أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - خليل إبراهيم كاظم الحمداني - الخيانة المقننة: كيف تستخدم الحكومات قوانين العمالة للأجنبي لقمع المعارضين؟















المزيد.....


الخيانة المقننة: كيف تستخدم الحكومات قوانين العمالة للأجنبي لقمع المعارضين؟


خليل إبراهيم كاظم الحمداني

الحوار المتمدن-العدد: 8280 - 2025 / 3 / 13 - 10:42
المحور: المجتمع المدني
    


حين يصبح الحرف جريمة، والموقف لعنة، والعدل خطيئة لا تغتفر، يولد الطغيان من رحم القانون."
تتخذ بعض الحكومات من القانون سلاحًا يقمع الأصوات الحرة ويخنق أنفاس المجتمع المدني. لا تكتفي بإغلاق الأبواب في وجه المدافعين عن الحقوق، بل تسن تشريعاتٍ تتخفى خلف شعارات السيادة الوطنية، بينما جوهرها لا يتعدى كونه قيدًا يُحكم قبضته على كل محاولةٍ لكسر جدران الصمت. فبدلًا من أن يكون القانون أداةً للعدالة، يتحول إلى شبكةٍ من القيود التي تخنق الحركات الحقوقية، وتحوّل الدعم الدولي إلى تهمة، وتجعل من كل ناشطٍ معارضًا، ومن كل منظمةٍ مستقلة خطرًا داهمًا.
هذه القوانين ليست مجرد نصوصٍ جامدة في دفاتر التشريع، بل مرآة تعكس خوف السلطة من كل صوتٍ مستقل، وارتعاشها أمام كل فكرةٍ لا تخضع لوصايتها. وحين تُصبح المطالبة بالعدالة جريمة، ويتحول الدفاع عن الحق إلى خيانة، يكون الاستبداد قد استكمل أركانه، رافعًا سيف القانون فوق رؤوس الأحرار، ليكون العدلُ أول ضحاياه.. بدلاً من تعزيز الشفافية والديمقراطية، تُسن تشريعات تبدو في ظاهرها دفاعًا عن السيادة، لكنها في جوهرها قيودٌ ثقيلة تُكبّل الحركات الحقوقية وتحوّل الدعم الدولي إلى تهمة، والنشاط الحقوقي إلى مؤامرة. إن قوانين "الوكلاء الأجانب" ليست مجرد أدوات تنظيمية، بل مرآة تعكس خوف السلطة من كل صوتٍ مستقل، ورغبتها الجامحة في محو المساحات الحرة التي قد تشكل خطرًا على استبدادها. فحين يُصبح المدافعون عن الحقوق متهمين، وتُصنَّف المطالبة بالعدالة جريمة، يتحوّل القانون من حامٍ للحقوق إلى سيفٍ مسلطٍ على رقاب الأحرار.
1. الجذور التاريخية لقوانين العمالة للأجنبي
‌أ) الحرب الباردة وما بعدها:
تعود جذور قوانين تقييد التمويل الأجنبي إلى فترات الحرب الباردة، حينما كانت القوى العظمى تستخدم المنظمات غير الحكومية كأدوات نفوذ. في الاتحاد السوفييتي، كانت أي علاقات مع الغرب تُعتبر خيانة، وكانت المنظمات التي تتلقى تمويلاً أجنبياً تُعامل على أنها أدوات للتجسس. هذا النهج وجد استمراريته في تشريعات لاحقة، أبرزها القانون الروسي لعام 2012.
‌ب) القانون الروسي لعام 2012 وتأثيره
في عام 2012، أصدرت روسيا قانون "الوكلاء الأجانب"، والذي يُلزم المنظمات غير الحكومية التي تتلقى تمويلاً أجنبياً وتشارك في "نشاط سياسي" بالتسجيل كـ"وكلاء أجانب". يتطلب هذا القانون من هذه المنظمات الإفصاح عن مصادر تمويلها وتقديم تقارير مالية مكثفة، كما يُلزمها بالإشارة إلى تصنيفها "كوكيل أجنبي" في جميع منشوراتها، مما يُضعف مصداقيتها أمام الجمهور.
