شاكرحمد
الحوار المتمدن-العدد: 8280 - 2025 / 3 / 13 - 08:23
المحور:
الادب والفن
تمهيد
إبتداءاً سأحذف المقدمة التعريفية بالشاعر حيث قُدِّمت بشكل وافٍ, وبجهود بحثيَّة متواصلة حتى اللحظة, من قِبل العديد من الكتَّاب الذين عاصروا الشاعر أو بحثوا في تجربتهِ الريادية في تحديث الشعر العراقي. وسأبتعد عن الجوانب اللغويَّة والنحويَّة المطروقة في أكثر البحوث, إلاَّ ما إتَّصلَ بالبنيَّة التشكيلية للنص الشعري. فالمعلوم أن تجربة البريكان كانت تجمع العديد من أدوات التوصيل للفكرة والرؤية والشعور في مسارين متوازيين: الأول هو مجموعة العناصر الباعثة للرؤية وتشكيل النص, والثاني مسار النص على فضاء الورقة, مساراً تشريحياً للجملة وللكلمة وللحرف ولبياض المساحة ودلالاتها الزمنية ويشمل ذلك التنقيطات والعلامات والإشارات ودلائل الصمت والوقفات.
أمامي مجموعة الشاعر التي جمعها وقدَّم لها الكاتب باسم المُرعبي تحت عنوان (متاهة الفراشة) وهو عنوان إحدى قصائد الشاعر - منشورات الجمل – 2003- على الوجه الأول للغلاف صورة البريكان وعلى الوجه الأخير للغلاف بضعة سطور كتبها الشاعر وذيَّلها بتوقيعه لكن التوقيع إفتقد تأريخ اليوم والشهر والسنة وكان التوثيق ضرورياً.
يُلخِّص الشاعر موقفه وموضوع القصيدة وفلسفتهِ في الشعر..يقول ( بالإجمال يبدو لي الشعر فنَّاً, لا يقبل التسخير, ولا يحيا مع الحذلقة, ليس الشعر وسيلة لتحقيق أي غرض مُباشر, ولا طريقة للتنفيس عن عواطف فجَّة ومن ثمَّ فهو لايخضع للتنظيم الخارجي, وقلَّما يعكس رغبات الشاعر اليومية, لأن منطقته هي منطقة الذات العميقة. فالشاعر هو إبن النزوع الإنساني, وموضوعه الأساس تجربة الوجود بكل شمولها. وهو تمثُّل خاص لواقع التغيير في الزمن, وقلق المصير, والتأرجح بين الراهن والمنشود. إن الموضوع الكامن وراء موضوعات الشعر هو التوتّر بين الحياة والموت. بين التحقق والضياع, وتلك العلاقة المُتحوّلة بين الروح والعالم. – محمود البريكان).
في الصفحة الأولى من الكتاب وتحت عنوان (إضاءات) صدَّر الباحث باسم المُرعبي ملاحظتين الأولى للسياب والثانية لسعدي يوسف نقتبس منها..(تعلمتُ من محمود البريكان, وهذا ما تعلمته من بدر[السياب].. الحرص على صفاء اللغة, مع الإنتباه إلى قدرتها على أن تتداول بين الناس.. أحياناً تبدو لغة البريكان صافية حد التجريد. أقول "تبدو" لأن النظرة التالية سوف تُعلمنا كم هي ملموسة ومحسوسة لغته. – سعدي يوسف – لندن – 12آذار- 2002).
كلمة البريكان تُلخِّص موقفه من الشعر, بما في ذلك الموقف من النشر, بما يشبه الإعتكاف داخل المُختبر التجريبي مع مُجمل أدوات الشعر التوصيلية. من وجهة نظره يسير تجديد القصيدة في خطوط متوازية؛ أولها لُغة الشعر والكيفيات الأسلوبية وعمليات التفكيك الموازية للنص الشعري. هذا الباب كان مفتوحاً لرواد الشعر الحديث منذ قصيدة (كوليرا) لنازك الملائكة. وبزعمنا أن روّاد الحداثة الشعرية في العراق توصَّلوا إلى أهم الشروط التي ينبغي توفرها في النص ليصبح شعراً وهي:
- كثافة الجملة بالقدر الذي يُغنيها عن كل زيادة أو نقصان, وتجريدها من التداول المألوف في الشعر العمودي. وتمخضَّ ذلك عن سيرورات تفكيكية للنص الأفقي والاغاضي عن تراتبية العبارات على السطور. فقد يمتد السطر بأربعة تفعيلات مع تذييل من البحر المُعتَمد في القصيدة ثمَّ يليه السطر التالي بجملة أو كلمة أو علامة أو إضمار عبارة وإستبدالها بالنقاط أو علامات التعجُّب والإستفهام. وقد تطول العبارة لتُغطي عدة سطور.
– الموسيقى الداخلية التي تُخاطب الحواس. ولا تعني بالضرورة التقيُّد بالإيقاعات الوزنيَّة.
– توظيف الإستعارة في تكوين الصورة الشعرية ما بين التعبيرية والسريالية. ودلَّ ذلك على تأثُّر الشعراء بالفنون التشكيلية و المكانية والحركيَّة, كالمسرح والسينما والرقص والموسيقى, وبالتكنولوجيا القادمة من أُوروبا وأمريكا مع دخول الصناعة إلى العراق في ميادين النقل بالقطارات والسيارات والمراكب البخارية و الكهرباء.
ترافقت هذه العوامل مع موجات سياسيّة صاخبة, إنعكست على موقف الشعر كما حددها البريكان في كلماته أعلاه.
