمثل العائلات الروحية، برنامج إنماء، قانون الزواج المدني) تغرف من معين التجاذبات السياسية القائمة التي تدير دفتها القوى ذاتها الممعنة في انتهاك الدستور، ولذلك فهي(الحلول) معرّضة لشتى أنواع الاجتهادات والتأويلات التي من شأنها إعادة النقاش في كل مرة إلى نقطة الصفر، أي إلى النقطة التي يتخفى فيها الفاعل الأساسي، المحاصصون، خلف «سد سميك تشكّل في وجه عملية التغيير والإصلاح المدني... مؤلف من أنثروبولوجيا الطوائف وذاكرتها الجماعية، ومن ممارسة السلطة على قاعدة استقواء السياسة بالدين، ومن الاستنسابية في تطبيق الدستور» (كوثراني، م.ن.ص32-33). إذن ما العمل؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، سنستكمل مساجلات مهدي مع ما يسميه الفكر الطائفي والفكر الطائفي المضاد. بعد أن انتهى في كتابه الأول من نقاش أفكار ميشال شيحا وكراريس الكسليك، انتقل إلى نقاش مجموعة من المفكرين والكتاب اللبنانيين، يضعهم مهدي في خانة الفكر البرجوازي الطائفي، فكانت دراسته الثانية عن الطائفية بمثابة نقد لأفكارهم ولمناهج الكتابة عندهم، فضلاً عن أن المساجلة التي كان يغلب عليها الطابع النظري مع ميشال شيحا صار يغلب عليها الطابع السياسي مع سواه من المفكرين والكتاب. الذين ناقشهم مهدي كانوا، بحسب رأيه، يكررون الأفكار ذاتها. ففي عدد خاص أصدرته مجلة الواقع (العدد 5-6 تشرين الأول 1983) انتهت الدراسات فيها، بحسب مهدي، «بموقف سياسي واحد، في صيغة تكاد تكون واحدة، هي ضرورة دعم الدولة المركزية وتقويتها (وكذلك الجيش) دولة حزب الكتائب، ودولة معاهدة الذل مع إسرائيل»(في الدولة الطائفية، دار الفارابي، 1986، ص12). سنخصص لموضوع الدولة فصلاً مستقلاً نناقش فيه هذه الفكرة التي ساقها مهدي وكل الأفكار المتعلقة بموقف أحزاب اللّه من الدولة، لنستكمل الآن استعراض السجال الفكري السياسي الذي أجراه مهدي في كتابه عن الطائفية. في مساجلته مع أنطوان مسرّة تناول مهدي مفهوم الفرادة الوارد في أقوالٍ لميشال شيحا «جرت مجرى المثال، وصارت كأنها من البديهيات»(م. ن. ص16) وكررها بعده مفكرون من مختلف الاتجاهات، ناصيف نصار ذو التوجهات القومية ومسعود ظاهر ذو التوجهات الماركسية وسواهما (راجع ص16 مع الهامش). وتناول أيضاً مفهوم التعددية والحكم المتوازن ودور الدولة المركزية (الذي أكد عليه حازم صاغية في مقالة له في جريدة السفير في 28-2-1985 فلم يسلم نصه من نقد مهدي)، وعلاقة التعددية بالتقسيم والدولة الفدرالية، وموضوع الديمقراطية التوافقية، وموضوع الحياد اللبناني(بلد متوسطي بحسب شيحا)، والصراع مع الصهيونية ومشروع إقامة «الوطن القومي المسيحي ودولته المتصهينة بدعم مباشر من إسرائيل... وتوقيع معاهدة 17 أيار» (ص48-49)، بالإضافة، طبعاً، إلى الثنائية القائلة بوجود صراع بين «فكر ديمقراطي ثوري وفكر برجوازي طائفي»(ص53) ناصيف نصار، في دراسة له بعنوان، لبنان بين الانفجار والانصهار، منشورة في العدد ذاته من مجلة الواقع، يرى أن «الفرادة» اللبنانية هي طريقة مبتكرة لحل «إحدى أقدم مشكلات الشرق الأدنى، أي مشكلة الاختلاف والوحدة». مهدي يرى أن المسكوت عنه في هذا الكلام هو أن لبنان لا ينتمي إلى العروبة، و«أن بينه وبين جيرانه(البلدان العربية) فاصلاً يحول دون أن يكون منهم ... فالعلاقة بينه وبينها علاقة جار بجار ... وأن جمع القائلين بفرادة لبنان، أو بتعدديته الطائفية، أو حتى بمسيحيته القومية، من شيحا إلى شتى قادة «القوات اللبنانية، مروراً بمختلف ممثلي الفكر الطائفي، ينطلقون كلهم من طابع لبنان الطائفي لنفيه طابعه العربي» (في الدولة الطائفية، ص.56). يأخذ مهدي على نصار أنه يميز بين طوائف لبنان الرئيسية وطوائفه الصغيرة ومقياسه في هذا التمييز قياس كمي هو الحجم العددي الذي يمنح الطائفة الحق بتبديل «مقامها» بين الطوائف إذا ما تبدل حجمها العددي، ولهذا فهي مطالبة باحترام صيغة التعايش أو الشراكة لأن «لبنان بلد أقليات طائفية متشاركة» غير أن مهدي، واعتراضاً على قول نصار عن شيحا وأتباعه من إيديولوجيي الطائفية اللبنانية، «أنه لم ينظر إلى الشراكة إطلاقاً كمرحلة انتقالية نحو وحدة وطنية حقيقية»(م. ن. ص62)، يشير في هامش الصفحة ذاتها إلى أن هذا القول ليس دقيقاً، لأن شيحا، في كتاباته الأولى، «يرى في الطائفية مرحلة انتقالية نحو وحدة وطنية اجتماعية، لكنه لا يلبث أن ينسى ما قال ليرى في الطائفية، في كتاباته اللاحقة،أمراً طبيعياً، أعني ملازماً لطبيعة لبنان». هنا بالضبط يوجه مهدي دراسته وجهة البحث في المنهج، فيرى أن منهج ناصيف نصار تراوح بين الديكارتي والهيغلي، وأن عليه وعلى سواه ممن يرغب في تناول ظاهرة الطائفية «واجب النظر فيها بمنطق الفكر المادي ... والتحليل الطبقي»(ص65). غير أن مهدي يتراجع عن هذه الدعوة الواجبة قائلاً: «لست أطلب من نصار أن يعتمد في تحليله المسألة الطائفية منهج التحليل المادي»(ص81)، كما يتراجع، وهو أمر مثير للدهشة، عما تجمع عليه كل الكلاسيكيات الماركسية قائلاً إن «سيرورة التغيير السياسي هي التي تحكم، في نهاية التحليل، سيرورة تغيير الاقتصادي- الاجتماعي»(ص65)، ليعود بعد ثلاثين صفحة إلى توليفة «لايموت فيها الذئب ولا يفنى الغنم، فيقول: «السياسي، دون العوامل الأخرى، هو دوماً الرئيسي، في تحدده نفسه بالأساسي الذي هو الاقتصادي، وهو هو المسيطر أيضاً، في شكل رئيسي منه هو الطائفي» (ص98). ذلك أن المتعارف عليه لدى الماركسيين، حتى في كتابات مهدي النظرية، أن البنية التحتية، أي الاقتصاد، هي المحدد في نهاية التحليل، لا البنية الفوقية المتمثلة بالسياسة والإيديولوجيا. غير أن مهدي رأى أن يحل المشكلة بإدخالنا في متاهة راح يميز فيها بين الأساسي والرئيسي والمسيطر والمهيمن، ليرضي التأويل والتأويل المضاد. (نحن اقترحنا مصطلح أولية السياسة في عملية التغيير وأسهبنا في شرح فرضيتنا في كتابنا، هل الربيع العربي ثورة؟). فلماذا هذا الانقلاب المفاجئ ثم التراجع عنه لاحقاً؟ الجواب بسيط عند مهدي: الفكر الطائفي يرغب في تأبيد هذا النظام السياسي الطائفي وتأمين ديمومة التجدد له، من خلال تعزيز سلطة الدولة، لأن «بهذه الديمومة تدوم السيطرة والهيمنة... ويتعطل تجدد النظام»(ص70-71)، في حين لا يرى مهدي حلا لمشكلة الطائفية إلا بتغيير النظام، ولا تغيير صحيح، من وجهة نظره، إلا بالقضاء على دولة البرجوازية الكولونيالية واستبدالها بدولة مشتقة من نظرية التحرر الوطني مع بسام الهاشم يتكرر السجال ذاته، بحسب مهدي، تعبيراً عن الصراع ذاته الذي هو «صراع طبقي في حقل الفكر بين النقيضين الطبقيين، البرجوازية والطبقة العاملة. وموضوعه، في نهاية التحليل، سياسي. والتناقض فيه قائم بين موقفين طبقيين مختلفين، موقف برجوازي يدعو إلى تأبيد النظام السياسي الطائفي، وموقف نقيض يدعو إلى تغيير النظام، هو موقف ديمقراطي وطني، وهو هو موقف الطبقة العاملة» (ص101). غير أن الهاشم لم يكرر مقولات شيحا بل أضاف عليها ما يناقضها. فمن موقع الإقرار بوجود الطائفية، يرى أن التوصل إلى بناء «كيان أكثر تماسكاً ومناعة في وجه الأخطار، داخلية كانت أم خارجية» يتطلب، لا التمسك بوحدة الكيان الوطني والمجتمعي، بل اختيار الشكل المناسب لهذه الوحدة من بين الأشكال المحتملة، الاندماجي،الاتحادي، التعددي، الوجداني، التنوعي، الأحادي،(ص87) وهو، برأيه شكل الوحدة الفدرالية أو الكونفدرالية، الذي يعترف اعترافاً صريحاً بوجود فوارق (بين الطوائف)، ويكرسها تحت مظلة الدولة المركزية (ص83-123). مهدي اعترض على فكر شيحا الذي اقترح إقامة نظام ديمقراطي برلماني لحل مشكلة التعدد الطائفي، واعترض على فكر بسام الهاشم ومثله على فكر إيليا حريق(مقالة منشورة في مجلة مواقف، عدد46، ربيع 1983)، الفكر الذي يقترح الفدرالية لحل المشكلة ذاتها، وهي ليست سوى الاسم المستعار لمشروع التقسيم، بحسب رأي اليسار اللبناني، فضلاً عن أن كلا الحلين يفضيان، برأي مهدي، إلى تكريس سلطة البرجوازية والهيمنة الطائفية وتأبيد النظام الطائفي. غير أن المساجلة مع الهاشم لا تقتصر على جانب نظري يتواجه فيه، برأي مهدي، منهج كارل ماركس مع منهج ماكس فيبر، بل تتجاوزه إلى نقاش عملي يطغى على النظري ويضعفه، لأنه يتناول مجريات الحرب الأهلية المعقدة ويدفع بها إلى أتون ثنائيات قاتلة تجعل الحل الوسط مستحيلاً أو كالمستحيل. ساجل مهدي عامل مع ميشال شيحا ومع الغارفين من معينه على امتداد حوالي خمسماية صفحة، في الكتابين، منتقداً منهج تفكيرهم، مفنّداً الحجج قارئاً «المسكوت عنه» فيها، ليخلص إلى دحضها ونقضها. ذلك أن همه كان منصبّاً على «نقض الفكر الطائفي». يمكن القول، بصرف النظر عن صحة أو عدم صحة ما توصل إليه مهدي، إن المسار الذي سلكه لبلوغ هذا الاستنتاج كان مساراً منطقياً، لأنه عرض الأفكار وفندها وفككها وأعاد تركيبها ورد عليها وحاججها وعارضها، مستخدماً كل أساليب الكر والفر والهجوم والدفاع والمناورات الفكرية بغية إقناع القارئ بأن فكر ميشال شيحا والمدافعين عن النظام اللبناني هو فكر طائفي، ومن المنطقي، بالتالي، إذا كان استنتاجه صحيحاً، أن يدعوهم إلى استبدال منهج تفكيرهم المثالي، الذي يخفي الحقيقة، بفكر مادي يكشف عنها هو، من وجهة نظره، فكر الطبقة العاملة. غير أن مهدي، ومن غير مقدمات، ومن غير أن يحلل أو يجادل أو يحاجج أو يناقش أي مادة من مواد الدستور اللبناني، استعجل نعت النظام بأنه نظام طائفي ودعا إلى تغييره، أي أنه، بلغة القضاء والقانون، أصدر حكماً من غير حيثيات وأطلق إدانة من غير إثبات ولا قرينة. ولولا ذاك النص اليتيم الذي ورد خلال السجالات بين المعترضين على الطائفية، والذي يشير إلى ما يمكن أن يشكل مظاهر طائفية في النظام اللبناني، عنينا به النص الذي اقتبسناه من وجيه كوثراني، لأمكن القول بأن كلام مهدي عن النظام هو نوع من المصادرة على المطلوب أو نوع من الأحكام المسبقة. صوّب مهدي على الطائفية في الفكر ليدين الطائفية في النظام. خلل منطقي واضح هو في أساس ركاكة الشعار الذي أطلقته الحركة الوطنية اللبنانية في بداية الحرب الأهلية، عنينا به شعار إلغاء الطائفية السياسية. من تلك الثغرة رد المعترضون على الشعار بالقول، إذا كانت الطائفية لعنة وطنية فلماذا نكتفي بإلغائها من السياسة وحدها، فضلاً عن أن إلغاءها من السياسة شيء وإلغاءها من النظام شيء آخر. فقد أجمع المحللون على أن العطل الطائفي يكمن في الممارسة السياسية لا في النظرية، أي في سلوك السياسيين، لا في الدستور والقوانين وهي كلها علمانية، بل في انتهاكهم الدستور والقوانين، وإذا كان لا بد من إدانة لأحد أو لجهة، فللبراكسيس السياسي، بحسب لغة مهدي، لا للنظام السياسي. يتأكد قولنا هذا في سجال لا يقل حماوة أجراه مهدي مع المعترضين مثله على النظام السياسي والمطالبين مثله بتغييره، أو على الأقل بإجراء تعديلات ضرورية عليه. لكنه لم يناقش معهم طائفية النظام بل طائفية الفكر؛ بتعبير آخر، إذا كانت حجة مهدي تقوم على فرضية أن دفاع الفكر الطائفي عن النظام دليل على طائفية النظام، فهل تصح الحجة على من كان يشارك مهدي في إدانة النظام وفي المطالبة بتغييره؟
5 ــ الطائفية في الفكر اليساري في القسم الثاني من كتابه الثاني، في الدولة الطائفية، يخوض مهدي نقاشاً حاداً مع مثقفين وسياسيين يشاركونه الانتماء إلى الفضاء الفكري ذاته: مسعود ضاهر الأستاذ الجامعي والمؤرخ الشيوعي، أحمد بعلبكي رفيق مهدي في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وزميله في الجامعة اللبنانية، اللذين يستحوذان على الجانب الأكبر من النقاش، إضافة إلى جورج حاوي الأمين العام للحزب الشيوعي وكمال حمدان عضو لجنته المركزية، ومحسن ابراهيم الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي ونائبه فواز طرابلسي. وقد استكمل السجال النظري مع آخرين من أهل الخندق الفكري ذاته في كتاب ظهر بعد اغتياله ونشرته دار الفارابي يحمل عنوان: في نقد الفكر اليومي. موضوع السجال بين هؤلاء الشيوعيين لم يتطرق إلى البحث عن إثباتات وقرائن وأدلة تؤكد طائفية النظام، كأن طائفية النظام لا تحتاج إلى براهين، فهو طائفي «بالبداهة» وبإجماع مفكريهم وقادتهم ومؤتمراتهم الحزبية. «فالعلة في وجود الدولة كدولة طائفية... والطائفة علاقة سياسية تتجدد بتجدد ذاك النظام وتدوم بديمومته»(ص270). لكن السجال يدور حول نقاط خلافية أخرى تتعلق بالأسس النظرية التي ينهض عليها تشخيص المرض ووصف العلاج. اختلاف في زاوية النظر إلى هذه الظاهرة وفي منهج البحث عن أسبابها. غير أن مهدي يخرج من البداهات حين لا يراها مقنعة ولا كافية، ليخوض نقاشاً سياسياً مباشراً يتراجع السجال فيه عن مستواه النظري ليدخل في متاهة القضايا الساخنة، من القضية القومية عموماً والقضية الفلسطينية خصوصاً إلى حركة التحرر الوطني العربية والعالمية، وصولاً إلى قضايا التقسيم والفدرالية والفاشية و»الطوائف الوطنية»، مكرراً في ذلك ما ورد في وثائق الحزب الشيوعي والحركة الوطنية اللبنانية من اتهامات في حق الفريق «الانعزالي» المنخرط في تحالف مع الصهيونية والاستعمار والامبريالية ضد حركة التحرر بقيادة الطبقة العاملة افتراضياً، وبقيادة حزب الطبقة العاملة نظرياً، لكن، عملياً، بقيادة «الأنظمة التقدمية العربية» المنخرطة في تحالف يقف على رأسه الاتحاد السوفياتي. نورد في ما يلي مقطعاً طويلاً من مساجلة مهدي مع أحمد بعلبلكي يقول فيها: «الطائفية هي الطائفية، سواء كانت اسلامية أو مسيحية. بل لا معنى، أصلاً، لكلام على طائفية اسلامية وطائفية مسيحية. والوعي الطائفي هو الوعي الطائفي، سواء كان درزياً أم شيعياً أم مارونياً...الخ. ولا فضل لهذا على ذاك إلا بالموقع الفعلي الذي يحتله في حقل الممارسات السياسية الطبقية. بل إن مثل هذا التفضيل نفسه له طابع طائفي، لأنه فعل تحليل طائفي (هو يقصد هنا تحليل بعلبكي وموقف جورج حاوي المشار إليه في الصفحة 237 عن أسقاط اتفاق 17 أيار بقوة الطوائف الوطنية، الشيعة والسنة والدروز). أما التحليل الطبقي فلا يفاضل بين طائفة وأخرى، أو بين وعي طائفي وآخر، ما دام ينطلق، في تحليل الصراع وأطرافه، من مواقع هذه الأطراف في حقل الصراع الطبقي، ومن وضع حركة هذا الصراع نفسه في الأفق التاريخي للسيرورة الثورية...» (ص236). لينتقل في الصفحة التالية إلى القول: «أوجز فأقول: لم يكن النهوض الذي شهدناه في مرحلة النضال ضد اتفاقية 17 أيار، والذي بلغ ذروته في معركة الجبل والضاحية، نهوضاً وطنياً ديمقراطياً لأنه كان (بسبب كونه) ذا طابع طائفي مذهبي. أو قل، في تعبير آخر، إن طابعه الوطني الديمقراطي ذاك لم يأته من طابعه الطائفي المذهبي هذا، ولم يكن يكمن فيه. بل إن الموقع الفعلي الذي كانت القوى الطائفية نفسها، من دروز الجبل، وشيعة الضاحية، وسنّة بيروت، أقول إن الموقع ذاك الذي كانت تحتله هذه القوى في حقل الصراع الطبقي ضد إسرائيل والكتائب والقوات الأميركية، هو الذي كان يحدد فعلياً الطابع الوطني الديمقراطي، بل الثوري، لنهوضها... إن الشكل الطائفي هو الذي كان المسيطر في وعيها(الطوائف) الطبقي، وهو الذي فيه كانت تمارس صراعها الوطني الديمقراطي ضد التحالف الثلاثي الرجعي. لكن هذا الشكل الطائفي لا يلغي الطابع الوطني الديمقراطي لهذا الصراع... فالشيعي، مثلاً، ثوري من حيث هو يحتل في حقل الصراع ضد إسرائيل وأميركا والفاشية، موقع الثوري. وهو رجعي إذا احتل في هذا الحقل موقع الرجعي. ويصح على الآخرين ما يصح عليه، سواء بسواء... فالموقع الثوري هو في حقل الصراع بين الفاشية والديمقراطية، وفي مجرى هذه السيرورة الثورية التي هي هي، في هذه الحرب الأهلية المستمرة، سيروة الثورة الوطنية الديمقراطية»(ص238-240) يكشف لنا هذا النص، وبوضوح لا لبس فيه، أمرين على غاية الأهمية في بحثنا هذا عن الطائفية. الأمر الأول هو أن مهدي لا يختلف مع محاوريه على تشخيص ظاهرة الطائفية بل على تفسيرها، أي على تحليل أسبابها ومبرراتها وتجلياتها في الفكر، أي أن اختلافه معهم ليس سوى اختلاف في المنهج، منهج النظر إلى الظاهرة، وهو ما يتأكد، في الكتاب موضوع البحث، حين يخلط مهدي خلطاً واضحاً، بين الطائفة والطائفية، قائلاً: «الطائفة علاقة سياسية....إن وجود الطوائف جميعاً، لا وجود طائفة واحدة فقط، هو رهن بوجود ذاك النظام الطائفي الذي هو هو نظام هذه السيطرة الطبقية القائمة بهيمنة الفئة المهيمنة (يقصد الطائفة المارونية). فبزوال هذا النظام تزول الطوائف، بالمعنى السياسي لا بمعنى الانتماء الديني، إذ لا وجود للطوائف إلا في هذا النظام وبه، من حيث هو نظام وجودها، في علاقات توازنها الهيمني»(ص270)؛ ولست وحدي من لاحظ هذا الخلط، فقد سبقني أحمد بعلبكي إلى قراءة المصطلح الوارد في هذا النص، الطائفة، وكأنه خطأ مطبعي كان مهدي يقصد فيه الطائفية لا الطائفة. غير أن مهدي يصرّ على أنه يقصد الطائفة وليس الطائفية، ويحكم على قراءة بعلبكي، وبالتالي على قراءتي، بأنها «قراءة سيئة للنص المنقود»(ص205)، مع أن بعلبكي يقدم تعريفاً سوسيولوجياً أكثر تماسكاً وأكثر مطابقة، حين يرى أن الطائفية انتظام إيديولوجي اجتماعي، فيما ينظر إليها مهدي كنظام سياسي برجوازي كولونيالي. كما يتأكد أيضاً في تكراره مئات المرات نعت النظام بالطائفي من غير دليل، بل بأدلة كثيرة متوافرة في الفكر لا في النظام، في الفكر الطائفي»اليميني» المدافع عن النظام، كما في الفكر «اليساري»، الطائفي هو الآخر، بحسب مهدي، الساعي إلى تغيير النظام، أي في طريقة التفكير، أي في المنهج. الأمر الثاني الذي يتكشّف عنه هذا النص هو أن مهدي، بعد إقراره بإمكانية وقوف الطائفة موقفاً ثورياً ووطنياً وديمقراطياً، يشتقّ معيار ثورية الطائفة ووطنيتها وديمقراطيتها أو انعزاليتها وفاشيتها، من الممارسة السياسية، البراكسيس، لا من النظرية. «فالشيعي يكون ثورياً إذا احتل في حقل الصراع ضد إسرائيل وأميركا والفاشية موقع الثوري، ويكون رجعياً إذا احتل موقع الرجعي»؛ كما أن موقف القوى الطائفية نفسها، في معركة إسقاط اتفاقية 17أيار (دروز الجبل وشيعة الضاحية وسنة بيروت) هو ذو طابع وطني وديمقراطي لأنه، بالمعيار الحزبي، ضد التحالف الثلاثي الرجعي(اسرائيل وأميركا والفاشية، أو بعبارات أخرى، الامبريالية والصهيونية والرجعية المحلية)، حتى لو كانت هذه الطوائف تخوض صراعها الوطني الديمقراطي الثوري بوعي طائفي، ذلك أن موقعها من الصراع، لا وعيها، هو الذي يحدد الطابع الوطني الديمقراطي الثوري، أو الرجعي الانعزالي، لموقفها. الممارسة هي الأصل إذن، لا النظام ولا البناء النظري الفلسفي الذي قام عليه «الكيان الطائفي». نقل الصحافي محمد الحجيري عن أحمد برقاوي، الأستاذ في جامعة دمشق، قوله إنه «بعد اغتيال حسين مروة... بأيام، اجتمعنا في بيت الدكتور طيب تيزيني، على شرف حضور الفيلسوف والشاعر الماركسي المحبوب، مهدي عامل، وسئل مهدي: كيف ستكون العلاقة بينكم وبين حزب اللّه وأمل بعد اغتيال حسين مروة؟ فأجاب: لا بد من التحالف معهما، نحن في معركة صعبة. فقلت: من قتل حسين مروة سيقتل مهدي عامل، أخاف عليك. فتبسم مهدي بسمته الطفولية وأجابني: لا تخف علي. ولم يمض على اغتيال حسين مروة أشهر حتى اغتيل مهدي».(جريدة المدن الإلكترونية، 20 أيار2017). التحالف الذي لا بد منه مع «الطوائف الوطنية» هو خلاصة التفكير في الطائفية لدى مهدي والحزب الشيوعي، وتسويغاته مشتقة دوماً من نظرية التحرر الوطني التي تحجز للطوائف، موقعاً «وطنياً ديمقراطياً» في الصراع مع الأمبريالية والصهيونية، حتى لو مارست تلك الطوائف صراعها بوعي طائفي، لأن المهم هو الموقع من الصراع لا الوعي. ربما شكل ذلك إجابة على تساؤل طرحته في بداية هذا البحث عن مسؤوليتنا نحن ومهدي وأصدقائه ورفاقه في الحزب، ممن لم نشارك في إطلاق الرصاص عليه، أي مسؤولية الخط السياسي والتحليل السياسي الخاطئ، عن جريمة اغتياله. يبحث مسعود ظاهر في الجذور التاريخية للمسألة الطائفية اللبنانية فيعيدها إلى المرحلة الممتدة بين 1697 و1861، ويسارع مهدي إلى الاعتراض على منهجه، استناداً إلى مبدأ نظري كان قد «استفاض في تحليله» في كتاباته السابقه، فيقيم التمييز بين «طائفية القرن السابع عشر أو الثامن عشر أو التاسع عشر وطائفية البنية الاجتماعية الكولونيالية اللبنانية القائمة»، متهماً تلك الكتابة التاريخية(يقصد بحث مسعود ضاهر) بأنها «تضع المسألة الطائفية في أفق تاريخي خطي هي فيه في علاقة تماثل بذاتها، على امتداد أزمنة مختلفة لأنماط من الانتاج مختلفة»(ص142). هذا مع العلم أن مسعود ضاهر ليس الوحيد الذي تحدث عن جذور تاريخية للمسألة الطائفية، فالباحث جاك قبنجي، الماركسي هو الآخر، يقول إن الدولة في لبنان «هي حصراً وديعة ترتيبات القرن التاسع عشر بعيد «حروب» الأربعينات والستينات منه التي «أثمرت» نظام القائمقاميتين على أساس انقسام ماروني - درزي لم يلبث أن تحول إلى انقسام مسيحي - مسلم مع إعلان دولة لبنان الكبير في عشرينات القرن الماضي» (إشكالية الدولة والتنمية والمواطنة في لبنان، مؤلف جماعي أصدرته الجمعية اللبنانية لعلم الاجتماع عن دار الفارابي، 2009، ص13) وفي السياق ذاته يتهم مهدي نسيبه،» الاقتصادي الشاب اللامع»، كمال حمدان، بارتكابه الخطأ المنهجي ذاته حين ردّ الطائفية إلى علاقات ما قبل الرأسمالية(ص158). ثم يتابع مهدي نقاشه في المنهج مع المؤرخ مسعود ضاهر «فيضبطه» متلبساً «جريمة» الخلط بين المفاهيم والمصطلحات الماركسية، ويتولى، بطريقة تعليمية، شرح العلاقة بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج، والعلاقة بين العام والخاص، والعلاقة بين الطبقي والطائفي، وتفصيل التمايز بين التناقض الاقتصادي والتناقض السياسي، أو بين المشكلة والمشكلية، محدداً بمنهجه الصارم خطر الخلط النظري الذي يعبر عن «غموض في المنهج لا ينتج عنه سوى غموض في المعرفة... وفهم خاطئ للتاريخ»(ص144-150). في إطار نقاشه مع مسعود ضاهر، يتناول مهدي تناولاً سريعاً وعابراً بعض أفكار عن الطائفية وردت في نصوص لمحسن ابراهيم وفواز طرابلسي، في كتابين لهما عن الماركسية من منشورات بيروت المساء صدرا في عامي1984 و1985، بعد أن استوقفه استخدامهما مصطلحات ومفاهيم ماركسية على غير وجهها الصحيح، مثل مفهوم علاقات الإنتاج في قول طرابلسي «إن الولاءات العائلية والطائفية هي جزء من علاقات الإنتاج» (ص190)، ومفهوم البنية الفوقية في قول محسن ابراهيم عن الامبريالية أنها تميل دوماً إلى «استخدام التشكيلات التقليدية والعلاقات قبل الرأسمالية بنى فوقية تحتضن نمو رأسماليات تابعة وتحدد تبعية سلطات سياسية حاكمة»(ص194) أو في قول طرابلسي «الطائفية هي البناء الفوقي للمجتمع اللبناني». يرى مهدي أن ذلك «نتيجة غموض الفكر في تحديد مفهوم الطائفية وفي تحديد مفهوم علاقات الإنتاج، وأنها، أيضاً، نتيجة الخلط، في تحديد هذين المفهومين، بين السياسي والاقتصادي»(ص191). مع الشيوعيين كان همّ مهدي منصبّاً على تقديم الأدلة والبراهين والحجج لا على طائفية النظام بل على طائفية الفكر، ربما لأنه يعتقد بأن طائفية النظام من البداهات اليسارية التي لا تحتاج إلى دليل. لكن المسكوت عنه في نقاشه، بالطريقة ذاتها والمنهج ذاته والهمّ ذاته، أي إثبات طائفية الفكر، مع من لا يشاركونه الموقع اليساري ولا الوعي الطبقي ولا الرغبة في التغيير، يعني أنه لم يكن سهلاً عليه ولا على سواه تقديم أدلة وبراهين تؤكد أن النظام اللبناني نظام طائفي، لأن الدستور الذي يتبناه هذا النظام ويستند إليه يخلو من أية إشارة إلى اعتماد الدين مرجعية مباشرة أو غير مباشرة له، ولأن التوزيع «الطائفي» للمسؤوليات السياسية والإدارية هو من صميم الممارسة السياسية(البراكسيس) لا من صميم النظرية، وهو، بحسب تعبير مهدي، ليس توزيعاً على الطوائف بل على سياسيين ينتمون إلى الطوائف، ويوظفون انتماءهم تحصيناً لمصالحهم الخاصة، ما يجعل النعت الأكثر مطابقة للحقيقة هو أن النظام نظام محاصصة بين ممثلي الطوائف وليس نظاماً طائفياً، وبالتالي فإن الحل لا يكون بأن نلغي من النظام ما هو موجود في الفكر وفي الممارسة وفي العلاقات الاجتماعية، لا في النظام، أي أن نلغي من النظام ما ليس موجوداً فيه أصلاً، بل يكون بإلغاء الموجود في الممارسة والمتجسد بتواطؤ ممثلي الطوائف على انتهاك الدستور والقوانين. كان مهدي يعبّر، بلغته الفلسفية ومنهجه الصارم، عن الرأي ذاته المنصوص عليه في وثائق الحزب الشيوعي والذي يتكرر، بأشكال مختلفة في كتابات مثقفيه وقادته، والذي يرى أن العلمنة هي خطوة ضرورية على طريق بناء الدولة الاشتراكية. غير أن أحزاب اللّه اليسارية والقومية لم تكن علمانية بغير الإسم والشعار، فهي أزاحت المصطلح عن دلالته الأصلية بما هي تمييز قاطع وحاسم بين سلطة الدولة وسلطة المؤسسة الدينية، وحوّلته من اعتراض على الدور السياسي الذي كانت تمارسه المؤسسة الدينية في الحضارة السابقة، إلى مناكفة مع المعتقدات والمفاهيم المشتقة من الأساطير والعقل الغيبي، أي إلى مناكفة مع الوعي الشعبي الذي تمثلت له العلمانية إلحاداً أو، على الأقل، صراعاً بين الدين والدولة، وتمثلت له الدولة، بالتالي، بصيغتها الحديثة المنشودة، بمثابة العدو للدين، ما جعل هذا الوعي أرضاً خصبة لنمو كل الأفكار المناهضة للعلمنة ولقيام الدولة الحديثة، والمنحازة إلى حركات التمرد ضدها، وعلى هذه الأرض بالذات انبنى التحالف غير المقدس بين كل الأصوليات الدينية والقومية واليسارية. سمير سعد، عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي، كتب الأفكار ذاتها بأسلوبه ولغته، فرأى كما رأى مهدي، أن الطائفية «شكل أساسي من أشكال الإيديولوجية الإمبريالية في لبنان»، وأن الصيغة «لم تقم حفاظاً على طائفة معينة، ولا حفاظاً على مصالح كل أبناء هذه الطائفة بل على مصالح الفئة الطبقية المهيمنة في هذه الطائفة»، ثم أضاف، تأكيداً على منهجه «اللينيني المادي الديالكتيكي»، أن الحزب لم يطرح برنامج الإصلاح الديمقراطي كرمى لعيون البرجوازية، ولا لينجز بالنيابة عنها المهام الديمقراطية المطالبة هي بإنجازها، بل للوقوف «ضد الامتيازات التي لا تتمتع بها واقياً وبالفعل، إلا فئة طبقية ضيقة من الطائفة المعينة، لا كل هذه الطائفة ولا سائر الطوائف المسيحية الأخرى... وللعودة بالصراع إلى ساحته الديمقراطية وإلى صفائه الاجتماعي والطبقي» غير أن هذا الباحث الشيوعي يرى، خلافاً لمهدي، أن البرجوازية اللبنانية «تناقلت هذا التقليد الطائفي الماقبل رأسمالي ومحضته محتوى رأسمالياً، لأنها اضطرت إلى عدم خوض ثورتها السياسية والديمقراطية حتى النهاية، أو هي خاضتها مبتورة ولم يعد ممكناً أمامها إلا بترها، من أجل تثبيت العلاقات الرأسمالية» (بحث عن الظاهرة الطائفية منشور في مجلة الطريق، العدد 2، نيسان 1978). يعرف سمير سعد، طبعاً، أن الثورات لا تقف في منتصف الطريق وأن الرأسمالية تزداد استقراراً وثباتاً بمقدار ما تكتمل ثورتها وتصل إلى نهاياتها السعيدة في الدولة الديمقراطية، دولة الحرية، حرية السوق، دولة «دعه يعمر دعه يمر»، لكنه هنا، كعادة الأصوليين، يلوي عنق الحقيقة من أجل أن تتطابق الأفكار، عنوة، مع الواقع. من خارج النادي الشيوعي، لكن من قلب النادي الاشتراكي، يتناول الباحث فؤاد شاهين ظاهرة الطائفية بحياد علمي بين المتشددين على جانبي جبهة السجال، معترضاً، كما مهدي، على وضعها في أفق تاريخي خطي، وفي علاقة تماثل مع ذاتها في كل المراحل. فلا هي ولا لبنان مخلوقان أزليّان، لكن، ولا هي صنيعة الإمبريالية ورأس المال المالي العالمي، بل هي، ببساطة، «ظاهرة تاريخية نشأت في مرحلة معينة ثم تطورت وتشعبت وتجذرت، حتى بتنا نرى وكأنها متأصلة في بنية هذا الشعب» (مجلة الطريق، م.ن). وفي معرض بحثه عن جذورها التاريخية، يرى شاهين أنها نشأت في القرن التاسع عشر، أي قبل قيام الدولة اللبنانية، على شكل حوادث دامية بين الدروز والموارنة يغذيها نزاع الدول الرأسمالية مع السلطنة، واستمرت قرناً كاملاً، حتى قيام دولة الاستقلال التي ضمّت، إلى جانب الجبل الدرزي المسيحي، المدن الساحلية والأقضية الأربعة الأخرى ذات الغالبية السنية والشيعية. كما يرى أنها بدأت على شكل نزاع بين قوى كانت تسعى، بمساعدة قوى خارجية، إلى الانفكاك عن الدولة العثمانية و«بناء دولة حديثة على الطراز الأوروبي أو المصري، وقوى أخرى من رجال الإقطاع والأمراء والولاة الأتراك لم يفقهوا معنى الدولة المركزية وأهمية الوحدة»(م. ن.) فؤاد شاهين الذي عمل في حلقة المثقفين الضيقة داخل الحزب الاشتراكي حول كمال جنبلاط فسر كيف تحوّل موقف المسيحيين اللبنانيين من حمل راية القومية العربية للتخلص من الحكم التركي، إلى التوجس منها بعد أن كثر الكلام عن الخلافة والدولة العربية الإسلامية والعودة إلى تعاليم الدين الإسلامي، فكان من الطبيعي أن يميلوا إلى التعاون مع القوى الأجنبية الغربية من أجل تأسيس الكيان اللبناني. بعد إنشاء الجمهورية اللبنانية وإعلان الدستور في ظل الانتداب الفرنسي كان من الطبيعي أيضاً أن تتداخل تعقيدات التوسع الرأسمالي مع تعقيدات بناء الدول الحديثة في العالم العربي على أنقاض الولايات الدائرة في فلك السلطنة، والانتقال من دولة الوراثة إلى الدولة الديمقراطية، بحيث اتخذ الصراع على قيام الدولة ورسم حدود الأوطان، في أحد وجوهه، شكل صراعات طائفية وإتنية ودينية وتبشيرية. غير أن التسوية التي توافق عليها المؤسسون من رجال الاستقلال قامت على ركنين أساسيين، تقاسم السلطة بين ممثلي الطوائف (محاصصة)، وتوازن في علاقة الكيان اللبناني المستحدث مع الغرب ومع المحيط العربي، وكان من الطبيعي أن تهتز هذه التسوية في كل مرة كان يهتز فيها أحد الركنين اللذين قامت عليهما.(م.ن.)