‌ج) التوسع في أوروبا الشرقية
سرعان ما انتشرت تشريعات مماثلة في دول أخرى في أوروبا الشرقية، حيث استخدمت حكومات استبدادية هذه القوانين كأداة لتقويض عمل المنظمات الحقوقية. في المجر، تم تمرير قانون مشابه في 2017 يفرض قيودًا على المنظمات غير الحكومية التي تتلقى تمويلاً أجنبيًا. بيلاروسيا، من جهتها، تبنّت إجراءات أكثر صرامة، حيث تم تصنيف النشطاء الحقوقيين على أنهم يشكلون "تهديدًا للأمن القومي".
2. قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان
أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عدة قرارات تدين هذه القوانين باعتبارها انتهاكًا واضحًا للحقوق الأساسية، لا سيما حرية تكوين الجمعيات والتعبير. إحدى أبرز القضايا التي سلطت المحكمة الضوء عليها هي قضية "جمعية آغار ضد روسيا" عام 2022، حيث خلصت المحكمة إلى أن القانون الروسي بشأن "الوكلاء الأجانب" يُعرّض المنظمات المستقلة لوصمة اجتماعية خطيرة، مما يؤدي إلى الحد من قدرتها على العمل بحرية وتلقي الدعم اللازم لاستمرارها.
لم تكن هذه القضية الوحيدة التي انتقدت فيها المحكمة هذه التشريعات، فقد سبق وأن أصدرت أحكامًا مماثلة في قضايا أخرى ضد دول فرضت قيودًا صارمة على المجتمع المدني بذريعة مكافحة النفوذ الأجنبي. في إحدى القضايا المرفوعة عام 2020، أكدت المحكمة أن هذه القوانين تُستخدم بشكل غير متناسب لاستهداف المدافعين عن حقوق الإنسان، مما يتسبب في خلق مناخ من الخوف والرقابة الذاتية داخل المجتمع المدني.
كما شددت المحكمة على أن مثل هذه التشريعات تتناقض مع الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، لا سيما المادة 11 المتعلقة بحرية تكوين الجمعيات، والمادة 10 التي تحمي حرية التعبير. وأوضحت أن القيود المفروضة بموجب هذه القوانين لا تستند إلى معايير ضرورية أو متناسبة مع أي مصلحة مشروعة، مما يجعلها أداة قمعية أكثر منها وسيلة تنظيمية مشروعة.
هذه القرارات عززت الضغط الدولي على الحكومات التي تعتمد مثل هذه القوانين، وأكدت على ضرورة إيجاد توازن بين حماية الأمن القومي وضمان عدم انتهاك الحريات الأساسية.
3. آراء لجان معاهدات حقوق الإنسان
آليات الأمم المتحدة لحماية حقوق الإنسان، سواء التعاهدية منها أو غير التعاهدية، أبدت قلقها المتزايد إزاء تصاعد استخدام قوانين "الوكلاء الأجانب" كأداة لتقييد المجتمع المدني وإسكات المدافعين عن حقوق الإنسان. لجان المعاهدات، مثل لجنة حقوق الإنسان ولجنة مناهضة التعذيب، أكدت في تعليقاتها العامة وتوصياتها الختامية أن هذه القوانين تتناقض مع الالتزامات الدولية للدول الأطراف، لا سيما تلك المنصوص عليها في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الذي يضمن حرية تكوين الجمعيات والتعبير.
إضافة إلى ذلك، نظرت لجان المعاهدات في عدد من البلاغات الفردية المقدمة بموجب البروتوكولات الاختيارية، حيث خلصت في عدة قرارات إلى أن تصنيف المنظمات الحقوقية أو الأفراد كـ"وكلاء أجانب" يشكل انتهاكًا مباشراً للحقوق المكفولة بموجب المعاهدات الدولية. كما دعت هذه اللجان الحكومات إلى تعديل أو إلغاء هذه القوانين لضمان توافقها مع التزاماتها الدولية.
