|
داغرمان ودكتاتورية الكآبة
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8281 - 2025 / 3 / 14 - 15:39
المحور:
الادب والفن
١ - على طوال التاريخ وجد نوع من البشر ذوي وعي وحساسية مرهفة تجاه العالم والأشياء وتجاه العلاقات البشرية المعقدة. ومنهم من يجتاز هذه الحياة كالنيازك، تحترق في خلال لحظات بفعل السرعة والإحتكاك بالمحيط الذي تجتازه. وفي أغلب الأحيان ينتمي هذا النوع من الرجال والنساء لعالم الفن، حيث يذوبون وينصهرون كالشمعة التي تحترق من الجانبين. ومن هؤلاء سانت إكزوبيري، أرثور رامبو، أبوللينير، جون كييتس، لوتريامون، وغيرهم من الشعراء والأدباء والرسامين. ولابد أن نذكر الشاعر السوري المنسي : عبد الباسط الصوفي - 1846 - 1870 وديوانه اليتيم "أبيات ريفية". والكثير من هذه الشخصيات الخلابة والمعذبة من لا يعرفه إلا المتخصصون في الدراسات الأدبية والفنية ويختفون نهائيا من المكتبات الخاصة ومن المكتبات العامة، وأحيانا لا يعرفه أحد خارج حدوده الجغرافية. ومن هؤلاء كاتب وشاعر من السويد أجتاز العالم بدوره في سرعة البرق وعاش حياة كثيفة مركزة ومختصرة. فعلى مدار خمس سنوات، 1945-1949، حقق نجاحًا هائلاً بأربع روايات، ومجموعة من القصص القصيرة، وكتاب عن ألمانيا ما بعد الحرب، وخمس مسرحيات، ومئات القصائد والمقالات الساخرة، والعديد من المقالات السياسية والإجتماعية والأدبية وكمية كبيرة من التحقيقات الصحفية. ثم، فجأة، صمت كامل، حتى خريف عام 1954، حين فوجئت السويد ذات صباح خريفي بالعثور على ستيج داغرمان، مثال جيل من الفنانين والكتاب، ميتًا في سيارته : لقد أغلق أبواب الجاراج وأدار المحرك.
Stig Halvard Dagerman ستيج هالفارد داغرمان (5 أكتوبر 1923 - 4 نوفمبر 1954) كان أحد أبرز الكتاب والصحفيين السويديين الذين ظهروا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، رواياته ونصوصه المشوبة بطابع الوجودية والأناركية تتجاوز الزمان والمكان ويستمر نشرها على نطاق واسع في السويد وإن كانت شهرته محدودة في الخارج، ونظرا للتراجم القليلة لبعض قصصه القصيرة بالعربية - حسب معلوماتنا - فإننا سنحاول في هذه المقالة القصيرة التعريف به وبأهم أعماله.
ولد Stig Dagerman في Älvkarleby عام 1923، في مقاطعة أوبسالاUppsala County الواقعة على بحر البلطيق شمال ستوكهولم، من والدين غير متزوجين، وقضى طفولته في مزرعة صغيرة في ألفكارليبي Älvkarleby، حيث عاش مع أجداده من ناحية والده. أما أمه فقد تركت المزرعة بعد ذلك بوقت قصير، ولم تعد أبدًا، ولم يرها مرة أخرى إلا بعد ما كان في العشرينات من عمره. والد داغرمان، عامل يومي متنقل، استقر في النهاية في ستوكهولم. انضم إليه ابنه ستيج هناك في سن الحادية عشرة. من خلال والده، تواصل داغرمان مع الأناركية وتعرف على مبادئها الأيديولوجية وممارساتها النقابية والنضالية، وانضم إلى اتحاد الشباب النقابي. في التاسعة عشرة، أصبح رئيس تحرير صحيفة الشباب المسماة بـ "العاصفة - Storm"، وفي الثانية والعشرين تم تعيينه محررًا ثقافيًا لـ Arbetaren -"العامل"، والتي كانت صحيفة يومية ناطقة باسم الحركة النقابية. في هذا الجو الفكري لعالم الصحافة، التقى بزملائه من الكتاب وطور أسلوبه في الكتابة وميله للمجادلة والتناظر. بالإضافة إلى الافتتاحيات والمقالات، كتب داغرمان أكثر من 1,300 verses أو قصيدة قصيرة كانت تنشر يوميا، أغلبها سخرية وتعليق على الأحداث الجارية مشوبة بطابع تقدمي وإجتماعي، تندد بالفقر والظلم ـ مثلا قصيدة عن موت طفلين وجدا مجمدين بالبرد في المدينة المقدسة "روما" في ليلة عيد ميلاد المسيح - وقصائد تندد بالحرب والفكر العسكري والأفكار الرجعية والسلطوية عموما. وقد اعتبر هذه الصحيفة "Arbetaren" بمثابة "مسقط رأسه الروحي".