خـلاصــة يجمع المشاركون في السجال على أن الطائفية جزء عضوي من بنية المجتمع اللبناني. فهي متغلغلة في تفاصيل حياة اللبنانيين اليومية وفي علاقاتهم الاجتماعية والثقافية وفي عاداتهم وتقاليدهم، ويجمعون على أن الطائفية تكمن، على وجه الخصوص، في الطريقة التي يمارس فيها أهل النظام السياسة في لبنان(في الممارسة السياسية). أما النص الدستوري فلا يتضمن سوى تلك «التقاطعات» المذكورة أعلاه بين المعطى الأنثروبولوجي الثقافي والمعطى السياسي المتعلق ببناء الدولة (التوازن الطائفي في تشكيل الوزارات والوظائف الذي تنص عليه المادة 95، اعتماد القيد الطائفي في التمثيل البرلماني، قوانين الأحوال الشخصية) والتي ينص الدستور على الطابع المؤقت للأولين منهما الطائفية هي التعبير اللبناني عن ظاهرة التنوع الموجودة في كل بلدان العالم الحديث، ونادرة هي حالات الصفاء في التركيبة الاجتماعية لأي بلد من البلدان على الكرة الأرضية، ويتوقف على الإدارة السياسية توظيف هذا التنوع وضبطه وتوجيهه أو تفجيره في نزاعات وحروب أهلية. ومن الثابت أن نجاح المجتمعات في إخماد النزاعات والاضطرابات الناجمة عن التنوع مرتبط بمدى نجاحها في بناء الدولة الحديثة القادرة على استحداث رابط المواطنية الذي يوحد الروابط الأخرى ويجمع بينها ويسمو عليها وفي الوقت ذاته يصونها ويحافظ عليها ولا يلغيها. تلك الدولة هي التي يتساوى فيها المواطنون، على اختلافهم وتنوعهم، تحت سقف القانون. وبعبارة أخرى، هي التي يسود فيها القانون ذاته على جميع المواطنين، إذ ليست سيادة الأوطان إلا سيادة القانون الواحد فيها، داخل أراضيها وعلى حدودها. الدولة الدستورية شكلت واحداً من الخيارات المطروحة على الأوطان المستحدثة بعد الحربين العالميتين، لكنه الخيار الوحيد المفضي إلى الحداثة، فيما اتجهت مشاريع الدولة الدينية والدولة الاشتراكية ودولة الوحدة العربية إلى عدم الاعتراف بالدستور أو إلى انتهاكه أو إلى إلغائه بفرض حالات الطوارئ والأحكام العرفية، ولم يكن الاعتراض على النظام اللبناني من باب الطائفية أو من باب الولاء للغرب الرأسمالي إلا وسيلة استخدمتها أحزاب الله، في الحكم كما في المعارضة للانقضاض على الدولة الدستورية، كما استخدمها من وقف من هذه الأحزاب موقفاً نقدياً، انطلاقاً من الخلفية القومية أو الدينية ذاتها، على غرار ما فعل ياسين الحافظ، الماركسي القومي، حين اصطف مع من نعتوا «الميثاق الوطني لعام 1943 بأنه مبني على مرتكزات طائفية صريحة، تنفي عن الكيان اللبناني صفة الوطن»، من غير أن يقدموا دليلاً على ذلك من نصوص الميثاق، منطلقين من أن الطائفية ليست شيئاً آخر سوى التنوع، ومن أن هذا التنوع يندرج في إطار مشكلة الأقليات في الوطن العربي التي لا حل لها إلا في إطار الوحدة العربية بقيادة «القوم السني» بحسب تعبيره.(ص166 وص227 من كتابه، في المسألة القومية الديمقراطية، دار الحصاد، دمشق، 1997). إننا نعتقد أنه كان من الأولى، بدل شن الهجوم على الدستور وتعطيله بالانقلاب العسكري أو بالثورة الشعبية، بذل الجهود للتمسك به والحرص عليه، ثم العمل على إدخال التحسينات والتعديلات اللازمة عليه، لا سيما في المواد والفقرات التي تنتقص من سيادة القانون، ومن بينها قوانين الأحوال الشخصية. رفع شعار العلمنة كحل لمعضلة الطائفية، مع أن دستور الدولة اللبنانية دستور علماني لا يعتمد النصوص الدينية مرجعاً، وكان من الأولى أن يرفع شعار تعزيز الديمقراطية وتخليص الدستور من المواد المتعارضة مع سيادة الدولة،أي سيادة القانون داخل الحدود وعلى الحدود، وكذلك تخليص الممارسة السياسية من انتهاكات الدستور. من المواد المتعارضة مع سيادة الدولة تلك التي تنص على منح الهيئات الروحية صلاحية تشكيل مؤسساتها بموازاة مؤسسات الدولة أو بديلاً عنها، وهنا أيضاً ارتكب العلمانيون خطأ فادحاً حين طالبوا بإلغاء قوانين الأحوال الشخصية فيما كان المطلوب إلغاء المؤسسات القضائية وإلحاقها بالقضاء المدني، وإخضاع المؤسسات الدينية للرقابة المالية للدولة ومنعها من جباية الضرائب، وإخضاع المنابر الإعلامية المرئية والمسموعة، بما فيها مكبرات الصوت والفضاء العام والأملاك العامة، كالطرقات وأعمدة الكهرباء، لسلطة الدولة؛ فضلاً عن سن قانون اختياري للأحوال الشخصية، فيكون للدولة قانونها ولكل طائفة قانونها، لكنها جميعاً تخضع لسلطة القضاء المدني الذي يحكم باسم الشعب اللبناني، لا باسم الأب والإبن والروح القدس ولا باسم اللّه الرحمن الرحيم. مثل هذه الإجراءات لا تكون موجهة ضد الدين والمعتقدات ولا ضد الوعي الديني الشعبي، بل ضد المؤسسة الدينية التي تمارس السلطة بديلاً عن الدولة، وقد أثبتت التجربة في كل من تونس وماليزيا، وكذلك في كل الأنظمة العلمانية، أن فرض سيادة الدولة داخل أراضيها، أي على رعاياها، هو الذي يوفر لها فرص النجاح في فرض سيادتها على حدودها، لأن الوحدة الوطنية الداخلية هي شرط أساسي وضروري، وقد لا يكون كافياً، لمواجهة أي خطر خارجي. أما انتهاكات الدستور، باسم الطوائف، فهو ما كان يمارسه أهل السلطة بخجل قبل الحرب، ثم تجاوزوا بعدها كل الحدود فألغوا الأسس الديمقراطية في النظام اللبناني: تعطيل الدستور، تعطيل عمل الهيئة التشريعية، تحويل القضاء من سلطة ثالثة إلى واحدة من إدارات الدولة الملحقة بالسلطة السياسية، إلغاء مؤسسات الرقابة، تزوير الإرادة الشعبية وإفراغ العملية الانتخابية من مضمونها الديمقراطي بتفصيل القوانين على أساس المحاصصة وتقدير نتائجها سلفاً. إلغاء الطائفية، فضلاً عن كونه لا يشكل علاجاً ناجحاً لهذه الانتهاكات، مستحيل لأن الطائفية متغلغلة في النفوس والعادات والتقاليد باعتبارها واحدة من مظاهر التنوع التي يمكن ضبطها والتعامل معها كمصدر غنى في الثروة البشرية والثقافية. أما إلغاء الطائفية السياسية فهو مناورة طرحتها قوى التغيير ثم وقعت ضحيتها بعد أن تحول النظام البرلماني الديمقراطي اللبناني، على يد رجال السياسة وفي غياب رجال الدولة، إلى نظام توتاليتاري استبدادي تحولت فيه الحرية من واحدة في سلّم القيم الكبرى لحقوق الإنسان إلى أداة لممارسة الفساد العلني ومنصة للتطاول على الدولة والقانون والقيم الأخلاقية. وأفضل من وصف هذه الحالة رجل القانون نقيب المحامين الأديب والشاعر رشيد درباس في قوله «أن دولة، أنشئت في فجر القرن العشرين، على قاعدة قانون أساسي عصري(في وقته) وفق أصول مدنية، تراعي التنوع الطائفي، لكنها غير دينية على الإطلاق، تحكمها قوانين وضعية، وفيها سلطات مستقلة عن بعضها رغم وجود هيمنة الانتداب، في إطار معادلة جغرافية عبقرية، غسلت بالموج أقدام الثلج، ووصلت السهل بأسواق المدن، وصانت بالنص القانوني للأكثرية والأقلية، حق التمثيل وتجاورت فيها المآذن والأجراس يمكن لهذه الدولة أن تصبح محل عبث ينكره حتى صموئيل بيكيت رائد مسرح اللامعقول» (جريدة النهار 8 تشرين الأول 2018) الحل بالدولة، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والحريات والديمقراطية.
الفصل الثالث الحتميات الدينية
1 ــ الأمــة قبل الدولــة نبني بحثنا في هذا الموضوع على حقيقة واقعية وعلى فرضية. تتمثل الحقيقة في أن البشرية لا تعيش في «عصر الانتقال إلى الاشتراكية»، بحسب التعبير اليساري، وهذا ما أكّده انهيار التجربة وأثبتته وقائع الحياة وتطورات الصراع السياسي على الكرة الأرضية خلال القرون الماضية، بل هي تعيش، وهذه هي فرضيتنا، خلافاً للاعتقاد اليساري، في عصر الانتقال من حضارة العصور الإقطاعية إلى الرأسمالية، أي إلى منظومة قيم متكاملة اقتصادية وثقافية وسياسية عنوانها الأساسي، على الصعيد السياسي، الانتقال من أنظمة الحكم الوراثية إلى أنظمة ديمقراطية، ومن دولة الراعي والرعية، بكل ما تحمله العبارة من دلالة على الاستبداد، إلى دولة المساواة أمام القانون، تبعاً للمعايير التي أقرتها شرعة حقوق الانسان والإعلان العالمي لحقوق الانسان. ذلك يعني أن فكرة الاشتراكية، على ما فيها من بريق وأمل بالمستقبل، ربما جرى استعجال طرحها على جدول عمل التاريخ، أو ربما استعجل المؤمنون بها تحقيقها من غير أن يأخذوا بالاعتبار أن أعمار الحضارات ليست قصيرة كأعمار البشر، ولا انتبهوا إلى فرضية ماركس القائلة إن التاريخ لا يطرح على جدول عمله من القضايا والمهمات إلا ما تكون البشرية قادرة على تحقيقه. بناء على هاتين الحقيقة والفرضية، نعتقد أن التاريخ طرح قضية الانتقال إلى الرأسمالية حين صارت ظروف الانتقال ناضجة لوضع القطار على أول السكة. غير أن السكة طويلة، ونضال البشر من أجل تحقيق هذه المهمة ما زال مستمراً منذ خمسة قرون ونيف، وما زال أمامهم، ولاسيما على الصعيد السياسي، عقبات متمثلة بأنظمة الوراثة المنتشرة في بلدان عديدة ولا سيما في العالمين العربي والإسلامي؛ كما نعتقد أن هذه العملية المعقدة والمتعددة الأبعاد والطويلة الأمد لم تتمثل في الوعي الشعبي، ولا حتى في وعي النخبة، بتفاصيلها الشائكة التي أخذت تتكشف تباعاً مع مرور الوقت، وصولاً إلى الترسيمة التي وضعها ماركس عن آليات عمل الرأسمالية، بعد قرون على ظهور أول إرهاصاتها. إن فرضيتنا تجعلنا نميل إلى الظن بأن الصراع الطبقي أو السياسي أو الفكري، الذي نشب على ذلك المنعطف، قد تمحور، ومازال يتمحور على امتداد قرون، حول قضية الحرية بكل معانيها وأبعادها الفلسفية والاقتصادية والسياسية: الكوجيتو في الفلسفة، دعه يعمل دعه يمر في الاقتصاد الحر، المساواة أمام القانون في الديمقراطية، في إطار علاقات تفاعل جدلي بين هذه الأبعاد والمعاني في ظل الحضارة الرأسمالية. في موازاة ذلك برزت قضية العدالة، ببعدها الاجتماعي أي بما هي عدالة في توزيع الثروة، كتوأم للحرية، غير أنها لم تحظ بالظروف المؤاتية ذاتها، ولم يتوفر لها حامل اجتماعي أو قوة سياسية اقتصادية، أو كأن المبشرين بها بادروا إلى طرحها من خارج جدول عمل التاريخ، أو كأن الحرية هي المفتاح الذي سيفتح التاريخ به باب العدالة. وبعيدا عن الخوض في كيفية اختيار التاريخ أولوياته أو في المفاضلة والمقارنة بين الرئيسي والأساسي والمهيمن والمسيطر والمحدد، بحسب المصطلحات اليسارية، فمن الثابت أن البشرية لم تنجز بعد مهمتها التاريخية بتحقيق الحرية، مجسدة بالدولة، بحسب هيغل، أو باضمحلالها، بحسب ماركس،ما دفعنا إلى الاعتقاد بأن البشرية اليوم تعيش مرحلة الدخول في الحضارة الرأسمالية، فيما تعاند أحزاب اللّه إما لعدم الدخول إليها وإما لاستعجال الخروج منها. سيركز بحثنا على المواقف من الدولة (الممارسة النظرية، البراكسيس) التي اعتمدتها أحزاب اللّه وذلك لسببين، الأول هو أن النقاش النظري المتعلق بموقف الإسلام والحركات الإسلامية من الدولة قد أُشبع بحثاً من اليوم الذي صدر فيه كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق في عشرينات القرن الماضي إلى اليوم، والثاني هو التزامنا بما أسميناه البراكسيس النظري الواقع بين النظرية والتطبيق السياسي، وعمدنا إلى تجاوز مسألة الدفاع عن مقولة «الإسلام دين ودولة» أو نفيها، وجعلنا النصوص تحكي بنفسها كيف أن أحزاب الله، الدينية واليسارية والقومية، على اختلاف إيديولوجياتها وعماراتها النظرية، تناهض قيام الدولة الحديثة بكل أركانها ومقوماتها، ولا سيما منها الديمقراطية، فتضع نفسها في مواجهة عملية التحديث وتعيق عملية التقدم. وأذا كان هذا البحث سيركز، بشكل خاص، على حزب اللّه اللبناني، فلأن نصوص الأحزاب الدينية الأخرى، السنّية منها على وجه الخصوص، استغرقت كل الأبحاث النظرية والسياسية التي تتناول علاقة الدولة بالدين، ولأن حزب اللّه الشيعي الذي أنشأته الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وضع نفسه، من غير مبرر، في مواجهة الأحزاب الإسلامية الأخرى، أي من غير أن يكون بينه وبينها تباين في الموقف من الدولة الحديثة، باستثناء الاختلاف الشكلي على اسم الحاكم بين الولي الفقيه والخليفة. ما هو موقف هذه الأحزاب من الدولة ومن الديمقراطية؟ حزب التحرير الإسلامي يعرّف عن نفسه بأنه واحد من «الحركات الإسلامية الأصولية التي انتشرت في قارات العالم... تأسس عام 1953 وتعرض للحظر في معظم بلدان العالم....ثم عاد، مع حالة الحرية الجديدة التي فرضها مناخ الربيع العربي، إلى معاودة نشاطه الإعلامي... رافضاً فكرة الثورات واللجوء إلى العنف والأعمال المسلحة...» (ص9-12 من كتاب نشرته مؤسسة الانتشارالعربي عام 2012، وهو من تأليف مصطفى زهران ومحمود طرشوبي، عنوانه، حزب التحرير يعود للحياة مع الثورات العربية). يقول الكتاب إن الحزب(ولاية مصر وليبيا) «يحرّم الديمقراطية والرأسمالية تحريماً تاماً وقاطعاً... لأن الديمقراطية نظام كفر، وهي من تسويق الغرب الكافر في بلاد المسلمين» ويحرمها على نفسه قائلاً إن «الفكرة الأساسية التي يقوم عليها غير قابلة للمناقشة أو الحلول الوسط وهي ضرورة عودة الخلافة الإسلامية... وهو عَرَضها (الخلافة) على الزعيم الليبي معمر القذافي عام 1986 كما على الخميني عندما أرسل وفداً إلى طهران لمبايعته خليفة للمسلمين» ثم يؤكد الحزب موقفه مرة ثانية «باعتراضه على وثيقة الأزهر بخصوص مدنية الدولة» (م. ن. ص12-15). كما أنه يعمل على «إنقاذ الأمة الإسلامية وتحرير ولاياتها من أنظمتها ومن سيطرة الدول الكافرة عليها... ومن أبى الطاعة وحجب البيعة وجب فيه الجهاد» (م. ن. ص78) أما حزب التحرير في ولاية لبنان فكان أكثر وضوحاً وحزماً وحسماً حيال الكيان اللبناني. فهو لا يعترف به، ويرى أنه «أولى بذور التدخل الأوروبي في شؤون البلاد الإسلامية، وبخاصة في جبل لبنان، في القرن التاسع عشر، وأن الكيان اللبناني المعروف اليوم لم يكن له وجود في أية حقبة قبل عام 1920، إذ كان قبل هذا التاريخ جزءا من المنطقة المحيطة به... وأن معظم سكان لبنان رفضوا إنشاء الكيان والانفصال عن المحيط» (لبنان من عبث الطائفية ومكر المستعمرين إلى حضارة الإسلام، المشكلة والحل، حزب التحرير، ولاية لبنان 2008، من دون دار نشر،ص12-15) يخلص حزب التحرير من هذه المعطيات إلى أن لبنان كيان مصطنع، ويلتقي بذلك مع الأحزاب القومية على تحميل اتفاقية سايكس بيكو مسؤولية تجزئة المنطقة، بعد أن كانت فرنسا قد أعدت مشروعاً «لتقسيمها إلى خمس دويلات على أساس طائفي منها دولة للموارنة وأخرى للعلويين وثالثة للدروز». لكن هذا المشروع فشل «اللهم إلا ذاك المتعلق بلبنان ... حيث أقدمت فرنسا في الأول من أيلول عام 1920 على إعلان دولة لبنان الكبير على لسان الجنرال غورو الحاقد على المسلمين» (ص18-19). ثم يستنتج الحزب أن اللبنانيين لا يشكلون شعباً، فهم ليسوا سوى مجموعة من الطوائف أو القبائل(ص44)، إذ كل طائفة تشكل مجتمعاً منفصلاً عن الطائفة الأخرى (ص48)، وأن المستعمر هو الذي «اخترع» أطروحة الوطن والوطنية، وحرفوا معانيها لتدل على الكيانات التي ولدتها مؤامراته، بعد أن كان الوطن يعني، على ذمة القاموس المحيط، «منزل الإقامة ومربط الغنم»(ص55-56)... وبالتالي فإن «الحل الجذري» للأزمات المتناسلة في لبنان لا يكون بالدولة المدنية ولا بالدولة العلمانية، فهما مستوردان من الاستعمار، بل «بإعادة لبنان إلى حضارة الإسلام» (ص65). ذلك أن «الحضارة الإسلامية وحدها تملك طريقة متكاملة للعيش بديلة عن طريقة العيش الغربية» (ص72) من الواضح أن الأمر لا يتعلق بالإسلام بل بالمسلمين، لا بالنصوص وتأويلاتها بل بالمؤوّلين، لا بالوقائع والمشاهدات بل بالمشاهِدين، الذين لم يلاحظوا، أو أنهم لاحظوا صورة مشوشة، أن على الشاطئ الشمالي للبحر المتوسط كانت قد بدأت تتكون، منذ قرون، حضارة جديدة قوامها منظومة قيم في السياسة والثقافة والاقتصاد، وطريقة للعيش ومنهج في التفكير ونمط من الإنتاج، ومن أهم ما تتميز به هذه الحضارة عن سابقاتها ميلها وحاجتها إلى التوسع. وقد كان من الطبيعي أن تبدأ المواجهة مع الحضارة السابقة داخل أوروبا بالذات، لتنتقل بعدها إلى سائر القارات، ومن بينها العالمين العربي والإسلامي. وإذا كان في ميلها إلى التوسع نوع من العدوان، فهو عدوان على التخلف(هوبزباوم، راجع المقدمة)، لأنها كانت تسعى، تحقيقاً لهذا الميل وتأميناً لمصالحها، إلى «إدخال أكثر الشعوب تخلفاً في حلبة الحضارة»(ماركس، راجع المقدمة). من الواضح أيضاً أن نصوص حزب التحرير تغرف مفرداتها من القواميس لا من المستجدات الحضارية، ولذلك فالوطن في نظرها هو «منزل الإقامة ومربط الغنم»، وما توصيفه باختراع استعماري إلا من قبيل السخرية به ورفضه، لأنها لا تعرف أن الوطن، بالمعنى الحديث لا بمعناه القاموسي، هو الشكل السياسي الجديد المترافق مع «اختراعات» أخرى اقتصادية وثقافية، وهو، بالتعريف القانوني، أرض وشعب وسيادة؛ ولا تعرف أن حاجة الحضارة الرأسمالية إلى بناء أوطان على أنقاض الممالك والأمبراطوريات القديمة، ومنها السلطنة العثمانية والخلافة الإسلامية، كان قد بدأ في أوروبا، فكان من أبرز ما ظهر على خرائطها تأسيس كيانين جديدين لكل من ألمانيا وإيطاليا اللتين لم تكونا موجودتين ككيانين سياسيين،(لبنان لم يكن البلد الوحيد الذي لم يكن موجوداً في المنطقة قبل 1920) ثم توحدتا، الأولى على يد بسمارك والثانية على يد غاريبالدي وكافور، وارتسمت خريطة كل منهما وأقيمت على أرضها دولة، بعد أن كانت ألمانيا موزعة على مقاطعات وإيطاليا على مدن وإمارات، توزيعاً يشبه حالة الولايات العثمانية في المشرق العربي، التي اقتضت مصلحة الرأسمالية، في بداية مرحلة الاستعمار، تأسيس كيانات سياسية منها بعد إعادة رسم الخرائط لولايات متحدرة من السلطنة، تركة الرجل المريض. (عن تشكل الدول في المشرق العربي يمكن مراجعة كتاب حازم صاغية، الانهيار المديد، دار الساقي، بيروت، 2013، ولاسيما منه الفصل الرابع، ص82-101) ما يقال عن الوطن يقال عن مكوناته. لم تعد نصوص الدساتير في الأوطان الحديثة تقتصر على حرية المعتقد فحسب، بل على حرية الضمير أيضاً، فالدستور الفرنسي ينص على حرية الإيمان كما على حرية الإلحاد، والدستور التونسي على حرية الضمير، وبالتالي فإن التنوع الديني والإتني والثقافي واللغوي والسياسي هو ما صار يتميز به التركيب الاجتماعي لشعوب الأرض في الحضارة الحديثة، وهو ما ليس من قاموس حزب التحرير الذي ينكر على اللبنانيين أن يكونوا شعباً بسبب تنوعهم الديني، فماذا عساه يقول عن الهند أو الولايات المتحدة الأميركية. إن الدول الحديثة ترعى التنوع وتنظمه وتوظفه لصالح توطيد الوحدة الوطنية على أساس المساواة أمام القانون، وفي إطار الديمقراطية، التي هي في قاموس الحزب محرمة لأن مصدرها نظام كافر. الأكثر غرابة في هذه النصوص أنها، فيما هي ترفض فكرة الثورة والعنف، تدعو إلى الجهاد ضد من «يأبى الطاعة ويحجب البيعة»، وتطرح أفكاراً «غير قابلة للمناقشة والحلول الوسط» من غير أن ينتبه الحزب إلى أنه يذهب في أفكاره تلك إلى «أقاصي العنف» (عنوان كتاب لسمير فرنجية)، وهو، من وجه آخر، تعبير صادق عن مجافاته الديمقراطية وعدم اعترافه بالرأي الآخر، وهذا ما يفسر لماذا تكون الديمقراطية محرّمة في قاموسه. من الطبيعي أن تتضمن هذه النصوص اعتراضاً على موقف الأزهر من مدنية الدولة، لأن شعار الدولة المدنية يستهدف شكلين من أنظمة الحكم، أحدهما الدولة الدينية وثانيهما الحكم العسكري. وبما أن حكم ضباط الجيش في العالم العربي تأخر إلى منتصف القرن العشرين، فقد بدا شعار»مدنية الدولة» كأنه يستهدف الخلافة الإسلامية وحدها، خصوصاً بعد أن أعلن أتاتورك قيام الجمهورية التركية وألغى السلطنة، وبعد أن فشلت مساعي الملك فؤاد لاستعادة الخلافة في مصر. لم يقتصر الاعتراض على «مدنية الدولة» بل تعداه إلى كل أشكال الحداثة في أنظمة الحكم، وإلى كل المصطلحات المتحدرة من شجرة العائلة ذاتها، ولاسيما العلمنة. نالت العلمنة الحصة الأكبر من هجوم أحزاب اللّه الإسلامية، لأن الصورة الأولى التي انطبعت في أذهان جميع الأحزاب، بما فيها العلمانية، هي أن العلمنة أقصت الكنيسة عن الشأن العام، ما دفع الأحزاب الدينية إلى التعامل معها كمرادف للكفر والإلحاد، مع أن بعض النصوص الكنسية لم تذهب إلى ما ذهب إليه «الكنسيون» المسلمون، بل كانت تميز بين العلمانية المعتدلة والعلمانية الملحدة، كما أن البابوية أقرت بالتسوية التي ألزمتها بعدم التدخل بشسؤون العلاقة بين المواطنين أو بينهم وبين الدولة، والتزمت حصر اهتمامها بالقضايا الروحية للمؤمنين. أما الإسلاميون فقد لجأوا إلى دفوع شكلية كقولهم أنه لا كنيسة في الإسلام، وأن العلمانية أمر يخص الغرب المسيحي وحده، وإلى نصوص غير مسندة من الحديث الشريف وإلى تأويلات مغلوطة للنص القرآني، منها الحديث المزعوم، «العلماء ورثة الأنبياء» ومنها تحريف القراءة في الآية السابعة من سورة آل عمران التي تنص على أن اللّه وحده يعلم تأويل القرآن أما الراسخون في العلم فيعلنون إيمانهم من غيرما حاجة إلى تأويل، فيقرأونها على الشكل التالي: وما يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم، من غير أن يستكملوا قراءتها، وذلك لكي يضفوا على دور رجل الدين بعضاً من القداسة يتسلحون بها لتكفير معارضيهم. أنتجت الحضارة الجديدة مصطلحاتها في كل المجالات، ومن بينها مصطلح العلمنة. وقد انشغل المعنيون بترجمته لغوياً إلى العربية وأهملوا مضمونه السياسي، وترددوا بين أن يكون مشتقاً من العلم أو من العالم، وهو في الحالتين مرذول في منهج التفكير الديني، فالعلم الوضعي، بنظر هذا المنهج، هو عدوان على علوم الدين، لأن القرآن «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا «(البقرة31) ولأن اللّه «عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ «(العلق 5)، «مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ»(الأنعام 38)، وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ(النحل 89)،وهي دفوع شكلية لم يكتف بها المؤولون بل زعموا أن العلوم الوضعية لم تأت بجديد، فكل اكتشافاتها موجودة في النص القرآني، بما في ذلك علوم الذرة، ودليلهم الآية، «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ»(الزلزلة7). من الواضح تهافت منطق المؤولين. مع ذلك، فهم نجحوا في استدراج العلمانيين والباحثين إلى نقاش فقهي في العلوم المتعلقة بالقرآن من حيث نزوله وترتيبه، وجمعه وكتابته، وقراءاته وتجويده، وعلوم التفسير ومعرفة المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، وإعجازه، وإعرابه ورسمه، وعلم غريب القرآن، ومعظمها أبحاث ذات قيمة علمية كبرى قام بها مفكرون عرب ومستشرقون، أي أنهم استدرجوهم إلى حيث يتفوقون عليهم في المماحكة والمساجلة، ويهربون من السياسة، نقطة ضعفهم، إلى متاهات علوم الغيب. كما نجحوا أيضاً في تعميم التفسير المغلوط لمدلول العلمانية السياسي، فرأوا أنها تعني فصل الدين عن الدولة، والحقيقة أن العلمانية تعني فصل سلطة رجال الدين (الكنيسة) عن سلطة رجال السياسة (الدولة)، والفارق بين التفسيرين هو الممر السهل لنقل المواجهة السياسية بين «الرجال» أي بين البشر، وهي مواجهة غير مقدسة، وغالباً ما تكون تنافساً على المصالح، وقد ظهرت في أوضح صورها في الصراع بين نابليون والبابا، إلى سجال نظري بيزنطي بين الدين والفلسفة، أو بين الدين والعلمانية، ما جعل الساحة في بلادنا تخلو لتحالف مقدس بين رجال السياسة ورجال الدين يستقوي به كل فريق منهما بالآخر لترسيخ أنظمة الاستبداد التي يمثلانها.