أما على صعيد الآليات غير التعاهدية، فقد أكدت الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان، مثل المقرر الخاص المعني بحالة المدافعين عن حقوق الإنسان والمقرر الخاص المعني بحرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، أن هذه القوانين تُستخدم بشكل متزايد لإضفاء الشرعية القانونية على حملات القمع ضد المجتمع المدني. وفي تقاريرهم الدورية، سلط هؤلاء الخبراء الضوء على التأثير المدمر لهذه القوانين، حيث يتم تجريم التعاون مع الهيئات الدولية ووصم النشطاء بصفات تهدف إلى نزع الشرعية عن عملهم. وقد أوصت هذه الآليات بضرورة اتخاذ تدابير فورية لحماية المجتمع المدني وضمان بيئة آمنة للنشاط الحقوقي.
4. التقارير السنوية للأمين العام للأمم المتحدة حول المدافعين عن حقوق الإنسان
يصدر الأمين العام للأمم المتحدة تقارير سنوية توثق التحديات التي تواجه المدافعين عن حقوق الإنسان. تتضمن هذه التقارير العناصر التالية:
1. القيود القانونية: تسلط التقارير الضوء على القوانين المقيدة، مثل قوانين "الوكلاء الأجانب"، وتأثيرها على المنظمات الحقوقية.
2. الملاحقات القضائية: ترصد التقارير حالات القمع والاعتقال التعسفي للنشطاء.
3. الاعتداءات والعنف: توثق التقارير الهجمات على المدافعين عن حقوق الإنسان، سواء عبر العنف الجسدي أو المضايقات القضائية.
4. التوصيات: تقترح التقارير حلولًا لحماية النشطاء وتعزيز بيئة آمنة لهم.
5. الآلية القانونية: سلاح التخوين وشيطنة العمل الحقوقي
منذ ظهورها، لم تكن قوانين "الوكلاء الأجانب" مجرد أدوات تنظيمية، بل كانت سلاحًا لتخوين النشطاء وإضفاء وصمة العار على من يجرؤ على التواصل مع العالم الخارجي. فبدلًا من دعم الشفافية وتعزيز بيئة ديمقراطية، تحولت هذه القوانين إلى أداة تبرر اضطهاد المدافعين عن حقوق الإنسان وتقييد حرية تكوين الجمعيات والتعبير.
تعتمد هذه القوانين على عدة أدوات أساسية:
‌أ) التسجيل الإجباري: تُجبر المنظمات غير الحكومية على إعلان نفسها كـ"وكلاء أجانب"، مما يخلق وصمة اجتماعية تحولها إلى "خطر داخلي" في أعين المجتمع.
‌ب) قيود التمويل: يتم فرض قيود صارمة على تلقي أموال من الخارج، ما يؤدي إلى خنق الموارد المالية وإضعاف القدرة على تنفيذ الأنشطة الحقوقية والتنموية.
‌ج) العقوبات الصارمة: تشمل غرامات مالية كبيرة، الإغلاق القسري، وحتى السجن لمن يُتهم بانتهاك هذه القوانين.
‌د) التشهير والوصم: يتم استخدام الإعلام الرسمي والخطاب السياسي لتصوير النشطاء على أنهم "عملاء للخارج"، ما يجعلهم عرضة لحملات تخوين واسعة قد تؤدي إلى نبذهم اجتماعيًا أو حتى استهدافهم جسديًا.
‌ه) تجريم التواصل مع السفارات والمنظمات الدولية: في العديد من الحالات، يُعتبر التواصل مع السفارات الأجنبية أو الهيئات الدولية جريمة بحد ذاته، ما يُضيّق الخناق على المدافعين عن حقوق الإنسان ويجعل أي محاولة لطلب الحماية الدولية محفوفة بالمخاطر.