وقد تم توسيع آفاق داغرمان السياسي والفكري بشكل كبير من خلال زواجه في عام 1943 من آن ماري جوتز Annemarie Götze، لاجئة ألمانية تبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا. كان والدها فرديناند Ferdinand ووالدتها إيلي Elly، من الأناركيين النقابيين البارزين، أضطرت الأسرة للهروب من ألمانيا النازية لتجد نفسها في قلب الحركة الثورية في برشلونة. عندما سحق الفاشيون الإسبان بقيادة الجنرال فرانكو بوحشية التجربة الاجتماعية الأناركية النقابية هناك. هربت العائلة Götzes ثانية عبر فرنسا والنرويج وجيش هتلر والجستابو في أعقابهم، إلى السويد المحايدة والتي منحتهم اللجوء السياسي. عاش داغرمان وزوجته الصغيرة مع أقاربه، ومن خلال هذه العائلة، والتدفق المستمر للاجئين الذين مروا عبر منزلهم، تمكن داغرمان من الإحساس بنبض أوروبا والتعرف على التوجهات السياسية والإجتماعية وتكوين فكرة عامة عن الجو المشحون لهذه الفترة الشديدة الإضطراب. ٢ - داغرمان - الحياة الفنية والنهاية السريعة
في عام 1945 ، نشر ستيج داغرمان في الثانية والعشرين من عمره روايته الأولى Ormen - The Snake - الأفعى-، لقد كانت قصة معادية للعسكر وللعسكرية مع فكرة "الخوف" كموضوع رئيسي لها، وهو توجه طبيعي لروح العصر في زمن الحرب. أعطته المراجعات النقدية لهذه الرواية الأولى في الصحف المتخصصة سمعة إيجابية ككاتب لامع وينتظر له مستقبل زاهر. وعلى أثر ذلك ترك عمله في الصحيفة "Arbetaren" ليتفرغ كلية للكتابة الأدبية مع مواصلة نشر قصائده في هذه الصحيفة التي يعتبرها مسقط رأسه الروحي كما سبق القول. وفي العام التالي، نشر داغرمان De dömdas ö - The Island of the Doomed - جزيرة المنكوبين - ، التي أتم كتابتها في خلال أسبوعين، كما لو أنه "ترك الله يقوم بالكتابة بدلا منه" كما قال بعد ذلك. القصة تحكي حياة سبعة بحارة غرقت بهم سفينتهم، وكل منهم محكوم عليه بالموت، كل منهم يسعى إلى شكل من أشكال الخلاص على طريقته.
في عام 1946 ، أصبح داغرمان اسمًا مألوفًا في السويد من خلال رحلته الصحفية إلى ألمانيا التي مزقتها الحرب ليجري تحقيقا عن حياة هذا الشعب بعد الهزيمة وفشل المشروع النازي. نُشر تحقيقه لاحقًا في شكل كتاب بعنوان Tysk Höst ـ الخريف الألماني. بدلاً من إلقاء اللوم على الشعب الألماني في فظائع الحرب، وبدلا من وصفهم بالجنون أو الشر كما أعتادت أن تفعل الصحافة الغربية في ذلك الوقت، صور داغرمان الاعتيادية البشرية للرجال والنساء الذين سحقتهم الحرب ومع ذلك واصلوا الحياة بين ألأنقاض. بالنسبة له، يكمن جذر الكارثة في عدم إلقاء الضوء الكافي على دور المنظمات والمؤسسات الكبرى التي تسير الجماهير وتقودها نحو الدمار والحروب والتي تعيق التعاطف والمسؤولية الفردية تجاه الآخرين وتتخلى نهائيا عن مسؤوليتها ويصبح دورها الوحيد هو طاعة أوامر الآلة الكبيرة، المنظمات الكبرى التي يندد بها هي المؤسسات العسكرية والدينية ومؤسسة الدولة. ويرى أنه بدون المسؤولية الفردية والتضامن الجماعي فإن البشرية بأسرها مهددة بالإنقراض.
