أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - تمثلات الفنتازيا والواقعية في رواية فرانكشتاين في بغداد لأحمد سعداوي















المزيد.....



تمثلات الفنتازيا والواقعية في رواية فرانكشتاين في بغداد لأحمد سعداوي


صباح هرمز الشاني

الحوار المتمدن-العدد: 8280 - 2025 / 3 / 13 - 23:36
المحور: الادب والفن
    


1-القط نابو . . الصوت العاقل.
صباح هرمز
ليس جديداً على الرواية العراقية والعربية خصوصاً، والرواية الأجنبية بشكل عام، اتخاذها من الحيوانات الأليفة، كالكلاب والأحصنة والقطط؛ أبطالاً أو شخصيات ثانوية في متنها الحكائي. ولو سعينا الإحاطة بالروايات التي تسير على هذا النهج، لتداعت إلينا مجموعة كبيرة من العناوين، ولعل أبرزها روايتي (الكلب الأبلق الراكض وراء البحر) و (وداعا يا غولساري) لجنكيز إيتماتوف، ورواية (النهايات) لعبد الرحمن منيف، و(مذكرات كلب عراقي) لعبد الهادي سعدون، بالإضافة الى رواية (تل المطران) لعلي بدر، و (آخر الملائكة) لفاضل العزاوي، وأخيرا الرواية التي نحن بصددها والموسومة (فرانكشتاين في بغداد) الحائزة على جائزة بوكر العربية 2014 لمؤلفها الروائي أحمد سعداوي، الصادرة عام 2013.
على الأغلب كان لنجاح تجربة الفن السابع في تبني هذا المنحى، وتوظيفه على نطاق واسع، دوراً كبيراً في انتقاله الى الرواية، ولا سيما الحيوانات الأليفة منها، ذلك لتعاطف المتلقي مع هذه الكائنات غير الناطقة أكثر من الكائنات البشرية.
قد تأتي هذه الكائنات في هذا الجنس الفني كذلك، وقوعاً تحت تأثير تفاعل المتلقي معها من أجل تسويقه، ولكن ليس بمنأى عن المسوغات التي تؤكد انشغال هذه الكائنات في الفضاء المسموح لها، لأن عكس ذلك يؤدي بالإضافة الى فقدان العرض أو أي نص آخر مقوماته الفنية، ومصداقية المؤلف مع نفسه والمتلقي؛ يؤدي الى فقدان مبررات وجود هذا الكائن غير الناطق وسط كائنات ناطقة.
"نابو" فرانكشتاين جاءت (ولادته) طبيعية، وبدون تسويق، جاءت كذلك لأن ثمة ما يبرر وجوده داخل النص؛ لا لأنه ليس بحاجة الى مسوغات، بل لأن هذا الوجود يتطابق الى حد كبير مع الواقع الذي تعيشه العجوز (أيليشوا) أو أي عجوز أخرى تنتمي الى الطائفة المسيحية التابعة الى الكنيسة الشرقية، إذ أن فقدانها لأبنائها وبناتها، أو بعدهن عنها، يضطرها الى اللجوء الى تربية القطط أو الكلاب، كما في العجوز (أيليشوا) التي أرتأت أن تتبنى القط (نابو)، ليعيش معها كما لو كان أحد أفراد أسرتها، ربما ليعوض عن حرمانها من رؤية بنتيها، وأستشهاد أبنها دانيال في الحرب العراقية الايرانية.
إن المؤلف كما يبدو لي، قد أجرى لقاءات عديدة مع أبناء هذه الطائفة، وقام بجولات وزيارات مكثفة لبيوت المسيحيين، وأستلهم شخصية القط نابو وصورة القديس مار كوركيس من إحدى هذه الزيارات، ولكنه أثناء السرد أضاف اليهما من وحي خياله، وفي كلتا الحالتين، سواء استلهمهما من صلب الواقع، أو من صنع الخيال؛ فقد أستطاع وهذا هو المهم، أن يجد المسوغات المقنعة لما يبرر وجودهما في الرواية، لا بل أن هذا الوجود لعب دوراً كبيراً ليس في انجذاب المتلقي لقراءة الرواية بشغف ووله كبيرين، وإنما أيضاً في رفع مستواها الفني بحيث أمسى موازياً لمستوى أحداثها الغريبة، وذلك من خلال تصديه للفترة التي أعقبت غزو دول التحاف للعراق، وما جرى في هذا البلد من أحداث كارثية.
إن التصدي للأحداث الكبيرة في كافة الفنون بشكل عام، والرواية على نحو خاص، بحاجة الى مستوى فني رفيع، وكلما أرتفع سطح الأحداث؛ على سقف المستوى الفني أن يجاريه، أو يتجاوزه، ولعل تعويل المؤلف على الفانتازيا في أسلوبه السردي، ورسم معالم وأبعاد الشخصيات، يؤكد أنه سار على هذا النهج القائم على التوازن بينهما.
معظم شخصيات الرواية كذلك، تتسم بالفانتازيا، ليس فقط نابو، إذ بالرغم من أنه ظل محتفظاً بطبيعته الحيوانية، الا أنه بدا أقرب الى طبيعة البشر منه الى طبيعة الحيوان، والشخصيات الأخرى كهادي العتاك والشسمه، كانت على العكس؛ أقرب الى طبيعة الحيوان الغرائزية منه الى البشر. وهنا تكمن المفارقة والنقيضة بين شخصية نابو وبقية الشخصيات.
أقول نابو أقرب الى طبيعة البشر، ليس لأنه أكثر إدراكاً وفهماً من الشخصيات الأخرى فقط، بل لأنه يتحلى بروح انسانية أكثر منهم أيضاً، وتتمظهر هذه الروح في مراقبة العتاك والشسمه، خشية أن يلحقا بالعجوز سوءاً عبر الجدار الفاصل بين بيت العجوز وبيت العتاك، وربما لهذا الغرض ارتأى المؤلف أن يجعل من عيني القط نابو بمثابة عدسة، تلتقط كل ما يدور حولها من أحداث، وتقوم في الوقت نفسه بتوضيحها للمتلقي، عبر موائه وحركة جسده.
وللتوازي بين الشخصيات الإيجابية والسلبية، وإجراء وجه التقابل والمقارنة بينهما؛ يتخذ من زوغان عيني القديس مار كوركيس في الصورة المعلقة على جدار بيت العجوز أيليشوا، جسراً يمتد بين العجوز والقديس مار كوركيس للحوار بينهما، وتبوح العجوز باللواعج التي تعتمل في دواخلها، لفقدانها أبنها دانيال في الحرب الايرانية العراقية، على أمل أن يحقق القديس الأمل الذي وعده بها، وهو عودته اليها سالماً، وبحث هادي العتاك عن أعضاء جسم الانسان المبتورة والمتناثرة في شوارع العاصمة بغداد جراء الانفجارات التي تحدث فيها وجمعها في كيس وتركيبها في جسم انسان آخر من أجل إعادة الحياة اليه ثانية، ما أدى لاحقاً الى قتل الشسمه للناس الأبرياء كي يستمر هو في ديمومة الحياة.
ان مراقبة نابول لعتاك وزوغان عيني القديس مار كوركيس لا يشي بأنهما يدركان بأن العجوز أيليشوا في وضع لا يحسد عليه فقط، بل أنهما حريصان على حياتها أيضا، سيما هي بدون معين، وهادي العتاك وفرج الدلال يسعيان السطو على بيتها والأثاث الذي يحتويه.
تقع هذه الرواية في (352) صفحة، وتتكون من تسعة عشر فصلاً. وإذا عرفنا أن القط نابو على امتداد هذه الفصول؛ يظهر على سطح الأحداث اثنتين وعشرين مرة، نستنتج من خلال ذلك، أنه يظهر في كل فصل مرة واحدة، وفي بعض الفصول أكثر من مرة.
وقد يكون ظهور نابو بهذا الكم، وبحكم عدم قدرته على الكلام؛ فرصة سانحة للمؤلف لاستغلال عدم قدرته على الكلام باللجوء للتعبير عما يدور في خلجاته عن طبيعة الشخصية التي تشترك معه داخل الكادر أو المشهد، من خلال حركة الجسد أو المواء، وأحياناً كلاهما، سواء كانت هذه الشخصية شريرة أو نزيهة، وماهية الحدث سواء كان درامياً أو غير درامي؛ ليمنحه هذان العنصران ميزة انجذاب المتلقي اليه.