تاريخيًا، استُخدمت هذه الآليات في العديد من الدول لخلق مناخ من الخوف والرقابة الذاتية، حيث أصبح النشطاء يحسبون خطواتهم بعناية، خشية أن يقعوا تحت طائلة هذه القوانين التي تمنح السلطات ذريعة قانونية لتجريم العمل الحقوقي. وهذا النهج لا يقتصر على التشريعات المحلية فحسب، بل أصبح جزءًا من استراتيجية عالمية تسعى إلى إعادة تعريف مفهوم "السيادة الوطنية" ليصبح سلاحًا ضد الحقوق والحريات الأساسية.
5. التداعيات الكارثية لهذه القوانين على المجتمع المدني
لم يكن عمل المجتمع المدني يومًا مهمة سهلة، لكن مع صعود القوانين التي تستهدف المدافعين عن الحقوق، تحولت هذه المهمة إلى معركة يومية ضد التخوين والملاحقة والتضييق القانوني. لم تعد التشريعات التي تحكم عمل المنظمات الحقوقية مجرد أدوات تنظيمية، بل أصبحت أسلحة سياسية تهدف إلى تقييد حرية التعبير، وإغلاق مساحات العمل المدني، وحرمان المجتمعات من الدور الحيوي الذي تلعبه هذه المنظمات في الدفاع عن الحقوق والحريات.
‌أ) خنق المجتمع المدني وإغلاق المساحات الحرة
1. إغلاق المساحات المدنية: مع استمرار هذه التشريعات، تقلصت قدرة المجتمع المدني على العمل بحرية، وتحولت بعض المنظمات إلى العمل السري أو البحث عن طرق غير تقليدية لمواصلة نشاطها. في بعض الحالات، أُجبرت منظمات كاملة على الإغلاق بسبب استحالة الامتثال لهذه القوانين.
2. تشويه صورة النشطاء والمنظمات: تعمل الحكومات على شيطنة المجتمع المدني من خلال حملات إعلامية مكثفة تصوره على أنه يعمل لخدمة "أجندات خارجية"، مما يؤدي إلى عزله اجتماعيًا وحرمانه من أي دعم محلي.
ب‌) تقويض حرية التعبير وتزايد الرقابة الذاتية
1. تقييد حرية التعبير: لم تعد القوانين تستهدف فقط المؤسسات، بل طالت الأفراد، مما خلق مناخًا من الخوف والرقابة الذاتية. بات النشطاء والصحفيون يحسبون كل كلمة يكتبونها خشية أن تُفسَّر على أنها "تعاون مع جهات أجنبية".
2. تجريم التعاون مع المنظمات الدولية: في بعض الدول، أصبح التعاون مع المنظمات الحقوقية الدولية جريمة يعاقب عليها القانون، مما يحرم النشطاء من قنوات الدعم والمناصرة العالمية.
ج‌) التأثير المدمر على التنمية والمساعدات الإنسانية
1. التأثير على التنمية: العديد من المشاريع التنموية تأثرت، حيث تم إغلاق أو عرقلة مشاريع إنسانية بسبب القيود المفروضة على التمويل الأجنبي. لم يعد بإمكان المنظمات التي تعتمد على الدعم الدولي تنفيذ مشاريع في مجالات مثل الصحة والتعليم وتمكين المرأة.
2. حرمان الفئات المهمشة من الدعم: القوانين القمعية لا تؤثر فقط على المنظمات، بل تمتد تداعياتها إلى الفئات الأكثر ضعفًا، مثل النساء، والأقليات، وضحايا العنف، الذين يعتمدون على هذه المنظمات للحصول على الدعم القانوني والاجتماعي.
د‌) إضعاف الديمقراطية وترسيخ السلطوية
1. إضعاف المعارضة والمشاركة المدنية: تؤدي هذه القوانين إلى تقليص المعارضة والمشاركة المدنية، مما يعزز الأنظمة السلطوية ويجعلها أكثر قدرة على احتكار المجال العام.