"أعتقد أن العدو الطبيعي للإنسان هو التنظيم الضخم mega-organization، لأنه يحرمه من الضرورة الحيوية ليشعر بالمسؤولية تجاه رفاقه، يساهم في تقييد إمكانياته لإظهار التضامن والحب، وبدلاً من ذلك يحوله إلى أداة لقوة متسلطة، في البداية توجه قوته ضد الآخرين، ولكن في النهاية ستتوجه ضده هو نفسه ".
ثم نشرمجموعة من القصص القصيرة بعنوان Nattens lekar - ألعاب الليل - The Games of Night سنة 1947 ، حظيت باستقبال إيجابي من قبل النقاد وبتقدير كبير من الصحافة المتخصصة. أغلب هذه القصص ألفها في مزرعة أجداده، وهي مكتوبة من منظور سيكولوجية الأطفال، استخدم فيها أسلوبًا طبيعيًا رقيقًا يجذب جمهورًا واسعًا من القراء. أما أشهر قصص داغرمان القصيرة، "Att döda ett - To Kill A Child " "أن تقتل طفلا"، فإنها تجسد التأثير القوي للسينما والسرد السينمائي على كتاباته. في صور متتابعة، صورة تلو الأخرى، أدرك كيف يوصل للقاريء أن سلسلة من الأحداث العادية والطبيعية تمامًا وربما المملة تصبح مقدمة لمواقف الرعب.
في نفس العام 1947، افتتحت مسرحيته الأولى "Den dödsdömde - The Man Condemned to Death” الرجل المدان حتى الموت" التي عرضت في ستوكهولم، سلسلة من المسرحيات نشرت في العام التالي، وكذلك نشر روايته الثالثة Bränt barn - A Burnt Child - طفل محترق. القصة هي سرد لحالات سيكولوجية، تتعلق بعذاب ثلات شخصيات مضطربة شاب ووالده وعشيقة والده. كتب داغرمان بعد ذلك رواية واحدة أخرى فقط بعنوان Bröllopsbesvär - Wedding Worries ـ مخاوف الزفاف، نشرت في عام 1949، اعتبرها البعض أفضل ما أنتجه. في هذه الرواية، عاد مرة أخيرة إلى مزرعة أجداده لدراسة شخصياتهم ولوصف الحالة الإنسانية، بما في ذلك البحث عن السكينة أو الغفران والخلاص. في هذا الكتاب، استخدم داغرمان، الذي جرب طوال حياته المهنية أساليب أدبية مختلفة، ما يسمى بتيار الوعي stream-of-consciousness كطريقة للإحاطة بالشخصيات المختلفة وإعطائها عمقها الإنساني.