2 ــ تهجين المصطلحات الحقل المعجمي لدى حزب اللّه اللبناني أيضاً يستمد مفرداته من خارج الحضارة الحديثة، أي من مرحلة الحضارة العربية التي بدأت مع الدعوة الإسلامية ولم تنته بسقوط السلطنة العثمانية. فهو يخوض صراعاً مع الاستكبار العالمي، ومقاومته هي مقاومة إسلامية، وحزبه هو حزب ولاية الفقيه، والولي الفقيه هو أمير المسلمين، وأمته هي أمة حزب الله، ودولته هي دولة الإسلام، والنضال في سبيلها اسمه الجهاد، والجهاد ليس واجباً وطنياً بل واجب شرعي. (المصطلحات مأخوذة من الرسالة المفتوحة التي أصدرها عام 1985بمثابة «أوراق اعتماده» إلى الشعب اللبناني. لاحظ الباحث قاسم قصير، (حزب اللّه بين الثابت والمتغير، 1982-2016، دار سائر المشرق، 2017) غياب مصطلحات حديثة(المسكوت عنه) مثل، الوطن، الدولة، الشعب، عن وثيقة الحزب الأولى، الرسالة المفتوحة، بينما تكررت فيها خمساً وعشرين مرة مصطلحات: الأمة، أمة حزب الله، الأمة الإسلامية، النظام الإسلامي، الشعوب الإسلامية. ومن الطبيعي أن تغرف نصوص الأحزاب الدينية من الحقل المعجمي ذاته، فحزب اللّه يرفض، هو الآخر، في الرسالة المشار إليها، رفضاً قاطعاً النظام السياسي القائم، ويرفض أي شكل من التسويات معه أو معارضته، بل هو يسعى إلى إنقاذ لبنان منه كنظام محكوم بالتبعية للغرب، لأنه صنيعة الاستكبار العالمي. كما أنه يدعو المسيحيين إلى الدخول طوعاً في الإسلام، أو الخضوع لقوانين الدولة الإسلامية (م.ن) مقتدياً، في ذلك، بما في رسالة الخميني إلى غورباتشيف من دعوة للتخلي عن الشيوعية والدخول في الإسلام، ملتقياً في ذلك، عن غيرما قصد، مع دعوة القذافي مسيحيي لبنان، ذات عام من عمر الحرب الأهلية اللبنانية، إلى التخلي عن المسيحية واعتناق الدين الإسلامي، كسبيل محتمل(إلغاء التنوع) لحل المشكلة الطائفية في لبنان. يتمايز حزب اللّه الشيعي عن سواه بتركيزه المعلن على خطرين خارجيين متساويين في الخطورة، لا على خطر واحد. فالاستكبار العالمي لا يأتي من الغرب وحده بل إن هناك استكباراً شرقياً أيضاً متمثلاً بالشيوعية والاتحاد السوفياتي. لعل هذا الانتباه إلى هذا الاستكبار الشرقي ناجم عن تأثير الحركات اليسارية الماركسية وانتشار نفوذها الثقافي في المشرق العربي وفي إيران، ما دفع المدرسة الدينية في كل من قمّ والنجف إلى الاهتمام بدراسة الماركسية لمواجهتها والدخول معها في مساجلات إيديولوجية، فكان من نتائج هذا الاهتمام أن عدداً من طلاب العلم الديني هناك تأثروا بالماركسية، فيما تعمقت الخصومة لها لدى آخرين، فأصدر محمد باقر الصدر كتابي «فلسفتنا»سنة 1959 و»اقتصادنا» سنة 1961، رداً على الماركسية والرأسمالية معاً، غير أن هذا التميز لم ينقل حزب اللّه من سجن التفسير اللغوي إلى رحاب التحليل التاريخي، فراح يستنجد بنص الآية 35 من سورة النور ليثبت، من خلال القرآن، وجود استكبار في الشرق كما في الغرب. تقول الآية: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ فيشحن عبارة لا شرقية ولا غربية من الآية بدلالة بعيدة عن دلالتها الأصلية، ثم ينسب الأفعال في الآية إلى الإسلام قائلاً، «وحده الإسلام يحقق نهوض الإنسان وتقدمه وإبداعه» لأنه يوقَد من شجرة مباركة ... الخ (الرسالة المفتوحة)، فيما يعود الفاعل إلى اللّه في أول الآية. ثم يستنجد مرة أخرى بنص قرآني ليوحي بأن الدعوة لمواجهة المشروع الصهيوني في فلسطين هي دعوة ربانية: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (الآية 82 من سورة البقرة)، قافزاً فوق خمسة عشر قرناً من الزمن ومتجاهلاً ظروف نزول الآية ونزول القرآن منجّماً وكل ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ من الآيات. قل لي ما مصطلحاتك أقل لك من أنت. ربما شكّل هذا القول أفضل تفسير لأساليب المعالجة التي تعتمدها الأحزاب الدينية. إذ إن ما يؤخذ عليها ليس عودتها إلى النص الديني، بل عودتها إليه بطريقة خاطئة وقراءاتها المغلوطة وإغفالها الظروف التاريخية الملموسة التي ظهرت فيها تلك النصوص، وإغفالها، على نحو خاص، أن مرحلة التبشير الديني بلغت حدودها التاريخية مع بداية الحضارة الرأسمالية، وأن العلوم الحديثة وفرت مناهج للقراءة والبحث ذات مردود معرفي غني، وزوّدت العلوم الإنسانية بمفاتيح معرفية هي المصطلحات، فبات لكل مصطلح دلالة ووظيفة، إذ اكتشف علماء الألسنية، على سبيل المثل، خطأ الاعتقاد بوجود مرادفات في اللغة، (حتى كلمة النار، الثانية في العبارة التحذيرية: النار النار، تنطوي على مدلول إضافي ليس موجوداً في الأولى). ذلك يعني أن الصهيونية ليست اليهود، وأن مصطلح الاستعمار أكثر دلالة من الاستكبار على دور الرأسمالية في التاريخ الحديث، وربما كان مصطلحا الإمبريالية والنظام العالمي الجديد أكثر دقة من «الشيطان الأكبر وأم الخبائث» في توصيف الدور الأميركي في العالم. إذا كانت المصطلحات بمثابة مفاتيح معرفية، وبما أننا بصدد نقاش النصوص لا المواقف، فمن الطبيعي أن يستوقفنا منهج النظر إلى القضايا والمشاكل الذي تعتمده الأحزاب الدينية، لنتعرف من خلاله على الحقل الثقافي والفكري والمعرفي الذي تغرف منه هذه الأحزاب تشخيصها لأزمات بلدانها. مصدر واحد للمعرفة وراء كل أنواع النصوص الفقهية والسياسية لدى الأحزاب الدينية. النص المقدس وملحقاته من الحديث الشريف وسيرة السلف الصالح. أما القرآن فما يعلم تأويله إلا اللّه (الآية أعلاه). ولم يكن نصيب المؤمنين من المعرفة الربانية وافراً: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء85)، لأن المعممين الذين يتولون أمر التبشير والتثقيف والشرح يرددون على الدوام أمام جمهورهم الآيات، وما أكثرها، التي تشير إلى وجود العلم في لوح السماء وإلى أن «العلم عند الله»، وأن أول العلم السمع والإصغاء(حديث شريف) وأن «النبي مدينة العلم وعلي بابها»(حديث شريف)، ويكررون القول بأن الإنسان مخلوق عاجز وجاهل ولا حول له ولا قوة إلا بالله، ولذلك فهم يركزون في خطبهم على نوعين من المعرفة، البديهيات كما في الآية ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ...﴾ (آل عمران 185) وتمجيد الحياة بعد الموت ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ﴾ (الضحى 4)، فضلاً عن التأكيد على أن قدرات العقل البشري محدودة، كما في الآيات: [قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ] (32 البقرة) [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] (66 آل عمران) [قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ] (109 المائدة) [وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] (68 يوسف) ﴿ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ] (المُلْك26). إن التكرار يعني، بحسب نصر حامد أبو زيد، «تركيز حضورالعناصر المكررة، وكل حضور يقابله غياب، أو بالأحرى تغييب عمدي يكشف للمحلل بشكل أعمق الدلالات المضمرة (المسكوت عنها) في الخطاب» (مساهمة نقدية في قراءة السجال بين رفعت السعيد وعادل حسين حول موضوع الاعتدال والتطرف في الإسلام، دار الطليعة الجديدة، دمشق، 1996، ص.70)
3 ــ الثـنـائـيـــات كيف تتعامل أحزاب اللّه الدينية إذن مع القضايا الشائكة بمثل هذا المنهج من التفكير؟ وكيف يمكن للعقل البشري الموسوم بالعجز أن يهتم بالبحث عن حلول لتلك القضايا؟ لا شك أن المعيار الوحيد لدى هذا المنهج هو الثنائيات الدينية: حلال وحرام، دنيا وآخرة، جنة ونار، دار الإيمان ودار الكفر. وهي ثنائيات لا تقبل الحلول الوسط، وهذا أول الطريق إلى الاستبداد الفكري. وبما أن مصدر المعرفة بهذه الثنائيات هو النص الديني المقدس، المفترض أن يكون إلهياً فحسب، مع أنهم جعلوه بشرياً أيضاً، فإن أي مصدر آخر للمعرفة من خارج النص المقدس يعتبر، في نظر «حرّاسه»، خطراً على دورهم، فيصورونه عدواناً على الدين والإيمان والشريعة، وهذا هو بالضبط معنى ما حصل بين الكنيسة والعلوم الحديثة، التي وفرت للبشرية منهجاً جديداً للتوصل إلى الحقيقة وللحصول على المعرفة عن طريق العقل، من غير تأجيل أو إرجاء أو إحالة إلى النص أو إلى لوح السماء. وقد اقتضت هذه المعركة بين المنهجين، تلك التي كان غاليليه شاهداً عليها مع الكنيسة، أن ينبري للعالم في مجال علوم الطبيعة أو الفيزياء والكيمياء، اختصاصي في علم الغيب، أطلقوا عليه لقب «عالم الدين»، وهو لقب مستحدث، لمواجهة العلوم الحديثة التي ترافق ظهورها مع الحضارة الرأسمالية. ذلك أن المتبحر في علوم الدين في الحضارة السابقة هو واحد من ثلاثة، فيلسوف أو قاض أو فقيه، أما عالم الدين، أي المعمّم، فهو مصطلح ظهر في المرحلة العثمانية المملوكية إلى جانب المفتي ليكونا عوناً للحاكم المستبد وليتكرس تحالف مقدس شبيه بذاك الذي كان قائماً قبل الرأسمالية في أوروبا بين «النبلاء والإكليروس». غدت الثقافة والمعرفة وكذلك العلاقة بالغرب، في نظر الأحزاب الدينية، بمثابة «عدوان على الإسلام، والتدريس الأوروبي اغتيال للثقافة الإسلامية، وكل وجه من وجوه الحياة السياسية المعاصرة إشراك وكفر وتمويه، والصحافة والبحث جاسوسية، وهذه كلها أقنعة للمدافع والبوارج والصليب ونجمة داود في سعيها إلى إطفاء كلمة اللّه ونوره» (وضاح شرارة، دولة حزب الله، لبنان مجتمعاً إسلامياً، دار النهار للنشر، بيروت، 1996، ص296). على هذا الأساس «تصدّر الكلام بلسان الحالة الإسلامية الجهادية علماء لم ينتهوا بعلمهم وتحصيلهم إلى المرتبة التي يخرجون معها من حد المتعلم إلى حد العالم» (م.ن.ص261) وتولى إدارة شؤون المساجد وحلقات التثقيف والتبشير والتعبئة معممون لم يحصّلوا مستوى كافياً من العلوم الحديثة ولا من العلوم الدينية يؤهلهم للقيام بالدور الإرشادي الذي أنيط بهم، إذ إن معظمهم لم يكد يتجاوز المرحلة الإبتدائية من الدراسة حتى التحق بدورة تثقيف، لأشهر وربما لسنوات قليلة، في حوزة دينية في لبنان أو في إيران ليعتمر بعدها العمامة ويؤم المصلين ويلقي فيهم العظات والخطب، و«ما أن يختار الشاب أو الفتى الدخول إلى مدرسة دينية من غير مشقة أو كلفة أو سفر وغربة، حتى يوقن في قرارته أنه يشترك في بناء مجد الإسلام المتجدد ويسهم في الثورة ويحارب الاستعمار» (م.ن.ص.153، راجع الفصل التاسع وهو بعنوان الطبقة الجديدة ص147-174) انطلاقاً من هذا الرصيد الثقافي المحدود بدأ عالِم الدين، العالِم المضاد، «العالِم» في مجال علوم الغيب، مستنداً إلى «بديهيات» دينية ومن بينها عجز الإنسان وقدرته المحدودة ومن الاعتقاد بأنه «مخلوق شرير في ذاته وأسوأ من الحيوانات، يجعله غروره وكسله وجشعه وبلادته وسيطرته وظلمه عاجزاً عن التشريع لنفسه، والله وحده يملك حق التشريع للإنسان» (قول تنسبه أمل غريّب للخميني في الصفحة 51 من كتابها،حزب الله، الدين والسياسة، دار الكتاب العربي، بيروت، 2002، ترجمه عن الأنكليزية حسن الحسن). وقد نجح أهل هذا العلم في جعله منهجاً لهم في القراءة والتفسير والتأويل، وتعميمه ليصير جزءاً من الثقافة الشعبية على شكل شعارات تتردد على كل لسان، خصوصاً تلك التي تعبر عن العجز البشري والتي يحفظها المؤمن أو يكتبها على هيكل سيارته مثل، توكل على اللّه ولا تبالِ، سيري فعين اللّه ترعاك، يا سائرة بقدرة مولاك، اللّه يحرس في المسير خطاك، محروسة بإذن الله، على ما يقدر الله... من جهتنا، حاولنا أن نجد إسماً ينطبق على هذا المنهج من التفكير، وينتمي إلى عائلة مناهج البحث المعروفة، قديمها وحديثها أو يضاف إليها: الوصفي، الاستقرائي، الاستنباطي، التأريخي، التجريبي، المقارن، الديكارتي، البنيوي، النفسي، الاجتماعي، البنيوي التكويني، التفكيكي، الفلسفي، اللغوي، الألسني، فلم نجد أياً من خصائصها تنطبق عليه. من الطبيعي ألا نطلب من نص في الفكر السياسي ما نطلبه من نص في البحث العلمي، غير أن لكل نص، حتى الانطباعي منه كالتداعيات الوجدانية، منطقه الداخلي الذي يعكس منهج التفكير أو البحث لدى صاحبه. على ضوء هذه الحقيقة سنقرأ النص التالي من الرسالة المفتوحة التأسيسية التي أعلنها حزب الله. يقول النص مخاطباً «علماء الإسلام... إن مسؤوليتكم كبيرة جداً، فاستعينوا بالله على القيام بها... وستجدون الأمة خير مستجيب لنداءاتكم وتوجيهاتكم وقيادتكم، واعلموا أن موقعيتكم في الأمة قد عرف المستعمر أهميتها ولذا فإنه وجه أقوى طعناته إلى صدور العلماء المجاهدين، فدبر مؤامرة شيطانية لإخفاء الإمام السيد موسى الصدر بعدما أحس أنه عقبة كأداء في وجه مخططاته العدوانية، وقتل الفيلسوف الإسلامي الشيخ مرتضى مطهري، وأعدم المرجع الإسلامي الكبير محمد باقر الصدر حيث أحس بخطورة موقفه الذي جسده بهذه الكلمات: ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب في الإسلام». تستوقفنا في هذا النص أستجابة الأمة (جواب الطلب) لطلب لم يوجه إليها مباشرة، بل عبر الاستعانة بالله، أي أن العلماء يستعينون بالله فتستجيب الأمة، وكأن المسكوت عنه في النص يعني إما أنهم يستعينون بالله على الأمة إما أن البشر، بمن فيهم «العلماء» عاجزون عن فعل أي شيء إلا بمشيئة الله، طبقاً لما تنص عليه مجموعة من الآيات منها الآية 29 من سورة التكوير، [وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]، أو الآيتان رقم 23 و24 من سورة الكهف [وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ...]؛ كما ينطوي المسكوت عنه على معنى آخر، وهو أن «العجز» يختص به البشر العاديون دون «العلماء» ومن باب أولى، الملائكة والرسل والنبي، مع أن القرآن أشار في أكثر من آية إلى أن النبي بشر مثل سائر البشر باستثناء ما خصه اللّه به، أي الوحي، وأن التركيز على عجزهم مقترن دوماً بالحديث القائل إن «العلماء ورثة الأنبياء» المستند إلى الآية الخامسة من سورة القصص [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ]، أو إلى الآية رقم 28 من سورة فاطر[وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ]. غير أن الشيخ عباس حايك له رأي مختلف في قراءة الآية وتفسيرها، إذ يرى أن من المحتمل «أن تكون الآية في مورد التحذير والخشية من ضرر العلماء، وأن اللّه تعالى هو الذي يخشى على عباده من هؤلاء الذي يضللون الناس زاعمين أنهم وكلاء العلم والمعرفة» (الشيخ عباس حايك، سموم النص، مؤسسة الانتشار العربي، 2018،ص40). لقد ورد هذا الحديث مرة في رسالة حزب اللّه المفتوحة، لكنه ورد عشرات المرات في كتاب آية اللّه الخميني عن الحكومة الإسلامية(منشورات فايول، 1979، ترجمه من الفارسية إلى الفرنسية م.كتبي و ب. سيمون بالاشتراك مع عزرا بني صدر) وفي الكتاب تأكيد على تميز «العالم»، أي عالم الدين، عن سواه من الناس وسمو مقامه عن سائر المؤمنين، وتأكيد على أن «منزلتهم منه كمنزلة النجوم من البدر المكتمل»(ص.87) في سلم التراتبية البشرية هذا يحتل المؤمنون قاعدة الهرم، يليهم «العلماء» ثم الأئمة المعصومون ثم الملائكة والرسل والنبي، وهي تراتبية يرى سمير أمين أنها من تأثيرات البوذية على الفكر الشيعي(حوار الدولة والدين، سمير أمين وبرهان غليون، المركز الثقافي العربي، 1996، ص12). «النبي والأئمة هم النور في ظلمة السماء وهم أرفع شأناً من سائر البشر» (الخميني م.ن.ص45). من ناحية أخرى، بين الإمام المعصوم والعالِم يبرز دور الفقيه الذي يمكن أن ينوب عن الإمام في حال غيابه، وهذا هو الأساس الاعتقادي لنظرية ولاية الفقيه لدى فريق من الشيعة، وهي النظرية التي تحدد طبيعة الحكومة الإسلامية (عنوان الكتاب)باعتبارها حكومة تمثل إرادة الله، لا إرادة الشعب، وتمثل «امتداداً لولاية النبي والأئمة، ما يضفي عليها صفة مقدسة للغاية: من ينكر سلطة الولي الفقيه ينكر اللّه وأهل البيت ويكاد يكون مشركاً» (هذا القول تنسبه الدكتورة أمل سعد غريّب إلى السيد حسن نصرالله في الصفحة 78 من كتابها المشار إليه أعلاه). أما الخليفة فهو ليس خليفة النبي فحسب بل كان يحمل لقب خليفة الله، لأن الحاكم في الحضارة الإقطاعية، ملكاً أو امبراطوراً أو أميراً أو سلطاناً، كان يزعم أنه يمثل اللّه على الأرض، ولهذا كان من المفترض أن يتحلى بصفة العدل وأن يكون ضليعاً بأمور الشريعة مؤمناً ومتمسكاً بالقيم الأخلاقية (الحكومة الإسلامية،م.ن.ص49) من الواضح، استناداً إلى هذه المعايير، أن الشروط التي ينبغي أن تتوافر في الحاكم، ومن باب أولى توافرها في الإمام والفقيه والعالم، (م.ن) في ظل الحكومة الإسلامية، لا تتضمن أية إشارة إلى المعارف الحديثة، التي كان الشيخ محمد عبده قد رآها ضرورية حين اقترح إدراج العلوم الوضعية، الرياضيات والفيزياء وعلوم الطبيعة كجزء من البرامج التعليمية في الأزهر، بعد أن كانت تقتصر على علوم اللغة والقرآن والسنة النبوية، والتي أشار الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى أهميتها في كتابه، في ضرورات الأنظمة وخيارات الأمة، (منشورات دار أفق للصحافة والعلاقات العامة، من دون تاريخ)، حيث يقول: «في الإسلام لا يوجد رياضيات حديثة، فيزياء حديثة وهندسة حديثة، لدينا آثار مهمة موجودة في الحمراء في الأندلس لكن هذه تنتمي إلى عصرها، لماذا حصر المسلم والعربي بين خيارين: إما أن مرجعه في الإسلام أو في الحداثة؟ ....إذا أراد الإسلامي الآن أن ينظم الجيش، لا يذهب إلى نظريات خالد بن الوليد بل يستعين بنظريات الخبير الألماني والخبير الإنكليزي» (ص113-114). من الثابت أن النصوص الحزبية هي أدوات تعبوية أكثر منها معرفية. هذا صحيح. غير أن التركيز على الجانب الإيديولوجي دون المعرفي يحوّل النصوص إلى مادة للتجهيل لا للتثقيف، خصوصاً أنها تقنع المتحمسين بعجز عقولهم عن الوصول إلى الحقيقة عن غير طريق «الاستجارة»، التي تبدأ بالاستعانة بالله وتنتهي بالتنجيم والتبصير، والاستخارة التي هي أقرب إلى لعبة الحظ. مثل هذا المنهج يشلّ التفكير ويربي عقول أتباعه على الاتكالية، أي على الاعتقاد بوجود من يفكر عنهم ويقدم لهم الأفكار جاهزة في قالب من القداسة، ويحولهم إلى نوع من الروبوت أو السائر في منامه. هذا بالضبط ما يفعله النص المشار إليه أعلاه حين يحمّل «المستعمر»، خلافاً للوقائع المعروفة، مسؤولية إخفاء الإمام موسى الصدر في ليبيا، وإعدام المفكر الاسلامي محمد باقر الصدر في العراق، واغتيال رجل الدين مرتضى مطهري في طهران. مثل هذا النص، الذي يفضل التعبئة ضد الاستعمار على نشرالمعلومة الصحيحة، لا يسعى إلى التثقيف بل إلى التضليل وإلى تعميم نوع من الوعي الأسطوري بديلاً من التحليل العلمي وتربية العقول على التفكير. إن مقارنة هذا النص المتسرع في إطلاق الأحكام بالنص الذي وضعه محمد عابد الجابري وبحث فيه عن محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد واستنطق فيه الوقائع والحوادث والنصوص والتواريخ وقارن بينها وساءلها، واستعان بما وفرته العلوم الحديثة من أدوات معرفية، وذلك من أجل التوصل إلى معرفة أقرب ما تكون إلى الحقيقة (المثقفون في الحضارة العربية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1995) يرينا الفارق بين منهجين، أحدهما يحفز العقل على التفكير باحتمالات وخيارات متعددة لكل منها قرائن وأدلة وإثباتات، فيما يقدم الآخر صيغة وحيدة للحقيقة، هي أقرب إلى الأحكام المسبقة والمصادرة على المطلوب منها إلى الخلاصات المنطقية والاستنتاجات العقلية، ولا يجيز للعقل النقدي أن يرميها بالشك، تحت طائلة رمي صاحب الشك بالخيانة والكفر والعمالة للعدو الخارجي. تقول أمل غريّب في الصفحة 75 من كتابها، «المعصومون فقط أهل للسلطة الروحية كي يتحكموا بطاعة المؤمنين العمياء». في هذه العبارة مصطلح جديد، «المعصومون»، ونعت إضافي، «طاعة المؤمنين العمياء». فإذا كان النعت واضحاً في تعبيره عن العمى العقلي وعن استجابة المؤمن من غير ما حاجة إلى التفكير، فإن العصمة مصطلح يكتنفه الالتباس على رغم وضوح معناه، ذلك أن المعصوم عن الخطأ هو النبي وحده بحسب المعتقدات الإسلامية «فالعصمة لا تكون إلا لنبي» (من موشح من القصائد الصوفية يغنّيه صباح فخري)، غير أن غلاة الشيعة جعلوا العصمة للأئمة الإثني عشر أيضاً، ثم استندوا إلى الاشتقاق اللغوي فخلعوا على من يؤم المصلين لقب الإمام ودرجة من درجات العصمة، حتى صار جميع المعممين ورجال الدين من المعصومين، ولا سيما منهم الفقيه الذي يعتبر أعلى مرتبة من رجل الدين وأدنى من الإمام، وبالأخص من بين كل هؤلاء «الولي الفقيه الذي تؤول الولاية وقيادة الأمة إليه ويستمر حكمه حتى رجعة الإمام الثاني عشر المعروف بصاحب العصر والزمان» بحسب النظرية المنسوبة إلى الخميني والتي ترى فيها أمل غريب «ذروة للتطور التاريخي لمفهوم النائب العام الذي قدمه العالم الشيعي البارز الشيخ زين الدين بن علي الجباعي المعروف بالشهيد الثاني، في القرن السادس عشر». (أمل غريّب، م. ن. ص73و ص75).