كما أن هذا التعبير المتمثل بهذين العنصرين، لأنه يأتي مقروناً بما يحدث حالياً (الآن)، وما سيحدث لاحقاً، أي بالتعويل على قراءة اللحظة الراهنة، والتنبؤ بما يحدث في المستقبل؛ يكسبه القط أهمية مضاعفة، وبناء على ذلك، وبغض النظر عن كون هذا التعبير يمثل صوت المؤلف، يغدو في الوقت نفسه كأي متلقي، له وجهة نظر خاصة به، بالأحداث الجارية في الرواية، وبمعنى أدق أن المؤلف بالإضافة الى أنه يتيح للقط فرصة أن يكون بديلاً له وللسارد الموضوعي؛ يتيح له فرصة أن يكون (متلقياً داخل النص) أيضاً.
وللتأكيد على ذلك، أسوق بعض النماذج التي يظهر فيها القط نابو على سطح الأحداث، ويعبر بحركة جسده وموائه عن طبيعة الشخصيات، وماهية الأحداث؛ بوصفه سارداً ومتلقياً.
في الصفحة (15) من الرواية ترد الفقرة التالية: (كانت تعد جواباً في نفسها حين تفتح أيليشوا باب البيت ويرفع نابو رأسه اليها وكأنه يسألها ها؟. . ما الخبر؟).
تتكون هذه الفقرة من عبارتين، العبارة الأولى: (في استعداد أيليشوا للإجابة على الأسئلة التي يطرحها نابو، أثناء فتحها باب البيت)، والعبارة الثانية: (في رفع نابو رأسه الى أيليشوا وكأنه يسألها). العبارة الثانية تأتي بشكل غير مباشر عن طريق الإشارة، بحركة الجسد والعبارة الأولى بشكل مباشر عن طريق استعداد العجوز للكلام. ولكن كما يبدو أن كليهما نطقا بشيء ما غير مفهوم وواضح، ومع هذا أستطاع المتلقي أن يفك رموزه.
كلا العبارتين تشيان بالمعنى ذاته، حيث مثلما نابو على اطلاع بالانفجار الذي هز بغداد، كذلك فهو على علم بأن أيليشوا أثناء حدوث الانفجار كانت في طريقها الى الكنيسة، بهدف الاتصال هاتفياً ببنتيها ماتيلدا وهيلدا المقيمتين في أستراليا اللتين تصران عليها للالتحاق بهما، وترفض طلبهما في كل مرة. لذلك فقد هيأت نفسها بالإجابة على أسئلة القط في كلا الأمرين، في الانفجار، وفي مهاتفتها لهما.
وتدلان على أن الحوار الدائر بينهما ليس جديداً، ويفهم كل واحد منهما لغة الاخر، أو كأن القط بعد الانفجار يريد أن يسمع منها المزيد، لأنها قادمة من خارج البيت ولا يعرف ما حدث تماماً، ويهمه الاطلاع على أعداد القتلى والجرحى التي خلّفها هذا الحدث، لأن ذلك يهمه ويقرر مصيره ومستقبله ببقائه في هذا البيت أو على العكس من ذلك تشرده. ولربما هي أيضاً هيأت نفسها للجواب على عدم توصّلها الى حل مرض مع بنتيها ماتيلدا وهيلدا بخصوص هجرتها من عدمها الى أستراليا، لأن نابو يخصه هذا الموضوع بالدرجة ذاتها الذي يخص أيليشوا إن لم يكن أكثر منها، ذلك لأن هجرتها يحض فرج الدلال على الاستيلاء على منزلها، ليؤدي ذلك الى تشرد نابو، وتحوله الى قط سائب.
وفي الصفحة (42): (كان هناك قط عجوز منتوف الشعر ينظر اليه بعيون ثابتة، وكأنه يراقب ما يفعله هادي العتاك. أصدر مواءً عميقاً. أخبره بشيء ما، ثم أستدار بهدوء ليختفي خلف الحائط المهدم.).
كان هادي العتاك أثناء ما كان يراقبه نابو، منهمكاً بالبحث عن الجثة المتفسخة التي اختفت، بعد أن أكملها وأعاد اليها الحياة عن طريق وضع أنف طازج في الثغرة السوداء داخل وجه الجثة.
إذا كان المقطع الأول قابلاً لشطره الى جزأين، أو عبارتين، فإن هذا المقطع قابل الى شطره أربع أو خمس عبارات، وهي: قط عجوز، عيون ثابتة، أصدر مواء، أخبره بشيء، ليختفي خلف الحائط المهدم.
1- قط عجوز: لمفردة العجوز أكثر من دلالة، فهي لا تعني أن صاحبها يمتلك الخبرة والتجربة فقط، وإنما الى جانبهما الذكاء المفرط، بدليل أن نابو في الوقت الذي يدخل في حوار مع أيليشوا، يراقب في الوقت نفسه جاره العتاك، ومراقبته لم تأت جزافاً، بقدر ما لها صلة في حرصه على حياة أيليشوا وعدم الاستيلاء على بيتها والأثاث الذي فيه، وحرصه على نفسه أيضاً من التشرد في شوارع البتاوين وبين أزقتها.
2- ينظر اليه بعيون ثابتة: وكأن المؤلف يريد أن يقول للمتلقي، من خلال نظرة نابو الواثقة من نفسها بأنه يتوقع عمل كل شيء سيء وغريب ويتجاوز تصور الانسان من هادي العتاك، بدليل ها هو يراه يخرج أنفاً ويضعه في الثغرة السوداء داخل وجه الجثة.
3- أصدر مواءً عميقاً، أخبره بشيء: العبارة الثانية من هذا المقطع (أخبره بشيء) زائدة، ذلك ان العبارة الأولى (أصدر مواءً عميقاً) تفي المعنى، وتؤكد على عدم رضا نابو عن ممارسات العتاك التي تثير لديه الشك بأنه بصدد إقدامه على عمل خطير، وحذره منه.
4- ليختفي خلف الجدار المحطم: ربما تأتي عبارة (الجدار المحطم) هنا، إيحاء للمتلقي، بأن تحذير نابو للعتاك كان صائباً بدقة، ذلك ليس لأن الجدار القائم بين بيتي العجوز والعتاك سيتحطم فقط أثر مغادرة العجوز للبتاوين قاصدة أستراليا في نهاية الرواية، إنما ستنقلب المنطقة برمتها رأساً على عقب.
في الصفحة (63): (بعيون متسعة ومرعوبة كان نابو يموء بشكل متقطع بأصوات خافتة وقصيرة وكأنه يتحدث مع نفسه).
كما أبدى نابو ارتيابه بهادي العتاك، كذلك أبدى الشكوك ذاتها، بالشخص الذي تخيلت العجوز، أو هذا ما تتمناه أنه نجلها دانيال العائد من الحرب العراقية الايرانية، ليتحول نابو من عدسة ترصد كل الأشياء المحيطة بمنزل العجوز الى صوت العاقل، ذلك للتأكيد على صحة ظنونه: (يهرب في الصفحة (66) نحو سطح المنزل ويطل برأسه من جديد على باحة بيت هادي العتاك)؛ ربما للتأكد من أن الزائر الجديد قد يكون هادي العتاك، وجاء متنكراً بزي وملامح يصعب التعرف عليه. ولعل حديثه مع نفسه بصوت خافت ومتقطع دليلاً واضحاً على صحة ظنونه، أن الزائر الجديد ليس دانيال، كما أنه ليس هادي العتاك، بل هو شخص آخر، هو الشخص الذي صنعه العتاك، هو (الشسمه).
وللتأكيد على أن الحوار قائم بين نابو والعجوز، جاء في الصفحة (74) من الرواية الآتي:
(كانت عائلة نينوس ملكو تخاف من العجوز وتشعر بالرعب حين تدخل عليها وتجدها تتحدث مع الصور أو القطط الكبيرة التي كانت تمرح في البيت، وأخبرت زوجها مرة أن أحد القطط يرد الكلام على العجوز ويتحاور معها، بل أنها شكت في أن تكون هذه القطط أرواح بشر قامت العجوز بمسخهم بسحرها الشيطاني.).
ويمر القط بينهما وهو يتمسح ببنطلونه ويهر بخفوت:
يمر بين العجوز والشسمه الذي هو دانيال في تصور العجوز، وكأنه يقول لها بأنه ليس دانيال، وها أنا أشم رائحته، محذراً اياها، ثم يتكور بين ساقيها باحثاً عن الدفء، أو كأنه طفق يخشاه ويطلب الحماية.
في الصفحة (226 و227 و228) يرد أسم القط نابو ثلاث مرات على التوالي. في المرة الأولى، تمسد العجوز شعره الذي يتعلق بيدها وهو في حجرها، وتنظر الى صورة القديس مار كوركيس، وتفكر بالعرض الذي قدمته لها أم سليم البيضة، وفي المرة الثانية في الوضعية نفسها، ولكنها لا تفكر بعرض أم سليم، وإنما بأشياء أخرى، والثالثة أغمضت عينيها وثقل رأسها وغفا نابو في حجرها.