بعد نجاحاته المبكرة والسريعة، استمرت التوقعات والآمال المعقودة عليه في الإزدياد، وهذا الضغط الخارجي ساهم في إنكفاءه على نفسه وإزدياد إحساسه بالكآبة والقلق، وأصبح يشعر بعدم الإرتياح مع عائلة Götze التي انتقلت لتعيش في الضواحي. وكان عليه أن يجد مخرجا من هذه العزلة النفسية والوحدة الوجودية الخانقة، فوجد في المسرح وجوه الإحتفالي وطقوسه مهربا من الجو العائلي الخانق. بصفته كاتبًا مسرحيًا، وحتى مخرجًا في إحدى المناسبات، التقى بالعديد من أصدقاء وعشاق عالم المسرح والتمثيل والإخراج ومصمموا الديكورات وغيرهم، تاركًا عائلته لفترات قد تطول أو تقصر في كل مرة. في نهاية المطاف، حدث ما لا مفر من حدوثه في مثل هذه الظروف وانفصل داغرمان عن زوجته الشابة النقابية والناشطة السياسية من أجل العيش مع ممثلة مشهورة في ذلك الوقت، أنيتا بيورك Anita Björk، وتزوجها لاحقًا سنة 1953. وقد أتيحت الفرصة لداجرمان لزيارة هوليوود مع شريكته الجديدة، التي تحصلت عقدًا للعمل مع ألفريد هيتشكوك في سنة 1952 لتكون صاحبة الدور الرئيسي في فيلم I Confess، وذلك بعد أن رآها في أحد أفلامها الكبيرة Miss Julie. على الرغم من أنهم أقاما صداقات مع بعض الممثلين مثل مونتغمري كليفت Montgomery Clift، إلا أنهم لم يهتموا كثيرًا بالحياة في لوس أنجلوس أو الجو الاستبدادي لحياة الاستوديو. وبعد بضعة أشهر، حزموا حقائبهم للعودة إلى السويد. كان الحدث الذي سارع في فشل مشروع الإستقرار في مدينة السينما هو أنهم أتوا إلى هوليوود مع طفلهم الصغير، رغم عدم زواجهم بعد. والأسوأ من ذلك بالنسبة لهوليوود الشديدة الرجعية في ذلك الوقت من أوائل الخمسينيات، أنه لم يتم الطلاق بعد بين ستيغ وزوجته الأولى. عندما طالب الاستوديو بتقديم ملف Stig للحصول على طلاق سريع في الولايات المتحدة، رفض العشيقان هذا التطفل والتدخل في خصوصيتهما، وهنا أمر رئيس ستوديوهات وارنر، جاك ل. وارنر Jack L. Warner هيتشكوك أن يجد له ممثلة أخرى، وعادوا إلى ديارهم بدون أي ندم. وقد لعبت الممثلة آن باكستر Anne Baxter دور Ruth Grandfort بجانب مونتوجمري كلفت الذي لعب دور القسيس لوجان Logan في هذا الفيلم المبني على مسرحية Nos deux consciences للكاتب الفرنسي بول أنثيلم Paul Anthelme.
لكن الراحة النفسية والعاطفية كانت شديدة الصعوبة وبعيدة المنال عاطفيا وماليا. شعر داغرمان بالذنب لترك أبنائه الصغار وزوجته، وتحمل الديون المتزايدة لدعم عائلته الأولى. وكان يفترض ويحاول إقناع نفسه بأنه سيتمكن من تسديد ديونه عندما ينشر كتابه التالي ... أثناء محاربته للاكتئاب المتفاقم والقلق المتزايد وعسر الكتابة وغياب "الإلهام" الذي ينهك أعصابه، كتب داغرمان مقالًا يشبه السيرة الذاتية "Vårt behov av tröst är - Our need for consolation is insatiable - " حاجتنا إلى العزاء لا تشبع - حول كفاحه والبحث عن طريقة للبقاء على قيد الحياة. كما كتب "Tusen år hos gud" A Thousand Years with God -ألف سنة مع الله" - جزء من رواية جديدة كان يخطط لها - والتي أشارت إلى تحول إلى اإتجاه أكثر "تجريدية" في كتاباته. على الرغم من صراعاته، واصل داغرمان تقديم أشعاره الساخرة اليومية لـ "Arbetaren"، آخرها الذي نشر في 5 نوفمبر 1954، في اليوم التالي لانتحاره في خريف عام 1954 مختنقا بدخان سيارته.