4 ــ حروب الحتميات والمناهج منهج التفكير المعتمد لدى الأحزاب الدينية في القضايا الفقهية كما في القضايا الدنيوية، ومنها الحكم والحكومة والنظام والدولة، ينطلق من فرضية أو معادلة مغلوطة، وهي مغلوطة بمقاييس المنطق لا بالمقياس الفلسفي أو الفقهي، ومفادها أن «المعرفة عسيرة على عامة الناس ما لم يتصدَّ لها العلماء الفقهاء المجتهدون» (الشيخ نعيم قاسم، حزب الله، دار الهادي، بيروت، 2004، ص70). لقد توقف باحثون كبار عند البعدين الفلسفي والفقهي من قضية الإمامة والولاية، فقارن الجابري بين «موقع الولاية من النبوة عند كل من الشيعة والمتصوفة، ورأى أن الولاية رئاسة، وهي دينية وسياسية عند الشيعة الإثني عشرية ودينية فحسب عند المتصوفة، وأن الشيعة يقولون بالعصمة للأنبياء ولأئمتهم والولاية في تصورهم سلطة إلهية... والولي، أو الإمام، في نظرهم هو في منزلة النبي»(مدخل إلى القرآن الكريم، مركز دراسات الوحدة العربية، الجزء الأول، 2006، ص130-131). وفي كتابه، بنية العقل العربي الصادر عن الدار ذاتها، بطبعته الثانية عام 1987، كان قد كرس لهذا الموضوع فصلاً كاملاً، رآى فيه أن قضية الإمامة أو الخلافة شكلت «أخطر قضية في التجربة التاريخية الإسلامية وهذا بشهادة علماء المسلمين جميعاً سنيين كانوا أو شيعة» (ص318)، كما رأى أن الشيعة عملوا «على تأسيس مذهبهم على الصورة التي تجعل الإمامة بديلاً عن الأصلين العقليين اللذين يعتمدهما أهل السنة: الإجماع والقياس» (ص320). وكذلك رأى الدكتور حسين سعد، في كتابه، الأصولية الإسلامية العربية المعاصرة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2،2006، أن انتقال الدور من النبي إلى الإمام المعصوم ومنه إلى الفقيه لا يستند إلى نص إلهي(القرآن) ولا إلى سنة نبوية، بل إلى تسويغ عقلي(ص437) في الموضوع ذاته يرى الباحث علي مبروك أن اللافت على مدى التاريخ الثقافي للإسلام هو «اليأس من العقل واستبعاده من النظم المعرفية، بحيث تلاشى دور العقل تماماً عند الشيعة بإزاء سلطة الإمام، لأن المبدأ في مذاهب الشيعة هو إبطال الرأي وإبطال تصرف العقول ودعوة الخلق إلى التعلم من الإمام المعصوم... فبدا كأن ضروة الإمام المعرفية والدينية تهدف، عند الشيعة، إلى إبراز ضرب من التطابق الكامل بين النبوة والإمامة» (النبوة، دار التنوير، بيروت، 1993، ص139-142). أما راشد الغنوشي فيتساءل «كيف لبشر وقد انقطعت النبوة أن يكون وحده معصوماً أو شبه معصوم، كما هو الحال في ولاية الفقيه، مع أن مجموع الأمة التي ينشأ فيها بعيدة عن العصمة؟»(الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، 1993، ص143). في السياق ذاته يقول فالح عبد الجبار، على لسان محمد باقر الصدر، إن هناك، من الناحية النظرية، شكلين للحكم، الشكل التيوقراطي أو الإلهي، والشورى، وإن الحكم الإلهي هو حكم الفرد المعصوم، أي الإمام الغائب، أما الشكل الثاني فهو الشورى أي حكم الأمة.(العمامة والأفندي، منشورات الجمل، 2010، ترجمة أمجد حسن، ص133). هذه العينات من الكتابات المعاصرة تستند وتضاف إلى آلاف الصفحات من كتب التراث الإسلامي التي تناولت التشيع والإمامة من موقع التأييد لها أو الاعتراض عليها، إلا أن الأمر يعنينا هنا من جانب مختلف يتعلق بثغرة في البناء المنطقي للمعادلة. إذا افترضنا أن مقدمتها الأولى، عجز العقل البشري، صحيحة بالمنطق الإيماني، فعلاج العجز، كما تنص الآيات القرآنية يتمثل بالعودة إلى الخالق لأنه «على كل شيء قدير»، وهي آية تكررت أكثر من عشرين مرة في عدد من السور القرآنية، وتضمنت دعوة الناس إلى الإيمان بالله الذي هو على كل شيء قدير. غير أنه لا هذه الآية ولا سواها أشارت ولو تلميحاً إلى تميز العلماء والفقهاء والمجتهدين عن سائر البشر،حتى أن العديد من الآيات، كما ذكرنا أعلاه، لم تميز النبي عن البشر إلا بالوحي [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ] (الآية 110 من سورة الكهف وسواها كثير من الآيات). أما التمييز الذي تنص عليه الآية التاسعة من سورة الزمر، [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ]، فقد أجمع المفسرون على أنه تمييز بين الطاعة والمعصية. لذلك احتاجت المعادلة إلى تعسف في التفسير وإلى تأويل يصنّف الناس بين عامة وخاصة، ويضمر معنى أن يكون العلماء والفقهاء والمجتهدون من الخاصة، ليتولوا «استنباط الأحكام الشرعية فيبينون الواجب والحرام والمستحب والمكروه والمباح» (نعيم قاسم، م.ن.). بتعبير آخر، يبدو من سياق الآية أن تكرارها في أكثر من سورة لا يهدف إلا إلى إقناع الناس بقدرة الخالق والإيمان به، وبما أن التأويل سرّ إلهي (لايعلم تأويله إلا الله) وبما أن الراسخين في العلم يقولون آمنا(الآية السابعة من سورة آل عمران)، من غيرما حاجة إلى تأويل، فإن التأويل يصبح حاجة للعامة من الناس فحسب، يوفره لهم الخاصة المتمثلة ب»العلماء والفقهاء والمجتهدين». من ناحية أخرى، شهدت وسائل تحصيل المعرفة تطورات وقفزات نوعية وثورات قلبت كل المقاييس وجعلت عملية التصنيف أكثر تعقيداً ولا سيما في الشأن المتعلق بالعلم والمعرفة عموماً وبعلوم الدين على نحو خاص. فإذا كانت الثنائيات الدينية، ولاسيما منها الإيمان والكفر، مفتاحاً لأبواب علوم الغيب يمنح العاملين في الحقل الديني امتيازاً ثقافياً، فإن تفريع حقول المعرفة في العصور الحديثة حرمهم من هذا الامتياز، ولاسيما بعد أن تدرجت معايير الأمية من مرحلة كانت فيها الكتب المقدسة مصدراً وحيداً للمعرفة، إلى عصر الإلكترونيات الذي بات فيه أمّياً من لا يجيد العمل على الحاسوب. غير أن منهج التفكير والتفسير والبحث لدى علماء علم الغيب رفض الاستجابة لمعطيات العلوم الوضعية ولمناهج البحث في العلوم الإنسانية، واستمر يدور على نفسه في حقل معرفي مغلق، يفسر الآية بآية أخرى أو بحديث أو بقول منسوب لواحد من الأئمة أو رجال الصحابة، مضيفاً إلى الاستجارة والاستخارة أسلوب البحث الدائري الذي لا يبلغ غايته إلا بشيء من التعسف يتمثل بمعادلات مغلوطة منطقياً، كتلك التي أشرنا إليها أعلاه، والتي يزعم «العلماء والفقهاء والمجتهدون» حصولهم بموجبها، من غير أدلة أو إثبات، على تكليف إلهي يمنحهم القدرة على تطويع التأويل في خدمة سلطتهم الثقافية، وعلى جعل التكليف الإلهي جزءا من بديهيات المعتقدات، كما في قوله: «النبي والإمام معيّنان من اللّه تعييناً شخصياً، أما المرجع فهو معين تعييناً نوعياً، أي أن الإسلام حدد الشروط العامة للمرجع وترك أمر التعيين والتأكيد من انطباق الشروط إلى الأمة نفسها. ومن هنا كانت المرجعية كخط قراراً إلهياً والمرجعية كتجسيد في فرد معين قراراً من الأمة» (نعيم قاسم،م.ن.ص71، النص مقتبس من كتاب خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء للسيد محمد باقر الصدر). إننا نميل إلى الظن بأن هذا النوع من التعسف الفكري هو واحد من الأسس النظرية التي استند إليها الاستبداد الديني والسياسي. انطلاقاً من هذا النوع من التعسف في قراءة النص الديني توصل «العلماء الفقهاء المجتهدون» إلى أن «توهم صلاحيات النبي في الحكم كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين وصلاحيات أمير المؤمنين أكثر من صلاحيات الفقيه، هو توهم خاطئ وباطل... فالصلاحيات نفسها التي كانت للرسول والأئمة في تعبئة الجيوش وتعيين الولاة والمحافظين واستلام الضرائب وصرفها في مصالح المسلمين قد أعطاها اللّه تعالى للحكومة المفترضة هذه الأيام. غاية الأمر لم يعين شخصاً بالخصوص، إنما أعطاه لعنوان العالِم العادل... من غير أن يعني ذلك أن الولي كالنبي أو الإمام من حيث المواصفات الشخصية والمكانة عند اللّه تعالى» (نعيم قاسم، م. ن. ص73-74، وقد اقتبس القول من كتاب الحكومة الإسلامية للخميني ص86). لا شك أن النص الديني أشار في أكثر من مكان إلى أن اللّه يعطي من يشاء بغير حساب، غير أن التعسف في قراءة النص أسند إلى اللّه فعل تسمية «الحكومة المفترضة هذه الأيام» من غير دليل أو قرينة، ومن غير أن تشير القراءة إلى الوسيلة أو الأداة التي «يعطي بها اللّه تعالى» تلك الصلاحيات. هذا فضلاً عن أن الفكرة الأساسية التي يتمحور حولها كتاب الحكومة الإسلامية المشار إليه هي فكرة الولي الفقيه التي لم ترد إلا في تأويلات متعسفة للآيات، ومنها الآية السادسة من سورة الأحزاب [النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ]، التي يفضي تأويلها إلى أن ممارسة السلطة منوطة أيضاً بالعلماء، كما يفضي إلى القول بأن الآية «لا تعني غير ممارسة السلطة والقيادة»، ودليلهم على صحة هذا التفسير، بحسب المنهج الدائري، قول منسوب إلى الإمام الباقر يؤكد فيه أن الآية تعني القيادة (الحكومة الإسلامية، ص90 من النص الفرنسي). باختصار، لقد بات من الثابت أن العلماء والفقهاء «يستمدون سلطتهم من معرفتهم بالنص المقدس ومن احتكارهم تفسيره» (فالح عبد الجبار، م. ن. ص241)، وأن منهجهم في القراءة والتفسير والتأويل يستند إلى تسخيف العقل البشري، فيستجير بالله(الاستجارة) و يعدد الاحتمالات «فيجوز الوجهان» و»العلم عند الله» (الاستخارة)، ويسعى إلى تفسير الفكرة بفكرة من جنسها(يفسر الآية بآية أو بحديث أو بقول منسوب إلى الصحابة) أي بجعلها تدور على محورها (الاستدارة). اختصاراً لهذه الخصائص نقترح تسميته بالمنهج الدائري، لأنه ينطلق من نقطة ويدور حول نفسه ليعود من حيث بدأ. لا شك في أن هذا المنهج يشكو من غياب حلقة الربط المنطقي بين المقدمات والنتائج، فهو يستخف بالعقل البشري ويعتمد وسائل إقناع أخرى تنحو منحى استبدادياً لانعدام الحلول الوسط بين ثنائياتها، «فلا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار، بحسب الشاعر نزار قباني، ولا ما بين الإيمان والكفر، أو الطاعة والمعصية إلى آخر الثنائيات التي يقوم منطقها الداخلي على عدم الاعتراف بالآخر المختلف. لكن سؤالاً مشروعاً يمكن طرحه في هذا المجال عن آليات التمييز بين البعد الأول الفلسفي والفقهي من النص المقدس والبعد الثاني المتعلق بالممارسة النظرية، أي بالتفسير والتأويل والاجتهاد. الجواب البسيط والمختصر هو أن مادة هذا البحث ليست النص الديني المقدس في حد ذاته بل منهج تأويله وتفسيره وبالتالي كيفية توظيفه من جانب الأحزاب الدينية في العلاقات بين البشر، أي في حياتهم العامة. ومن الممكن تفصيله من خلال نموذجين في التفسير والتأويل. اخترنا في النموذج الأول مقاطع مختارة من كتاب فهم القرآن الحكيم، لمحمد عابد الجابري الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، وهو من ثلاثة أجزاء صدرت كلها في طبعتها الأولى عام 2008. يتبع الجابري في هذا الكتاب منهجاً قوامه عرض موجز عن الظروف التي نزلت فيها الآيات(أسباب النزول) ثم يشرحها شرحاً لغوياً ثم يعلق عليها. فهو يقول عن سورة الفلق: نص السورة، بسم اللّه الرحمن الرحيم، [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)] بعد أن يشرحها لغوياً يقول معلقاً: «لن نعلق هنا على حقيقة السحر من منظور الفكر العلمي المعاصر، بل نفضل أن ننقل هنا للقارئ وجهة نظر فقهية في السحر مما كتبه القرطبي في تفسيره. والقرطبي فقيه من متشددي أهل السنة وتفسيره محكوم بنظرته الفقهية...واختُلف هل له (للسحر) حقيقة أم لا، فذكر الغزنوي الحنفي في عيون المعاني له: أن السحر عند المعتزلة خدع لا أصل له، وعند الشافعي وسوسة وأمراض. وقال: وعندنا أصله طِلّسْم(حرز) يبنى على تأثير خصائص الكواكب، كتأثير الشمس في زئبق عصي (سحرة) فرعون، أو تعظيم الشياطين ليسهّلوا له مع عسر.» وعندنا (القرطبي: أهل السنة) أنه حق وله حقيقة يخلق اللّه عنده ما شاء على ما يأتي... ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة . وذهب المعتزلة وأبو إسحق الاسترابادي من أصحاب الشافعي إلى أن السحر لا حقيقة له وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به وأنه ضرب من الخفة والشعوذة»(ص76-77) يقدم الجابري في هذا التعليق نموذجاً عن كيفية النظر إلى النصوص المقدسة من ثلاث زوايا، الأولى زاوية النظر الفقهية حيث يمكن أن تتعدد التفسيرات والتأويلات كالقول عن السحر إنه حقيقة أو وسوسة أو تنجيم. والثانية زاوية النظر من منظور الفكر العلمي المعاصر وقد استبعدها في تعليقه، لكنه استفاض في الكلام والتحليل، على ضوئها، في مؤلفات أخرى ولا سيما ثلاثيته، بنية العقل العربي وتكوين العقل العربي والعقل السياسي العربي. القراءة الثالثة التي تعني دراستنا هي ترجمة النص المقدس أي نقله من المستوى الفقهي الفلسفي إلى مستوى البراكسيس النظري كما في مقطع آخر من تعليق الجابري حيث يقول: «روى سفيان عن عمار الذهبي أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل ويدخل في است الحمار ويخرج من فيه»(ص78) ثم يضيف: «اختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم والذمي، فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفراً يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته، لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني...»(ص79). من الواضح أنه فيما يركز المستوى الفقهي على التمييز بين أن يكون السحر حقيقة أو خدعة، تعالج الممارسة النظرية مسألة الحكم على الساحر المسلم وعلى الساحر الذمي، وعلى السحر بين أن يكون كفراً أو ليس بكفر، وهل يقتل الساحر أو يستتاب. يبقى المستوى الثالث هو المستوى التطبيقي الذي يتولاه الممسك بزمام السلطة السياسية والعسكرية، أي صاحب القرار بالقتل أو بالعفو. النموذج الثاني هو التعامل مع آيات شاع تداولها في مرحلة الإمارة الإسلامية، وهي تدعو إلى القتال وبعضها إلى القتل، واستناداً إليها أباحت داعش قتل الآخر المختلف في الدين أو في المذهب أو في الرأي السياسي، وهي كثيرة ومتفرقة بين السور، ومنها على سبيل المثال، [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] (سورة الأنفال 39) [فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] (ســــورة التوبة5)، [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ] (سورة البقرة 193). [وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا ] (الإسراء33). المستوى الأول في التعامل مع هذه الآيات هو المستوى الفقهي الذي يعنى بتقليب المصطلحات على جميع وجوهها، متوقفاً عند الدلالات المحتملة لمعاني التحريم والحق والظلم والمشركين والأشهر الحرم والرحمة، وذلك بالاستناد إلى علوم اللغة وعلوم القرآن المتعلقة بأسباب النزول وبعلم الحديث. وفي ما يلي نموذجان منه في تفسير واحدة من هذه الآيات، الأول من تفسير الطبري والثاني من تفسيرالقرطبي. جاء في تفسير الطبري لجزء من الآية: «يقول جلّ ثناؤه: وقضى أيضا أن [لا تَقْتُلُوا] أيها الناس [النَّفْسَ التي حَرَّمَ الله] قتلها [إلا بالحَقّ] وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام، أو زنا بعد إحصان، أو قود نفس، وإن كانت كافرة لم يتقدّم كفرها إسلام، فأن لا يكون تقدم قتلها لها عهد وأمان». كما جاء في تفسير القرطبي: «قال ابن خويز منداد: الولي يجب أن يكون ذكرا؛ لأنه أفرده بالولاية بلفظ التذكير . وذكر إسماعيل بن إسحاق في قوله - تعالى -: فقد جعلنا لوليه ما يدل على خروج المرأة عن مطلق لفظ الولي، فلا جرم، ليس للنساء حق في القصاص لذلك ولا أثر لعفوها، وليس لها الاستيفاء . وقال المخالف: إن المراد هاهنا بالولي الوارث؛ وقد قال - تعالى -: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض؛ وأما ما ذكروه من أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد، كأن ما كان بمعنى الجنس يستوي المذكر والمؤنث فيه، وتتمته في كتب الخلاف». نتدرج من المستوى الفقهي (النظري) إلى مستوى التطبيق النظري أي ما أسميناه الممارسة النظرية التي تقع في منزلة وسطى بين الفلسفة (الفقه في الدين) والممارسة السياسية، ويمكن أن يشكل الخلط بينهما عوائق معرفية. تأكيداً على أن لكل مجال من الدراسة منهجه، يقول الدكتور علي نسر على صفحته في وسائل التواصل: «لا يمكن ان يُردّ على فيلسوف مادي او ديني انطلاقا من الفقه بل ينبغي ان يكون الرد عبر الفلسفة. وكذلك العكس فلا يمكن ان ندحض فكرة فقهية بالفلسفة بل بالفقه والعلم وخاصة علم اللغة الذي يغيبه الفقهاء حين يحشرهم في فكرة ما فيعملون على جعله في الدرجة الثانية...كان ابن سينا فيلسوفا ولم يكن فقيها وذا معرفة في الشريعة، فرد عليه الغزالي فقهيا لأن هذا الأخير لم يكن يفقه الفلسفة بل قرأها من ابن سينا ليدحضها في كتاب تهافت الفلاسفة فكان حكمه فقهيا ايديولوجيا ذا نزعة أشعرية... والذي عرف أصول الرد هو ابن رشد لأنه جمع بين الفلسفة والشريعة والفقه، فرد عبر تهافت التهافت فلسفيا على الغزالي لاثبات عدم معرفته بأصول الفلسفة، في حين كان رده فقهيا على الغزالي نفسه في كتاب فصل المقال....» من يقوم بمهمة التطبيق النظري، إلى أي مدرسة فقهية انتمى، يمنح نفسه رتبة دينية، أميراً أو داعية أو عالم دين معمماً أو فقيهاً، «وهي مسميات ليس لها سند قرآني أو روائي» بحسب قول الشيخ عباس حايك، م.س.ص40)، ثم يتدرج من قراءة قد تأخذ بظاهر النص أو بالتأويل، أو بمبدأ الناسخ والمنسوخ الذي، بموجبه، يرى «فقهاء السيف والسلاح والقوة والبطش والإجرام والقتل» (عباس حايك، م. ن. ص52) أن آية السيف المشار إليها أعلاه، الخامسة من سورة التوبة، تنسخ كل الآيات المتعلقة بالصفح والغفران والرحمة الواردة في القرآن الكريم، مثل لا إكراه في الدين، وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، أو الآية التي تتكرر كثيرا في القرآن وتتضمن معنى أن اللّه غفور رحيم، ثم ينتقل، بعد هذه القراءة، إلى التطبيق النظري للآيات. فإذا كان الفقه يهتم بالمعايير التي يقاس بها «المشركون» على وجه العموم ومن غير تحديد، والبحث في ما إذا كان المشرك هو الكافر أو الملحد أو المؤمن بتعدد الآلهة، وما إذا كان النصراني أو اليهودي من المشركين أم لا، ويقاس بها معنى «الفتنة» وما هو الفعل الذي يرقى إلى درجة الفتنة، وإلى من يعود الضمير في «قاتلوهم»، ومن هي «النفس التي حرم اللّه قتلها»، فإن الممارسة النظرية تحدّد على من تنطبق هذه المعايير وتقرر ما إذا كان سلوكهم يلتزم بالشريعة أو يخالف أحكامها، فيكون هذان التحديد والتقرير بمثابة مضبطة اتهامية يتصرف بها صاحب السلطة العسكرية أو السياسية أو الإيديولوجية ويبني عليها حكماً قابلاً للتنفيذ. أصحاب الرتب الدينية هذه، التي تبدأ بالمؤذن وخادم المسجد وتنتهي بآية اللّه العظمى، يمنح كل منهم نفسه قسطاً من القداسة يتناسب مع مستوى رتبته ومع حجم قوته العسكرية، ويقررون على من تنطبق صفات المؤمن والمشرك والكافر والحلال والحرام، ويقيمون الحد ويطلقون الفتاوى، عن المرأة والخمرة وأنظمة الحكم وإدارة شؤون الناس وعن الوضوء والطهارة والنجاسة والزواج والطلاق والنكاح وغسل الميت وغيرها من شؤون الحياة وشجونها. هذه الفتاوى والقرارات مبنية، بحيثياتها وفذلكاتها «القانونية» وأحكامها، على أسس «المنهج الدائري» ومنطقه وآلياته في التفكير والتحليل والاستنتاج، الذي يجهل أو يستبعد أو يغفل ما توصلت إليه العلوم والمعارف والمناهج، ويستحضر سياق معركة ضارية خاضتها الكنيسة ضد مكتشفات العقل البشري، ليعيد قراءة النص الديني إلى مرحلة ما قبل العقل، بحسب تعبير محمد عابد الجابري، ما يجعل «الإسلام العقائدي والفقهي بصورته الراهنة والقديمة غير صالح للمشاركة في صناعة الحضارة، لأنه لا ينتج إلا النماذج التي تجسدها الأصولية، ولأنه فكر يكرر نفسه ويعيد إنتاج ما عنده» (الشيخ علي حب الله، من مقدمة كتاب سموم النص المشار إليه أعلاه، ص18) بتعبير آخر، إن الفتوى والتفسير والتأويل والاجتهاد إزاء الآيات هي بمثابة المراسيم التطبيقية إزاء القوانين، مع فارق جوهري بين فقه القانون وفقه الدين. فالقوانين الوضعية ومراسيمها التطبيقية هي كلها صناعة بشرية تحتمل التعديل والتغيير تبعاً لتغير الأحوال، لأنها غير مقدسة، أما في فقه الدين فالنصوص البشرية التي تعمل على تفسير الأيات وتأويلها، أي على نقلها من مستوى القانون إلى مستوى المرسوم التطبيقي (الممارسة النظرية)، تتجاوز حد «سلطتها» التأويلية التفسيرية فتقتطع، استناداً إلى المنهج الدائري ذاته، أي بغياب أي ربط منطقي، بعضاً من قداسة النص الإلهي، وتحوّل التأويل إلى رديف للنص المقدس موازٍ له ومساوٍ، وذلك استناداً إلى تأويل متعسف لآية أخرى أو لحديث شريف أو لكلام منسوب إلى صحابي. ثم يتحول التعسف في التأويل والتفسير إلى ظاهرة خطيرة عند الانتقال إلى المستوى الثالث، أي إلى الممارسة السياسية التي تجسدت في أنظمة ومؤسسات وأحزاب في المعارضة أو في السلطة، لم تمثل داعش و«الدولة الإسلامية» التي أقامتها على أراض سورية وعراقية، خلال سنوات من العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، صورتها الوحيدة أو الأكثر وضوحاً من بينها، رغم أن التمييز بين المستويين الثاني والثالث فيها ليس سهلاً لأن طرفاً واحداً يمسك بالسلطتين الإيديولوجية والسياسية، التشريعية والتنفيذية، ما يجعلنا أكثر تمسكاً بتركيز بحثنا على المستوى الثاني، تفادياً لتحوّله إلى سجالات سياسية، لم تنج من الانزلاق إليها كتابات كثيرة حمّلت النص الديني مسؤولية الأعمال الإرهابية المرتكبة على يد أحزاب وأنظمة حاكمة باسم الدين، وطالبت بتعليق عمل الآيات التي تدعو إلى القتل والقتال، ودفعت إلى طرح السؤال المشروع، هل الخطأ في النظرية أم في التطبيق؟ لقد طرح هذا السؤال على النص الديني كما على النص الماركسي، وانقسم «المؤمنون» بين من ينزّه النظرية ويدين التطبيق وبين من يرى أن الأخطاء التطبيقية تجد جذورها في النص الأصلي، ويستندون على سبيل المثال إلى مفهوم دكتاتورية البروليتاريا في الماركسية وإلى الآيات التي تدعو إلى القتل في القرآن، ويرون فيها تبريراً نظرياً للأخطاء التطبيقية، فيما مال آخرون إلى تبرئة النظرية من تطبيقاتها، أي تبرئة الإسلام من الأنظمة والأحزاب الإسلامية وتبرئة الماركسية من الاشتراكية المحققة. مما لا شك فيه أن أي خطأ في التطبيق يستند إلى مبرر في النظرية، ولاسيما في كل نص «حمّال أوجه لا ينطق بنفسه بل يحتاج إلى رجال»، بحسب قول الإمام علي بن أبي طالب عن القرآن، ولذلك فنحن نميل إلى تحميل «الرجال»، أي البشر والقراءة والتأويل والاجتهاد(الممارسة النظرية) مسؤولية توظيف النص في حقل العنف، أي تحميل التعسف في الممارسة النظرية مسؤولية الاستبداد الفكري المفضية إلى سائر أشكال الاستبداد. في المقابل، قد يكون التأويل، ولا سيما حين يكون النص «حمّال أوجه»، سبيلاً لإغنائه وحاجة للرد على القراءة المتعسفة التي تأخذ بظاهره وتغفل أسباب النزول وظروفه، ذلك أن «التأويل تقويل للنص، وتالياً فإن أي نص إذا مر بعقل صغير فإنه يصغر وإذا مر بعقل كبير فإنه يكبر» (الشيخ علي حب الله، م. س. ن.)، وما أكثر الكتابات التي صاغتها «عقول كبيرة» بقصد إغناء النص الديني بتأويل يتجاوز ظاهر النص ويستند إلى معطيات الحضارة الرأسمالية والتطورات التاريخية والعلوم والاكتشافات الحديثة، فبرز رواد للإصلاح الديني من الذين فتحوا أبواب التأويل على العلوم الإنسانية بمختلف حقولها وعلى الديانات الأخرى واللغات الحية، بدءاً من جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي وعلي عبد الرازق، وصولاً إلى فلاسفة ومفكرين معاصرين وعلماء لغة، عرب أو مستشرقين، من أمثال صادق جلال العظم ومحمد أركون ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد، غير أن المعركة كانت تنتهي دوماً بما يشبه الكوارث الثقافية، إذ مات كل من الأفغاني والكواكبي مسموماً، ومات الطهطاوي منفياً في السودان ورمي محمد عبده بتهمة العمالة للاستعمار، وعوقب الشيخ علي عبد الرازق بطرده من الأزهر، وتمت محاكمة صادق جلال العظم أمام القضاء اللبناني وحكمت محكمة مصرية على نصر حامد أبو زيد بتطليقه من زوجته. ما كان لهذه المعارك أن تنتهي بمثل ما انتهت إلا لأن «المنهج الدائري» في البحث قد فرض نفسه كمنهج تفكير في كل الأمور الدينية والدنيوية، وفرض سيطرته على مقاليد السلطة الثقافية، من خلال المؤسسات الدينية مدعومة بموروث من العادات والتقاليد والطقوس ومنظومة القيم المعرفية والأخلاقية والاجتماعية التقليدية، وبمساعدة سلطات سياسية مدنية في الكثير من الأحيان. وكان من الطبيعي أن يلقى المصير ذاته مجدّدون يتبعون، في سجالهم مع القراءة المتعسفة، المنهج الدائري ذاته، الذي يدور على محوره ويحصر نفسه في الحقل المعرفي الديني نصاً مقدساً وسنة نبوية وسيرة سلف صالح، لكن، من دون اللجوء إلى الاستجارة التي يتوسلها المتعسف لتأكيد الإرادة الإلهية في أقواله وأفعاله. غير أن «أصحاب» المنهج الدائري، من غير المجددين، أقدر على استخدامه وتطويعه ممن ينشدون الإصلاح وتقف نصوصهم عاجزة عن ولوج بابه، لأنها تكتفي بالدوران على محورها من غير أن تستخدم حلقة الربط غير المنطقي. من الأمثلة الكثيرة على ذلك هذا النص للصحافي ذو الفقار قبيسي منشوراً على صفحته في وسائل التواصل بتاريخ 13-3-2019، يدين فيه التأويل المتعسف ويدعو إلى الالتزام بموجبات آيات أخرى، غير أن من يتوجه إليهم بالنقد يعرفون هذه الآيات ويتغافلون عنها. يقول النص: «كيف يحرّم البعض، نيابة أو وكالة عن الله، من تلقاء نفسه أو على مزاجه، سواء كان فرداً أو جماعات أو مؤسسات دينية أو غير دينية، وبطريقة اعتباطية أو تعسفية، ويحكم على الآخرين بذنب أو خطيئة أو حتى بالقتل، لاسيما بموجب اجتهادات دينية تضفي على أحكامها الصفة الشرعية، فهل نقرأ معاً رجال دين أو غير رجال دين، الآية التي تعطي حق التحريم لله وحده وتنبذ الذين يحرّمون ما لم يحرّمه اللّه ويطلقون الاحكام نيابة عن الله: الاية 116 من سورة النحل: [وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ] وحتى النبي عندما حرم بنفسه ما أحل الله، خاطبته الاية 1 من سورة التحريم: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ]. فاذا كان هذا حال النبي الرسول صاحب الرسالة في التحريم فكيف هو حال من اتخذوا لأنفسهم وكالة او نيابة يفترون بها على الله، على ما تنص الآية؟!». صحيح أن الكاتب يحاول أن يدحض التأويلات المتعسفة مستنداً إلى النصوص المقدسة الدينية، غير أن التعسف محصّن ضد المنطق لأنه، بالتعريف، انتهاك لقواعده وقوانينه، ولأنه بالتالي نوع من الاستبداد يمارسه التأويل على قراءة النصوص. أما الذين يستعينون بالفلسفة والعلوم الإنسانية، ولاسيما علوم اللغة والرموز(سيمانتيك) والدلالة (سيميوتيك) فيستعين عليهم من يسميهم محمد أركون أهل «التفسير الإسلامي الكلاسيكي الذي يجهل بالطبع الألسنيات الحديثة التحليلية للنص، ويجهل نظرية القراءة المعاصرة أيضاً»(الفكر الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، ط2، 1996، ص94) بالسلطتين الثقافية والسياسية وتنتهي المعارك معهم إما بحصر تأثيرهم بين النخب، أي بإقامة ستار عازل بينهم وبين العامة الجاهلة، تحت طائلة تكفيرهم، بحجة احتكاكهم بالحضارة الغربية والعلوم الحديثة واللغات الأجنبية، إما بالعنف المعنوي(نصر حامد أبو زيد) أو الجسدي(فرج فوده)، الذي غالباً ما كان يطالهم لا لأنهم تعرضوا بالتأويل والتفسير والاجتهاد للنص الديني المقدس، بل لأنهم تعرضوا بالنقد لنصوص بشرية شاركت في تأويل النص المقدس. فقد أصدر نصر حامد أبو زيد، وهو المتخصص باللغة العربية وآدابها وبالدراسات الإسلامية، كتباً تناول فيها قراءة النص المقدس على ضوء المناهج الحديثة، من بينها - الاتجاه العقلي في التفسير (دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة) -فلسفة التأويل (دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي) - مفهوم النص (دراسة في علوم القرآن) - إشكاليات القراءة وآليات التأويل (مجموعة دراساته المنشورة في مطبوعات متفرقة). أما الكتاب الذي أثار حفيظة المتشددين فهو نقد الخطاب الديني، الذي يشبه إلى حد بعيد كتاب صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، لاعتمادهما منهجاً عقلياً في التحليل يميز بين الدين والفهم البشري للدين، تمييزاً ذكره سمير أمين في قوله إن إسلام العقيدة الدينية شيء والإسلام التاريخي شيء آخر (حوار الدولة والدين، م.س.ص24)، كما أشار إليه الشيخ علي حب اللّه في قوله «النص شيء وفهم النص شيء آخر، ولا يتحمل النص التبعات السيئة للفهوم المتعددة، والتي تتكاثر على جذع النص، والتي كان يسميها محمد أركون بالنصوص الحافة في مقابل النص المؤسس»(م.س.ص20). فالكتابان لا يتناولان فقه الدين ولا العقيدة ولا الإيمان، بل الفهم البشري للدين، ويعتمدان في نقد المعتقدات البشرية وتحليلها اتجاهاً عقلياً وعلمياً لا يزعج الفقهاء لأنه لا يتناول الفقه، بل يثير من هم على درجة أدنى من سلّم علوم الدين معممين وأمراء ودعاة، ممن قال عنهم وضاح شرارة، في كتابه المشار إليه أعلاه، أنهم لم ينتقلوا من حد المتعلم إلى حد العالم، الذين يحرضون المؤسسات الدينية الرسمية على إصدار فتاوى تكفير، أو يتولون إصدارها بأنفسهم، بحق من «يعتدي» على حقهم الحصري المزعوم في تفسير النص أو تأويله بما يتناسب مع مستوى تحصيلهم العلمي، ومع حاجتهم إلى تحويل الدين إلى طقوس، وتعميم الوعي الأسطوري والخرافي لضمان سيطرتهم الإيديولوجية على عقول العامة.