توحي الحالات الثلاث أن العجوز، عندما تتعرض لمعضلة ما يزداد تعلقها بنابو والقديس مار كوركيس، ذلك لأنه ليس في حياتها شخص آخر غيرهما له قدرة الاستماع الى شكواها وثرثرتها، ولربما هي من خلال مخاطبتهما بما لا يتجاوز الحديث مع نفسها؛ أو لنقل التفريغ عن همومها؛ تعالج قسطاً لا بأس مما تعانيه. وتقربها لهما على هذا النحو المتميز عن غيرها من المرات، مرده شعورها بانقلاب سليمة البيضة عليها، وهي تقول لها: (أن فرج الدلال رجل شرير وقادر على فعل أي شيء. هو قادر على تزوير سند الملكية الذي تملكه أم دانيال.). في إشارة واضحة الى غياب القانون، واستيلاء الميليشيات المنفلتة على معظم عقارات المسيحيين في بغداد.
نادت العجوز على نابو لكي تحمله معها، ولكنه فر الى السلم:
ذلك أنها قررت الهجرة مع حفيدها، ظناً منها بأنه أبنها دانيال الذي جاء من أستراليا لاصطحابها معه.
طلبت من نابو أن يأتي، ألتفت اليها وأطلق مواءً متموجاً وكأنه يخبرها بأنه ليس جباناً مثلها ولن يغادر هذا البيت، ثم خطا مسرعاً الى الأعلى وأختفى في استدارة السلم:
ترى هل هذا يدل على أن الحيوان أكثر التصاقاً بالمكان؟
- أزعجت العتاك نظرة نابو، رمى باتجاهه قطعة طابوق، لم تصبه ولم يتحرك:
العبارة الأولى تدل على علمه بمراقبته من قبل نابو، والثانية على الحقد الذي يكنه باتجاهه، والثالث على تحدي نابو للعتاك.
التف القط معيداً مسح جسده بالشسمه ثم تكور رابضاً عند قدميه وكأنه يتدفأ بهما:
في تعبير واضح الى الانجذاب اليه من جهة، واستعادة ذكرياته مع العجوز حين كان يتدفأ عند قدميها، فجعل من الشسمه بديلاً عنها، إن لم تكن أماً للاثنين.
- وفي الصفحة (350) وهي آخر صفحات الرواية، يرد أسم نابو مرتين. في المرة الاولى:
- كان القط نابو يتجول في بناية الفندق المهجورة بالإضافة الى شبح رجل مجهول يقف عند النافذة العارية:
لا توحي هذه العبارة الى أن القط نابو أثر رحيل العجوز قد غدا شريداً فحسب، وإنما تحولت منطقة البتاوين الى مأوى للأشباح، بما في ذلك الرجل الواقف معه الذي هو الشسمة، وهو مجهول لأنه يعيش مختفياً عن مراقبة أعين الأجهزة الأمنية.
أقعى الرجل المرعب (الشسمه) يداعب القط ويمسح على جسده العجوز الذي تساقط معظم شعره. ظل يلعب معه ويمازحه وكأنهما صديقان حميمان:
تأتي الرواية على نهايتها بهذه العبارة، للدلالة بأن الشسمة بدأ ينجذب لنابو ويتعاطف معه، اتساقاً مع حنينه للعجوز، ولربما مقارنته بين الأوقات التي قضاها في بيتها، والأوقات التي يقضيها الآن بين مكب النفايات، وبمعنى أدق يريد المؤلف أن يختتمها كذلك، انطلاقاً من النتائج التي تتمخض عن الولادة الممسوخة، ولا سيما عندما تأتي على أيدي غير نظيفة، إذ تتحول تحت ذريعة الانتقام من الذين ارتكبوا جريمة ضد الأبرياء الى مسالة انسانية، ومن ثم تتحول انسانية الانتقام الى قاتل للأبرياء لضمان ديمومة حياته، في إيماءة لا غبار عليها الى الوضع التراجيدي السائد في العراق.
كما يمكن قراءة هذه العبارة من وجهة نظر أخرى، وهي أن ممازحة الشسمه للقط نابو وكأنهما صديقان حميمان، يشي بأن الوضع القائم في العراق، بغض النظر عن أنه غير قابل للتوجه نحو الأفضل، فإنه يسير نحو الأسوأ، اقتراناً بهجرة العجوز الى استراليا، وتحول البتاوين الى مكب للنفايات، وسقوط أجزاء من اللحوم المركبة في جسم الشسمه، وأخيراً تحول نابو الى صديق حميم للشسمه، متشرداً، وربما قاتلاً لبني جنسه، في سبيل الحصول على قطعة عظم متفسخة، ليضمن ديمومة حياته، مثله مثل الشسمه، وينقلب على صورة ولادته الطبيعية.

2- تحولات الشخصية:
إذا كانت هناك رواية تُعدّ انموذجاً للشخصية، فإن رواية (فرانكشتاين في بغداد) للكاتب أحمد سعداوي لا تلعب فيها "الشخصية" أدواراً أساسية فحسب، وإنما هي (رواية شخصية) بلا منازع، بنماذجها الأربعة الرئيسة تحديداً: (القط نابو، العجوز ايليشوا، هادي العتاك، والشسمه) من خلال التوازن بين قطبي الخير والشر، والتناقض القائم في كل شخصية على حدة، فيمثل جانب الخير؛ نابو والعجوز ايليشوا، أما العتاك والشسمه فيمثلان القطب الثاني؛ ذلك أن القط نابو بوصفه ينتمي الى الكائنات الحيوانية يعبر عن الصوت العاقل، وعلى العكس فأن العجوز أيليشوا بوصفها من الكائنات البشرية، تعبر عن عالمي الخرف والجنون، وهكذا بالنسبة لشخصية الشسمه أيضاً التي تصب في الإتجاه ذاته من حيث التناقض، باستثناء شخصية العتاك غير القابلة للتحول من بداية الرواية الى نهايتها.
تذكرني هذه المقاربة بين شخصيتي القط نابو والعجوز أيليشوا، بشخصيتي بهلول والملك لير في مسرحية الملك لير لشكسبير، في كون الأول يمثل صوت العاقل، والثاني صوت الخرف والجنون، وفي كلا النصين، الملك لير والنص الذي نحن بصدده تساهم الظروف القاسية المحيطة بهما في جنونهما، في المسرحية من خلال خيانة اثنتين من ثلاث بناته له ، والرواية بسبب اندلاع الحرب العراقية الايرانية واستشهاد (دانيال) نجل العجوز أيليشوا.
إذا كانت الخيانة السبب الرئيس في جنون الملك لير، فإن العجوز أيليشوا للسبب ذاته تصاب بالجنون، أو هذا ما يشاع عنها، وتؤكدها تصريحاتها على عودة أبنها دانيال؛ ذلك أن المتربع على هرم السلطة لم يأخذ رأيها ولا رأي أي فرد من أفراد الشعب العراقي بإشعال فتيل الحرب العراقية – الايرانية ولا بأي حرب أخرى خاضها مع دول الجارة، لذا فليس من الطبيعي أو غير المألوف أن تتساوى كفته، أو كفة أي حاكم آخر حتى لو كانت قد طالته يد الغدر، مع كفة امرأة عجوز أو مواطن اعتيادي، في ميزان ما لم تتأرجح لصالحه.
قد لا يحدث هذا، أو من المستحيل حدوثه على أرض الواقع، ولكن في الفن بحاجة الى مسوغات فقط لكي يترجم على عكس ما يحدث على أرض الواقع، وذلك من خلال سقوط الملك لير في شرك الخيانة في النص المسرحي، وسقوط العجوز أيليشوا في الرواية، واللافت أن هذا السقوط في كليهما يحدث عن طريق الخديعة الأقرب الى المؤامرة، بنتا الملك بالاتفاق مع زوجيهما في تقسيم ثروات وممتلكات والدهم، وبنتا العجوز أيليشوا بالاتفاق مع كاهن الكنيسة بإرسال حفيد العجوز الشبيه بأبنها دانيال من استراليا الى بغداد، بدعوى أنه أبنها دانيال العائد من الحرب.
والتناقض القائم في كل شخصية على حدة جاء بفعل وقوع كل شخصية تحت تأثيرات ظروف وأوضاع معينة، تتجسد لدى كل واحدة منها بشكل مختلف ووفق حجم ومستوى ضغوط هذه التأثيرات، فقد تجسدت لدى القط نابو في صوت العاقل، لضمان العيش بأمان تحت سقف بيت العجوز أيليشوا، وعدم التشرد، ولدى العجوز بإصرارها على البقاء في بغداد وبالذات في بيتها بمنطقة البتاوين وعدم الهجرة الى استراليا، للالتحاق ببنتيها هيلدا وماتيلدا.