تتعامل أعمال داغرمان مع المشاكل العالمية للأخلاق والضمير، والجنس والفلسفة الاجتماعية، والحب، والتكافل، والعدالة. على الرغم من المحتوى الكئيب والشديد السواد، فإنه يعرض أيضًا حسًا هزليًا ونوعا من السخرية اللاذعة. وقد قارن النقاد أعمال داغرمان بأعمال فرانز كافكا وويليام فولكنر وغيرهم من القلقين، يعتبره الكثيرون الممثل الرئيسي لمجموعة من الكتاب السويديين تسمى "Fyrtiotalisterna" "كتاب الأربعينيات" الذين واجهوا مشاعر الوجود بالخوف والاغتراب والقلق وعدم المعنى الشائعة في أعقاب فظائع الحرب العالمية الثانية. ٣ - ستيغ داغرمان Stig Dagerman النقابي والناشط الأناركي الذي عذبه الخوف من الفشل واليأس من وجود العدالة في هذا العالم العدائي، مؤلف عمل غني ومبهر شيده في سنوات قليلة، بين المجد المبكر الذي عرفه قبل الحرب وانتحاره عام 1954 وهو لم يتجاوز الـ 31 سنة. ومن أعماله التي ذكرناها في مقالات سابقة، عمل كان السبب المباشر في إهتمامنا بهذا الكاتب، وهو قصة قصيرة بعنوان "الله يزور نيوتن". ذلك أن داغرمان بدأ مشاريع عديدة لم يستطع الذهاب إلى نهايتها، مشاريع قصص بدأ كتابتها في فترة "غياب الوحي أو الإلهام" والتي انقطع فيها عن النشر نهائيا، وقبل وفاته، كان ما يزال يتصارع مع مشروع بدأه يتعلق بحياة الكاتب السويدي الأسطوري كارل جوناس لوف المقفيست - Carl Jonas Love Almqvist 1793-1866، الكاتب الذي غادر السويد هربا من العدالة التي تلاحقه بمجموعة من الاتهامات المتعلقة بأعمال إجرامية، ليعيش حياة غامضة وفقيرة في الولايات المتحدة. والذي تبقى من هذا المشروع هو المقدمة ومقتطفات من الرواية. وقد نشرت المقدمة تحت عنوان "Tusen år hos gud" / "A Thousand Years with God" ألف عام مع الله، وذلك بعد إنتحاره، وبعد ذلك تم نشر "الله يزور نيوتن 1727" - God visits Newton. وهي القصة التي تهمنا في هذا المجال.
"في بعض الأحيان يشعر الله بالملل من كينونته النورانية الصامتة. الخلود يشعره بالغثيان، فيترك معطفه يسقط. نرى ظلًا يتشكل بين النجوم، ياتي الليل. في بيت نيوتن في لندن نستعد، دون أن ندرك ذلك، لتلقي الزيارة الغريبة." هكذا تبدأ هذه القصة المتعلقة بالله ونيوتن، بالقانون والأخلاق، بطريقة شعرية غامضة.
نيوتن في معمله في لندن ذات ليلة ممطرة من ليالي عام 1727، الهواء مشبع بالرطوبة والضباب، وأوراق البلوط لا تكف عن التساقط، والشموع مضاءة وكذلك المدفأة، وخادم نيوتن يجهز سفرة الشاي لمنتصف الليل ونيوتن منكب على مكتبه يعاين أوراقه. الله في هذا الوقت يتسكع مللا بين النجوم ولم يجد ما يسليه في هذا الكون الشاسع المشبع بالصمت، فقرر أن يقوم بزيارة للعالم الشهير في ليلة وفاته وذلك لمجرد تقضية الوقت كما يبدو. وما أن يدخل حجرة نيوتن الدافئة حتى يتحول الصمت إلى ما يشبه العاصفة، فيهرب الصمت بجنون وتتكون دوامات ودوائر هوائية تصفر ودوامات مضادة؛ قلق غريب ينتاب العالم العجوز، يقف ويتساءل عما يحدث، يحول رأسه الثقيل من ضوء الشمعدانات، في الظل كان الخادم واقفا وفي يديه المرتجفتان تلمع السفرة. ويترك الخادم المشدوه سفرته تسقط من يديه، غير أنها لا تسقط على الأرض، بل تظل تتأرجح في الفضاء للحظات ثم تبدأ ترتفع تدريجيا حتى تلتصق بالسقف. ويشعر نيوتن بالمؤامرة، هناك من يريد أن يسخر منه ويثبت له خطأ نظريته، ثم يشعر بالغضب، ويأخذ غليونه ويقذفه في الهواء ولكنه يرتطم بقوة بالسقف وينكسر وتتطاير الشظايا ولكنها بدورها لا تسقط بل تظل متراكمة ومتشبتة