الفصل الرابع الدولة والديمقراطية في فكر أحزاب الله
1 ــ ولاية الفقيه ضد الديمقراطية اخترنا الدخول في هذا الاستطراد الطويل لكي نبين أن المنهج الدائري في التفكير هو منبع الاستبداد الفكري الذي تتغذى منه سائر أشكال الاستبداد أو يشكل دعامتها الإيديولوجية، فهو لا يفسر القدرة الإلهية (إن اللّه على كل شيء قدير)، بل هو لا يستطيع أن يتخيلها، إلا مقرونة بعجز العقل البشري، ما خلا الأنبياء والأئمة والفقهاء والعلماء. وإذا كان استثناء الأنبياء، رغم كونهم بشراً(وما محمد إلا بشر، وآيات كثيرة أخرى) مقبولاً بالمنطق الإيماني أو الفقهي ومستنداً إلى أن اللّه خصّ النبي محمداً بالوحي وميّزه عن سائر البشر، فإن استلحاق آخرين بهذا الاستثناء يعني إما تصنيفهم مخلوقات من غير طائفة البشر إما تمييزهم عنها بلا سند ولا دليل ولا قرينة سوى المنهج الدائري ذاته الذي يفسّر ويؤوّل على هواه، بعيداً عن أي ربط منطقي، أي سببي، بين المقدمات والنتائج. بهذا المنهج بالذات تعالج أحزاب اللّه الدينية كل ما يتعلق بحياة الأفراد والجماعات، بما في ذلك الوطن والدولة والسياسة ونظام الحكم وإدارة الشأن العام. فماذا تقول النصوص عن الوطن والدولة؟ سيتركز نقاشنا على النصوص المكتوبة لا على الممارسة السياسية. وقد اخترنا ما نشره قادة في حزب اللّه أو ما كتبه باحثون أكاديميون عن الأسس النظرية المعتمدة لدى حزب اللّه في بناء الدولة. الشيخ نعيم قاسم الأمين العام المساعد أصدر كتابه، حزب الله، المنهج والتجربة والمستقبل، بطبعته الثالثة عام 2004، عن دار الهادي، بيروت؛ النائب في كتلة الحزب البرلمانية، الدكتور حسن فضل الله، أصدر كتابه، حزب اللّه والدولة في لبنان، الرؤية والمسار، ط3، عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2015؛ وعن الدار ذاتها أصدر الشيخ صادق النابلسي، في العام 2019، كتابه، حزب اللّه من فتنة الربيع العربي إلى جيوبوليتيك المنطقة؛ الدكتورة أمل سعد غريّب ناقشت أطروحة دكتوراه عن حزب اللّه في جامعة برمنغهام في بريطانيا ونشرتها مترجمة إلى اللغة العربية تحت عنوان، حزب اللّه الدين والسياسة، في دار الكتاب العربي، بيروت، 2002، إضافة إلى كتاب لقاسم قصير، سبقت الإشارة إليه، ولفايز القزي،حزب الله، أقنعة لبنانية لولاية إيرانية، رياض الريس للكتب والنشر، ط1،2013؛ أما عبد الإله بلقزيز فقد أصدر عام 2006 عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت الطبعة الأولى من كتاب في أدب الصحافة السياسية بعنوان، حزب اللّه من التحرير إلى الردع، وهو كتاب يختلف عن مؤلفات هذا المفكر المرموق التي تنتمي إلى عالم البحث العلمي. فضلاً عن أول إصدار عن حزب اللّه سبقت الإشارة إليه للكاتب وضاح شرارة، يحمل عنوان، دولة حزب الله، لبنان مجتمعاً إسلامياً. سنذكر اسم الكاتب ورقم الصفحة في كل مرة نعود فيها إلى أي من هذه الكتب، إلا مع بلقزيز الذي سنعود إلى أكثر من واحد من كتبه. ماذا في هذه المؤلفات عن الوطن وعن الدولة؟ يلتقي نص حسن فضل اللّه مع نص حزب التحرير على اعتماد المنهج اللغوي في تفسير المصطلح: «الوطن في اللغة هو دار الإقامة... ويطلق عليها مفردات مثل الديار والأرض والقرية والمدينة. وتعني هذه المفردات الوطن كحيز جغرافي»(ص15-17). ينطلق فضل اللّه من هذا التعريف ويقرر، استناداً إلى المنهج الدائري وعن طريق الاستدلال، بحسب قوله، أن الدين الإسلامي أقر المفاهيم المفسرة لمعنى الوطن، وبناء على ذلك، فسر كلمة الأرض الواردة في الآية 13 من سورة إبراهيم بمعنى الوطن [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ]، كما فسر فعل الخروج ومشتقاته الواردة في آيات عديدة، إبراهيم13، الشعراء167،النمل 56، الأعراف88، الشعراء 35،الأعراف123، النساء66، الحج40، الحشر8، بمعنى النفي من الوطن، مع أن الآيات أشارت بوضوح إلى أن الخروج هو خروج من «أرضنا» أو «قريتكم» أو «قريتنا» أو «أرضكم»، أو «المدينة» أو «دياركم» أو»ديارهم» ولم تذكر كلمة الوطن في أي منها. ثم يستدرك ليؤكد في استدراكه التعسف في التفسير قائلاً: «صحيح أن الأمر يتعلق هنا بالمعن الضيق للوطن، أي مكان الإقامة في القرية أو المدينة المتعارفة اليوم... لكن هذا المستوى من الاهتمام(اهتمام الفقه بأبحاث معمقة حول مفهوم الوطن) يعطي صورة واضحة عن مدى أهمية الوطن في الفهم الديني بما هو دار إقامة وعيش وتفاعل اجتماعي وحيز للعمران البشري» (ص21)؛ ثم يمعن في تحميل المصطلح من الدلالات فوق طاقته حين يرى أن التفسيرات ساوت بين «الخروج من الوطن وخروج الروح من الجسد» في الآية 66 من سورة النساء، [وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا]، وهو تفسير متعسف، أو حين يرى أن الشهيد الأول، محمد بن مكي الجزيني المتوفي سنة 1384 ميلادية قد «فضل البقاء في وطنه الأصلي جبل عامل وعدم قبول دعوة أحد أمراء خراسان لتوليته منصب إمام البلاد فيها»، مع أن منطقة جبل عامل لم تتشكل كوطن،على امتداد تاريخها، ولم تصبح جزءاً من وطن إلا بعد عام 1943. ثم ينتقل فضل اللّه من تفسير مصطلح الوطن إلى الكلام عن حاجة الوطن إلى دولة، إذ تتدرج الحاجة من التعاون بين إنسان وآخر إلى «ناظم للعلاقة بين أفراد الجماعة، تطور(الناظم) وتحول إلى ما يعرف بالعقد الاجتماعي الذي استند إلى قواعد جعلت منه كياناً سياسياً عرف باسم الدولة... هذا الناظم الذي تنبثق عنه سلطة بدءًا من العائلة الصغيرة فالعائلة الكبيرة داخل أي جماعة بشرية، تطور مع الزمن وصولاً إلى مفهوم الدولة المعاصرة»(ص24-25). العقد الاجتماعي تحول إلى كيان سياسي، حمل الكيان السياسي اسم الدولة. من الواضح أن مصطلحي الوطن والدولة يكتنفهما التباس تشكو منه نصوص الأدب السياسي العربي، وقد أشرنا إلى أن عبد الإله بلقزيز رأى أن الخلط المفاهيمي يعود لأسباب «أهمها الفقر المعرفي وضعف الصلة بمصادر الفكر الإنساني... وأن من غير الممكن أن يكون لدينا إنتاج فكري حول مسألة الدولة إذا كنا نجهل ما كتبه أفلاطون وأرسطو وإبن خلدون وماكيافيلي وسبينوزا وهوبس وجون لوك وبودان وروسو ومونتسكيو وكانط وهيغل وماركس وغرامشي وكاسيرر وكارل بوبر وإريك فيل وبولانتزاس وبورديو؟ وكيف يمكن أن نتحدث في الدولة والحرية والمواطنية إذا كنا نجهل فلسفة الأنوار وجون ستيوارت ميل وماكس فيبر وطوكفيل» (الدولة والمجتمع، م. س. ص32-33)، ومن واجبنا العلمي والأكاديمي أن نلحظ تواضع بلقزيز فنضيف إسمه إلى هذه القائمة، إلى جانب عبد اللّه العروي المفكر المغربي الذي كان من أوائل من كتبوا عن الدولة. ومن الواضح أيضاً أن أياً من هذه المرجعيات الفكرية التي عددها بلقزيز لم يرد ذكره لا في نص فضل اللّه ولا في أي نص يعتمد المنهج الدائري، الذي يدور على محوره ويحصر مراجعه في النصوص الدينية المقدسة والبشرية، وهو ما فعله الكاتب حين اكتفى، لشرح مفهومي الوطن والدولة، على بعض الآيات وعلى سنة النبي وكتب الأئمة والصحابة (علي بن أبي طالب، الكاشاني، الشهيد الأول محمد بن مكي الجزيني المتوفى عام 1384م، الشهيد الثاني علي الجبعي العاملي المتوفى سنة1559)، في حين أن مصطلح الدولة لم يتحول إلى مادة للبحث العلمي إلا بعد استقلال العلوم الإنسانية عن الفلسفة وعن علوم الدين، كما أن مصطلح الوطن لم يخرج إلى النور إلا مع الثورة الرأسمالية، أي مع تشكل الأوطان بالمعنى الحديث للكلمة لا بمعنى الإقامة ومربط الخيل والغنم. لكل مصطلح شجرة عائلة. ولد مصطلح الوطن من رحم الحضارة الرأسمالية بالذات لا من سواها من الحضارات، ولذلك فإن العودة به إلى ما قبل الثورة الفرنسية وقبل الدساتير والعلمانية والدولة المدنية ليست فحسب تعبيراً عن خلط مفاهيمي وقصور معرفي، بل تأكيد على اتهام العقل البشري بالقصور وعلى احتكار المعرفة بكل الإنجازات التي تحصل في التاريخ وحشرها، تعسفاً، ضمن القائمة التي لا تحيط بها إلا عقول الراسخين في العلوم الدينية (وما فرطنا من الكتاب في شيء). الأمر ذاته يصح على الخلط بين الدولة والسلطة، إذا كيف سيحكم المنهج الدائري على كلام بلقزيز حين يقول إن الدولة أهم اختراع إنساني (الدولة والمجتمع، م.س. ص11)، أو حين يقول إن الذين «يناضلون» ضد الدولة من اليساريين أو الممانعين أو أنصار المجتمع المدني إنما يفعلون ذلك لأنهم «يتجاهلون جملة من الحقائق النظرية ومن الحقائق الاجتماعية-السياسية أو يقصرون عن إدراكها ومنها... أن خلطاً شنيعاً حاصل، في وعي كثيرين، بين معنى الدولة ومعنى السلطة، وهو خلط يقودهم إلى المماهاة بينهما والحديث عن الدولة بافتراض أنها السلطة»(ص93-95). حين يبلغ الخلط المفاهيمي مداه يتضح الموقف الحقيقي لحزب اللّه من الدولة على وجه العموم ومن الدولة في لبنان على وجه الخصوص. ففي كتاب فضل اللّه إشارة واضحة إلى أن العلاقة بالوطن شيء وبالدولة شيء آخر، والاختلاف يعود، برأيه، بحسب المنظار الإسلامي، إلى أن «مفهوم الوطن لا يتغير، لارتباطه بعناصر ثابتة، كالجغرافية والعلاقات الإنسانية والروابط الاجتماعية، أما الدولة فهي في تغير مستمر بتغير السياسة والتقسيمات الإدارية والنظام»(م.ن.ص27). مقارنة مفهوم الوطن في النص بتعريف الوطن في النصوص القانونية بما هو شعب و أرض وسيادة، تشير إلى غياب عنصرين أساسيين في تعريف فضل الله، هما الشعب والسيادة الوطنية. فالشعب هو انتماء سياسي وليس علاقات انسانية وروابط أجتماعية فحسب، والسيادة هي سيادة الشعب يمارسها من خلال الدولة والقانون. أما مقارنة الدولة في النص وحصر أسباب تغيرها بالتقسيمات الإدارية والنظام (وربما يقصد النظام الانتخابي) مع مفهوم بلقزيز للدولة بأنها «نصاب تمثيلي مجرد ومحايد يعبر عن كيانية الأمة السياسية والاجتماعية، أما سلطتها فمتغيرة (السلطة هي المتغيرة لا الدولة)، لكن الدولة هي هي، تستمر للجميع ويستمر ولاء الجميع لها»(م.ن.ص27)، وبأنها هي «المجتمع نفسه وقد توافق على تنظيم نفسه»(م.ن.ص75) وبأنها «ليست مضافاً في تاريخ مجتمع، بل ماهيته التي من دونها لا يكون كذلك، أي مجتمعاً» (م.ن.ص24)، فهي تؤكد(المقارنة) أن الدولة في نظر فضل اللّه ليست شيئاً آخر غير السلطة، وعلى أساس ذلك تفهم عبارته القائلة إن حزب الله «لم يكن يطالب بسلطة بمعناها المتداول ... ثم صار ينشد وجود الدولة...(لكنه) لم يعثر على الدولة المرجوة بحدودها الدنيا، بل في أغلبها لم يجد هذه الدولة، فالسلطات المتعاقبة كانت تقدم الدولة في صورتها ومعظمها لا يمت إلى فكرتها الأصلية بصلة»، وصولاً إلى التساؤل هل من أفق لوجود الدولة في بلد كلبنان؟ وسرعان ما يجيب على التساؤل بالنفي قائلاً بصيغة السؤال الإنكاري: كيف يمكن للحزب أن يوفِّق بين مطلبه بالدولة القوية وتعاظم قوته؟ إنه اعتراف صريح بأن قيام الدولة يتعارض مع تعاظم قوة الحزب، أي أن الحزب لا يشكل جزءاً من تكوين الدولة وأن مصلحة الحزب القوي تكمن في عدم قيام دولة قوية. الشيخ نعيم قاسم، نائب الأمين العام لحزب الله، كان أكثر صراحة في كلامه المباشر عن رغبة الحزب في إلغاء الدولة والحلول محلها، إذ رفض أي دور للجيش اللبناني في الجنوب بعد إخراج جيش الاحتلال الاسرائيلي منه، وعبر عن ارتياحه «لفشل محاولات زج الجيش اللبناني في مواجهة المقاومة في الجنوب» (ص194)، ورأى «أن ما عجز عنه الاحتلال خلال عدوانه يمكن تحقيقه من خلال ذريعة الفتنة وإرسال الجيش اللبناني إلى مناطق التماس في الجنوب، ليمنع المقاومة من استمرار عملياتها، فتحصل إسرائيل على الضمانات الأمنية التي تريدها» (ص. 64). بعيداً عن الدخول في السجال السياسي حول هذا الأمر، يمكن القول إن تخوين الجيش اللبناني، بتحميله مسؤولية تأمين الضمانات الأمنية للعدو، واستبعاده من مهمة حماية السيادة الوطنية، بذريعة أن «الحجج التي ساقها فريق من اللبنانيين لإرسال الجيش إلى الجنوب لم تكن مقنعة ولاتتناسب مع نتائج الانتصار»(ص.194) وأن «رفض نشر الجيش اللبناني إجراء حكيم يؤيده حزب اللّه ويعتبره علامة قوة لمصلحة الدولة اللبنانية» (ص.197)، يعبر عن عدم اعتراف الحزب بسيادة الدولة على أرضها وعلى حدودها، أو على الأقل عن سعيه ليتقاسم وإياها السيادة الوطنية، من غير أن يخفي اقتناعه بأن إخراج جيش الاحتلال من الأرض اللبنانية هو انتصار لحزب اللّه لا للشعب اللبناني ولا للدولة اللبنانية. المسكوت عنه في كلامه هذا هو أن السيادة الوطنية ليست من مهمات الدولة ولا من صلاحياتها. يمكن أن يقول قائل إن موقف حزب اللّه من الجيش لا يشكل دليلاً كافياً على موقفه من الدولة، لأن الجيش ليس سوى جهاز من أجهزتها. غير أن أدبيات الحزب لم تخف موقفها المبدئي الذي يحتم مواجهة النظام (اللبناني) «لكونه صنيعة الاستكبار العالمي وجزءاً من الخارطة السياسية المعادية للإسلام ولكونه تركيبة ظالمة في أساسها لا ينفع معها أي إصلاح أو ترقيع بل لا بد من تغييرها من جذورها» (الرسالة المفتوحة،م.س.). ثم تدرج هذا الموقف نحو «إصلاح هذا النظام عبر إلغاء الطائفية السياسية وإقامة الدولة العادلة والقوية مع الالتزام بالديمقراطية التوافقية»(الوثيقة السياسية،م.س)، لكنه إصلاح يستند إلى شعارات غامضة، أو حمالة أوجه. فالطائفية السياسية شعار يساري سبق أن أثبتنا عدم جدواه خلال نقاشنا أفكار مهدي عامل عن طائفية النظام السياسي، والديمقراطية التوافقية ليست سوى سبيل لتعطيل عمل الدولة بمنحه أطراف المحاصصة حق الفيتو لكل منها، أما شعار الدولة العادلة والقوية فكان طرحه تفادياً لشعارات أخرى كالدولة العلمانية أو الدولة المدنية، وتهرباً من الالتزام بموجبات دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص. إذا افترضنا أن الرسالة المفتوحة والوثيقة السياسية المشار إليهما أعلاه تعبران عن موقف سياسي تمليه ظروف الصراع السياسي وحيثياته الخاضعة للتبدل والتغير، فإن نصوصاً أخرى كانت أكثر صراحة في التعبير عن الموقف من الدولة، ولاسيما حين حاول الشيخ نعيم قاسم الإجابة على سؤال يتعلق «بمشروعية الدخول في مجلس نيابي يعتبر جزءاً من نظام سياسي طائفي ولا يعبر عن رؤية الحزب للنظام الأصلح»، فسارع إلى اعتبار هذه القضية من اختصاص الولي الفقيه، وأن «المشاركة في نظام غير إسلامي لا ينسجم مع الرؤية المتكاملة للإسلام، حيث ينحصر تكليف المكلف في العمل لإقامة الدولة الإسلامية ونظام الحكم الإسلامي، وفيما عدا ذلك يجب أن يبقى خارج أطر الأنظمة الوضعية مهما كانت صيغتها»(ص278-279). استمرحزب اللّه يسعى إلى البقاء على مسافة من الدولة ومؤسساتها وإلى تمييز نفسه عنها وأعتبارها طرفاً منافساً له على إدارة الشأن العام، وهو ما يؤكده نص تناول فيه الكاتب المبررات التي أملت على الحزب اتخاذ قراره الدخول إلى المجلس النيابي، ومنها أن وجوده في الندوة النيابية يعود عليه بمنافع كثيرة «أبرزها الاستفادة من المجلس النيابي كمنبر، وحمل قضايا وهموم الناس والاطلاع المسبق على ما يهيأ من قوانين، وبناء شبكة من العلاقات مع ممثلي المناطق والطوائف، والاعتراف الرسمي بالمقاومة، وحضور وجهة النظر الإسلامية في البرلمان»(نعيم قاسم، م. ن. ص280-281). من الواضح أن المبررات المذكورة تؤكد على استمرار التمايز عن الدولة ومؤسساتها وعلى أن مشاركة الحزب لا تعني الاندماج في مؤسسات الدولة ولا تهدف إلى توطيدها بل إلى مجرد «الاستفادة» منها، وخصوصاً في نظام توزيع الحصص المعتمد داخل نظام المحاصصة (ص296). ثم يتوج الكاتب موقفه وموقف الحزب بقول في منتهى الصراحة يستبعد فيه أي انصهار للحزب في المجتمع والدولة، لأن «الحديث المتكرر عن لبننة حزب اللّه أو انخراطه في الحياة السياسية الداخلية هو عنوان آخر لضرورة تخليه عن ثوابته وعن أولوية المقاومة وتوقفه عن قتال إسرائيل وتسليمه لسلاحه وأسباب قوته»(م. ن. ص296).
2 ــ المنهج الدائري والمنهج المثالي الموقف من الدولة ومن الكيان اللبناني عبر عنه السيد حسن نصرالله جواباً على سؤال عن شكل النظام الذي يريده حزب اللّه في لبنان بقوله: «مشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبنى غيره كوننا مؤمنين عقائديين هو مشروع الدولة الإسلامية وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق الولي الفقيه الإمام الخميني» (ورد هذا النص في ص.101من كتاب فايز قزي الذي الذي لم نستند إلى ما فيه من تحليلات ومواقف لكونه كتاباً في السياسة لا في الممارسة النظرية، وذلك بصرف النظر عن موافقتنا أو عدمها على الأفكار الواردة فيه). الموقف ذاته أشارت إليه الباحثة المقربة من حزب الله، الدكتورة أمل سعد غريّب(حزب الله، م.س.) في أكثر من مكان، مقتبسة من تصريحات قيادية أو مقابلات صحافية أقوالاً تكرر «رفض حزب اللّه للكيان اللبناني الذي ينسبه الحزب إلى إطار معماري فرنسي»(ص90)، وذلك، نقلاً عن أمينه العام، آنذاك، صبحي الطفيلي، «أننا لا نعتبر أنفسنا حزباً لبنانياً بل حزباً إسلامياً»، أو نقلاً عن قيادي آخر، «إن أولوية الهوية الإسلامية على الهوية اللبنانية ليست مفروضة بالعقيدة الدينية فحسب، بل بالمنطق أيضاً. فاللبنانية لا تستطيع منافسة الإسلام على ولاء المسلم في لبنان لأنها ليست أكثر من تعبير جغرافي، بينما الإسلام تعبير ثقافي وفكري وسياسي يتخطى الجغرافيا»(ص90). وقد استنتجت الباحثة من نصوص موثقة في هوامش دراستها أن «حزب اللّه يردد صدى تصور الإمام الخميني لإقامة دولة إسلامية كواجب ديني... وأن على جميع الدول في المنطقة أن تتوحد لتشكيل دولة إسلامية شاملة كلياً يكون لبنان جزءاً أصيلاً فيها، وإذا لم يحدث، يجب إقامة جمهورية إسلامية ضمن الحدود اللبنانية استباقاً لظهور المهدي» (ص47) غير أن غريّب انتهجت في بحثها المنهج الدائري ذاته، فاستندت إلى وثائق ومستندات تعود كلها إلى مصادر ومراجع حزبية، فهي تعود إلى قول لمسؤول حزبي لتثبت رأياً لمسؤول آخر، وتعود إلى مقابلة أجرتها بنفسها مع أحد قيادييه لتؤكد موقفاً لقيادي آخر، ولذلك ظهرت على البحث الأعراض ونقاط الضعف ذاتها، ولا سيما منها «الخلط المفاهيمي» وغياب الربط المنطقي بين المقدمات والنتائج. فهي تعتقد أن حجر الزاوية في بنية الحزب الفكرية هو مثال الدولة الإسلامية المستند، لا إلى الثنائية الماركسية، مستثمرين ومستثمرين (بفتح الراء وكسرها)، أو مستغلين ومستغلين(بفتح الغين وكسرها) بل إلى الثنائية الخمينية، مستكبرين ومستضعفين (ظالمين ومظلومين)، ولهذا فهي أقامت توليفة من هذه الثنائيات فرأت أن الخميني «يستمد تأويله من النظرية الماركسية ومن القرآن»(ص27)، واستبعدت ثنائية، دينية هي الأخرى، يتم بموجبها تقيسم العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب، لأن هذه الثنائية، برأيها، محسوبة على أهل السنة، ومنها تحدرت مصطلحات الحرب والجهاد والإرهاب، ولاسيما الإرهاب الداعشي، التي تضع المسلمين في مواجهة غير المسلمين، في حين تتشكل الجبهة المقترحة من جانب الفكر الشيعي، من ظالمين ومظلومين، على الجانبين، من مختلف الانتماءات. وبذلك تكون قد جازفت، من البداية، من خلال انحيازها المذهبي، بموضوعية البحث وقللت من قيمته العلمية. فكيف تفسر لنا الباحثة مصطلح الظلم؟ مفهوم الظلم مستمد، برأي الباحثة من الآية الخامسة من سورة القصص [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ]. لقد أجمع المفسرون، ومنهم الطبري الذي رأى «أن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها، من بني إسرائيل، فِرَقًا يستضعِف طائفة منهم (وَ) نَحْنُ [نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ] استضعفهم فرعون من بني إسرائيل [وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً]»، بدليل استكمال الآية بقوله تعالى في الآية السادسة: [وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ]. لكن الباحثة تجاوزت الإجماع وقفزت فوق أسباب النزول وظروفه، فبدا لها أن مفهوم الظلم الوارد في الآية، (ورد في الآية مفهوم الاستضعاف وليس مفهوم الظلم) لا يلمح إلى المسلمين في حد ذاتهم (وهو في الحقيقة يلمح إلى اليهود لا إلى المسلمين) بل إلى جميع الذين يستضعفون في الأرض، كما رأت «أن هذه الإشارة الدينية تتصل بالتسمية العلمانية للمظلومين مثل «المعذبون في الأرض» لفرانز فانون. هؤلاء المظلومون الذين يضيف وضعهم الاجتماعي المستغَل كشعوب العالم الثالث بعداً تحليلياً طبقياً علمانياً» (ص27-28). ما كان أسهل على الباحثة أن تشطب كل ما له علاقة باليهود، وأن تشحن الآية، عن طريق التعسف في التأويل، بمدلولات جديدة منها تلميح الآية إلى المسلمين وإلى سائر المستضعفين، مع أنها خلو من أي تلميح ولو ضمني، ومنها العلمانية والتحليل الطبقي والاستغلال، ربما لأن من يشرفون على الدراسات الجامعية في أوروبا قد لا يكونون من المستشرقين ولا ممن يتقنون العربية، وقد لا يهمهم من الدراسة إلا المعلومة في حد ذاتها، على أن يتولوا هم تحليلها، ذلك أنهم يتوخون جمع ما تيسر من معلومات أمنية يعتقدون أنها تفيدهم في معالجة ظاهرة الأصوليات الدينية التي راحت تتمدد نحو إوروبا بعد ظهورها في الشرق الإسلامي. تأكيداً على اعتمادها المنهج الدائري تستند الباحثة في تأويلها التعسفي هذا إلى مرجع وحيد، هو عبارة عن مقابلة أجرتها مع أحد كادرات الحزب، الذي قد يكون ذا باع طويل في شؤون التنظيم الحزبي، من غير أن يؤهله ذلك ليصير في عداد الفقهاء والمرجعيات الدينية، فضلاً عن أنه ليس من الأسماء المشهود لها في عالم البحث العلمي. كما يمكن لأي متتبع أن يقرأ الأسماء ذاتها في قائمة المراجع، مقابلات أجرتها الباحثة مع قادة لحزب اللّه أو تسجيلات ونصوصاً من مؤسساته الإعلامية المرئية والمكتوبة والمسموعة، ولا نسوق هذه الملاحظة تقليلاً من أهمية هذه المراجع والمرجعيات بل لنثبت أن اعتماد الدراسة على المنهج الدائري يحوّلها إلى تكرار، من غير إضافات ولا إضاءات، للخطب والتصريحات والمقابلات الصادرة عن شخصيات قيادية، يستعير منها لغة السياسي بديلاً من لغة الباحث. غير أن غريّب تتناول الفكرة، أي فكرة، كممارسة نظرية في البداية، لكنها سرعان ما تتحول إلى ممارسة سياسية، فينتقل الظلم، على سبيل المثل، من منشئه القرآني، كمصطلح ديني فلسفي فقهي إلى مصطلح ذي مدلول سياسي ويصبح الظلم اللاحق بالشيعة «ناجماً عن الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان وعن التقسيم الثقافي للعمل الذي يمثل المجتمع اللبناني تمثيلاً نمطياً حيت تتداخل الطبقة والطائفة» (ص.29)، وعن «الفقر الذي يصبح مرادفاً للظلم حين تمارس الدولة سياسة تمييز وإهمال وسوء معاملة»(م. ن)، بحيث أن «ما يميز الظالمين من المظلومين سياسياً وثقافياً هو الموقف من الصهيونية والغرب وأميركا بالتحديد»(ص.30). مثل هذا الانزياح يحوّل البحث من دراسة أكاديمية إلى تقرير سياسي. لقد اعتمدت الباحثة على المنهج الدائري في تناولها المفاهيم المتعلقة بالدولة الإسلامية والديمقراطية وولاية الفقيه. كما استخدمت، متأثرة بالفكر القومي، مفهوم «الغرب» والصراع مع الغرب عند كلامها عن العلاقة بالحضارة الرأسمالية. وعند وصولها إلى موضوع الصراع مع الصهيونية وإسرائيل والدور السياسي والعسكري لحزب اللّه اعتمدت في سرد الأحداث، من غير تدقيق، على مرجع وحيد هو المصادر الحزبية، كما اعتمدت على قراءة للآيات القرآنية المتعلقة باليهود تراعي فيها المناخ الأكاديمي في بريطانيا وترضي حزب الله، قراءة إيديولوجية ترجّح التحليل السياسي على التأويلات الفقهية. لقد بات من البديهيات أن القراءة الإيديولوجية تشكل عائقاً معرفياً وأن تحديد النتائج والخلاصات رهن بطبيعة المنهج الذي يعتمده الباحث، بحيث يمكن أن يفضي تحليل المعطيات ذاتها إلى نتائج مختلفة باختلاف المناهج وزوايا النظر، فتتراجع القيمة المعرفية للبحث ويرتفع المنسوب الإيديولوجي، وهو ما بدا جلياً حين استبعدت الباحثة صدور أي موقف سلبي حيال الديمقراطية على لسان السيد محمد حسين فضل الله، وحجتها الوحيدة في رفضها الكلام الذي ينسبه الكاتب مارتان كريمر إلى السيد فضل اللّه هو أنها تشك شكاً كبيراً «في أن يحمل مفكر ديني لا يشوبه تناقض فكري مثل السيد فضل اللّه مثل هذا الاقتناع بأن الأحزاب والمنظمات غير الإسلامية لا تستطيع القيام بدور في المجتمع الإسلامي أو الدولة الإسلامية لأن مثل هذا الدور سيمكنها من قلب النظام الإسلامي»(ص55). رأت الباحثة أن ما نسب إلى السيد فضل اللّه هو من مصدر منحول (م.ن)، في حين كان يمكن لها، بقليل من الجهد أن تتأكد من أن أقوال السيد موثقة في الصفحة 18 من العدد 65 من مجلة المنطلق، حيث يعبر عن الموقف ذاته من الديمقراطية بقوله: «إذا كانت القضية المطروحة هي الخيار بين النظام الديمقراطي وبين النظام الاستبدادي، ليختاروا (المسلمون) الانسجام مع النظام الديمقراطي ويرفضوا النظام الدكتاتوري، لأن الإسلاميين يستطيعون ممارسة حريتهم... على أن ذلك لا يعني اعتراف الإسلاميين بالنظام الديمقراطي من ناحية فكرية وعملية»، ليلتقي بذلك مع الشيخ نعيم قاسم الذي وافق على الدخول في الندوة البرلمانية، لا ليندمج في الدولة بل ليوظف هذا الموقع في صالح مشروعه السياسي. سنحاول أن نثبت دور المنهج والقراءة الإيديولوجية من خلال قراءة نقدية لدراسة ذات علاقة بأحزاب اللّه وضعها برهان غليون عن علاقة الدين بالدولة في كتابه الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عام 1991، ومن خلال المقارنة بين بحث في الممارسة السياسية وآخر في الممارسة النظرية للمفكر عبد الإله بلقزيز يتناول فيهما الموضوع ذاته ويتوصل إلى خلاصات متناقضة ومتعاكسة تماماً. يعرض برهان غليون نظريته عن الدين والدولة من زاوية الفكر القومي والمنهج المثالي. فهو لم يلحظ فارقاً جوهرياً بين الحضارة الرأسمالية والحضارات السابقة عليها، ويرى أن التاريخ يكرر نفسه وأن ما حصل للثقافة العربية مع صعود المدنية الغربية هو نفسه ما حصل للثقافة الغربية أمام «صعود هيمنة وسيادة الإسلام ومدنيته في القرون الوسطى»(الدولة والدين،ص218)؛ كما يرى أن الغرب يخوض الحرب العلنية ضد المدنية الإسلامية (م.