وتشبثها بالمكان له ما يبرر أسباب اصرارها على ذلك، فما عدا خشيتها من استيلاء فرج الدلال على البيت، وهادي العتاك على الأثات التي تحتويه؛ فإن نزعة العودة الى عش الطفولة حيث نشأت فيه منذ صغرها وتحتمي تحت سقفه، ولها ذكريات جميلة ومُرّة فيه، لا تقل شأناً عن خشيتها من استيلاء فرج الدلال عليه، لا سيما ومنطقة البتاوين كما هو معروف تأسست على أيدي اليهود، وأبناء الطائفة المسيحية لكونهم من الأقلية، مثل نظرائهم يهود العراق، فقد ارتأوا أن يسكنوا في هذه المنطقة بجوارهم وقريباً منهم، وفي وقت متأخر قياساً بالطائفتين اليهودية والمسيحية، سكن المسلمون من العرب والكرد وبالأخص النازحين من القرى والأرياف الجنوبية والشمالية في منطقة البتاوين مع أخوانهم اليهود والمسيحيين.
يرى لوغان: (أن الشخصية هي عنصر من عناصر النص، وإدراكها يرتبط بإدراك العناصر الأخرى التي يتكون منها النص الروائي كالمكان والزمان والسرد.)1.
ما يهمنا من هذا التعريف هو إدراك شخصية العجوز أيليشوا للمكان، بوصفها أحد عناصر النص. والمكان لا يقتصر على البيت فقط، وإن كان في الرواية أبرز دعائمه، وإنما بالإضافة الى البيت والغرف التي تتكون منه، والحديقة التي تزينه، والأثاث الذي تحتويه؛ فهو الشارع والزقاق ومحال الباعة، وكل ما تلتقطه العين، وتختزنه الذاكرة، داخل البيت وكذلك في خارجه.
ما من كائن حي يفقد الإدراك بالأمكنة التي عاش فيها أو مرّ بها، ولكن يبقى البيت المحطة الأبرز في حياته أو التي تختزنها ذاكرته ويتوق اليها، ذلك أنه كما يقول غاستون باشلار: (البيت جسد وروح، وهو عالم الإنسان الأول. قبل أن يقذف بالإنسان في العالم، كما يدعي بعض الفلاسفة الميتافيزيقيين المتسرعين فإنه يجد مكانه في مهد البيت. وأي ميتافيزيقيا دقيقة لا تستطيع إهمال هذه الحقيقة البسيطة لأنها قيمة. الحياة تبدأ بداية جديدة، تبدأ مسيجة محمية دافئة في صدر البيت)2.
والبيت في ذاكرة العجوز أيليشوا، ليس المحتويات التي في متنه فقط، بل الكائنات التي غادرته وما زالت على قيد الحياة كبنتيها هيلدا وماتيلدا، أو التي غادرته وهي في عالمها الأبدي، مثل زوجها وأبنها دانيال، بالإضافة الى الكائنات التي تعيش معها، كالقط نابو وصورة القديس مار كوركيس، أو الكائنات التي تسعى الدخول في عالمها كـ (الشسمه) الأقرب اليها من شخصيتي هادي العتاك وفرج الدلال، ظنا منها بأنه أبنها دانيال، ومن جانبه، ربما لأنه يتصور أن اللجوء الى بيتها أثناء مطاردته من قبل الأجهزة الأمنية والشرطة، يجعله في أكثر الأماكن أمانا، ذلك أن هذه الأجهزة لا تفكر بتواجده في بيتها.
تأسيساً على تعامل العجوز مع هذه الكائنات، لا سيما مع (الشسمه) النسخة المزورة من أبنها دانيال، والقط نابو وصورة القديس؛ سأحاول قراءة شخصيتها عبر هذا المحور، اقتراناً بالمكان = البيت، والتناقض القائم في جنونها وخرفها، بالرغم من أنها من الكائنات البشرية؛ مع القط نابو المعبر عن صوت العاقل، الذي يعد من الكائنات الحيوانية، وصورة القديس مار كوركيس بوصفها لوحة فنية، أي من غير الكائنات الحية، ولكنها قادرة على الكلام، وهكذا أيضا بالنسبة الى حسيب محمد جعفر بوصفه ميتا ولكنه مع هذا يتكلم ويرى وينتقل من مكان الى آخر، والشسمه باعتباره مصنوعا من بقايا أجساد لضحايا مضافاً اليها روح ضحية وأسم ضحية أخرى، ولا تؤثر اطلاقات الرصاصات التي تخترق جسده، وينتقم من المتسببين في موت الضحايا بالانفجارات.
يظهر هذا الجنون على سطح الأحداث من الصفحة الأولى للرواية، عندما كانت العجوز أيليشوا جالسة في سيارة الكيا، وهي في طريقها الى كنيسة مار عوديشو الواقعة قرب الجامعة التكنولوجية للصلاة ومهاتفة بنتيها، وحدث الانفجار الذي حصل خلفها على مسافة مئتي متر، ولكنها لم تسمعه، أو كأنها غير موجودة ومصابة بالصمم، مع أن جميع الركاب سمعوا دويه الهائل والتفتوا نحو مصدر الصوت. وبالرغم من ذلك، وهنا تكمن المفارقة، أن معظم أهالي الزقاق الذي تسكنه بمنطقة البتاوين لهم رأي آخر وهو؛ أنها تمنع ببركتها ووجودها بينهم حدوث الأشياء السيئة، أو كأنهم يريدون أن يقولوا بأنها امرأة قديسة.
ونعتها على هذا النحو يتناقض مع وصمها بالجنون والخرف، ويقترن بقصدية المؤلف وما يوحي به الى أن الرواية انتهت من حيث بدأت، ذلك بمغادرتها منطقة البتاوين مع حفيدها (دانيال) يحصل الانفجار، مثل الانفجار الذي حصل في بداية الرواية وهي جالسة في الكيا، ويوحي في الوقت نفسه الى الوشيجة التي تربطها بالمكان، وقد يكون العكس صحيحاُ، العلاقة الوطيدة التي تربط المكان بها، وبناء على هذا الجسر الممتد بينهما يثور المكان ويقذف بحممه على الساكنين في المنطقة التي تغادرها، وكأنه يقول لهم أنتم كنتم السبب في ذلك، في هجرتها من العراق، وتركها لمنطقة البتاوين وجيرانها الطيبين، وعلى نحو خاص أم سليم البيضة والكائنات التي عاشت معهم كالقط نابو وصورة القديس مار كوركيس، وتخليها عن بيتها ليستولي عليه فرج الدلال، وعلى أثاثه هادي العتاك، وبالتأويل الى استيلاء العابثين بأمن البلد في ظل الفوضى السائدة بعد سقوط النظام السابق على عقارات المسيحيين في بغداد وبعض المدن العراقية.
وبمقابل الأغلبية المؤيدة للعجوز في تحليها بالبركة، ثمة شخصان لهما رأي مختلف، وهما هادي العتاك وفرج الدلال، بأنها غير مبروكة وإنما هي امرأة مجنونة، وتصورهما هذا يأتي انطلاقاً من مصالحهما الساعية الى الاستيلاء على بيتها والأثاث التي تحتويه، ذلك أنها تقف بحزم وصلابة ضد نجاح مشروعهما الهادف الى تهجيرها من خلال الضغط عليها. واتخاذها لهذا الموقف مشابه لموقفها السابق ذي الصلة بالمكان (البيت)، حيث تتعرض المنطقة التي تتواجد فيها العجوز للأمان، وبعكسه للدمار.
*مع الكائنات غير الحية:
1- صورة القديس مار كوركيس:
تكاد معظم العناصر التي تشترك في أحداث الرواية، يبث فيها المؤلف الروح، حتى لو كانت لا تنتمي الى الكائنات الحية، بحيث يجعلها أن تتحدث وتعبر عن أفكارها كأي شخصية أخرى من شخصيات الرواية، ولعل استنطاق صورة القديس مار كوركيس وجثة الشهيد حسيب جعفر محمد، وصورة مريم أدل نماذج على تحويل الكائنات غير الحية الى كائنات حية وإشاعة الفانتازيا، والجو السوداوي العام في الرواية، للتأكيد على هويته القائم على هذا الأسلوب في التجربة الروائية التي خاضها لسنين خلت، وذلك من خلال حديث العجوز أيليشوا مع صورة القديس مار كوركيس، أو تتخيل أن الصورة تتحرك أو صاحبها يتحدث معها، ولكن أحياناً تجعلها هذه الصورة تعيش في لحظات متوترة، ذلك بالرغم من أن القديس يرفع رمحه استعداداً لغرزه في حلق التنين، إلا أن ما يعذبها أنه لا يقتله.