بالسقف. وعندما عرف ما يحدث أراد أن يدون ما يشاهده في كراسته، غير أنه ما أن فتح المحبرة، حتى أخذ الحبر يتصاعد في خيوط متموجة نحو الأعلى. الله في الحقيقة أراد تعطيل قوانين الجاذبية في منزل العالم الفيزيائي الكبير، باستثناء نيوتن نفسه الذي يظل مشدودا إلى أرضية غرفته. يشعر الرجل العجوز بالحيرة والغضب في نفس الوقت عندما يرى أثاثه وخادمه يلتصق بالسقف وهو في الأسفل. ثم يفهم نيوتن ما يحدث : معجزة، إن ما يحدث أمام عينيه هو معجزة بالتأكيد. وما هي المعجزة؟ المعجزة بالضرورة استثناء. ومن يستطيع أن يصنع المعجزات من غير الله، والذي هو ذاته إستثناء؟ ولكن يا له من استثناء مقدس، استثناء للقوانين التي من المفترض أنه هو التي سنها ووضعها حجرا حجرا. ولإختبار تعطيل القوانين ومصداقية المعجزة، يرتكب نيوتن فعلًا لا يسمح له سنه وصحته، يثني ركبته ويتنفس بعمق، ويجمع قوته ليتحول إلى نابض يدفعه إلى أعلى، ويقفز نحو السقف. لكن خادمه، الذي ملأ بالفعل فنجان سيده بالشاي بقي ينتظر عبثا، نيوتن لم يستطع أن يطير ليشرب شايه قبل النوم، هو الذي تعود أن تسقط التفاحة على رأسه بدلا من القفز لإقتطافها. ثم يسأل نيوتن الله : "ما الذي تبحث عنه ، سيدي؟" يجيب الله وهو يرتجف من البرد: قلب العالم هو صورتي. ويشير نيوتن إلى الساعة ويقول له : "هذه صورتك، التي تحاكيك مثلما القرد يقلد الإنسان. تمامًا كما تدور حول قرص الكون على أمل العثور على خلل في التكوين يمكنك من خلاله اختراقه، كما تجري إبرة هذه الساعة حول ميناها وراء الزمن الذي تريد لحاقه دون جدوى، فلن تلحقه أبدا. أنا أفترض أنه خلال رحلاتك الشاسعة، ومؤخراً عبر بحار العالم، أدركت بنفسك أن كمال "الخلق" هو حجر الزاوية في المصائب الإلهية والإنسانية. الخالق والمخلوق - كلانا يعاني من الرغبة التي لدي كل منا لبعضنا البعض، ولكن هذه الرغبة لن تتحقق ولن تشبع أبدًا. في الحقيقة، أقول لكم : كان من الأفضل لو خلقتم عالماً به بعض العيوب بحيث يكون من الممكن أن تنزلق فيه وتتسلل من خلال شق سري، مثل أي وأحد منا، بدلا من هذا الكون المطلق الكمال والمغلق والذي ينفي عنه "الخالق" إلى الأبد. أقول لكم أيضا : السلام لا يوجد إلا في القوانين. أنا أشفق عليك سيدي، ولكن الوقت يمر". في نهاية المناقشتة، يقترح نيوتن على الله أن يحوله إلى إنسان حتى يتمكن في النهاية من تجربة حياة مخلوقاته ويعرف ماذا يجري في عقولهم. وبصوت يشبه المداعبة يهمس نيوتن في أذن الله، :
"أعتقد أن لدي هدية لك، سيدي.
أي هدية ؟
حياة إنسان.
لماذا؟
لكي تولد وتموت. لأنه فقط كبشر، سيدي، يمكن أن نحيا هذا الزمن كقانون وليس كرعب. وضمن القوانين فقط ،سيدي، من الممكن الوصول إلى قلب العالم.
أعطني هذه الهدية إذن."
داغرمان يقلب الميثولوجيا ويغير أدوار الأبطال، ويحاول أن يعلم الله ما هي حقيقة الإنسان. يقول نيوتن لله: "صديقي، أنت تعرف الآن هذا الألم البشري المتمثل في الرغبة في القيام بمعجزة دون امتلاك القوة اللازمة للقيام بذلك. تعلم الآن أكبر عذاب يمكن أن يعانيه لإنسان: الوعي باستحالة الحب." يجب أن يصبح الله إنسانًا، للانضمام إلى مخلوقاته المزرية وعليه أن يمر عبر سلسلة من التجارب والإختبارات ليتعلم التواضع والخوف والألم .. إلخ. نيوتن، شخصية رمزية للعالم والقانون الطبيعي، يحل محل السلطة الإلهية المتمثلة في الإستثناء والمعجزة. والآن أصبح العلم هو الذي يصنع المعجزات، أما الله فقد أختفى منذ أن أصبح بحارا بسيطا يجوب العالم. بعد ذلك، يموت نيوتن.