ن.ص219). استخدام مصطلح الغرب بدل الرأسمالية يعكس موقف الأصوليات الدينية واليسارية والقومية من الحضارة الرأسمالية بما هي استعمار أو نهب متوحش لثروات الشعوب أو بما هي، بحسب تعبيره، «غزو منظم دام عدة قرون... منذ الحروب الصليبية ... بهدف السيطرة مادياً وجغرافياً على مصدر الهيمنة الروحية أي أرض المسيح» (ص219). وهو يرى أيضاً أن «انهيار مواقع وجاذبية العقائد والقيم المستمدة من الثقافة الغربية يؤلف عنصراً رئيسياً من العناصر التي تفسر زياة الطلب على الإسلام»(ص225)، وأن المجتمعات البشرية لم تشهد علاقة متوترة بين الدين والدولة إلا في حقبة محدودة من تاريخ القارة الأوروبية(ص285)، وأن الإسلام هو منبع قيم النظام والسياسة مثلما هو ملهم قيم المقاومات الشعبية(ص289)، وأن المجتمعات الشرقية عموماً والعربية على وجه الخصوص،هي الأكثر علمانية في عالم اليوم (ص337)، وأن المجتمع العربي الإسلامي لم يكن قبل الدخول في عصر الحداثة، مجتمع اضطهاد ديني، كما أنه لم يعرف نظام العبودية(ص463)، وأن الأخلاق والقيم الروحية كانت في أساس تحول الحرية إلى قيمة مطلقة حفزت على الكفاح ضد ظلم المجتمعات الإقطاعية الكنسية(ص462). وراء هذه القراءة للوقائع والمعطيات التاريخية منهج مثالي يتغذى بالفكر القومي وينحاز للعروبة والإسلام ضد الحضارة الغربية، مستنداً إلى مفاهيم لا تجاري التطور ولا سيما في علم المصطلح. فالحضارة الحديثة، مع أنها نشأت في الغرب، ليست غربية ولا أوروبية ولا مسيحية، وليست عدواناً على الشرق ولا هي استمرار للحروب الصليبية، ولا تتحدد خصائصها بهويتها الجغرافية ولا الدينية، بل بكونها أحدثت انقلاباً على حضارة إقطاعية سادت في الغرب كما في الشرق، وثورة على قيمها الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن بينها نظام العبودية الذي لم تنجح التعاليم الدينية بإلغائه عملياً رغم دعوتها إلى ذلك نظرياً. كما أن العلمنة ظاهرة سياسية لم تعرف إلا مع الرأسمالية ويستحيل تطبيقها في مجتمعات غير ديمقراطية؛ والحرية لم تنشأ كحاجة للكفاح ضد الكنيسة بل كضرورة لتبديد الوهم بعجز العقل البشري؛ والدولة القطرية-الوطنية لم تنشأ كبديل عن الدولة الإسلامية، على ما يقول غليون (م.ن.ص208)، بل لترسيم حدود الأنظمة السياسية-الاقتصادية الجديدة. المنهج المثالي والمنهج الدائري يتوصلان إلى الخلاصات ذاتها، فهما لا يعترفان بأن الرأسمالية حضارة، ولا يستخدمان المفاهيم والمصطلحات الخاصة بها، ويطلقان عليها تسميات ونعوتاً لا تصلح إلا لتصنيفها كائناً معادياً للأمة العربية في نظر الأول وللأمة الإسلامية في نظر الثاني. مع أن الرأسمالية وحدت العالم بالاقتصاد والعلوم واللغة ووسائل الاتصال والتواصل والمواصلات وجعلت الكرة الأرضية بمثابة قرية كونية(راجع المقدمة)، فما زالت التيارات المتشددة دينياً وقومياً ويسارياً تلتقي على الاعتراض على منجزات الثورة الرأسمالية، يحدوها حنين إلى ماضٍ مضى، وترفض على نحو خاص، البنية السياسية الجديدة التي اختارتها الرأسمالية لأنظمة الحكم، أي الدولة الدستورية. غير أن غليون الذي لا يشارك هذه التيارات موقفها من الدولة ومن الديمقراطية، بل ويتعارض معها في ما يتعلق بالعلمنة والمجتمع المدني، يصر على طرح مشكلة الهوية القومية في مواجهة «الغرب» الاستعماري. باختصار، إن التعارض بين انحيازه للديمقراطية والحداثة، وهو كاتب «بيان من أجل الديمقراطية» عام 1986، واختياره المواجهة مع الغرب الاستعماري إلا التعبير عن تعارض في المنهج وآليات التفكير بين الممارسة النظرية المنحازة إلى الحداثة والممارسة السياسية من داخل الانخراط في معركة التحرر الوطني. الأمر ذاته ينطبق على عبد الإله بلقزيز، مع فوارق ربما تتعلق بالنشأة الأكاديمية أو تكون تعبيراً عن فوارق بين المشرق والمغرب. لقد شكل كتابه الدولة والمجتمع، جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر، الصادر عام 2008، عن دار منتدى المعارف في بيروت، مرجعاً أساسياً في دراستنا هذه، عند كلامنا عن الدولة في مقدمة هذه الدراسة، ولن أتردد في القول أن الكتاب هو من أهم ما نشر في اللغة العربية عن الدولة عموماً وعن الدولة في العالم العربي على وجه التحديد، فضلاً عن كتاب آخر، على المستوى ذاته من الأهمية، عنوانه، في نقد الخطاب القومي، أصدره عام 2010 عن مركز دراسات الوحدة العربية، وأن كتبه الأخرى، وهي كلها تتناول قضايا في الفكر السياسي والحداثة والنهضة والدين، هي قيمة مضافة على صعيد منهجية البحث، وأنها تبحر في ميدان الممارسة النظرية. غير أن الكتاب الذي نشره في عام 2000، غداة تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الاسرائيلي، وهو بعنوان، المقاومة وتحرير جنوب لبنان: حزب اللّه من الحوزة العلمية إلى الجبهة، ثم أعاد نشره مع إضافة عليه عام 2006 في طبعة جديدة صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية تحت عنوان، حزب اللّه من التحرير إلى الردع، بدا كأنه تغريد خارج السرب لأنه اختار مادته، خلافاً لكل كتبه الأخرى، من حقل الممارسة السياسية لا من حقل الممارسة النظرية. في كتابه عن الدولة، يقول بلقزيز، بعبارات متفرقة اقتبسناها بنصها الحرفي: «لا سبيل إلى أن يعيش مجتمع من دون دولة... ولد المجتمع مرتين، مرة كمجتمع، ومرة ثانية حين قامت فيه الدولة... وربما كانت الدولة أهم اختراع إنساني في التاريخ... ولولا الدولة لكانت الحياة الاجتماعية جحيماً لا يطاق...ولا مكان لشيء اسمه الحرية(حرية الإنسان الفرد) خارج نطاق الدولة.. وعلى الدولة أن تحتكر ممارسة العنف، بأخلاقيته الإنسانية والاجتماعية، العنف الذي ليس أكثر من فرض احترام القانون...والدولة إذ تحتكر العنف فلأنها تحتكر تطبيق القانون... وإذا ما بدأت الدولة في فقدان سلطانها السياسي تتذرر في صورة ميليشيات تنتزع سلطة الدولة وبقايا أجهزتها... وتتحول معها الجماعات إلى كيانات ذات طبيعة مؤسسية: إلى كيانات طائفية مغلقة ... أي إلى دولة صغرى داخل الدولة، وهي حالة يمتنع معها قيام مجتمع وطني ودولة وطنية جامعة... فيبنى النظام السياسي (عندئذ) على مقتضى المحاصصة الطائفية والمذهبية والعشائرية والعائلية والإثنية... يحصل ذلك باسم «المشاركة»، وهي حقاً مشاركة، ولكن ليس في بناء وطن ودولة وإنما في تدميرهما... في حال فتنة داخلية وفي حال عدوان خارجي تبدو الدولة خشبة الإنقاذ الوحيدة للمجتمع والجماعة... (ولكن) ما زال القومي يقرن شرعية الدولة بالوحدة والماركسي ببقايا حلم الاشتراكية والاسلامي بطوبى الخلافة». في بداية تسعينات القرن الماضي توصلنا، من خلال نقدنا تجربة الحرب الأهلية، إلى استنتاج مفاده أن خارطة الطريق لخروج لبنان من أزمته، وكذلك كل بلد من بلدان العالم العربي، تبدأ بإعادة بناء الدولة، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والديمقراطية وتداول السلطة. لكن الفرضية كانت أقرب إلى حدس أشار إلى الخلل، من غير يشرح أعراضه، فكان كتاب بلقزيز من بين أهم المراجع التي ساعدتنا على الانتقال من الحدس إلى تعميق البحث. صحيح أن الفرضية لم تكن ابتكاراً غير مسبوق، لكنها بدت، في توقيت طرحها، كأنها مغامرة طائشة في مواجهة صريحة مع الجميع، مع السلطة ومع المعارضة، مع الحكام المتنافسين على «المحاصصة الطائفية والمشاركة»، ومع القوى القومية واليسارية والإسلامية التي لا تزال «تقرن شرعية الدولة بالوحدة أو ببقايا حلم الاشتراكية أو بطوبى الخلافة»، لأن فكرة الدولة تصغر، في نظرهم، إزاء المواجهات الكبرى مع «الإمبريالية والصهيونية والاستعمار»، ولأن النضال ضد المخاطر الخارجية يحتل الأولوية لديهم، ويشكل لدى الحكام ذريعة مثلى وغطاء لتأبيد سلطاتهم. في كتابه عن حزب اللّه لم يخلع بلقزيز ثوب الباحث، لكنه اختار لبحثه حقل الممارسة السياسية بدل الممارسة النظرية، مع ما يناسب هذا الحقل من المصطلحات والأسلوب واللغة، ما جعل بحثه ينحو منحى الكتابة الصحافية التي تتردد فيها مواقف القوى السياسية ونبرة الصوت الخطابي، وتنحاز، مهما تظاهرت بالحيادية، لتعبر عن وجهة نظر وموقف وبرنامج عمل وخطة، كأنما يطبق على نفسه كلاماً قاله عن المثقف والباحث، ثم يسوغ لنفسه هذا التردد بين الممارستين، فهو يقول: «سيظل أمراً إشكالياً هذا التجاذب في فكر المرء، الباحث أو المثقف، بين نشدان المعرفة الموضوعية وبين التزام موقف إيديولوجي في مسألة اجتماعية أو سياسية» (نقد الخطاب القومي، مركز دراسات الوحدة العربية، 2010، ص18)، كما يقول «إن العلاقة بالسياسة قد تكون إيديولوجية وقد تكون علمية... ومن الخفة وقصر النظر حسبان ما هو إيديولوجي بعيداً دائماً عن ضفاف الفكر»(م. ن. ص19). لهذا بدا كتابه، بنسختيه الأصلية والمعدّلة، بمثابة منبر إعلامي «لحزب اللّه ومعسكر المقاومة والممانعة والرافضين العرب»(ص101) في مواجهة «معسكر المذعنين المدعوم من أميركا والمؤتمر بإمرتها»(ص102). لئن كان واضحاً من وضعنا الكتابين موضع المقارنة أننا تناولنا الأول، عن الدولة، بكثير من الإشادة، واتخذناه مرجعاً، فليس يعني ذلك أننا سنقرأ الثاني، عن حزب الله، بعين النقد، اعتراضاً على مضمونه، مع أن بعض أفكاره هي موضع اعتراض حقاً، خصوصاً تلك المتعلقة بتجربتنا المشتركة في النضال ضد أعداء الخارج، الإمبريالية والصهيونية، والتي أشبعناها نقداً وتحليلاً في كتابات سابقة وفي المقدمة، بل سنحاول أن نبيّن أن البحث في حقل الممارسة النظرية ربما يكون أكثر جدوى لاستخلاص الحقائق، فيما حقل الممارسة السياسية محفوف بمخاطر الابتعاد عن الموضوعية والبحث العلمي، لأن السياسة، بالتعريف، انحياز لموقف أو لبرنامج أو لإيديولوجيا، وسنقدم الدليل على ذلك من خلال وجود تعارضات بين الممارسة التطبيقية(السياسية) في كتابه عن حزب اللّه والممارسة النظرية في كتابه عن الدولة. أولا: مما لا شك فيه أن لبنان قدم نموذجاً يحتذى في مواجهة جيش الاحتلال الصهيوني، إذ سطر حزب اللّه ملحمة بطولية فريدة لم تشهد الساحة العربية مثيلاً لها على مختلف الجبهات والحروب والنضالات في مواجهة إسرائيل وفي سبيل القضية القومية. وإذا كانت المقاومة الفلسطينية قد أرست الأسس للكفاح المسلح فإن المقاومة اللبنانية التي نشأت في كنف الأحزاب اليسارية والتنظيمات الإسلامية عموماً وحزب اللّه على وجه الخصوص، طورت التجربة وتوجتها بانتصار جلي واضح يوم أنجزت تحرير الأرض ودحرت المحتل بلا قيد ولا شرط. في هذا السياق نشارك الباحث رأيه في أن التجربة اللبنانية شكلت درساً ثميناً للعرب فحررتهم من «خوفهم ومن ثقل الشعور القاتل بالدونية والصغار وزراية النفس أمام الوحش الكاسر و«جيشه الذي لا يقهر»»(ص98-99) ثانياً: تولّد في وعي الإنسان العربي وضميره من المحيط إلى الخليج شعور مميز حيال لبنان، لكن ذلك لم يحصل غداة تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرئيلي عام 2000 فحسب، بل إن هذا الشعور قديم منذ استقلاله ومرتبط بأسباب عديدة أهمها خصوصية نظامه السياسي الذي حافظ على التنوع والتعدد فيه، وعلى مستوى مقبول من الديمقراطية والحريات السياسية والإعلامية لم يعرفه أي نظام عربي آخر، وفي مناخ الحريات هذا نهضت ونشطت مؤسسات المجتمع المدني والنقابات والأحزاب، وتحول هذا الوطن الصغير إلى متنفس لكل حركات المعارضة وإلى سند لحركة التحرر في العالم العربي، وفي القلب منها منظمة التحرير الفلسطينية التي شكلت الأحزاب اليسارية بيئتها الحاضنة، وفي كنفها نشأت المقاومة الوطنية اللبنانية، وبذلك تكون ولادة حزب اللّه ومقاومته الباسلة قد حصلت في سياق كتابة الصفحات الناصعة لتاريخ لبنان أو تتويجاً لها. ثالثا: إذا كانت الحرية من خصوصيات هذا الوطن الصغير، فالحريات فيه كانت مغلفة بقشرة سميكة من الاستبداد في نظام ما زال السجال حوله مستمراً لتشخيص أمراضه وتحديد أعراضه. وليس من البديهيات تحميل الطائفية فيه مسؤولية عيوبه (راجع الفصل المتعلق بنقاش مسألة الطائفية في مؤلفات مهدي عامل). وفي المقابل هناك بلدان أخرى عمل قادتها على تجميل نظامها الاستبدادي بحد أدنى من الحريات في مجال الفن وقطاع التعليم، على غرار ما كانت عليه الحال في مصر وتونس أيام الناصرية والبورقيبية، أو في المغرب في ذروة النهوض الثقافي الذي ترعرع في كنفه مفكرنا الكبير عبد الإله بلقزيز، مع دور ريادي لمحمد عابد الجابري استاذ هذا الجيل من المفكرين. غير أن مبدأ احتكار العنف من قبل الدولة لم ينتهك إلا في لبنان، وهذا ليس عائداً إلى هامش الحرية وحده الذي نعمت به الأحزاب السياسية بقدر ما يعود إلى حاجة الأنظمة العربية إلى إبعاد كأس التغيير، كل عن أرضه، وتوفير كل المتطلبات والموجبات لحصر هذا «الخطر» قدر المستطاع داخل حدود الأراضي اللبنانية ولو على حساب وحدة الوطن والدولة. غير أن «حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر»، إذ سرعان ما انتشرت مفاعيل التجربة اللبنانية الرائدة في كل أنحاء الوطن العربي وأطلقت شرارة الربيع من تونس بوعزيزي، بحثاً عن الحرية والديمقراطية. رابعاً: الممانعة والمقاومة معسكر واحد على صعيد الممارسة السياسية، إلا أنهما متناقضان على صعيد الممارسة النظرية. لقد حاولنا أن نوضح دلالة هذا المصطلح في كتابنا، الشيعية السياسية (الدار العربية للعلوم، ناشرون، 2012،ص137-138)، ورأينا أنه ينطوي على معنى الموافقة المؤجّلة من جانب النظام السوري، على التسوية مع الكيان الصهيوني بانتظار تحسين شروطها، من غير المبادرة إلى العمل على تحسينها، والاكتفاء بتضحيات يقدمها الشعب اللبناني أو الشعب الفلسطيني. وهي، بحسب تعبير ياسين الحج صالح، امتناع عن مواجهة العدو(مادة ممانعة، نقلاً عن غوغل)؛ وهي بحسب لؤي حسين(صفحته على التواصل بتاريخ 10-4-2019) ليست أكثر من رفض ما يطرحه الآخرون، وهي لا تكون فعلاً بل ردة فعل. أما المقاومة فهي تعبير عن رفض مطلق لكل أشكال التسويات معه. ومن سوء حظ المقاومة بكل أطيافها أن نهوضها كان رهناً بدعم الأنظمة العربية وإيران، وأنها تحولت، بعد الاتفاقات الثنائية التي عقدتها مصر والأردن مع إسرائيل، إلى رهينة لدى «دول الطوق» في البداية ثم لدى جبهة الصمود والتصدي، ولاحقاً عند نظام الممانعة الوحيد، نظام البعث السوري، الذي احتكر شرايين تمويلها وتسليحها حتى باتت علاقتها به علاقة موت أو حياة، فأذعنت لشروطه وارتضت أن يفاوض بقوة تضحياتها وانتصاراتها من أجل تأجيل التسوية لا من أجل تحرير الأرض. خامساً: بسبب من موقف الممانعة هذا لم يكن النظام السوري، وبالتالي معسكره أيضاً، سعيداً بانسحاب الجيش الإسرائيلي ذليلاً من لبنان، بعد أن كان قد «مانع» لسنوات أي انسحاب جزئي، وحجته في ذلك إما أن يكون انسحاباً كلياً أو لا يكون. وهذا تناقض آخر بين ممارسة نظرية تفترض الاحتفال بالنصر وتقديمه هدية للوحدة الوطنية واستعادة السيادة، فيما اتجهت الممارسة السياسية إلى ربط مصير المقاومة لا بنتائج نصرها الباهر بل بمتطلبات ومستلزمات نظام الممانعة الذي لم يكن يعمل لتحرير الأرض، والذي لو أدرج تحرير الجولان على جدول عمله لكان بذل في سوريا ما بذله في لبنان لبناء مقاومة يوجهها وجهة التحرير بدل استخدامها من بين أوراق تفاوض مسدود الأفق، أو ذي أفق وحيد هو الموافقة على تسوية بشروط أكثر سوءاً. سادساً: في الممارسة النظرية، تبدو الدولة، في نظر بلقزيز، هي المعيار، ويحكم على سلوك القوى السياسية والأحزاب، كما الأفراد، بالقياس إلى دورها في تعزيز دور الدولة واحترام قوانينها. أما في الممارسة السياسية فالنظام السوري، في نظره، هو المعيار. في الممارسة النظرية، المهمة الأساسية أمام بلداننا هي الخروج من التخلف والدخول في الحداثة وخارطة الطريق لتحقيق هذه المهمة تبدأ ببناء الدولة. أما في الممارسة السياسية فالأولوية هي للصراع مع الإمبريالية والصهيونية والاستعمار. ففي كتابه عن الدولة، يقول بلقزيز «إن افتراض وجود دولة لا تمارس العنف هو ضرب من الطوبى ويتعارض مع فكرة الدولة، وافتراض دولة من دون عنف هو افتراض اللادولة، والدولة لا تستطيع أن توجد وأن تقوم وأن تنهض بأدوارها من دون حيازتها أسباب القوة وممارسة العنف المشروع والشرعي عند الاقتضاء، وفي غياب الدولة يتخذ العنف شكل الحروب الأهلية... والعنف بمعناه السياسي ليس أكثر من فرض احترام القانون... والدولة لا تمارس العنف فقط بل عليها أن تحتكر العنف...»(ص64-67). أما في كتابه عن حزب اللّه فهو يشكك بما يضمره قرار مجلس الأمن الداعي إلى خروج جميع القوات الأجنبية من لبنان وإلى حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها، مع أن القرار يطالب بأن «تحتكر الدولة اللبنانية أجهزة العنف العسكرية والأمنية»، ويعود سبب التشكيك إلى أن تنفيذ القرار «سيصب في رصيد إسرائيل وأمنها وفي رصيد السياسة الأميركية»(ص62) وسيساعد القوى السياسية اللبنانية «التي تقف ضد الوجود السوري وتطالب بالسيادة والاستقلال» (هامش الصفحة ذاتها). وفي السياق ذاته يمكن أن نقارن بين الموقف المبدئي(الممارسة النظرية) من احتكار الدولة العنف وقرار قوى الممانعة(الممارسة السياسية) بعدم الموافقة على دخول الجيش اللبناني إلى الجنوب بعد التحرير. وهكذا يظهر بوضوح أن ما تعتبره الممارسة النظرية موقفاً وطنياً تراه الممارسة السياسية خيانة قومية. سابعاً: في كتابه عن الدولة، يبتكر بلقزيز مصطلحاً جديداً هو «فقه الفتنة»، ليفسر النزاعات الدائرة بين من يكفّرون بعضهم بعضاً، ويدّعي كل منهم أنه هو الذي يمثل الإسلام «الصحيح» وأنه يمثل الفرقة الناجية وأن الآخرين على ضلال،(ص.238)، إذ لم يحصل، برأيه، في تاريخ المسلمين، انقسام حاد كالذي عليه الحال في لبنان أو العراق، على سبيل المثل، إلا «حين انتقل عقل المسلمين إلى إنتاج فقه جديد هو فقه الفتنة، وهو فقه لا يقوم على أي مقدمات عقلية تبنى عليها معرفة، بمقدار ما يصمم نفسه على مقتضى مطالب سياسية تركب مركب الدين والفقه وتجد في بعض رجال الدين ألسِنَةً تجذف بها للوصول إلى الضفاف (السياسية) التي تروم بلوغها»(ص.239). وحين تعمق في البحث وجد أن هذا «الصراع المذهبي الجاري هذه الأيام ليس صدى لما قبله في القرون الوسطى وإن كان يشبهه في البشاعة ويتفوق عليه، وإنما صراع معاصر وأسبابه معاصرة وموضوعه سياسي(الصراع على السلطة) وإن اتخذ شكل صراع مذهبي قديم»(ص243)، فأعاد أسبابه الثقافية إلى أزمة الديمقراطية وغياب الشرعية الدستورية وانعدام وجود حداثة سياسية ترسي فكرة المواطنة وهشاشة البنى الاجتماعية الداخلية وغياب المشروع المجتمعي وإخفاق المشروع الثقافي العربي(ص244-249)، وهي كلها عوامل داخلية. وفي حين يرى أن «الأثر الخارجي عديم المفعول إن لم يجد البيئة الداخلية المستقبلة والحاضنة: أعني تلك العوامل الداخلية نفسها»(ص244)، فهو سرعان ما يعود إلى تحميل السياسة الكولونيالية الأميركية الجديدة والتدخل الاستعماري-الصهيوني مسؤولية توظيف «الانقسام المذهبي لإلقاء القبض على المصير الكياني للمجتمعات العربية وإعادة تكوينها على قوام عصبوي طائفي وقبلي ومذهبي»(ص240- 241). تفادى بلقزيز، في كتابه عن حزب الله، تطبيق استنتاجاته النظرية، في ما يتعلق بالصراع المذهبي، على الشيعة والواقع اللبناني، فتقدمت إلى الواجهة صورة حزب اللّه المكافح ضد العدو القومي وتراجعت صورته كحزب يمثل جزءاً من الشيعة الإثني عشرية تحت راية الولي الفقيه الإيراني، ويحارب التكفيريين المحصور وجودهم، برأي حزب الله، بين أهل السنة. كما تجاهل كل استنتاجاته عن الدولة في ما يتعلق بدور النظام السوري في لبنان وبموقعه من الصراع على القضية الفلسطينية ومن أجلها وبموقفه من أحداث الربيع العربي، فتراجعت صورة النظام الاستبدادية في الداخل لتتقدم صورته كنظام ممانعة. هل يمكن لعقل واحد أن يفكر بطريقتين أي بمنهجين؟ أو هل يمكن للعقل ذاته أن يتوصل، في تحليله الظاهرة ذاتها، إلى نتيجتين متغايرتين، إحداهما علمية وأخرى إيديولوجية؟ موضوع العلاقة بين العلم والإيديولوجيا تناوله الفيلسوف المغربي محمد الوقيدي في كتابه، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، ورأى أن الإيديولوجيا قد تشكل واحداً من العوائق المعرفية، إلى جانب عوائق أخرى، منها التعميم والتجربة الأولى وغياب النظرية والمكبوتات العقلية والتداخل بين المعرفة العامة(الرأي العام) والمعرفة العلمية، ذلك «أن الرأي خاطئ دائماً لأنه يفكر بصورة سيئة، بل لا يفكر أبداً» (ص. 129-141). أما بلقزيز فقد قام بجولة واسعة على من تناول هذا الموضوع من المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع، وتوصل إلى نتيجة مختلفة جزئياً، قوامها أنه قد تم شحن هذين المصطلحين بدلالات جديدة «...وأن علوماً إنسانية جديدة سدّدت ضربة موجعة للعلموية ويقينياتها في مجال دراسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية... ما جعل المعرفة العلمية في العلوم الإنسانية تفقد صفة الحتمية والموضوعية الصارمة وتهبط إلى معنى الفهم الأمثل للظاهرة...»(المعرفي والإيديولوجي في الفكر العربي المعاصر، أعمال ندوة فكرية، مركز دراسات الوحدة العربية، 2010،ص8-9). وفي ظننا أن بلقزيز بنى بحثه النظري على معيار، وخطابه الصحافي على معيار آخر. ينطلق الأول من أولية العوامل الداخلية في تطور الأوطان، وعلى رأسها بناء الدولة الحديثة، دولة الحق والقانون، فيما ينطلق الثاني من أولية القضية القومية والصراع مع أعداء الخارج، الاستعمار والصهيونية؛ أو لنقل، بتعبير آخر، إنه ينطلق من موقع واحد هو الحرص على الوطن والدولة والنهوض بهما ومواجهة المخاطر التي تواجههما في الداخل أو في الخارج. غير أن من سوء حظ التحليل النظري أن مجال تطبيقه(الممارسة السياسية) هو المشرق العربي، حيث يتجسد الخطر الخارجي، في أوضح صوره، بالكيان الصهيوني الذي يشكل حالة فريدة من نوعها في تاريخ الرأسمالية الحديث، لأنه يمثل أفظع أنواع الاحتلال والاستعمار بشاعة ووحشية، ما جعل القضية الفلسطينية القضية الأولى بحجم تعقيداتها العربية والدولية وما تحدر منها، وعلى ضوئها، من خيارات فكرية وسياسية مثيرة للجدل والسجال لا بين الخصوم فحسب بل بين المتشابهين والحلفاء الافتراضيين من أبناء الخندق الواحد. في هذا السياق يمكن النظر إلى ما حسبناه تعارضاً بين الممارسة النظرية والممارسة السياسية. فقد رأى بلقزيز، عن حق، بمنظاره القومي، أن حزب اللّه واجه جيش الاحتلال ببطولة غير مسبوقة في تاريخ الحروب مع إسرائيل، محققاً أول انتصار عربي لا لبس فيه في العام 2000. غير أن بلقزيز لم يطرح سؤالين يمكن، بل ينبغي، طرحهما على كل مقاومة للاحتلال، الأول حول مشروع المقاومة لما بعد التحرير، والثاني حول احتمال توظيف هذا الانتصار في غير صالح بناء الدولة في لبنان. لا تخطر مثل هذه الأسئلة حين يكون التركيز على مواجهة الخطر الخارجي، حتى لو انطوى ذلك على آثار جانبية قد يكون من بينها ما يهدد الدولة في كيانها وسيادتها، خصوصاً أن العاملين السوري والإيراني، في معادلة الصراع القومي مع إسرائيل، لا يحسبان، في نظر بلقزيز، من العوامل الخارجية. مع أن ذلك لم يكن موضع إجماع لا لبنانياً ولا عربياً، بحسب قوله: «لأن تقدير «الخطر الشيعي» ... والموقف من المقاومة «الشيعية» لم يكن عاماً سائر دول العرب، فبعضها لا يعنيه كثيراً التفكير في الخطر الإيراني لأسباب ثقافية وأجتماعية، وهذه حال بلدان المغرب العربي والسودان واليمن رسمياً وشعبيا ما يفسر انقسام النظام العربي بين معسكرين، معسكر المقاومة والممانعة ومعسكر التغطية على العدوان... الأول يضم سورية وبعض النظام اللبناني وبعض السلطة الفلسطينية...» (بلقزيز، حزب الله، م.س.ص101-102)، إلا أن إشارته إلى الانقسام اللبناني أو الفلسطيني لم تبلغ حد الإنذار من «خطورة الفراغ الذي يخلفه غياب الدولة». ومع أنه كرر، على امتداد صفحات كتابه، الإشارة إلى «أن استبداد سلطات الأمر الواقع الأهلية والعصبوية يقترف من المعاصي ما يأتي على الدولة والمجتمع معاً بمعاول الهدم، ولا يترك للمجتمع الإنساني مكاناً وأن صيغة الدولة المولدة من جوف الفتن والحروب الأهلية أكثر تشوهاً وفظاعة من طبعتها الأولى الساقطة تحت سنابك خيل المحاربين الساخطين على دولتهم»(مقدمة الطبعة الثانية من كتابه عن الدولة)، إلا أنه لم يدرج الانقسام اللبناني أو الفلسطيني أو العربي ضمن احتمالات تحوله إلى حروب أهلية.