2. تحويل الدولة إلى سجن مفتوح للنشطاء: مع تشديد القيود، باتت بعض الدول بمثابة سجون مفتوحة لكل من تسوّل له نفسه تحدي السلطة، حيث تُستخدم هذه القوانين كأداة قانونية لشرعنة القمع وسجن النشطاء.
إن هذه القوانين ليست مجرد تدابير قانونية، بل هي جزء من منظومة قمعية أوسع تسعى إلى إسكات الأصوات الحرة وخنق أي محاولة لتغيير الواقع. ولذا، فإن التصدي لها لا يقتصر على المستوى المحلي فقط، بل يتطلب جهودًا دولية مناصرة ودعمًا متواصلًا من الهيئات الحقوقية والإعلامية. فالمعركة ليست فقط معركة قانونية، بل هي أيضًا معركة وعي، تتطلب فضح هذه الممارسات وإيجاد بدائل تمكّن المجتمع المدني من الصمود والاستمرار.
6. التبريرات الحكومية: بين ادعاءات الأمن القومي وحماية السلطة
منذ أن ظهرت هذه القوانين إلى الوجود، لم تكن مجرد أدوات قانونية عادية، بل صُممت بعناية لتمنح الحكومات سلاحًا يُستخدم لتبرير القمع تحت غطاء السيادة الوطنية وحماية الأمن القومي. تتذرع السلطات بأن هذه القوانين ضرورية للحفاظ على الاستقرار ومنع التدخلات الخارجية، لكن الواقع يكشف أن الهدف الحقيقي هو إحكام السيطرة على المجتمع المدني وإسكات الأصوات المستقلة التي قد تشكل تهديدًا للنظام القائم.
أ‌) الادعاء بحماية الأمن القومي ومنع التدخل الأجنبي
تروج الحكومات التي تتبنى قوانين "الوكلاء الأجانب" لفكرة أن التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية يُشكل خطرًا على استقرار الدولة، وأنه قد يُستخدم كأداة للتدخل في شؤونها الداخلية. هذه الحجة تستند إلى فرضية أن أي دعم خارجي يُترجم تلقائيًا إلى ولاءات مزدوجة أو تنفيذ أجندات خفية. لكن التدقيق في هذه المزاعم يُظهر أن هذه القوانين لا تستهدف حماية الأمن القومي بقدر ما تهدف إلى تقويض أي معارضة سياسية أو نشاط حقوقي مستقل.
ب‌) الشفافية المالية كذريعة للرقابة والقمع
تسوق بعض الحكومات مبررًا آخر، وهو أن هذه القوانين ضرورية لضمان الشفافية في تمويل المنظمات غير الحكومية، ومنع التلاعب بالأموال لأغراض مشبوهة. ومع ذلك، فإن المنظمات المستقلة تخضع أصلًا لأنظمة مالية وقانونية تفرض عليها تقديم تقارير دورية عن مصادر تمويلها. الفرق هنا أن قوانين "الوكلاء الأجانب" تذهب إلى أبعد من ذلك، حيث تُستخدم لإخضاع هذه المنظمات لرقابة تعسفية، وإجبارها على وصم نفسها بتصنيفات تقلل من مصداقيتها أمام الجمهور.
ج‌) الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي: أداة لإسكات المعارضين
من الحجج المتكررة أيضًا أن هذه القوانين تهدف إلى حماية الاستقرار الاجتماعي من الاضطرابات التي قد يثيرها المجتمع المدني، خاصةً إذا كان يتلقى دعمًا خارجيًا. تُصور الحكومات المنظمات الحقوقية على أنها أدوات للفوضى، وتسعى لربطها بحركات احتجاجية أو معارضة سياسية تهدد النظام القائم. لكن في الواقع، فإن هذه القوانين تخلق بيئةً من الخوف والتضييق، وتدفع النشطاء إما إلى الصمت أو العمل في الخفاء، مما يُقوض دور المجتمع المدني في تحقيق التوازن والمحاسبة داخل الدولة.