هذه القصة هي المشروع الوحيد الذي قاده ستيج داغرمان إلى نهايته في فترة الصمت الأدبي الذي يصادف السنوات الأخيرة من حياته. على غرابة القصة والتشابك بين العناصر الرمزية المختلفة التي تعمل على نسج معنى هذه الحكاية الفلسفية، حيث الخيالي هو الوسيلة السردية التي تسمح لداجرمان باختبار نظرياته وآراءه في العلاقات بين القوانين العلمية والقوانين الإلهية، بين الإنسان والله. هذا الأخير، الذي سئم وتضايق من الخلود وتآكله السأم من وحدته وعزلنه الأبدية، يريد الانضمام إلى خليقته، التي بدورها تعاني من اليأس من عدم رؤيتها وإعتبارها من قبل الله. يقرر االله في النهاية أن يتخلى عن المعجزة "المعجزة تصدم المجدف وتجعل المؤمن يأمل عبثًا، لكن قلب الكون لا يتأثر" ويوافق أن يتحول إلى إنسان. إن تحوله إلى الإنسانية يمر بمرحلة التعلم الرهيب للخوف والمعاناة والإذلال، في مشاهد تذكرنا بكتابات داغرمان الأكثر قتامة، الكاتب الذي يطارده البؤس البشري، يسحقه ثقل العالم، وغير قادر على إيجاد الوزن المناسب للمسؤولية التي يحملها على كتفيه. نجد تدريجيا المواضيع المفضلة لداغرمان: الإحساس بالذنب والوحدة التي تحاصر الفرد؛ البحث عن سبب للحياة ينير هذا الوجود العبثي، استحالة استيعاب أي شيء مهما كانت قيمته ورعب فقدانه؛ الهوس بالموت وترك أثر للأجيال القادمة؛ وأخيرا الصمت كملجأ نهائي. حكاية فلسفية لا تصدق، تجمع بين الخيال والسخرية، حيث يجمع داغرمان بين الله ورجل العلم في حوار عبثي في عالم يشبه الحلم، خارج معايير الزمان والمكان والمنطق، ويقدم تفكيرًا وتحليلا بارعًا في السلطة، القانون الإلهي، حالة العلم ومعنى الحياة.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حدود العقل
-
العلم والجهل والذكاء
-
اليوم العالمي للدفاع عن حقوق النساء
-
عن الشعر والملل
-
إشكالية الإيمان عند كانط
-
الشوكولاطة وجنية البحر
-
عن الغربة والإستلاب
-
عن الثورة والندم
-
التضخم في التقنين
-
عدمية كانط
-
جاكوبي ضد كانط
-
الله والطبيعة ووحدة الوجود
-
شبح سبينوزا
-
صلاح الدين وناثان الحكيم
-
الخاتم السحري
-
الدين وعصر التنوير
-
جاكوبي ومحاولة تحطيم العقل
-
صدق المنجمون ولو كذبوا
-
ظاهرة الشخص الزائد
-
والتر بنيامين والزمن المتراخي
المزيد.....
-
فنان مصري يتصدر الترند ببرنامج مميز في رمضان
-
مجلس أمناء المتحف الوطني العماني يناقش إنشاء فرع لمتحف الإرم
...
-
هوليوود تجتاح سباقات فورمولا1.. وهاميلتون يكشف عن مشاهد -غير
...
-
ميغان ماركل تثير اشمئزاز المشاهدين بخطأ فادح في المطبخ: -هذا
...
-
بالألوان الزاهية وعلى أنغام الموسيقى.. الآلاف يحتفلون في كات
...
-
تنوع ثقافي وإبداعي في مكان واحد.. افتتاح الأسبوع الرابع لموض
...
-
“معاوية” يكشف عن الهشاشة الفكرية والسياسية للطائفيين في العر
...
-
ترجمة جديدة لـ-الردع الاستباقي-: العدو يضرب في دمشق
-
أبل تخطط لإضافة الترجمة الفورية للمحادثات عبر سماعات إيربودز
...
-
الأديب والكاتب دريد عوده يوقع -يسوع الأسيني: حياة المسيح الس
...
المزيد.....
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
المزيد.....
|