3 ــ الحتميات القومية والدولة انطلق الوعي القومي العربي من منظومات فكرية مغلقة، ومن يقينيات شبيهة باليقينيات الدينية أو الحتميات الماركسية التي يمكن أن تشكل، كما ذكرنا، قاعدة نظرية للاستبداد الفكري، والتي يبدأ التحليل منها ويعود إليها لينتهي بها، وهو لا يختلف أبداً عما أسميناه المنهج الدائري في الفكر الديني، وهو ما سبقت الإشارة إليه في كتابنا «الأصوليات» المشار إليه أعلاه. لقد لاحظ عبد الإله بلقزيز أوجه الشبه بين التيارات الفكرية والسياسية في العالم العربي، وأشار إلى ذلك في أكثر من كتاب ولاسيما في كتابيه المشار إليهما أعلاه عن الدولة وعن نقد الخطاب القومي، يقول بلقزيز: «ترى الماركسي العربي والقومي العربي والليبرالي العربي يفكر بإيمانية عمياء وكأن الذي بين يديه حقائق مقدسة، وتراه يتمسك بسلفه الصالح كتمسك الإسلامي بالسلف الصالح، ويناضل عن الخط الأورثوذكسي الصحيح في وجه من يحاول أن يسائل مسلماته»(نقد الخطاب القومي، ص12-13). على غرار الفكر الديني، راح الفكر القومي يغرف من التراث، معتقداً أن الأمة العربية سابقة في التاريخ على قيام الرأسمالية وعلى نشوء الأمم والقوميات في أوروبا، وأن مقومات التاريخ المشترك والمصير المشترك واللغة والدين كافية لتأسيس وعي قومي بحتمية وجود الأمة العربية من غيرما حاجة إلى القراءة التاريخية بحثاً عن مقومات نشوء القوميات، وهذا ما أسس لتقارب بين الاتجاهين القومي والديني أبقى التيار الماركسي خارجه. غير أن الفكر القومي، خلافاً للديني والماركسي، يشكو من أزمة إضافية تتمثل، برأي بلقزيز، في أن الخطاب السياسي(الممارسة السياسية) طغى على الكتابة النظرية(الممارسة النظرية) في الفكر القومي، ذلك أن «الحركيين القوميين في الأعم الأغلب ضعيفو الصلة بنصوص الفكر القومي الرصينة، حتى لا نقول إن أكثرهم يجهلها ولا يكاد يعرف رموز هذا الفكر من أمثال ساطع الحصري ونديم البيطار وقسطنطين زريق وزكي الأرسوزي ومحمد عزة دروزة إلا بالإسم»(بلقزيز، م. ن. ص28). من الملاحظ أن الحركة القومية العربية نهضت، على منعطف القرن العشرين، في المشرق العربي بحاملين اثنين، الأول هو الخروج من عباءة السلطنة العثمانية، ولذلك انبرى بداية مسيحيون من لبنان رافعين راية العروبة ضد التتريك من خلال عمل دؤوب ورائد في إحياء اللغة العربية. والثاني هو المشاركة في عملية التحديث التي كانت مصر قد بدأتها منذ أيام محمد علي باشا. وفي الحالتين كان للعلاقة بالغرب الأوروبي، أي بالحضارة الرأسمالية، فضل في منح مصر وجبل لبنان وبعض حركة الإصلاح الديني موقعاً ريادياً في عملية التحديث، حسبته السلطنة ضد مصالحها. الانطلاقة المشرقية للحركة القومية تزامنت مع انهيار السلطنة في الحرب العالمية الأولى وسيطرة فرنسا وبريطانيا على تركة الرجل المريض وتوليهما إدارة شؤون المنطقة بما يخدم مصالح البلدان الرأسمالية ويساعد بريطانيا على تنفيذ «وعد بلفور» القاضي بإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين. وقد اقتضت تلك العملية رسم حدود جغرافية لكيانات حديثة مستقلة عن السلطنة العثمانية بديلاً عن ولايات كانت تتسع حدودها أو تضيق تبعاً لقوة الوالي ونفوذه لدى السلطنة، فأعيد توزيعها، في ما سمي باتفاقية سايكس بيكو، لتتشكل منها في المشرق، خارج الجزيرة العربية، خمس دول هي لبنان وسوريا والعراق وفلسطين والأردن، فيما تثبتت في الجانب الإفريقي من العالم العربي الحدود الجغرافية لكيانات كانت علاقاتها بالسلطنة مختلفة عن علاقات الولايات المشرقية بها، وكانت تحكمها أنظمة قبلية عشائرية تحت رعاية السلطنة وحمايتها من غزوات الأسطول الإسباني ما قبل القرن السابع عشر. ذكرنا في المقدمة أن البلدان العربية التي شملها الغزو الاستعماري هي الجزائر وتونس ومصر، إضافة إلى مجموعة من نقاط الارتكاز على الطريق البحري الموصل إلى القارة الهندية. أما المشرق العربي فقد استمر تحت السيطرة العثمانية طيلة المرحلة الاستعمارية الممتدة منذ اكتشاف أميركا وسقوط غرناطة. وقد ظلت فكرة الاستقلال، التي طرحت في جبل لبنان خلال القرن التاسع عشر، تحمل معنى التحرر من التبعية للسلطنة لا التحرر من الاستعمار، وهو ما عوقب عليه الأمير فخر الدين المعني، من جانب السلطنة، بعد أن شملت إمارته كل الأراضي التي تشكلت منها لاحقاً جغرافية الجمهورية اللبنانية وبعضاً من منطقة حمص وشمال فلسطين، مثلما عوقب محمد علي باشا، من جانب الدول الأوروبية الطامعة بوراثة تركة الرجل المريض، بعدما حاول توسيع نطاق مشروعه التحديثي نحو الشرق بقيادة ابنه ابراهيم باشا. في المقابل، الولايات الأخرى السلطانية في بلاد الشام لم ترفع شعار الاستقلال إلا بعد انهيار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، الذي تزامن مع أفول مرحلة الاستعمار بالاحتلال المباشر. انطلاقاً من ذلك، يمكن النظر إلى اتفاقية سايكس بيكو كتجسيد لمصالح التوسع الرأسمالي لا كخطة تجزئة استعمارية، لأن البلدان التي تأسست بموجب الاتفاقية لم تكن في يوم من الأيام موحدة لكي تتعرض للتجزئة، فضلاً عن أن شعار توحيدها المرفوع بعد الحرب العالمية الأولى كان يعبر عن مشروع سلطة لا عن مشروع دولة، وهو ما أسس للآفة الموروثة عن التجربة الأولى والتي أرغم فيها الشريف حسين على تقليص مشروعه الملكي المأمول بحجم الجزيرة العربية وبلاد الشام إلى حدوده الدنيا، ليقتصر على تنصيب فيصل ملكاً على العراق وعبدالله ملكاً على شرق الأردن. من ناحية أخرى، من يمعن النظر في رسم خرائط بلدان المشرق العربي يجد أن «الرسام» بنى مشروعه استناداً إلى وقائع التاريخ والجغرافياً ولم يفتعل أوطاناً من خارجها، ولم يقترح في عملية «الفرز والضم» حلولاً لمشكلة الأقليات في لبنان، ومن المعروف أن لبنان مؤلف من مجموعة أقليات، أو في أقليم كردستان الذي تقاسمته أربعة بلدان، مختلفة عن تلك التي اقترحها لتجميع المقاطعات الإسبانية، حيث ما زالت كاتالونيا تحتفل كل عام بعيد وطني خاص بها بمناسبة محاولتها الفاشلة لبناء دولة مستقة عن إسبانيا، أو لتجزئة إقليم الباسك بين فرنسا وإسبانيا، ولا هي مختلفة عن تجميع ثلاثة كانتونات داخل الاتحاد السويسري. ولو كانت السياسية الاستعمارية تقوم على التجزئة فلماذا لم يجزئ الاستعمار العراق وسوريا والمملكة العربية السعودية ويوزعها على المعايير الإتنية والطائفيه والمذهبية، مع أن تكوينها الديمغرافي والديني يسمح بذلك؟ لا شك أن بلدان أوروبا الغربية وظفت انتصارها في الحرب العالمية الأولى لصالح نشر القيم الرأسمالية الثقافية والسياسية وخصوصاً الاقتصادية منها المتعلقة بتوفير المواد الخام لصناعاتها والأسواق لصادراتها مع ما يحتاجه ذلك من تجهيز على صعيد التعليم وشبكات النقل والمواصلات والاتصالات، ولم يكن يهمها المدى الجغرافي لمساحات الأوطان المستحدثة بقدر ما كانت تهتم باختيار من يدير الشأن السياسي والاقتصادي فيها بما لا يتعارض مع التوسع الأفقي للرأسمالية. وما كان ذلك ليحصل إلا لأن الاستعمار التقليدي كان يجتاز المرحلة الأخيرة من مسيرته ليستبدل الاحتلال بنفوذ اقتصادي وسياسي غير مباشر، من خلال الحكام المحليين، ولاسيما بعد أن أنشأت عصبة الأمم نظام الانتداب وكلفت كلاً من فرنسا وبريطانيا بالإشراف على الولايات العربية وإعدادها للاستقلال عن السلطنة العثمانية، وسرعان ما أعلن عن تأسيس أوطان مستقلة، جمهوريتين في كل من سوريا ولبنان ومملكتين في كل من العراق والأردن، فيما كانت بلدان اوروبا الرأسمالية تعد العدة لحل «المسألة اليهودية» على حساب الشعب الفلسطيني. لقد اختارت الحركة القومية العربية لغة الإدانة لمواجهة المشروع الصهيوني، وحمّلت الاستعمار والتجزئة وسايكس بيكو مسؤولية النكبة، فيما كانت القضية تحتاج إلى مواجهة مدروسة تأخذ بالاعتبار أن المنتصر في الحروب هو الذي يملي شروطه وأن على الضعيف والمهزوم تنفيذ الشروط. بتعبير آخر، كان ينبغي معرفة السياق الذي أفضى إلى التخطيط لتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود. لا شك في أن معاناة أوروبا من العلاقة المتوترة بالطائفة اليهودية بدأت مع نشوء الرأسمالية، إذ من المعروف أن أسبانيا استعادت غرناطة في عام 1492 وطردت العرب منها وطردت معهم اليهود، فتوجه قسم منهم إلى المغرب وقسم آخر إلى بلدان السلطنة العثمانية ولا سيما إلى عاصمتها القسطنطينية حيث تبوؤا مناصب استشارية عليا في الشؤون المالية والعسكرية، وأن بريطانيا طرحت على بساط البحث المشكلة اليهودية في القرن السابع عشر وفرنسا في الثامن عشر، ثم حين اتهم الضابط الفرنسي اليهودي ألفرد دريفوس بالتجسس لصالح ألمانيا عام 1895، واستفحل العداء الأوروبي لهذه الطائفة عند نهاية القرن التاسع عشر، إلى الحد الذي صارت كلمة اليهودي تستعمل للشتيمة في سائر أنحاء أوروبا، وبلغ ذروته مع الحربين العالميتين ولا سيما في المحارق الهتلرية التي ذهب ضحيتها يهود وشيوعيون. في هذا السياق راحت الرأسمالية تبحث عن حل للمسألة اليهودية وهذا أمر معروف في تاريخ الصهيونية العالمية، وكتب عنه مؤرخون وسياسيون (يمكن العودة إلى الوثائق الصادرة عن منظمة التحرير الفلسطينية) أتفقوا على أن المؤتمر الصهيوني الأول انعقد في بال في سويسرا عام 1897، بحثاً عن حل لمشكلة عدم اندماج اليهود في مجتمعاتهم، وترأسه ثيودور هرتزل وقرر إقامة دولة لليهود في فلسطين أو في الأرجنتين، وأن حاييم ويزمان الروسي المنشأ تخصص في الكيمياء وقدم خدمات كبرى للجيش البريطاني في مجال صناعة المتفجرات، فكسب ثقة سياسييهم وتعاون معهم ونجح في استصدار القرار المعروف باسم وعد بلفور عام 1916، وتعاون معهم على تحقيق الحلم الصهيوني. المشروع الصهيوني أبعد من أن يكون مولوداً من وعد أو اتفاقية. بل هو ما توصلت إليه الرأسمالية بحثاً عن السبل الكفيلة بإزالة أي عقبة تعترض مسارها، حتى لو كانت كلفة ذلك استئصال شعوب وتدمير مدن وحضارات كما في تجربة أنكلترا الجديدة مع الهنود الحمر وقنبلة الولايات المتحدة على هيروشيما وناكازاكي وكما في الحربين العالميتين. فلسطين واحدة من ضحايا وحشية الرأسمالية، ولا تستقيم معالجة مأساة الشعب الفلسطيني بفتح معارك كلامية وحروب لغوية على ساحة القرار أو الاتفاق، فيما لا يتوقف العمل على ساحة أخرى لتنفيذ القرار وتطبيق بنود الاتفاق، بل بالنظر إليها كجريمة غير مسبوقة في التاريخ، لأنها أكبر وأهم وأكثر تعقيداً من نتائج سايكس بيكو، بل يمكن القول إن دولتي الانتداب لم يكن همهما من تلك الاتفاقية إلا اقتطاع فلسطين من بلاد الشام واستئصال سكانها بالمجازر والتهجير لإنشاء الوطن القومي اليهودي. لذلك يبدو أن تصويب الحركة القومية على التجزئة والاتفاقية والوعد قد حرف المواجهة عن مسارها بحثاً عن المسؤولية الجنائية، فيما كان تنفيذ المشروع يمضي على قدم وساق على أرض الواقع. بدأت الحركة القومية تصويبها الخاطئ حين حمّلت مسؤولية النكبة للوعد والاتفاقية، ثم اتهمت الحكام بالخيانة فصوبت رصاصها الطائش على الدولة والنظام والديمقراطيات الناشئة، وأطاحت بانقلابات عسكرية متتالية، في كل من سوريا ومصر والعراق، بالآليات التي كانت قد وضعت قطار الدولة والنظام على سكته الصحيحة، المتمثلة بالدساتير والانتخابات وتداول السلطة، واستبدلتها، بحجة الدفاع عن القضايا القومية وفي طليعتها القضية الفلسطينية، بأنظمة تحكمها الجيوش والأحزاب الشمولية في هذه البلدان الثلاثة ثم في معظم البلدان الأخرى، حتى صارت أنظمة العالم العربي كلها موزعة بين أشكال مختلفة من الملكيات المطلقة أو الجمهوريات الوراثية. لم تول الأحزاب القومية الاهتمام ببناء الدولة الديمقراطية لأسباب عديدة. أولها أنها قفزت فوق أسئلة النهضة وأعفت نفسها من البحث في أسباب تخلف المجتمعات العربية، أو هي اعتمدت نظرية المؤامرة فتمثل لها السبب عدواً خارجياً على الدوام هو الاستعمار والصهيونية. وثانيها أنها لم تكن تعنيها قضية بناء الدولة بقدر ما ركزت أنظارها على السلطة، أو أنها ارتكبت فعل «الخلط المفاهيمي» فصارت الدولة عندها هي السلطة والسلطة هي الدولة، فكيف إذا أضيف مصطلح الأمة إلى هذا الخلط المفاهيمي ليصير خلطاً مثلثاً ؟. أما السبب الأهم فهو أن هذه الأحزاب كانت تفتقر إلى بناء نظري عن الدولة(راجع أعلاه ما قاله عبد الإله بلقزيز وعبد اللّه العروي)، ولذلك انتقلت مباشرة إلى الممارسة السياسية من غير المرور بالممارسة النظرية، في ظل «ضمور فكرة الدولة مقابل تضخم فكرة الأمة» (بلقزيز، نقد الخطاب القومي، ص73)، بل يمكن أن نضيف، ومقابل تضخم فكرة السلطة. في نظر الأحزب القومية، الأمة قبل الدولة لكن الدولة هي التي تبني الأمة، وفي خلفية تفكيرهم دوماً ذاك الخلط بين الدولة والسلطة. لذلك فإن معيار نجاحها وفشلها لا يتمثل بحجم إنجازاتها وأخفاقاتها بل بمدى قدرتها على الاحتفاظ بالسلطة، وبهذا المعيار قيست نتيجة حرب تشرين السورية الاسرائيلية عام 1973، ونتيجة الحرب الإيرانية العراقية، ونتيجة حرب تموز الأسرائيلية على لبنان. منتصر هو الحزب الذي يحتفظ بالسلطة أياً تكن الخسائر (يحتفل النظام السوري بالانتصار في حرب تشرين مع أنه خسر على ما تقول الروايات الصحافية مساحات إضافية من الأرض تضم عشرات القرى والمزارع الصغيرة. كما أن النظام العراقي الذي تمكن من تحقيق واحد من أعلى معدلات الدخل الفردي في العالم، وواحد من أعلى مستويات التعليم، ثم أوقعته حربه مع إيران تحت أعباء الديون ليجد نفسه مرغماً على احتلال الكويت، ومع ذلك احتفل بانتصاره لأنه ظل ممسكاً بالسلطة بيد من حديد). بهذا المقياس على وجه التحديد بدا أن النظام المثالي في العالم العربي هو الذي يستمر فيه الحاكم حزباً أو فرداً في سدة الحكم أطول مدة ممكنة، وهي قيست بعشرات السنين في البلدان التي انفجرت فيها أحداث الربيع العربي. وبالمقياس ذاته كانت الانقلابات العسكرية تُعدّ بمثابة ثورات تغييرية لأنها كانت تظهر «براعة» في خلع الحاكم واستبداله بالعنف، فيما هي لا تستبدل النهج ولا البرنامج ولا السياسة الاقتصادية، بل تستبدل تداول السلطة بالاستبداد، أو بما يسمى «الاغتصاب غير المشروع للسلطة»، وهي العبارة التي يستخدمها عبد الإله بلقزيز من قبيل الاعتراض عليها بذريعة أن «عبد الناصر - والبعث لاحقا- أثبت أن ما حصل من تغييرات في البنى الاقتصادية والاجتماعية كان ثورة بجميع المعايير»(م.ن.ص77) وهذا أمر أسهبنا في نقضه في مقدمة البحث عند كلامنا عن مصطلح الثورة. في ظل طغيان الممارسة السياسية على الممارسة النظرية في الفكر القومي، نجد أنفسنا أمام حقيقتين، يتبدى لنا في الأولى أن الوعي القومي تأسس على مفاهيم العروبة والوحدة والأمة، وهي مفاهيم مشتقة من مصدرين، الأمم الأوروبية الناشئة في ظل الحضارة الرأسمالية من جهة والتراث الإسلامي من جهة أخرى. مع أن مفهوم الأمة يختلف اختلافاً جذرياً بين المصدرين، إلا أن الأحزاب القومية لم تجد مانعاً من صياغة توليفة تتحدد فيها عناصر تكوين الأمة باللغة والجغرافيا والتاريخ المشترك والمستقبل المشترك، إضافة إلى الدين، مع إهمال لدور الدولة واستبعاد العامل السياسي والاقتصادي في بناء الأمم، وحين يؤخذ دور الدولة بالاعتبار ففي ظل الخلط المفاهيمي بين الدولة والسلطة. أما الحقيقة الثانية فتتمثل في أن الأحزاب القومية نسخت عن تجارب البلدان الاشتراكية بناء الدولة البوليسية فألغت الدساتير إن لم تكتف بتعليقها وفرضت الأحكام العرفية وحالات الطوارئ وما شابه من قوانين تكرس أنظمة الاستبداد التي لا تعترف بالرأي المختلف بل تلغيه «بالقتل أو بالنفي أو بالسجن». انطلاقاً من أن القومية، كفكرة أو كحركة سياسية، هي نتاج الحضارة الرأسمالية، فهي لا تقوم إلا بالقطيعة مع الحضارة الإقطاعية، وهو ما لم يندرج على جدول عمل التاريخ العربي النهضوي، وإن اندرج، فبحافز استعماري أكثر منه بحاجة داخلية للتطور، وسرعان ما أجهضته الحركة القومية ذاتها بفعل إعاقتها بناء الدولة ومجافاتها الديمقراطية. هل يكفي التحليل النفسي ليفسر حالة الاستعصاء التي يعاني منها العالم العربي في انتقاله من الإقطاع إلى الرأسمالية؟ يقول صادق جلال العظم في ندوة فكرية انعقدت حول أعمال مهدي عامل سنة 1989 ونشرت أعمالها دار الفارابي، «إن العرب كغيرهم من الشعوب العريقة صاحبة الحضارات السابقة والثقافات العالمية والأمبراطوريات الواسعة، أُدخلوا في نسيج العالم الحديث عنوة واقتحاماً واختراقاً وإلحاقاً. هذه الحقيقة هي مصدر العقدة النفسية الهائلة التي يعاني منها الفكر العربي بالنسبة لفكرة التقدم. ومما يزيد المشكلة تعقيداً أننا لم نحي هذه التجربة الكبرى على صورة اضطهاد خارجي وسيطرة أجنبية ونهب استعماري فقط كما حدث لشعوب كثيرة غيرنا، بل عشناها في الصميم أيضاً كاغتصاب منا لقوة كبيرة كنا نمارسها على نطاق واسع جداً ولسيطرة هائلة كنا نهيمن بواسطتها على أمبراطورية شاسعة الأرجاء، ولريادة حضارية وتاريخية فاتحة كنا وما زلنا نعتقد في أعماقنا أنها حق مقدس لنا وحدنا لأن التاريخ أو القدر أو العناية الإلهية قد اصطفتنا للقيام بهذا الدور العظي الاضطلاع بمسؤولياته الجسيمة بالنسبة للبشرية جمعاء» (ص466). قد يضيء منهج التحليل هذا على جانب من المسألة، لكننا نعتقد أن نظرية الاستبداد هي أكثر جدوى من سائر النظريات الأخرى في البحث، داخل العالمين العربي والإسلامي لا خارجهما، عن أسباب عدم ولوجهما إلى الرأسمالية من بابها السياسي. وربما شكل انهيار التجربة الاشتراكية السوفياتية في أواخر القرن العشرين، وانهيار حركة التحرر العربي في بدايات الحادي والعشرين ظروفاً محفزة لخروج الفكر العربي من حتمياته القاتلة، إذ بدأت معهما تتكثف الكتابات التي تناولت بالنقد التجربتين القومية والأممية، لتستخلص منهما ضرورة قيام الديمقراطية والتخلص من الاستبداد كشرط أولي لاستكمال مرحلة النهضة والدخول في الحضارة الرأسمالية من بابها السياسي.
4 ــ الديمقراطية في الخطاب اليساري لا شيء أكثر التباساً في الخطاب اليساري من مصطلحي الدولة والديمقراطية، وهو التباس ناجم من الخلط المفاهيمي بين الدولة والسلطة وبين الديمقراطية والحرية، ومن «الفقر المعرفي»، إذ كان يتركز اهتمام الفكر اليساريين على الثورة لا على الدولة، بل الثورة على الدولة، وعلى المركزية الديمقراطية لا على الديمقراطية، بل المركزية التي تلغي الديمقراطية، ولم تكن تعنيهم مصادر المعرفة المتعلقة بهذين المصطلحين، لأن التأويلات السوفياتية للماركسية اختصرت، بنظرهم، كل المعارف، وباتت كأنها آخر الديانات غير السماوية. لذلك لم يكتب اليساريون عن الديمقراطية إلا في وقت متأخر، بعد أن فرضت الديمقراطية نفسها مادة وحيدة على جدول عمل التغيير في العالم العربي، ما جعل تلك الكتابات المستلحقة تظهر كأنها دفاع عن الماضي مشحون بالتوتر والروح الكفاحية ضد البديل الوحيد المحتمل، أي الدولة الديمقراطية. قبل مرحلة الانهيارات كانت مهمة الانتقال إلى الاشتراكية، باعتبارها سمة العصر، ومهمة محاربة الاستعمار تقتضيان الاقتداء بالتجربة الأم، أي الانطلاق من الاستيلاء على السلطة واحتكارها من أجل بناء دولة الطبقة العاملة، أو الدولة القومية، فاستلهمت الحركات اليسارية والقومية في العالم العربي أحد النموذجين اللينيني أو النابليوني اللذين بدا معهما مصطلح «الدولة الديمقراطية» غريباً عن سياق المهمات التي يتطلبها اغتصاب السلطة بقوة السلاح، ولذلك خلت النصوص اليسارية من أية مقاربة للديمقراطية، إلى أن ظهرت إرهاصات الأزمة في النموذج السوفياتي وفي تجارب الانقلابات العسكرية العربية، وبدأت الديمقراطية تحتل حيزاً من الاهتمام في الخطاب القومي واليساري، فنشرت في الثمانينات كتب ومقالات تتناول هذه المسألة، من بينها بحث مطوّل لكريم مروة في مجلة الطريق في بداية العام 1985، وكتاب بيان من أجل الديمقراطية لبرهان غليون عام 1986، وبعدهما مقابلة مع السيد محمد حسين فضل اللّه عن الحريات والديمقراطية في العدد 65 من مجلة المنطلق. سنكتفي باستعراض ما استقر عليه معنى الديمقراطية في بحث كريم مروة الذي شغل لفترة طويلة موقع نائب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، قبل أن يقوم بقراءة نقدية جذرية لتجربته الفكرية والحزبية بعد أكثر من عقد على نشره هذا البحث. ماذا يقول كريم مروة عن الديمقراطية؟ يبدأ مروة من تعريف الديمقراطية بقوله إن «الديمقراطية هي الحرية للجميع ... وهي سيادة الأغلبية» (مجلة الطريق، العدد الأول،1985،ص19)، ثم يقول جازماً «ليس صحيحاً أن الديمقراطية هي دائماً حق الاختلاف، أو حق الاعتراض أو حق التمايز» (ص27) «ومن هنا الرفض المطلق لفكرة (التعدد) تعدد الأحزاب التي تمثل مصالح الطبقة العاملة. ثمة حزب واحد وفكر واحد وبرنامج واحد» (ص29). يظهر بوضوح أن الديمقراطية التي يعنيها اليسار هي تلك التي توفر له حرية الحركة والنضال لبلوغ مرحلة «الاستيلاء على السلطة» (ص31)، لأن اليسار الذي يتعامل مع مسألة الديمقراطية كهدف بذاتها يتحول، بحسب كريم مروه، إلى يسار إصلاحي، وإلا فإن عليه وعلى القوى الثورية طرح الاستيلاء على السلطة كمهمة استراتيجية(ص25). ولهذا فإن أي بحث يتعلق بالديمقراطية ينبغي أن يكون بحثاً عن «توفير الشروط الأفضل لمتابعة النضال الثوري، وصولاً به إلى غاياته، إلى انتصار الثورة... والثورة هنا، في بلداننا هي الثورة الوطنية الديمقراطية»(ص18). إذن هو يقول ما قاله السيد محمد حسين فضل اللّه في المقابلة المشار إليها أعلاه. إنهما مع الديمقراطية ما دامت توفر حرية الحركة لنضال كل منهما من أجل مشروعه، الثورة الوطنية الديمقراطية عند الشيوعيين والدولة الإسلامية عند الإسلاميين. من هنا تبدو الديمقراطية، في نظر مروة، «أداة من أدوات الصراع الطبقي»(ص18)، لأن «الأساس، إذن، في نظرتنا إلى الديمقراطية هو الصراع بين الطبقات... بين الطبقة العاملة المتحالفة مع سائر الطبقات والفئات الاجتماعية التي يستثمرها الرأسمال، وبين البرجوازية كطبقة مسيطرة» (ص19- 20)، وهذا «يفرض على القوى الثورية، وعلى التحالف الطبقي الثوري، موقفاً من مسألة الديمقراطية ينسجم مع البرنامج الذي تطرحه هذه القوى وتتصدى لتحقيقه بالنضال، بكافة أشكاله، بما في ذلك العنف الثوري، رداً على العنف الرجعي»(ص23). وقد حدد مروة ثمانية عناوين لهذا البرنامج: «1 - النضال من أجل انتزاع أكثر ما يمكن من الحقوق في ممارسة النشاط وفي التمتع بحرية العمل. 2 - النضال من أجل الإصلاح الديمقراطي بهدف إضعاف النظام البرجوازي. 3 - النضال السياسي والفكري عبر التنظيمات السياسية والديمقراطية. 4 - النضال لتعطيل دور أجهزة القمع السياسية والإيديولوجية والعسكرية. 5 - النضال دفاعاً عن الحقوق القومية للأقليات. 6 - النضال من أجل الوحدة القومية. 7- الارتقاء بأشكال النضال وصولاً إلى العنف الثوري في مواجهة العنف الرجعي. 8 - اعتماد أرقى أشكال الديمقراطية الثورية عندما تتمكن القوى الثورية من تحرير جزء من الأرض أو قيام شكل من ازدواجية السلطة»(ص25-27) الديمقراطية، بهذه المعاني والدلالات، ليست إطاراً لتنظيم الاختلاف، بل هي سلاح يستخدمه اليسار للتعبئة والتجييش في مواجهة الدولة وأجهزتها، ولاسيما القمعية منها، لتعطيلها في المرحلة الأولى ثم للاستيلاء على السلطة في مرحلة ثانية، حيث يصبح إلغاء الاختلاف أو طمسه أمراً ممكناً. وبذلك يكون اليسار «الثوري» قد حقق هويته التوتاليتارية. بتعبير آخر، يمكن القول براحة ضمير إن هذه الصورة من الديمقراطية نقيض للديمقراطية التي استخلصنا تعريفاً عنها من كتاب آلان تورين الوارد أعلاه في المقدمة وعنوانه، ما هي الديمقراطية؟ في نص مروة هي ليست مشروعاً للسلام بل للحرب، ولا هي لتنظيم الاختلاف والاعتراف بالتنوع بل للقضاء بالقوة على كل اختلاف وتنوع، وهي ليست جزءاً من منظومة قيم سياسية متحدرة من ضرورة قيام الدولة بل هي وسيلة لتقويض الدولة بحجة أن الدولة سلاح تستخدمه البرجوازية لقمع الطبقة العاملة وحلفائها. فضلاً عن ذلك، الديمقراطية، في النظر اليساري، هي الحرية، مع أنهما ينتميان إلى حقلين معرفيين متمايزين، لا يكفي تقاطعهما في نقطة الحريات السياسية لتبرير هذا الخلط المفاهيمي المسيء لكلا المصطلحين. بعد أن اعتزل كريم مروه العمل الحزبي أصدر بغزارة مجموعة من المؤلفات تناول فيها التجربة بعين نقدية وبجرأة دفعت حراس النصوص إلى رميه بالردة. قبل اعتزاله، أي في كلامه هذا عن الديمقراطية، لم يكن يعبر عن رأيه الشخصي فحسب، بل كان ينطق بلسان الحزبيين وبخاطر كل المنتمين إلى الأممية. فأحزاب اللّه التوتاليتارية تجعل الأفراد نسخاً متشابهة تتكرر عندهم الأفكار ذاتها في كل النصوص وكل الخطابات، ولاسيما فيما يتعلق بالطابع الطبقي للدولة، وبمصطلحات غائمة، غير محددة المعنى عن «القوى الديمقراطية» و»المؤسسات الديمقراطية» و»النضالات الديمقراطية»، مشحونة بمعنى وحيد هو الاعتراض، فهي قوى ومؤسسات ونضالات معارضة، في مواجهة سلطة يفترضون انها سلطة البرجوازية، أو البرجوازية الكولونيالية المرتبطة بالاستعمار والرأسمالية العالمية. القراءة النقدية التي توصل إليها مروه وحزبيون سابقون ظلت تحمل بعض سمات من منهج التفكير القومي أو هي ظهرت على شكل توليفة أو مصالحة مع الفكر الديني. من أول نص نقدي وضعه حين كتب عن رسالة الخميني إلى غورباتشيف حتى آخر إصداراته، التجديد في الإسلام كالتجديد في الاشتراكية، الدار العربية للعلوم، 2018، يتكرر لديه ميل إلى المصالحة بين الدين والماركسية، نابع من اعتقاده بأن مصادر المعرفة على اختلافها، الغيبي منها والعلمي، يمكن أن توضع في خدمة الإنسان، وهذا صحيح، ويمكن توظيفها بالسوية ذاتها لتجديد عملية النهضة ومعالجة أعراض التخلف، وهذا غير صحيح، لأن من الثابت أن الماركسية، وإن تساوت مع الدين في جانبها الإيديولوجي، فهي ظهرت في ظل ظروف ثقافية لم تتوفر للديانات السماوية، تم فيها افتتاح قارات معرفية وثورات علمية فرضت مناهجها على طرق التفكير وطرق العيش وحتى على الإيمان وطقوس العبادة، بحيث باتت المصالحة بين مناهج البحث ضرباً من الوهم. غير أن الهاجس المشروع سعياً وراء إلغاء التوتر بين الدين والعلم لا يعالج بمصالحة مستحيلة بل بالديمقراطية، على قاعدة التنوع والاعتراف بالآخر وبحق الاختلاف، وانطلاقاً من أن المعارف الجديدة لا تلغي القديمة بل تتجاوزها تجاوزاً إيجابياً، فيكون لكل عصر معارفه الصحيحة التي لا تتبدد مع الزمن بل قد تفقد، كما كل قديم، بعضاً من صلاحيتها وفاعليتها وجدواها. نعم. حتى في الثقافة والمعرفة الحل بالديمقراطية. جاد الكريم الجباعي أصدر عام 2010 عن دار رياض الريس في بيروت كتابه، طريق إلى الديمقراطية، الذي شكل إضافة مهمة على ما سبق نشره عن قضية الديمقراطية، لأنه رأى فيها حلاً لآفة الاستبداد الرابضة على صدر العالم العربي من محيطه إلى خليجه، وتكمن أهميته في كونه صدر عن كاتب من سوريا، وقبل اندلاع أحداث الربيع في بلده. ذلك أن النظام السوري، الذي يديره واحد من أحزاب اللّه القومية، شكل أبشع نموذج لأنظمة الاستبداد الجمهورية، مموهاً مواقفه برفعه راية المواجهة مع الأمبريالية والصهيونية والاستعمار، واضعاً شعبه، ككل نظام مماثل، بين خيارين، دوام الاستبداد أو الحرب الأهلية. وقد عرّف الجباعي الاستبداد قائلاً «إن المشاريع الإيديولوجية القومية والإسلامية والاشتراكية، على السواء، قائمة على مبدأ القضاء على المختلف... لنلاحظ أن الطائفة أو الحزب سلطة تشريعية وسلطة قضائية وسلطة تنفيذية في يد واحدة، ذلك هو الاستبداد» (ص128). من جملة الخسائر التي تسبب بها نظام الاستبداد في سوريا تعميم مفاهيم ملتبسة حول الثورة والوطن والدولة والأمة، وحول الديمقراطية على نحو خاص. وقد استبقنا، في المقدمة، توضيح مثل هذه الالتباسات وتبديدها. من آثار هذه الالتباسات في المفاهيم والمصطلحات على نص الجباعي اعتبار «المسألة الوطنية والمسألة الديمقراطية وجهين لعملة واحدة أي لمسألة واحدة»(ص19)، ويعود ذلك إلى التباس في مصطلح الوطن بالذات، الذي بسببه نشبت نزاعات بين من لا يعترفون إلا بوطن عربي واحد وأمة عربية واحدة (البعث) ومن لا يعترفون إلا بالأمة الإسلامية، ويجعلون الوطن العربي جزءاً منها (الأحزاب الإسلامية). أما الشيوعيون الذين ينشدون الأممية فيعترفون بوجود أوطان عربية تشكلت مع الاستقلال، مع أنهم يدينون الاستعمار وسايكس بيكو والتجزئة. كما يعود ذلك إلى «خلط مفاهيمي» بين الدولة والوطن. يقول الجباعي: «الدولة، وفق تعريف الحقوقيين، أرض وشعب وسلطة سياسية عليا ذات سيادة. الشعب والأرض والسلطة السيدة ثلاثة وجوه لحقيقة واحدة هي الدولة الوطنية»(ص28). إننا نميل إلى الاعتقاد بأن مصطلح «الدولة الوطنية» متحدر من مشروع التحرر الوطني المعتمد في أدبيات الشيوعيين خاصة واليساريين عموماً الذي يندرج في إطار التحرر من الاستعمار على طريق الاشتراكية، ولهذا يحصل الخلط بين الدولة والوطن. والصحيح أن الوطن، وليس الدولة بحسب الجباعي، وفق تعريف الحقوقيين، هو أرض وشعب وسيادة، والسيادة تجسدها الدولة، وتمثلها السلطة التي هي سلطة القانون. إن هذا الخلط المفاهيمي هو من موروثات لغة الأحزاب القومية التي جعلت الأولوية للسطلة على الدولة وللدولة على الأمة وللأمة على الوطن، فاستحدثت مصطلحاً جديداً هو «الدولة الوطنية»، الذي تعني الوطنية فيه الانتماء إلى إطار يناهض الاستعمار، وبموجبه يكون الوطني مرادفاً للمناضل الحزبي ونقيضه هو العميل للاستعمار. المعنى المتداول والضمني لمصطلح الوطني في اللغة اليسارية أكثر تأثيراً في الوعي العام من المعنى القانوني والقاموسي الذي يعرفه الجباعي جيداً ويورده في قوله إن «الوطنية مرادفة لكلية المجتمع ولعمومية الدولة.... فيقال اقتصاد وطني إنتاج وطني ودخل وطني وثقافة وطنية ومؤسسات وطنية وجيش وطني وأمن وطني ... وبالمعنى نفسه نقول سلطة وطنية ونعني سلطة الدولة فقط لا سلطة العشيرة ولا سلطة الحزب ولا سلطة الطائفة ولا سلطة الطغمة ولا سلطة الفرد. وسلطة الدولة هي سلطة القانون لا غير»(ص48). نموذج آخر في تناول موضوع الديمقراطية نجده في كتاب من منشورات دار الفارابي، 2010، عنوانه «ديمقراطية، عولمة... وحروب» مع عنوان فرعي: بين وهم الحداثة ومأساة ما بعدها، لمؤلفه الدكتور حسن خليل، القيادي في الحزب الشيوعي اللبناني. ونظن أن الكتاب هو نسخة منقحة ومعدلة، أي مترجمة بتصرف كبير، من أطروحة دكتوراه أعدها الكاتب نفسه في باريس ونشرتها دار الفارابي أيضاً بنصها الفرنسي، بعنوان Democratie. Le grand Degout . قد تكون الفوارق بين النسختين كبيرة، لكن الأساسي والمشترك بينهما يتمثل في أمرين، الأول هو «الخلط المفاهيمي» بين مصطلح الديمقراطية وما سمي في اللغة المعاصرة بالأنظمة الديمقراطية التي تتجه دلالتها نحو الرأسماليات الكبرى وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية ولاسيما في ظل العولمة والأحادية القطبية؛ والثاني هو أن الموقف السلبي من الديمقراطية يظهر منذ البداية على صفحة الغلاف. ففي العنوان الفرعي من النسخة العربية تظهر الديمقراطية كأنها «مأساة» الحداثة وما بعدها، وفي النسخة الفرنسية تبدو»مقززة ومقرفة»(بالحرف الفرنسي الكبير)، إلى أن تُسمّى في متن الكتاب العربي «الديمقراطيات القاتلة» و»ديمقراطيات الخوف»، وفي متن الكتاب الفرنسي ««الكذبة» الديمقراطية الكبرى». لا نستطيع أن نتصور ديمقراطية من غير وطن(آلان تورين، م.س.ص41). وهو يعني أن الديمقراطية تفترض وجود مجتمع تنتظم الصراعات والعلاقات فيه بين أفراده وبين جماعاته وبينهم وبين الدولة على أساس استبعاد العنف. أما العلاقات بين الدول فتحكمها المصالح وموازين القوى، وقد توصلت الدول الرأسمالية الكبرى بعد الحربين العالميتين، وبضغط نتائجهما المدمرة، إلى تسوية، ضمت في دائرتها الأولى الدول التي شاركت في الحربين، تقضي باستبعاد العنف المسلح في تنظيم نزاعاتها، من غير أن تستبعد أشكالاً أخرى من العنف تفرضها آليات السيطرة على الأسواق العالمية وعلى مصادر الطاقة، وما لبثت الدائرة أن اتسعت لتضم دولاً كثيرة أخرى، من غير أن تنجح التسوية، وربما لن تنجح، في تحويل العلاقات بين الدول إلى علاقات ديمقراطية بالمعنى الذي استقرت عليه داخل كل دولة من دول الرأسماليات الكبرى. نعتقد أن الموقف السلبي من الديمقراطية المعتمد لدى أحزاب اللّه العربية نابع من الاعتراض على قيام الأوطان، بالصيغة المعروفة بعد الحرب العالمية، والدعوة، بالتالي، إلى النضال لإلغائها ثم استبدالها إما بأمة عربية أو بأمة اسلامية أو بأمة أممية. لقد بينت التجربة أن اتفاق الأحزاب على مجافاة الأوطان لم يحل دون اختلافها على حدود «الأمم»، ما أدى إلى اتهام بعضها بعضاً بالخيانة والعمالة وإلى نزاعات دموية حتى بين التفرعات الحزبية. لقد تجسدت هذه الحالة، وهي عامة في كل العالم العربي، في التعامل مع اليسار اللبناني بصفته وكيلاً لقوى خارجية (يسار دولي أو فروع لأحزاب قومية بعثية أو ناصرية) ورمي اليمين اللبناني بتهمة العمالة للصهيونية والغرب الاستعماري. إن النظر إلى الآخر المختلف داخل الوطن شكل أفضل تمهيد سياسي وإيديولوجي وأسرع تحضير تعبوي للحروب الأهلية المتنقلة في أرجاء الأوطان العربية. الديمقراطية في نظر اليسار الماركسي سلاح إمبريالي ضد شعوب العالم الثالث. يقول حسن خليل: «فمن «وعد الحداثة» الذي أطلقته الإمبريالية الأوروبية في بدايات القرن العشرين، والذي ترجمته بالانتداب والاستعمار المباشر، إلى «وهم الديمقراطية» الذي انفردت به الأمبريالية الأميركية وترجمته بالغزو والوجود العسكري المباشر وسياسة الفوضى البناءة في نهاية القرن العشرين، ضاع الشرق الأوسط في زواريب المصالح وكذب الشعارات»(ديمقراطية، عولمة...ص111-112). إذا تعاملنا مع الكتاب الذي اقتبسنا منه هذا النص القصير كعمل أكاديمي، يصح في منهجه وفي جامعة باريس الثامنة، التي حصل الكاتب على شهادته الأكاديمية منها، ما قلناه أعلاه عن كتاب أمل سعد غريب، «حزب الله، الدين والسياسة» وجامعة برمنغهام. ذلك أن الدراسات الأكاديمية الأوروبية خلال النصف الثاني من القرن العشرين اهتمت بتجميع المعلومات أكثر من اهتمامها بمناهج البحث العلمي، فغلب الجانب الإيديولوجي في إصداراتها على الجانب المعرفي. من ناحية أخرى، نجح «الغرب الإمبريالي»، في تلك الفترة، في أن يعمم على الرأي العام العالمي صورة عن الصراع الدولي بدت فيها الولايات المتحدة الأميركية مع حلفائها مدافعين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في مواجهة الاتحاد السوفياتي وحلفائه من دعاة الثورة والعنف المسلح و»الإرهاب الدولي». من هذه الزاوية يمكن القول إن كتاب حسن خليل، مع مقدمته المكتوبة بقلم الأمين العام للحزب، لا يصنف في خانة البحوث الأكاديمية، بل هو تعبير سياسي عن موقف الأحزاب الشيوعية، ومن بينها الحزب الشيوعي اللبناني، من الصراع العالمي بين المعسكرين ومن القضايا المتعلقة بالديمقراطية والوطن والدولة. يستند هذا الموقف إلى ما ورد في الكلاسيكيات الماركسية من أسس نظرية ركزت على الطابع الطبقي للدولة وأكدت على خضوعها لمالكي وسائل الإنتاج وتبعيتها للمسيطرين على الاقتصاد. استناداً إلى ذلك رأى الماركسيون أن الديمقراطية الرأسمالية ليست إلا شأناً ظاهرياً (خدعة أو وهم بحسب تعبير خليل)، وأن التفاوتُ الاقتصادي يطيح بالأساس المادي للحرية، وأن تغيير البنية الرأسمالية والانتقال إلى الاشتراكية ثم إلى الشيوعية هو السبيل الوحيد للوصول إلى الديمقراطية الحقيقية. لقد استند الماركسيون إلى صحة الفرضية القائلة بالطابع الطبقي للدولة، فقرروا القضاء على الدولة، في طريقهم لإنجاز مهمتهم التاريخية الرامية إلى إلغاء الصراع الطبقي، ولم يلحظوا أن كلام ماركس عن اضمحلال الدولة بموجب قانون النفي الجدلي لا يعني القضاء عليها بقرار سياسي (راجع كتابنا، هل الربيع العربي ثورة؟). في الواقع، مضى اليساريون بعيدا في عمليات التأويل والاجتهاد، وأحاطوا النصوص الماركسية بهالة من القداسة وتعاملوا معها كما يتعامل بعض المؤمنين مع النصوص الدينية، غير أن التعميمات السوفياتية كانت أكثر تأثيراً على الوعي اليساري من «الكلاسيكيات» الماركسية ولا سيما في ما يتعلق بالرأسمالية، إذ استند اليساريون، في موقفهم من الرأسمالية، لا إلى نصوص ماركس بل إلى تأويلات لينينية وستالينية أطلقوا عليها إسم الماركسية اللينينية. لذلك يظهر بوضوح أن مصطلحات الإمبريالية والرأسمالية والعولمة والاستعمار والغرب والتحرر الوطني والتحرير والاحتلال والشرق الأوسط الكبير الجديد والسياسة الأميركية وأحداث 11 أيلول والعولمة تتكرر في كتاب حسن خليل أضعاف المرات أكثر من مصطلح الديمقراطية، بحيث يبدو الكتاب كأنه بحث في مسألة التحرر الوطني لا في موضوع الديمقرطية. بلغت القراءة المزيفة حداً قياسياً في كتاب «الرأسمالية...الوغد الوسيم» للكاتب الكويتي وليد الرجيب، وقد صدرت طبعته الأولى عام 2015 بالرغم من أن انهيار التجربة الاشتراكية كان قد اكتمل فصولاً وبات الخروج من لغة الحرب الباردة ومصطلحاتها ضرورة من ضرورات التقدم. يقرأ الكتاب من عنوانه. الوغد، لغةً، تعني الأحمق الدنيء الرذل الضعيف الجسم الضعيف العقل. هذه هي الرأسمالية، بلغة الكاتب. هي وغد، لكنه وغد وسيم، أي أنها أنيقة المظهر جميلة القد والهندام. في متن الكتاب يمكن لنا أن نرى كيف تحولت أفكار ماركس، عبر التأويل والاجتهاد، إلى محاكمة لإنجازات الحضارة الرأسمالية، ولاسيما للاكتشافات والاختراعات التي ما كانت لتظهر لو لم يكن في ظهورها مصلحة للرأسمالية «هي تزيد من أرباح الرأسمالي»(ص24)، وبالمعيار ذاته تدان الإنجازات الكبرى في مجال المواصلات البرية والبحرية والجوية ووسائل الاتصال والتواصل من الباخرة إلى سكة الحديد إلى الهاتف والإذاعة والتلفزيون، وصولاً إلى «المخترعات الدوائية والعلاجية»(ص29) «لأن الرأسمالية لا يمكن أن تخترع وتطور شيئاً إلا إذا كان يأتي لها بالربح»(ص31)، ولأنها «لا تهمها حياة الإنسان أو سلامته أو صحته ولا حتى سعادته أو تطوره، كل ما يهمها هو الربح ولا شيء سواه»(ص44). القول ذاته ينطبق على السيارة والمصباح الكهربائي والتلغراف والفاكس وأخيراً الأنترنت (ص35)، وعلى الأجهزة الإلكترونية والهواتف الذكية والألواح الرقمية(ص38). حتى الكمبيوتر، استخدمته الدول الرأسمالية في البداية لأغراض استخباراتية(ص36). يحق لأي باحث أن يجزم بأن هذه الأفكار ليست متحدرة من الماركسية، أو أنها تجسيد حي لما أطلق عليه سمير أمين الماركسية المبتذلة. يمكن أن يكون الشيوعي ضد استثمار الإنسان للإنسان في الرأسمالية كما في سواها من الحضارات وأنماط الإنتاج، أما أن يعارضها جملة وتفصيلاً فهو من باب التعصب الأعمى للأفكار الذي لا يترك أي مجال لاحترام الرأي الآخر، الركن الأساس للديمقراطية. رداً على هذا الرأي الأصولي سأقتبس، على سبيل المقارنة، نصاً عن الديمقراطية للناشط والمعارض السوري لؤي حسين وهو أحد خريجي المدرسة الشيوعية، نشره على صفحته (الفيسبوك) بتاريخ 23-5-2019، لأبيّن أن فئة من الشيوعيين أجرت قراءة نقدية للتجربة وطورت خطابها السياسي. يقول النص: «الديمقراطية شكل من أشكال إنتاج السلطات وطريقة محددة بوضوح ودقة لضبط صلاحية السلطات كل على حدة، ووضع تخوم واضحة المعالم بين السلطات، ونواظم محددة للعلاقة بين السلطات، كمؤسسات دولة، وبين الأفراد كمواطنين يتمتعون بحقوق اصطلح على تسميتها «حقوق الإنسان» على قاعدة المساءلة والمحاسبة للسلطات. يقوم بذلك الناس، البشر... من خلال إحدى مؤسسات الدولة الديمقراطية كالسلطة القضائية أو مجلس النواب...». من الواضح أن النص يخلو من أي عبارة أو مفردة أو مصطلح من تلك التي كانت تقتضيه ضرورات النضال الأممي ضد الإمبريالية والصهيونية والاستعمار، بقيادة الاتحاد السوفياتي، وليس ذلك تعبيراً عن موقف من تلك المواجهات، بل للقول إن المعايير التي تقاس بها الصراعات الدولية ليست هي ذاتها التي تحدد طبيعة المهام المتعلقة ببناء الدولة والوطن، ولاسيما منها مهمة بناء الديمقراطية.