لم يأت توترها من صورة القديس جزافاً، أو من فراغ، بقدر ما جاء اقتراناً بنقل أم سليم البيضة لها عن كون فرج الدلال رجلاً شريراً وقادراً على تزوير سند ملكية بيتها وطردها منه ورميها في شوارع البتاوين.
لقد أستطاع المؤلف بالتعويل على توتر العجوز، أن يبلغ المتلقي ثلاث رسائل بطريقة غير مباشرة. الرسالة الأولى في جعل الشخصيات السلبية أمثال هادي العتاك وفرج الدلال والشسمه، رموزاً لقوى الشر، مثلها مثل التنين الوحش، وانسحاب هذا التوتر بدرجة أخف الى صورة القديس مار كوركيس أيضاً، لأنها كما يقول المؤلف: (صورة تغذي كل شيء يبقى في المنتصف)، أو كأن العجوز تريد أن تقول: (كان على القديس أن يقتل التنين)، أي الشخصيات الثلاث العتاك والدلال والشسمه، ولا يدعها تعيث بالأرض فساداً، بالإضافة في ارتيابها بمصداقية أم سليم البيضة وانقلابها عليها بالاتفاق مع فرج الدلال من خلال الاستيلاء على بيتها.
إلا أن هذا التوتر أثار مسألة أكثر أهمية من بقاء القديس في المنتصف، وارتياب العجوز بمصداقية أم سليم البيضة، وهي مسألة اضطهاد المسيحيين بعد سقوط النظام السابق، عبر الاستيلاء على عقاراتهم، كونهم الأقلية المسالمة من جهة، وافتقارهم الى من يساندهم، ولا سيما العجوز التي يمكن لفرج الدلال أن يطردها من بيتها في اللحظة والوقت والساعة التي يشاء فيها، لأنها بدون معين.
إن توتر العجوز من القديس مار كوركيس، لا يعني بالضرورة أنها تتخذ منه موقفاً ما، ذلك أن قلقها بالأساس كان صادرا من أقرب جاراتها وهي أم سليم البيضة بخصوص ابلاغها بأن فرج الدلال رجل شرير، ما حدا بها أن تربط بين بقاء الشخصيات الثلاث الأشرار على قيد الحياة وبين استعداد القديس لغرز الرمح في حلق التنين، من دون أن يقتله.
ربما بسبب شعور صورة القديس مار كوركيس باستياء العجوز عن عدم تنفيذ الوعود التي عهدها بها، تحركت شفتيه لتنطق لأول مرة بهذه العبارة محذرة الشسمه من الحاق الأذى بها: (أنها امرأة عجوز منكوبة. . إذا قمت بإيذائها أو جعلتها تحزن. . أقسم أنني سأغرز رمحي هذا في حلقك.).
وللتأكيد على أن توترها كان عابراً، ويخلو من أتخاذ أي موقف، وما تزال منجذبة اليه وتتعامل معه بوصفه قديساً؛ تدعو حفيدها القادم من أستراليا لاصطحابها معه على المثول أمام صورة القديس مار كوركيس، وذلك أثر إنجاز القديس بوعده من خلال إعادته لحفيدها سالماً لها الذي أنتحل أسم أبنها دانيال.
وفي المرة الثانية فقد تحدّث بفعل تذمرها من عدم قتل التنين، مع أنه يضع نفسه في موضع التأهب في الصورة، ليرد عليها كما يقول المؤلف دون أن يحرك شفتيه حتى. لم يتحرك أي شيء في الصورة وملأ صوته مع ذلك مسامعها بوضوح: (سينتهي كل شيء أيليشوا . . لما العجلة؟
وفي المرة الثالثة في الحوارية الجارية بينهما، بحضور فرج الدلال الذي كان من المقرر أن يخنقها، أو لأنه جاء الى بيتها لهذا الغرض. شاهدها وهي تصلي وتتحدث بالسريانية مع الصورة. علق المؤلف على هذه الحوارية على هذا النحو: (أثر كلامها في قلبه رغم أنه لم يفهم لغتها. شعر فرج الدلال بأن هناك من يرد الكلام عليها، فلم ير غير العجوز تشبك قبضتها على صليب معدني في مسبحتها وتقربه من شفتيها. . ظل الشاب المجرم جامداً لا يعرف ماذا يفعل، وكأنها سمرته بنظراتها الأمومية الحانية. قالت له تعال يا ولدي. فجاءها طائعاً مستسلماً وهو يخطو مثل طفل، ثم أرتمى في حضنها باكياً.).
*جثة حسيب محمد جعفر:
إذا كانت صورة القديس مار كوركيس مجرد لوحة فنية تحدثت ثلاث مرات، فمن الطبيعي أن يتحدث الشاب حسيب محمد جعفر حارس فندق السدير نوفل الذي قتل في الانفجار ليس ثلاث مرات وإنما أكثر من ذلك، لا بل ويتميز عنه في قدرته على التجوال في الشوارع كأي كائن حي، أو كما لو كان في كامل عقله وذروة نشاطه، سعيا للعثور على جثته.
أن تجول الشاب حسيب الميت أثر الانفجار وحديثه مع الذين يصادفهم، بالإضافة الى بحثه عن جثته وإن بدت ذات أهمية، من حيث الغرائبية التي تتسم بها وسورياليتها، إلا أن أهمية قدرة المؤلف على تصوير مشاعر الشاب الميت وأحاسيسه بعد الموت، ومدى تشبث الانسان بالبقاء على قيد الحياة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أكثر أهمية؛ تكمن هذه القدرة ليس لأنه سيلقي النظرة الأخيرة على أطفاله وزوجته فحسب وهم يغطون في نوم عميق، وإنما من أجل الأحلام التي كان يتمناها ولم تتحقق. ففي لحظة الشهقة الأخيرة تترآى كل تلك الصور كشريط سينمائي أمام ناظريه، ولكن بعد فوات الأوان، إذ حال الاقتتال الطائفي دون أن يستمتع بشبابه، أو كما لو كان قد أحس بعد موته بطعم الحياة ولذتها، ويلوب نفسه لأنه لم يعرف كيف يعيشها ويستغلها لسعادته وسعادة أسرته الصغيرة.
وهنا في الصور التي يرسمها المؤلف ويشاهدها الشاب حسيب وقد أنتهى وقضى نحبه تكمن قدرته على التوغل في أعماق النفس البشرية، ولعل الصورة الأولى التي يشاهدها، هي صورة النهر، حيث أراد أن يمسه، ذلك لأنه لم يمس ماء النهر أبداً، ولكن كما يبدو لم يسعفه الحظ ولم تتحقق أمنيته حتى في مماته. والصورة الثانية التي شاهدها هي صورة لرجل سمين بفانيلة بيضاء وشورت قصير ينام في المياه ووجهه الى الأعلى، وتمنى لو عاش في حياته للحظات مثل سعادة هذا الرجل.
وكلما انتقل من مكان الى آخر بحثاً عن جثته، ازدادت الصور التي يشاهدها غرابةً وتتدرج في تحولها من الواقعية الى السوريالية، كما في تعرفه على بسطاله المحترق وعدم عثوره على جثته، أو كما في زيارته للمقبرة للسبب ذاته، ولقائه بشاب مراهق يجلس بجانب قبره، بعد أن خرج منه، أو كما في ذهابه الى بيته ليرى الجميع نياماً، والمشهد الأكثر سوريالية هو مشهد عثوره على جسد لرجل ميت. مس بيده الهيولانية هذا الجسد الشاحب ورأى نفسه تغطس معها. أو كما يقول المؤلف: (غرقت ذراعه كلها ثم رأسه وبقية جسده، وأحس بثقل وهمود يعتريه. تلبس الجثة كلها، فعلى الأغلب كما تيقن في تلك اللحظة، أن هذا الجسد لا روح له، تماماً كما هو الأمر معه؛ روح لا جسد لها.).
*نسخة دانيال المزورة (الشسمه):
صاحت عليه العجوز: أنهض يا دانيال. . أنهض يا دنيّة. . تعال يا ولدي.
ظناً منها بأنه ولدها دانيال الذي أستشهد في الحرب العراقية الإيرانية، وقد عاد اليها سالماً، ولم ينكث القديس مار كوركيس بوعده لها، أو هذا ما تتمناه في سريرتها وتحلم به، بأن يكون الذي تراه ماثلاً أمام ناظريها أبنها دانيال، مع أنها تعرف بأنه لا يشبهه، وبالرغم من ذلك فهي تحاول أن تُقنع نفسها بأنه أبنها بلحمه ودمه، وذلك من خلال عدم وضع نظارتها على عينيها ورؤيته بشكل واضح، وخداع نفسها بأن الكثير من الجنود لا يعودون بصورتهم التي خرجوا بها.