7. تفكيك التبريرات: القمع في ثوب الأمن
عند تحليل هذه التبريرات، يتضح أنها مجرد غطاء لإضفاء الشرعية على قمع الحريات. فلو كان الهدف الحقيقي هو تعزيز الشفافية، لتم تطبيق قوانين مالية عادلة تشمل جميع الجهات الفاعلة، بما في ذلك المؤسسات المرتبطة بالحكومات نفسها. ولو كان الدافع هو الاستقرار، لتم تشجيع الحوار والانفتاح بدلًا من تكميم الأفواه وتخوين النشطاء. لكن هذه القوانين، في جوهرها، ليست سوى أدوات تُستخدم لشرعنة القمع، وإحكام قبضة الدولة على كل ما يُشكل تهديدًا لسلطتها.
تسوق الحكومات مبررات متعددة لتمرير هذه القوانين، منها:
• حماية الأمن القومي ومنع التدخل الأجنبي.
• ضمان الشفافية في تمويل المنظمات.
• الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي.
لكن هذه المبررات تتهاوى عند التدقيق فيها، حيث يُظهر الواقع أن الهدف الحقيقي هو تقويض أي صوت معارض، وليس حماية الأمن القومي.


ردود الفعل الدولية
واجهت هذه القوانين انتقادات واسعة من المنظمات الحقوقية الدولية والمجموعات الإقليمية التي رأت فيها تهديدًا مباشرًا لحرية التعبير وتكوين الجمعيات. لم تقتصر هذه الانتقادات على الجهات الحقوقية الدولية، بل امتدت إلى الأنظمة الإقليمية للحماية، التي بدأت في تبني مواقف أكثر وضوحًا تجاه هذه التشريعات.
فعلى المستوى الأوروبي، أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عدة قرارات تدين هذه القوانين، مؤكدةً أنها تفرض قيودًا غير متناسبة على المجتمع المدني، وتتنافى مع الالتزامات الواردة في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، خصوصًا المادة 10 المتعلقة بحرية التعبير والمادة 11 الخاصة بحرية تكوين الجمعيات. بالإضافة إلى ذلك، دعا الاتحاد الأوروبي إلى ضرورة إعادة النظر في هذه التشريعات، مهددًا بفرض عقوبات على الدول التي تستغلها لتقييد الحريات الأساسية.
أما في السياق الأمريكي، فقد انتقدت لجنة الدول الأمريكية لحقوق الإنسان هذه القوانين، معتبرة أنها تُستخدم لترهيب المدافعين عن حقوق الإنسان. كما دعا مقرر منظمة الدول الأمريكية الخاص بحرية التعبير إلى ضمان عدم استغلال التشريعات الأمنية لقمع المعارضة السلمية.
في القارة الإفريقية، بدأت الآليات الإقليمية للحماية، مثل اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، في متابعة تأثير هذه القوانين، حيث تم توجيه توصيات إلى الدول الأعضاء لتجنب فرض قيود غير مبررة على المنظمات الحقوقية. كما ظهرت دعوات متزايدة لاعتماد صكوك إقليمية تعزز حماية المجتمع المدني من القيود المفروضة على التمويل الأجنبي.
وفي سياق الأمم المتحدة، لم يقتصر الرد على قرارات لجان المعاهدات والإجراءات الخاصة، بل تزايدت التوصيات باعتماد آليات جديدة، مثل تعيين مقرر خاص أو لجنة خبراء لدراسة تأثير هذه القوانين واقتراح بدائل تحافظ على الأمن القومي دون المساس بالحريات الأساسية. وبذلك، يتشكل توجه دولي وإقليمي واضح نحو مواجهة هذه التشريعات وإيجاد آليات أكثر فاعلية لحماية المجتمع المدني من التقييد الممنهج.