5 ــ الدولة في الخطاب اليساري «لا توجد نظرية ماركسية مكتوبة عن الدولة». بهذه العبارة يختصر فالح عبد الجبار بحثه عن ماركس والدولة، الذي قدمه تكريماً لمهدي عامل في الذكرى السنوية لاغتياله، ثم ضمّنه في كتاب بعنوان، «ما بعد ماركس» منشورات الفارابي، 2010. وفي التفاصيل، يرى الباحث أن التراث الماركسي في موضوع الدولة يتمثل بثلاثة مراجع، الأول عبارة عن مجموعة ملاحظات متفرقة لماركس موزعة على أكثر من كتاب، الأساسي منها هو في نقد نظرية هيغل عن الدولة، المرجع الثاني هو كتاب إنغلز، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، وهو دراسة تهتم بتاريخ نشوء الدولة، والثالث كتاب لينين، الدولة والثورة، الذي ينطوي على مساجلات لينين مع تيارات مختلفة عشية الثورة، وعنه يقول عبد الجبار»خلاصة ما أراه أن أهمية كتاب «الدولة والثورة» تكمن في انعدام أهميته، النظرية والعملية»(ص44). رداً على ما اعتبره شكلاً من التفريط بأهمية ماركس، رد غسان الرفاعي، عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي اللبناني لأكثر من نصف قرن، بكتاب صدر عن دار الفارابي أيضاً،عام 2013، بعنوان، «ماركس، دون دوغمائية، دون تفريط»، ثم ألحقه، عام 2017، بكتاب آخر صدر عن الدار ذاتها، بعنوان، ماركس... عن الدولة. في كتابه الأول، يناقش الرفاعي من يرى أنهم «يفرّطون» بالنظرية الماركسية، ويخص بالمساجلة والنقد فالح عبد الجبار وكتابه من غير أن يذكره بالإسم الصريح، بل بألقاب شتى مكررة عشرات المرات، مثل «باحثنا الكريم» و»رفيقنا الباحث» وزميلنا الباحث» و»باحثنا». وقد ركز نقاشه حول ظاهرة العولمة والقضايا المتعلقة بنظرية المعرفة والمادية التاريخية والمادية الجدلية، و»انعكاس الواقع المادي في دماغ الإنسان وتحوله إلى أشكال من الفكر...من خلال الرموز اللغوية والمعادلات العلمية والكتابة ...»(ص51). كما ناقش أيضاً موضوع العلم ومناهج البحث، معترضاً على ما توصل إليه «المفرّطون» وما رأى فيه إعلاناً صريحاً بإلغاء الفلسفة ونهاية الماركسية. وقد اكتفى، في كلامه عن الدولة، بإشارات متباعدة، رأى في الأولى أن «الدولة الحديثة، مهما كان شكلها، تمثل، في جوهرها، أداة رأسمالية، فهي دولة الرأسماليين»(121) ونقل في الثانية رأي محمد حشماوي القائل بأن العولمة تضعف سيادة الدولة القومية على مواردها وأولوياتها ورعاياها»(ص234)، ورأى في الثالثة أن الدولة هي «أحد مكونات البناء الفوقي الأخرى الذي تتطلبه البنية التحتية بسمات أساسية محددة. وهذا لا يقلل من خطورة الدور السياسي - الاجتماعي للدولة» مرجئاً نقاش موضوع الدولة أكثر من مرة «سنتناول موضوع الدولة بالبحث لاحقاً بتفصيل أكبر»(ص94)، «سنتناول موضوع الدولة بصورة أشمل في صفحات لاحقة»(ص100)، ثم يؤكد في نهاية بحثه على «أنه بات من الضروري تناول جملة من المسائل الرئيسة في البحث: كمسألة الدولة والقومية ومسائل الوعي السياسي... من أجل مواجهة استراتيجية العولمة»(ص244). إذا كان غسان الرفاعي قد تناول في كتابه الأول القضايا النظرية التي طرحتها الماركسية كالمادية والمثالية والبنية التحتية والبنية الفوقية والعلم والإيديولوجيا، وجعل منها مرتكزاً لنقاش ظاهرة العولمة، فقد أراد لكتابه الثاني أن يشكل رداً على عبارة فالح عبد الجبار التي «تنفي وجود نظرية ماركسية مكتوبة عن الدولة»، فاختار الدخول إلى النقاش من ثغرة في بنية العبارة. فعبد الجبار لا ينفي وجد نظرية ماركسية عن الدولة، بل وجود نظرية مكتوبة. ما يعني أن من الممكن العثور عليها، غير مكتوبة. الحق يقال إن الرفاعي بذل جهداً نظرياً كبيراً ليستخرج من النصوص الماركسية موقفاً من الدولة، أو صورة للدولة الماركسية. غير أنه كرس صفحات الكتاب الثلاثماية، مرة جديدة، دفاعاً عن الماركسية ضد من حاول، من اليساريين، إعادة قراءتها بعين نقدية. فهو يأخذ على فالح عبد الجبار القول بمحدودية التحليلات الماركسية «كونها تعتمد على وقائع تجريبية ...نتيجة نشأتها الزمانية والمكانية» (ص270-271 والاقتباس من كتاب فالح عبد الجبار، ما بعد ماركس، ص21). كما يأخذ على فواز طرابلسي محاكمته «الثابت» (الماركسي المزعوم) أمام «المتغيرات»(م. ن)، وعلى عصام الخفاجي قوله» إن الماركسية الباقية كعمل نظري قد ماتت أو تكاد، حين ننظر إليها كمرجعية للعمل السياسي أو كبرنامج تهتدي به الحركات السياسية الفاعلة في زماننا»(ص261، نص الخفاجي مقتبس من: تأملات في الماركسية، حوار مفتوح في الحوار المتمدن، 29-9-2015). فضلًا عن أن هذه النقاشات تتعلق بالجانب النظري الفلسفي، وهو أمر قررنا منذ البداية تفادي الخوض فيه، فإن المآخذ على «الرفاق المجددين» تحظى، في نظر غسان، بأسباب تخفيفية عائدة إلى «ثقل وفداحة الأزمة السياسية والمعنوية الناشئة عن انهيار التجربة الاشتراكية»(ص260)، رغم أنهم (الرفاق المجددين) يعزون فشل التجربة وانهيارها إلى النظرية الماركسية العامة نفسها(ص253). غير أن ظاهرة أخرى نشأت بين بعض اليساريين تمثلت في ميلهم نحو الليبرالية «التي أخذت تبرز في أبحاث ومواقف بعض المثقفين في بلداننا، ومنهم يساريون، بدأ يجد أصداء وانعكاسات جماهيرية، وذلك كرد فعل فكري وعاطفي على نظم الاستبداد- كما يسميها سمير أمين ومحمد علي مقلد- السائدة والجاثمة والمتحكمة في بلداننا والمستبيحة لكل مقدرات ومصالح شعوبنا» (ص241-242). هنا بالضبط يكون غسان الرفاعي قد دخل في موضوع الدولة من باب ماركسي. فكلامه يستبطن اعتراضاً على الاقتراح الليبرالي، «لأن الدولة الحديثة (الليبرالية) كما هو معلوم تاريخياً، هي السلطة التي تطلّبها نمط الإنتاج الرأسمالي وحققهما، حين بلغ تطوره درجة مكنته من الهيمنة الاقتصادية على أساس الإنتاج وفق مبدأ العامل الحر والأجر الحر وفائض القيمة والسوق الموحدة على أرض محددة ... فالهياكل الدستورية للدولة وقوانينها قامت، من حيث الأساس، من اجل تثبيت وشرعنة استمرار نظام الأجر الحر والستمرار تدفق فائض القيمة هذا...ولهذا يسمي غرامشي الدولة (المجتمع السياسي) بأنها لحظة القهر، أما المجتمع المدني فهو لحظة السلطة الإيديولوجية، وبالتقاء اللحظتين تتكرس الهيمنة المحصنة بالقهر»(ص243). يظهر جلياً من خلال النص أن الخلط المفاهيمي (بين الدولة والسلطة- «الدولة الحديثة هي السلطة») هو أقصر سبل الاعتراض على الدولة وعلى الديمقراطية معاً، كما يبدو واضحاً أن الرفاعي، الداعي إلى تجديد الفكر الماركسي والخروج من الدغمائية والجمود العقائدي، يتمسك بالتأويلات ذاتها التي تنطلق من التفسير الطبقي، فلا ترى في الدولة غير أداة للقهر الطبقي، ما يفضي إلى الاستنتاج بضرورة تدمير الدولة الرأسمالية، الليبرالية، وتدميرها، خلافاً لما ينطوي عليه مصطلح الاضمحلال لا التدمير، كخطوة انتقالية إلى دولة تقودها الطبقة العاملة. وبذلك يكون الرفاعي قد أعاد التمسك بالمفاهيم السائدة عن الدولة في الممارسة النظرية الماركسية، انطلاقاً من تحميل الخارج مسؤولية التخلف. فهو يرى أن ظاهرة الاستبداد «لا تقررها بالأساس الظروف والشروط المادية التاريخية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الملموسة للمجتمع المعني وحده، بل تقررها، بالأساس، في شروط عالمنا الراهن، مجمل الشروط الخارجية المحيطة بذاك المجتمع»(ص242). هذه العبارة تجد تفسيرها في نظرية التحرر الوطني والفرضية القائلة بأن هذا العصر هو عصر الانتقال إلى الاشتراكية، أو في نظرية مهدي عامل عن نمط الانتاج الكولونيالي القائلة بأن الحل الوحيد لأزمات العالم الثالث ومنه العالم العربي يكمن في فك التبعية بالاستعمار كخطوة على بناء الحكم الوطني الديمقراطي ثم الاشتراكية ثم الشيوعية.
المصادر والمراجع عبدالله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، ط10، 2014 محمد علي مقلد، الأصوليات، دار الفارابي، 1999 محمد علي مقلد، الشيعية السياسية، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2012 محمد علي مقلد، اغتيال الدولة، مؤسسة الانتشار، 2006 محمد علي مقلد، هل الربيع العربي ثورة؟ ضفاف، 2015 حسن قبيسي، المتن والهامش، المركز الثقافي العربي، 1997 أرنولد هاوزر، الفن والمجتمع عبر التاريخ، الحزب الشيوعي اللبناني، وثائق المؤتمر السادس. فؤاد مرسي، الرأسمالية تجدد نفسها، منشورات عالم المعرفة، الكويت، 1990 إريك هوبزباوم، عصر الثورة 2007، عصر رأس المال2008، عصر الأمبراطورية 2011، ثلاثة مجلدات عن نشوء الرأسمالية، صادر عن المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية. كارل ماركس وفريدريك إنغلز، البيان الشيوعي. ماركس وانغلز، المختارات، ثلاثة أجزاء ماركس، مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، بالفرنسية editions sociales وليد الرجيب، الرأسمالية... الوغد الوسيم، الفارابي، 2015 جورج لابيكا، نحو تجديد الفكر الاشتراكي، بحوث ومناقشات مهداة إلى مهدي عامل في الذكرى العاشرة لاغتياله، منشورات الفارابي، 1997 سمير أمين، نحو نظرية للثقافة، معهد الانماء العربي، 1989 آلان بيرفيت، المعجزة في الاقتصاد، ترجمة بسام الحجار، دار النهار للنشر، بيروت، 1997 بيار شونو، الحضارة الأوروبية في عصر الأنوار، ترجمة سلمان حرفوش، دار كنعان، دمشق، 2003 محمد الوقيدي، العلوم الانسانية والإيديولوجيا، دار الطليعة، بيروت، 1983 فالح عبد الجبار، ما بعد ماركس، الفارابي، 2010 فالح عبد الجبار، أزمة الدولة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بحوث ندوة فكرية، بيروت، 2011 فرناند بروديل ، المتوسط ومحيطه في عصر فيليب الثاني، ترجمة محمد علي مقلد، قيد النشر، دار +++++++++++++++ القرآن الحكيم معجم لسان العرب كمال عبد اللطيف، مفاهيم ملتبسة في الفكر العربي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، 1992 عبدالإله بلقزيز، الدولة والمجتمع، جدليات التوحد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر، منتدي المعارف، بيروت، ط2، 2015 عمرو حمزاوي، أزمة الدولة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بحوث ندوة فكرية، بيروت، 2011 فوزي منصور، خروج العرب من التاريخ، ************* هيثم غالب الناهي، الدولة وخفايا إخفاق مأسستها في المنطقة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2016 عدنان السيد حسين، أزمة الدولة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بحوث ندوة فكرية، بيروت، 2011 بهجت قرني، مجلة المستقبل العربي، 1987***** غسان سلامة، المجتمع والدولة في المشرق العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 1987 ألان تورين، ما هي الديمقراطية؟ ترجمة حسن قبيسي، منشورات دار الساقي، الطبعة الثانية، 2001 فيصل دراج، الحزب والنظرية في فكر مهدي عامل، مجلة الطريق، عدد5-6- 1988 مهدي عامل، في الدولة الطائفية، دار الفارابي، بيروت، 1986 عبد الرؤوف سنو، جريدة النهار، 27-12-2014 (مقالة) عصام الخفاجي، حول نمط الإنتاج الكولونيالي، مجلة الطريق، كانون الأول 1988 مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، القسم الثاني، في نمط الانتاج الكولونيالي، دار الفارابي، 1976 ماركس، رأس المال، الكتاب الأول، الجزء الثاني، الطبعة الفرنسية، باريس، المطبوعات الاجتماعية رفعت السعيد، في الرد على مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي، مجلة الطريق، ك1 -1988 مهدي عامل، في الدولة الطائفية، دار الفارابي، بيروت، 1986 مهدي عامل، القضية الفلسطينية في إيديولوجية البرجوازية اللبنانية، مدخل إلى نقض الفكر الطائفي، مركز الأبحاث الفلسطينية، 1980 شربل نحاس، ما بين دولة الطوائف والدولة الديمقراطية، مؤلف جماعي، دار الفارابي، 2008 سلسلة الكراريس الصادرة عن لجنة البحوث اللبنانية في جامعة الكسليك، المنشورة بين عامي 1975 و1977 جاك قبنجي، إشكالية الدولة والمواطنة والتنمية في لبنان، الفارابي، مؤلف جماعي، 2009 أحمد بيضون، الصراع على تاريخ لبنان، منشورات الجامعة اللبنانية، ************** كمال الصليبي، منطلق تاريخ لبنان، دار نوفل، 2012 تصحيح في المتن ص89 عمر فروخ ومصطفى الخالدي، التبشير والاستعمار في البلاد العربية، 1973، المكتبة العصرية، بيروت. وجيه كوثراني، أعمال الندوة الفكرية التي أقيمت تكريماً لمهدي عامل بمناسبة الذكرى السنوية لاغتياله، شارك فيها أيضاً كل من شربل نحاس وكمال حمدان وبسكال لحود وجاك قبنجي ودميانوس خطار، منشورات دار الفارابي، طبعة أولى، 2008 مجلة الواقع، العدد 5-6 تشرين الأول 1983 ناصيف نصار، لبنان بين الانفجار والانصهار، مجلة الواقع، العدد5-6-1983 بسام الهاشم، مجلة الواقع، العدد 5-6-1983 إيليا حريق، مجلة مواقف، عدد46، ربيع 1983 مهدي عامل، في نقد الفكر اليومي، الفارابي، 1988 مسعود ظاهر، الجذور التاريخية للمسألة الطائفية اللبنانية، *********** جاك قبنجي، إشكالية الدولة والتنمية والمواطنة في لبنان، مؤلف جماعي أصدرته الجمعية اللبنانية لعلم الاجتماع عن دار الفارابي، 2009 سمير سعد، عن الظاهرة الطائفية، مجلة الطريق، العدد 2، نيسان 1978 فؤاد شاهين، مجلة الطريق، العدد2، نيسان 1978. ياسين الحافظ، في المسألة القومية الديمقراطية، دار الحصاد، دمشق، 1997 رشيد درباس، جريدة النهار 8 تشرين الأول 2018 مصطفى زهران ومحمود طرشوبي، حزب التحرير يعود للحياة مع الثورات العربية مؤسسة الانتشارالعربي، 2012 حزب التحرير، ولاية لبنان، لبنان من عبث الطائفية ومكر المستعمرين إلى حضارة الإسلام، المشكلة والحل، 2008، من دون دار نشر حازم صاغية، الانهيار المديد، دار الساقي، بيروت، 2013 سمير فرنجية، رحلة إلى أقاصي العنف، منشورات شرق الكتاب، ******** قاسم قصير، حزب الله بين الثابت والمتغير، 1982-2016، دار سائر المشرق، 2017 محمد باقر الصدر، فلسفتنا، 1959؛ اقتصادنا، 1961 نصر حامد أبو زيد، مساهمة نقدية في قراءة كتاب، المواجهة حول الاعتدال والتطرف في الإسلام بين رفعت السعيد وعادل حسين، دار الطليعة الجديدة، دمشق، 1996 وضاح شرارة، دولة حزب الله، لبنان مجتمعاً إسلامياً، دار النهار للنشر، بيروت، 1996 أمل غريّب ، حزب الله، الدين والسياسة، دار الكتاب العربي، بيروت، 2002، ترجمه عن الأنكليزية حسن الحسن. عباس حايك، سموم النص، مؤسسة الانتشار العربي، 2018 الخميني، الحكومة الإسلامية، بالفرنسية، منشورات فايول، 1979، ترجمه من الفارسية إلى الفرنسية م.كتبي و ب. سيمون بالاشتراك مع عزرا بني صدر. سمير أمين وبرهان غليون، حوار الدولة والدين، المركز الثقافي العربي، 1996 في ضرورات الأنظمة وخيارات الأمة، منشورات دار أفق للصحافة والعلاقات العامة، من دون تاريخ. محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1995 نعيم قاسم حزب الله، المنهج والتجربة والمستقبل، الطبعة الثالثة، 2004، دار الهادي، بيروت، 2004 محمد عابد الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم، مركز دراسات الوحدة العربية، الجزء الأول، 2006 محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، 1987 حسين سعد، الأصولية الإسلامية العربية المعاصرة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 2006 علي مبروك، النبوة، دار التنوير، بيروت، 1993 راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، 1993 فالح عبد الجبار، العمامة والأفندي، منشورات الجمل، ترجمة أمجد حسن، 2010 محمد عابد الجابري، فهم القرآن الحكيم، مركز دراسات الوحدة العربية، ثلاثة أجزاء صدرت كلها في طبعتها الأولى عام 2008 علي حب الله، مقدمة كتاب سموم النص لعباس حايك، منشورات مؤسسة الانتشار العربي، 2018 محمد أركون، الفكر الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، 1996 حسن فضل الله، حزب الله والدولة في لبنان، الرؤية والمسار، ط3، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2015 صادق النابلسي، حزب الله من فتنة الربيع العربي إلى جيوبوليتيك المنطقة، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2019 فايز القزي، حزب الله، أقنعة لبنانية لولاية إيرانية، رياض الريس للكتب والنشر، ط1، 2013 عبد الإله بلقزيز، حزب الله من التحرير إلى الردع، مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الأولى 2006 برهان غليون، الدولة والدين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1991 عبد الإله بلقزيز، نقد الخطاب القومي، مركز دراسات الوحدة العربية، 2010 عبد الإله بلقزيز، المعرفي والإيديولوجي في الفكر العربي المعاصر، أعمال ندوة فكرية، مركز دراسات الوحدة العربية، 2010 صادق جلال العظم مع آخرين، النظرية والممارسة في فكر مهدي عامل، أعمال ندوة فكرية، الفارابي، 1989 كريم مروة، التجديد في الإسلام كالتجديد في الاشتراكية، الدار العربية للعلوم، 2018 جاد الكريم الجباعي، طريق إلى الديمقراطية، دار رياض الريس، 2010 حسن خليل، ديمقراطية، عولمة... وحروب، مع عنوان فرعي: بين وهم الحداثة ومأساة ما بعدها، دار الفارابي، 2010 غسان الرفاعي، ماركس، دون دوغمائية، دون تفريط، دار الفارابي 2013 غسان الرفاعي، ماركس... عن الدولة، الفارابي، 2017
فهرس إهداء 5 تقديم ـــــــــــ بقلم الشيخ علي حب اللّه 7 تمهيد 49 الفصل الأول: في منهج القراءة: بحث في المصطلح 73 1 - الرأسماليــة 77 2 - الـثـورة 91 3 - الاستعمار والتحرر الوطني 101 4 - الـدولـــة 131 5 - الديمقـراطيــة 149 الفصل الثاني: الحتميات القاتلة 157 1 - الحتميات اليسارية 163 2 - الطــائفيـة 179 3 - الطائفيـة ـ الطبقة 189 4 - الطائفية في الفكر البرجوازي 197 5 - الطائفية في الفكر اليساري 223 خـلاصة 235 الفصل الثالث: الحتميات الدينية 241 1 - الأمــة قبل الدولــة 243 2 - تهجين المصطلحات 253 3 - الثـنـائـيـــات 259 4 - حروب الحتميات والمناهج 267 الفصل الرابع: الدولة والديمقراطية في فكر أحزاب الله 285 1 - ولاية الفقيه ضد الديمقراطية 287 2 - المنهج الدائري والمنهج المثالي 297 3 - الحتميات القومية والدولة 317 4 - الديمقراطية في الخطاب اليساري 329 5 - الدولة في الخطاب اليساري 343 المصادر والمراجع 349
#محمد_علي_مقلد (هاشتاغ)
Mokaled_Mohamad_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
متاهة الضائعين لأمين معلوف(2) منهج البحث الروائي عن -الهويات
...
-
المنهج الروائي في البحث عن الهوية عن -متاهة الضائعين- لأمين
...
-
لماذا نحن في أزمة ممتدة؟
-
رفيق الحريري ومشهد 2025
-
نحو بناء دولة القانون والمؤسسات
-
الكورد، مشكلة أم قضية
-
الهزيمة ليست عيباً العيب ألا نتعلم من الهزيمة
-
رئيسان من نتاج الثورة
-
الاستقلال الخامس والنهائي للبنان
-
الممانعة والمحور
-
لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ماهية الدولة
-
سقوط الطغيان والتحرر الوطني
-
المتضررون من النصر
-
نعم انتصرنا
-
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
-
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
-
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله
-
الإذعان بعد فوات الأوان
-
اليسار والإسلاميون
-
برّي: فرصة واشنطن الأخيرة
المزيد.....
-
مشهد مخيف لفيضانات عارمة تغمر سيارة بداخلها السائق.. شاهد ما
...
-
بعد مرور شهر له في المستشفى.. إليكم آخر مستجدات الحالة الصحي
...
-
تصميم مطار بوتان الجديد يتمحور حول اليقظة الذهنية.. ويغيّر و
...
-
فيديو يظهر لحظة اغتيال قيادي بارز في تنظيم داعش
-
سوريا.. حزب -الإرادة الشعبية- ينتقد الإعلان الدستوري للشرع و
...
-
-حماس- تؤكد مرونتها في المفاوضات وتدعو إسرائيل إلى تحمل مسؤو
...
-
هل تسمح القوانين الأمريكية في ترحيل الناشط الفلسطيني؟ | بي ب
...
-
الساحل السوري هل هي أزمة عابرة أم مرض مزمن؟
-
مجلس الأمن يدين -عمليات القتل- في سوريا ويطالب بحماية المدني
...
-
كاتس: الجيش الإسرائيلي باقٍ في 5 مواقع استراتيجية بجنوب لبنا
...
المزيد.....
-
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
/ محمد علي مقلد
-
النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان
/ زياد الزبيدي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
المزيد.....
|