أعطت هذا الرجل العاري والغريب ثياب أبنها دانيال ليرتديها ويتدفأ بها، ربما لتحس بأنه أكثر شبهاً بدانيال، وتشم رائحته من خلال ملابسه؛ وهي تجهل بأنه من صنع هادي العتاك، وتركيبته العجيبة التي تكونت من الجثة المجمعة من بقايا جثث متفرقة وروح حارس الفندق التي فقدت جسدها.
ولو أجرينا وجه المقارنة بين شخصية العجوز وشخصية القط نابو من حيث تعاملهما مع الغرباء وبالذات الشسمه، لأنه يكاد أن يكون الشخص الوحيد الذي يتردد على بيت العجوز أيليشوا قياساً بالشخصيات الأخرى؛ لتبين لنا أن نابو يتعامل بريبة وشك معه، والعجوز بمنتهى الرومانسية، ليس لأنها أعطته ملابس دانيال ليرتديها فحسب، وإنما دثرته بلحاف سميك أيضاً، ليغط في نوم عميق، لا وبل ظلت تتحدث معه حتى ساعة متأخرة من الليل، وأخبرته بأنها كانت تعرف بأنه سيعود، كما أرته صور طفولته، وتمادى دلالها له ليبلغ حد أنها حاولت منعه من مغادرة البيت، ظناً منها أن كل من يخرج من هذا الباب لا يعود ثانية، اقتراناً بخروج أبنها دانيال من البيت تحت ضغط (أبو زيدون الحلاق)، وهو أحد الحزبيين الموالين للنظام السابق الذي ساقه الى سوح الحرب، ولم يعد بعدها الى البيت.
أقول أن القط نابو يتعامل بريبة وشك مع النسخة المزورة لدانيال، ذلك أنه أثناء نوم دانيال على الأريكة؛ هرب ثانية نحو السطح وأطل برأسه من جديد على باحة بيت هادي العتاك، وكأنه فطن الى أن هذا الرجل الغريب تسلل من خلال الجدار الفاصل بين بيتي العجوز وهادي العتاك الى بيت العجوز.
تعلقها بالمكان يزداد أكثر بعودة النسخة المزورة لأبنها، بدليل أنها راحت تتحدث عن عودته لأم سليم البيضة، وموقفها الرافض للهجرة بدا أقوى عزماً وصلابة، وها هي تخبر بنتيها على الهاتف بأنها هنا مع ولدها دانيال، ولن تلتحق بهما.
*مع هادي العتاك والشسمه:
إذا كان القط نابو يراقب بريبة تحركات الشسمه والعتاك، والعجوز تنتظر عودة أبنها، وصورة القديس مار كوركيس تسعى الى الحرص على حياة العجوز، وتهدد كل من يحاول إلحاق الأذى بها، والشسمه الإنتقام من الذين تسببوا في موت الأبرياء بالانفجارات التي تحدث في بغداد؛ فإن هادي العتاك ما عدا أنه يحاول الاستيلاء على الأثاث الموجودة في بيت العجوز؛ يبحث عن الأعضاء المبتورة من أجسام ضحايا هذه الانفجارات، ويقوم بتركيبها على جسم انسان آخر، فيه قدر من الأمل بالعودة الى الحياة مرة أخرى.
والشسمه هو أحد الكائنات الذي صنعه بيديه، ولكنه يختفي ويتمرد عليه، فمن هنا، من هذا التمرد، وقتله لأربعة شحاذين وخنقه لضابط وهو نائم في غرفة احدى البنات؛ يدخل هادي العتاك جراء هذين الحدثين المروعين وأحداث أخرى لا تقل عنها بشاعة في حالة قلق وعدم استقرار، أو كما يقول المؤلف: (طرق قلب هادي بضربات مفاجئة)، ويقرر أن لا يذكر حكاية جثة الشسمه التي صنعها أبداً بعد اليوم.
إن انتقامه من الذين تسببوا في موت الأبرياء، تمخض عن ادخال الفزع والرعب في قلوب الناس وتجنب الاحتكاك به، بلغ حداً، أن أولاد (أبو زيدون الحلاق) الذي قتله، ربما لأنه كان سبباً في استشهاد دانيال؛ نهروا أم سليمة البيضة، وهددوها لأنها أدعت أن من قتله، مرّ بجوارها وشاهدت جانباً من وجهه، كان أبشع ما رأت عيناها، في إيماءة واضحة الى الشسمه.
والغريب أن هادي العتاك الذي صنع الشسمه، كان واحداً من الذين تسببوا بمقتل حارس الفندق (حسيب محمد جعفر)، لذا فهو مرشح كأي متسبب آخر للانتقام منه، بالرغم من أنه بمثابة أبيه. وهذا ما يشعر به العتاك ويخشاه.
والأغرب أن عدم إقدام الشسمه على الانتقام من المتسببين، يؤدي الى تساقط اللحم الميت الذي يتكون جسده منه من تلقاء نفسه، وهو بذلك كما يقول المثل الشعبي يرمي عصفورين بحجر، فهو من جهة يسعى الى الحفاظ على ديمومة حياته، ومن جهة ثانية يحاول أن يقدم عملاً نبيلاً لضحايا النظام السابق والنظام القائم في الوقت الحاضر، لكي يجعل من نفسه بطلاً يناصر المظلومين، ويخلصهم من شهوة السلطة في زجهم بالحروب والاقتتال بين الطوائف، أو كما يقول هو: (أنا الرد والجواب على نداء المساكين. أنا مخلص ومنتظر ومرغوب به ومأمول بصورة ما. لقد تحركت أخيراً تلك العجلات الخفية التي أصابها الصدأ من ندرة الاستعمال. اجتمعت دعوات الضحايا ودفعت بزخمها الصاخب تلك العجلات الخفية فتحركت أحشاء العتمة وانجبتني. أنا الرد على ندائهم برفع الظلم والاقتصاص من الجناة.).
وهنا يطرح هذا السؤال نفسه بإلحاح: ترى هل يستطيع أن يستمر على هذا المنوال؟ بالأحرى الى أي حد بوسعه مواجهة الأجهزة الأمنية والمخابراتية التي ترصد تحركاته وتتابعه عن كثب، ويتحمل تساقط اللحوم الميتة من جسده، بدون أن يفارق الحياة؟
والأكثر غرابة بالرغم من أنه أشاع الرعب في قلوب الناس، جراء انتقامه لعدد كبير من المتسببين في موت الضحايا، لا يتوانى أن يقدم نفسه كقائد سياسي، إن لم يكن رسولاً مبعوثاً، في الأول لأنه يصدر بياناً، والثاني لتأكيده على مفردة الخلاص أكثر من مرة المقرونة كما هو معروف بسيدنا يسوع المسيح، وبالمهدي المنتظر، ذلك لأنهم حوّلوه الى مجرم وسفاح وشابهوه بهذا الوصف مع الذين يسعى للقصاص منهم.
مثله مثل القط نابو والعجوز أيليشوا، يظهر التناقض في شخصيته، ليس فقط لأن القتل بحد ذاته يعد جريمة، بل لأن القتل يتضارب مع طبيعة المخلّص وتوجهاته، لا سيما إذا عرفنا أنه بعد أن يفقد الكثير من أجزاء جسمه وقد تساقطت على الأرض وانتشرت رائحة موت قوية؛ أن هذا القتل يخرج من هدفه الأساس الذي اتسم بالنبل وفق تصوره للانتقام، ويتحول الى جريمة مع سبق الاصرار، وذلك من خلال قتله لأي كائن من أجل التعويض عن اللحوم التي يفقدها جسمه، وديمومة حياته. أو كما يقول الشسمه وهو يطلق برصاصة من مسدسه على الرجل البريء الذي صادفه في طريقه وأرداه قتيلاً مبرراً فعلته على هذا النحو: (لم أقم إذن إلا بتسريع الموت، كان ميتاً سلفاً. وسيموت كل الأبرياء الذين يتخذون ذات الطريق الموحش الذي سار فيه العجوز.)، في سعي منه لإيجاد المسوغ التي يبرر اقدامه على قتل الأبرياء من أجل أن يبقى على قيد الحياة.
تتبلور تناقضات الشسمه أكثر، وتتجلى إنسانيته على حقيقتها، بعكس موقفيه السابقين، أثناء التقاء عينيه بصالة بيت العجوز أيليشوا الخاصة بالضيوف، وهي فارغة منها: (ينظر الى بقية أرجاء البيت وداهمه حزن فهو لن يرى العجوز مرة ثانية، تلك العجوز التي أسهمت في ولادته والتي منحته أسم ابنها المفقود، وشعر بأنه كان الأقرب اليها من الآخرين. .).