الخاتمة: نحو مواجهة التضييق
إن مواجهة هذه القوانين تتطلب استراتيجيات جماعية، من بينها الضغط الدولي، توعية المجتمعات المحلية بأهمية المجتمع المدني، وتطوير آليات تمويل بديلة لا تعتمد على القنوات التقليدية. فالمعركة ليست فقط قانونية، بل هي معركة على الوعي وعلى الحق في التنظيم والتعبير بحرية، بعيدًا عن تهمة العمالة للأجنبي التي أضحت سيفًا مسلطًا على رقاب النشطاء.



#خليل_إبراهيم_كاظم_الحمداني (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تعيين مستشار للمفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق : أزمة ...
- السيداو و التوصية 40: هل تجرؤ الحكومات على إعادة تشكيل -خرائ ...
- العراق في مواجهة التقييم الدولي توصيات الاستعراض الدوري الشا ...
- عشقٌ مشروط، ووداعٌ محسوب: أمريكا ومجلس حقوق الإنسان
- العراق في الاستعراض الدوري الشامل تحت الأضواء مجددًا.. اختبا ...
- -أن تكون مثقفًا في بلاد تحاول أن لا تموت على مهل-
- -الكرامة الغاضبة: كيف يولد الغضب الثورات ويعيد تشكيل العالم- ...
- إعادة إنتاج الاضطهاد: قراءة مادية تاريخية للعنف ضد المرأة
- الفضاء الرقمي كساحة جديدة للعنف ضد النساء قراءة تحليلية في ا ...
- الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية جدلية العلاقة وتحديات الت ...
- الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية جدلية العلاقة وتحديات الت ...
- المجال العام والحق في المدينة: قراءةٌ نقديةٌ لـ هايبرماس ولو ...
- الهشاشة المتقاطعة: العنف ضد النساء من الأقليات والفئات المست ...
- إرث الأدوار: رحلة الجندر في مجتمع مأزوم ((حيرة الجندر الحزين ...
- إرث الأدوار: رحلة الجندر في مجتمع مأزوم ((حيرة الجندر الحزين ...
- المثقفون في زمن الإلتباس : هل خانوا الكلمة أم خانتهم الكلمة؟
- أنياب السياسة وقضم حقوق الإنسان
- -انحدار تصنيف المفوضية العليا لحقوق الانسان في العراق: هل ست ...
- “العالم بين الرؤية الاقتصادية ورؤية حقوق الإنسان- محاولة بنا ...
- الارتداد العنيف ضدّ المساواة بين الجنسين دراسة في الديناميكي ...


المزيد.....




- اعتقال الطالب الفلسطيني محمود خليل يشعل موجة غضب في الولايات ...
- شهادات قاسية لمعتقلي غزة عن ظروف الاعتقال في معتقلات الاحتلا ...
- عنف الاستعمار بالجزائر.. فرنسا استخدمت التعذيب والحرق والأسل ...
- لجنة تحقيق أممية تستمع لشهادات عن انتهاكات إسرائيل بحق الأسر ...
- محدث:: مداهمات واعتقالات في الضفة الغربية
- الاحتلال يواصل إغلاق معبري كرم أبو سالم و-إيرز- وشبح المجاعة ...
- الأمم المتحدة تبلغ الـ80 و غوتيريش يسعى لإنقاذها ماليا
- اعتقالات بالضفة وهدم منازل وتحويل مبان إلى ثكنات عسكرية بطول ...
- إصابات واعتقالات في احتجاجات عنيفة في العاصمة الأرجنتينية (ف ...
- غوتيريس يطلق خطة لجعل الأمم المتحدة أكثر كفاءة في مواجهة الص ...


المزيد.....

- أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية / محمد عبد الكريم يوسف
- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - خليل إبراهيم كاظم الحمداني - الخيانة المقننة: كيف تستخدم الحكومات قوانين العمالة للأجنبي لقمع المعارضين؟