شخصية واحدة فقط لم تتغير في الرواية، هي شخصية هادي العتاك، حيث شوهد وهو يقوم بمعية عدد من الشباب بنقل أثاث بيت العجوز الى بيته، بينما كانت أم سليم البيضة قد عملت مناحة داخل الزقاق، وهي تودع العجوز، وتقول أن كارثة ستحل بالزقاق بسبب رحيل أم دانيال، وفي هذه الأثناء كان رجل مجهول يداعب القط على جسده العجوز الذي تساقط معظم شعره. ظل يلعب معه ويمازحه وكأنهما صديقان حميمان. ولم يكن هذا الرجل سوى (الشسمه).
ان تصاعد وتيرة الحدث الدرامي ينشأ من التناقض القائم في الشخصيات، والتحولات التي تطرأ عليها، ذلك أنها نابعة من واقع هذا المجتمع، وهذه التناقضات تطال حتى شخصية أم سليم البيضة التي نادراً ما تظهر على سطح الأحداث، بوصفها شخصية ثانوية، أو هذا ما يستشفه المتلقي، بيد أنها بالعكس تلعب دوراً كبيراً في أحداث الرواية، وعلى نحو خاص في رسم ملامح شخصية أيليشوا بالإضافة الى بنية الرواية، وذلك من خلال عدم استقرارها على رأي معين تجاه العجوز أيليشوا وتنبؤها بختام الرواية.
بموازاة هذا الانقلاب في تفكير أم سليم البيضة تحدث ثورة مضادة لهذا الإنقلاب، وذلك من خلال المناحة التي عملتها أثناء توديع العجوز أيليشوا، ما أدى بأهالي الزقاق رقم (7) في منطقة البتاوين، أن يتفاعلوا مع أم سليم وهي تحتضن العجوز وتحاول أن لا تفلت من بين يديها وتركض خلفها؛ أن يشاركوا في هذه المناحة ويودعوها بالمستوى الذي يليق برفضها للهجرة.
مشهد المناحة، ما عدا أنه من أجمل مشاهد الرواية، فهو في الوقت نفسه، يرتبط ببدايتها، من حيث التأكيد على تصور أم سليم البيضة في كون العجوز مبروكة، لذلك تمنع حدوث الأذى بمنطقة البتاوين، أي يرتبط بقاء المنطقة بوجودها، وبالعكس انهيارها بعدم وجودها، ويتحقق تصورها هذا في نهاية الرواية، أثر رحيل العجوز مع حفيدها دانيال، وتفريغ هادي العتاك بيت العجوز من محتوياته؛ إذ يحدث انفجار يهز المنطقة ويلحق الكارثة الأكبر بالبيوت القديمة، ليكون بيت العجوز ايليشوا ضمن البيوت المنهارة بحيث لم تبق فيه حجارة فوق أخرى.
ان جمالية مشهد المناحة لا يقتصر في اقتران أم سليم البيضة نهاية الرواية ببدايتها فقط، من خلال تصورها للعجوز أيليشوا، وإنما في ماهية تصوير هذا المشهد من قبل المؤلف أيضاً، بحيث جاء أقرب الى تصوير مشاهد الأفلام السينمائية ذات البعد الدرامي. وللتأكيد على ذلك أنقل هذا المقطع القصير منه: (سحبت بعض النسوة أم سليم الى الخلف، ولكنها تملصت منهن وعادت لتركض خلف أم دانيال الذاهبة بخطوات ثابتة الى مدخل الزقاق المطل على شارع السعدون. . . وضع دانيال الحقائب في صندوق السيارة، وركبت العجوز في الخلف. بينما تباطأت خطوات أم سليم مع شعورها بالضعف في ساقيها وانهارت جاثية على ركبتيها وهي ترى صديقتها القديمة تبتعد بشكل أكيد ونهائي.).
ان المؤلف كما يبدو لي يرسم معالم وأبعاد شخصياته بحيادية تامة، إذ مثلما تتسم بالإيجابيات كذلك لا تخلو من السلبيات، وتكاد هاتان الصفتان أن تشملا كل الشخصيات حتى فرج الدلال، ما عدا هادي العتاك. فرج الدلال لأنه أرتمى في حضن العجوز باكياً ونادماً لسعيه الإقدام على قتلها، وما دفعه الى التراجع عن قراره رؤيته لها ساجدة أمام صورة القديس مار كوركيس وهي تحاوره وتصلي، وهادي العتاك لأنه أستمر على موقفه السابق سعياً للسطو على بيت العجوز حتى نهاية الرواية. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن معظم الشخصيات تطرأ عليها التحولات، بما فيهم العجوز لأنها قررت الرحيل في ختام الرواية.
إن تقصي ايجابيات وسلبيات كل الشخصيات وفق الحيادية التي تتسم بها، سيأخذ حيزاً كبيراً من هذا المقال، لذا سأحاول التركيز على شخصية أم سليم البيضة فقط، وذلك لثلاثة أسباب، السبب الأول هو التحولات التي مرت بها تجاه العجوز أيليشوا، والسبب الثاني هو لكونها الدافع الرئيس لتكوين المشهد الأخير للرواية الذي تحول الى أجمل المشاهد، بالأحرى الى بطله، والثالث لارتباط هذين السببين ببعضهما وكأنهما السبب نفسه.
تمر أم سليم البيضة في أربع تحولات تجاه العجوز، اثنان منها ايجابية، واثنان سلبية. الإيجابية في إيمانها بأن جارتها العجوز أيليشوا مبروكة، ويد الرحمن على كتفها أينما تحل وتمضي، والمناحة التي عملتها أثناء رحيل العجوز، والسلبية في اخبارها بأن فرج الدلال رجل شرير وسيستولي على بيتها، والحديث بما يوحي بالإساءة اليها في أكثر من مناسبة.
مثلما يرسم المؤلف معالم وأبعاد شخصياته بحيادية، كذلك يصور مشهد المناحة في تكوينات جمالية ذات دلالات موحية، لا يقل مستواه فنياً عن مستوى لجوئه الى تقنية حيادية الشخصيات، وذلك من خلال تفجير التناقضات التي كانت تعتمل في أعماق أم سليم البيضة وغلبة الايجابية فيها على السلبية، وظهورها على حقيقتها المفعمة بالوفاء والاخلاص والعفوية.
الدلالات الموحية في هذا التحول لأم سليم البيضة، تثير هذا السؤال: ترى هل أنها عملت هذه المناحة شغفاً بالعجوز أيليشوا وكمداً لفراقها؟ أم خوفاً على حياتها وحياة أهلها وساكني منطقة البتاوين، لأنها تؤمن بأن هذه المرأة مبروكة، وعدم وجودها بينهم سيؤدي الى انهيار البيوت على ساكنيها؟
كلا الاحتمالين وارد، ولكن الاحتمال الثاني أقوى، لأنه مقرون بإيمان أم سليم بالعجوز في كونها مبروكة، وتبعاً لذلك فهي تتألم لفراقها. لذا فإن الاحتمال الأول شخصي، والاحتمال الثاني قابل لقراءته من وجهتي نظر، فبالإضافة الى الاحتمال السابق، يمكن قراءته من خلال التغيرات التي طرأت على العراق بشكل عام بعد الاحتلال من جهة، وهجرة المسيحيين من جهة أخرى.
إذا كانت القراءة الثانية تهدف الى تفريغ العراق من المكون المسيحي، والدعوة الى الحد منه، فإن القراءة الأولى، انطلاقاً من كون العجوز أيليشوا مبروكة؛ تؤكد على أن العراق باضطهاد مخلصيه ومحاربة المتشبثين بأرضه، على العكس من الجهلة والانتهازيين والفاسدين في إتاحة فرص العبث لهم بأموال وثروات وممتلكات البلد والمواطنين على حد سواء؛ سيؤدي الى انهيار العراق برمته، وانهيار زقاق الرقم سبعة في منطقة البتاوين على ساكنيه أدل نموذج على ذلك، من خلال شعور أم سليم البيضة بالضعف في ساقيها وانهيارها جاثية على ركبتيها وهي ترى صديقتها القديمة تبتعد بشكل أكيد ونهائي، في اشارة واضحة الى فقدانها للأمل بشكل أكيد ونهائي أيضاً في أستتباب الأمن والاستقرار في العراق، لا بل يوماً بعد يوم يتجه نحو الأسوأ.
ان المؤلف لا يتعرض الى الأسباب التي أدت بالمسيحيين الى الهجرة فقط، بل الى أصل السكان الحقيقيين الذين سكنوا منطقة البتاوين، يتعرض الى هذه المسألة في أربع مراحل عن طريق القطع (المونتاج)، وهو الأسلوب السائد في سرد أحداث روايته (الميتا سردي) أو الذي يعول على التناوب أو عدم التقيد بتسلسل الأحداث وترتيبها وفق الأسلوب الكلاسيكي القديم، بل وفق السياقات المعروفة في رواية ما بعد الحداثة القائمة على الفوضى في تأخير وتقديم الأحداث، اتساقاً مع الفوضى الجارية في الحياة؛ بهدف البرهنة على أن منطقة البتاوين تأسست على أيدي اليهود، وليس الدخلاء عليها بعد السقوط، أمثال هادي العتاك وفرج الدلال والشسمه وقبلهم أبو زيدون الحلاق ومن هم على شاكلتهم في العهدين السابق والحالي.
وهو بذلك لا يؤكد على موقفه الحيادي تجاه شخصيات الرواية فقط، وإنما تجاه الطائفة التي كانت تسكن المنطقة (المكان) أيضاً، ولكن بمنأى عن موقفه غير المعلن في الصراع القائم بين اسرائيل وفلسطين، أو اقحامه على شخصيات الرواية بوصفه ينتمي الى القومية العربية، لينم هذا الموقف عن جرأته واختلافه عن نظرائه الروائيين الاخرين بالتصدي لهذه الإشكالية التي تعد ربما لدى معظمهم من المحرمات. والمراحل الأربع التي تتناوب في كون اليهود هم السكان الحقيقيين لمنطقة البتاوين هي:
1- رما الشسمه آية الكرسي المعلقة على جدار غرفة العتاك، وظهرت ثغرة معتمة في الجدار.
2- انتبه العتاك الى الأيقونة الجبسية للعذراء وشعر بأنها خسارة أخرى.
3- لقد عاد قديسها مجرد صورة جدارية قديمة شاحبة الألوان.
4- اندفعت الرقعة الخشبية للأيقونة اليهودية الى الأمام وهي تتقدم في الهواء.
ولو أعدنا قراءة العبارات الأربعة، ابتداء من العبارة الأولى الخاصة بآية الكرسي، مروراً بالعبارتين الثانية والثالثة الخاصتين بصورة القديس مار كوركيس، وانتهاء بالعبارة الأخيرة الخاصة بالأيقونة؛ لتبين لنا اختفاء الرقعة الخشبية للأيقونة اليهودية خلف الجدار الفاصل بين جدار بيت العجوز أيليشوا وبيت هادي العتاك، عبر تعليق صورة القديس مار كوركيس أمام الأيقونة، وتعليق آية الكرسي أمام الأيقونة نفسها، للدلالة على أن هذه المنطقة تأسست على أيدي اليهود.
مثله مثل مشهد المناحة اقترنت المشاهد الأربعة بالجمالية، وبمسوغات توظيفها، بحيث أستطاع المؤلف من خلال هذه الجمالية أن يفي حق الهدف المنشود من توظيف المراحل الخمسة، أي التوازن بين الشكل والمضمون وعلى النحو التالي:
*في المرحلة الاولى كان الهدف الحقيقي من مجيء الشسمه الى بيت العتاك هو خنقه، كما فعل مع الشحاذين الأربعة، إلا أن مواصلته في الجدال معه طويلاً، أدى به أن يتأخر عن تنفيذ المهمة التي جاء من أجلها وبالتالي أن يتراجع عنها، وينشغل بالتحديق في آية الكرسي المعلقة على الجدار البعيد في غرفة الشسمه التي تقدم باتجاهها ليسحب الحافة الكارتونية المتدلية، فانسلخت من الجدار بسهولة.
يعلق المؤلف على هذه الصورة قائلا: (لا يتذكر العتاك كيف ومتى وضع (ناهم عبدكي) هذه الآية هنا، ولكنها موجودة منذ أن شغلا هذه الغرفة).
هذا التعليق بقدر ما لا يخلو من الغموض، ذلك أنه يضع كلا الاحتمالين لوجود الآية، احتمال أنها قبل وجود العتاك مع عبدكي في البيت، أو بعد وأثناء وجودهما فيه، ذلك أن الهدف من وجود الآية سيتغير قبل وجودهما، لذا فعلى الأرجح المقصود هو الاحتمال الثاني أي أثناء أو بعد وجودهما. أخمن الاحتمال الثاني لأن الشسمه عندما يرمي الآية جانباً تظهر ثغرة معتمة في الجدار بارتفاع نصف متر تقريباً وعرض ثلاثين سنتمتراً؛ الثغرة بالارتفاع والعرض نفسه تظهر في المرحلة الثانية من الآية، وبعد مرور مئة صفحة على أحداث الرواية، ولم يكن العتاك ساذجاً وعرف أن هذه أيقونة يهودية.
ولكنه في المرحلة الثالثة يبقي على آيقونة العذراء الجبسية، لأنه سمع كلام أحد أصدقائه، بأن هذه اللوحة الخشبية الداكنة هي أيقونة يهودية، لذا تراجع من الإقدام على بيعها.
وفي المرحلة الرابعة ما أن يحدث الانفجار حتى تندفع الرقعة الخشبية الداكنة للأيقونة اليهودية الى الأمام. وبقدر ما يوحي المشهد بالخراب المتراكم الذي تخلّفه الصراعات على أرض الواقع، فإن هناك إيماءة واضحة الى تمرد الأيقونة على الحكام الجدد وإدانتهم للكوارث التي جلبوها معهم الى الشعب العراقي، بما في ذلك تدمير أقدم البيوت البغدادية.

*المصادر:
1- الشخصية في الرواية العراقية. تأليف فاضل ثامر. منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في العراق 2024.
2- جماليات المكان. غاستون باشلار. ترجمة غالب هلسا. الطبعة السادسة 2006.



#صباح_هرمز_الشاني (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آنا كارنينا.. بين نزعة الموت والحب المتطرف ..
- الحداد ٌلٌق بالسٌدة بغداد. . بٌن بنٌات السرد. . وإرهاب الزوم ...
- قراءة تأويلية في رواية (جروح غوتنبرغ الرقيقة) للروائي وليد ه ...
- البهلوان. . . ومنحى الميتا – سردي.
- تحفة الرمّال مفقودة أبن زنبل. . . روايتان في رواية واحدة. .
- مشرحة بغداد.. بين الصورة.. و وثيقة الإدانة. . لبرهان شاوي. .
- مقاربة بين روايتي مدام بوفاري لفلوبير والأحمر والأسود لستندا ...
- رواية الأحمر والأسود بين الحوار الداخلي والرمز
- رواية العطر. . والواقعية السحرية.
- قراءة تأويلية في تفكيك شفرات رواية مذكرات كلب عراقي
- حامل الهوى. . بين المونتاج القافز. . وإلنهايات المفتوحة. .
- الذئاب على الأبواب. . بين عملية التحدي. . و تقنية التواتر. .
- (محنة فينوس). . وثيقة إدانة لعهدين. .
- قراءة تأويلية في تفكيك شفرات (موت الأب) للروائي العراقي احمد ...
- التماثل. . ونقيضه. . في رواية تسارع الخطى. .
- سابع أيام الخلق: بين تقنية المكان، وإستحضار الماضي للحاضر
- قراءة رواية ليل علي بابا الحزين. . من منظورين مختلفين
- خانة الشواذي. . . رواية موقف الشخصيات. .
- بنيات السرد في روايات محسن الرملي
- هل هدمت. . رواية وشم الطائر. . ثنائية الرواية والوثيقة؟


المزيد.....




- فنان مصري يتصدر الترند ببرنامج مميز في رمضان
- مجلس أمناء المتحف الوطني العماني يناقش إنشاء فرع لمتحف الإرم ...
- هوليوود تجتاح سباقات فورمولا1.. وهاميلتون يكشف عن مشاهد -غير ...
- ميغان ماركل تثير اشمئزاز المشاهدين بخطأ فادح في المطبخ: -هذا ...
- بالألوان الزاهية وعلى أنغام الموسيقى.. الآلاف يحتفلون في كات ...
- تنوع ثقافي وإبداعي في مكان واحد.. افتتاح الأسبوع الرابع لموض ...
- “معاوية” يكشف عن الهشاشة الفكرية والسياسية للطائفيين في العر ...
- ترجمة جديدة لـ-الردع الاستباقي-: العدو يضرب في دمشق
- أبل تخطط لإضافة الترجمة الفورية للمحادثات عبر سماعات إيربودز ...
- الأديب والكاتب دريد عوده يوقع -يسوع الأسيني: حياة المسيح الس ...


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح هرمز الشاني - تمثلات الفنتازيا والواقعية في رواية فرانكشتاين في بغداد لأحمد سعداوي