إنصبَّت جهود الباحثين, بالنوايا الطيبة, حول تشريح اللغة نحوياً وصرفياً وبنائياً. من ضمنها دراسة الباحث باسم المُرعبي التي أعاد نشرها الكاتب كاظم حسن سعيد بمناسبة الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الشاعر. حلل الباحث في دراسته لقصيدة البريكان (الشاشة ) معتمداً تجزئة الصورة الشعرية المُتحركة في الظهور والإختفاء, لكن الباحث ربط تلك المسارات الجزئية بالجوانب النحويَّة والتعبيرية في ختام بحثه. إن قراءة النص الشعري (نحوياً) ينطوي على منهجية كلاسيكية تسري على الجميع ولا تخصُّ شاعراً بمفرده, ومثل ذلك تحليل النصوص على المقاربات الوزنيّة وإنتماء النصوص للبحور والتفعيلات.
تشمل الرؤية البريكانية منظوراً تشكيلياَ مُتعدد الزوايا, وسنأتي على الأمثلة تالياً في تحليل المقاطع و دلالاتها وأغراض الصورة. هناك حزمة أدوات في المُختبر؛ البؤر العينية والأشياء الماديّة, وتحديداً تلك الشذرات البلُّورية التي تنبثق منها صوراً غرائبية, وهي مستوحاة من الفنون التشكيلية. ومن تنقيبات الإنسان في الطبيعة وما تمنحه العدسات المجهرية وتلسكوبات الفضاء من كشوفات مافوق الطبيعة. إنتقلت هذه الصوَر الفضائية بما فيها تحليل الجزيئات الذريَّة إلى الفنون التشكيلية الأوربية, وإنتقلت إلى السينما في أفلام الخيال العلمي, وجرى توضيفها في تقنيات التصوير المُتحرِّك لترجمة التداعيات النفسية على الشاشة.
مَن يسترجع مسيرة الشاعر يرى علاقة تشكيلية رائدة بين الشاعر(الأنا الأعلى) وقرينه السارد, لرموز وكُتل وألوان وأضواء وظلال وأجسام تتحرك ضمن أُطر هندسية ولوحات, وأرقام وزوايا نظر تُحاكي وقفات المُصورين وإختياراتهم في تركيز العدسات على بؤر مُحددة ومن ثمَ ربط الصورة بالأنا الإعترافية والإيحاء بالمصائر والأقدار والحياة والموت.
في قصائده المُبكرة (1947-1957) يبدأ رحلة الكشف والمُكاشفة مع الأشياء المألوفة وغير المألوفة في منهاج الشعر العمودي. العنوانات تشمل(قبر في المُرج/ الغسَق/ ظمأ/ الإكليل /مصرع خيال/ تراب/ من أغاني العزلة/ظل/مجهولة/قتيل في الشارع/المرصود/عندما يصبح عالمنا حكاية/حادثة في المرفأ/الرقم96) تتغيَّر رؤية الشاعر في القصيدة الأخيرة المؤرخة عام 1957. موَجها مساره نحو منطقة التجريد, علماً أن القصائد التي سبقتها كانت تستشرف سرديات الحواس وتُنبئ بالإنزياحات المستقبلية. سيرورة الشعر البريكانية تنشأ من إستهلالات تصويرية لمشاهد أو حوادث مأساوية, تُفسِّر مواقف آيديولوجية مُنحازة إلى جانب الناس المنبوذين والمُضطهدين, على مدى التأريخ. وكأن الشاعر عايّش الشرائح هذه في منافيها وسجونها ومتاعبها وتساقطها في الشوارع والمرافئ. فيكون التصوير للأجزاء والتفاصيل الجسديَّة, وللتعابير النفسية التي تعكسها أحوال الضحايا. لم يتعرض الشاعر للتوقيف أو السجن في حياته. لكنَّ موضوع الإنسان السجين تمركزَ محورياً في عدد من القصائد سنقرأُها تالياً. السجين في مفهوم الشاعر هو الكائن المجهول الهويَّة والآيديولوجيا المُحددة. والمعلوم أن الشاعر البريكان لم يُبشِّر بنظرية سياسية ولا آيديولوجية علمية ماركسية. لكنه يجد نفسه مع الأفكار اليسارية والنظريات العلميَّة الطامحة لتغيير العالم. يمكن القول أن قصائده لهذه المرحلة عبارة عن طقوس في ملحمة المقهورين. فهو أقرب نسباً من المدرسة الفكريَّة الروسية, مدرسة دستويفسكي الذي كتب أعظم أعماله عن الناس المُشرّدين والسجناء والفقراء والمرضى. كثير من الكتّاب والفنانين تناولوا موضوع الأنسان السجين في أعمالهم. تناول هذه الموضوعات جان بول سارتر في رواياته ومسرحياته, وكتب فيها ألدوس هكسلي وجورج أورويل وجون شتاينبك.
من بين الفنانين التشكيليين كوربيه الذي كان عضواً في كومونة باريس ثمَّ سجيناً بعد سقوط حكومة الكومونة. ومن الفنانين الإنطباعيين فان كوخ فقد رسم مجموع السجناء يدورون في باحة السجن ورسم الفلاَّحين. وتكاد تكون المدرسة التشكيلية الروسيَّة الأكثر إنتاجاً وتوثيقاً لعالم السجون والمُعتقلات في العهود التي سبقت ثورة إكتوبر. وعلى غرارها مدارس الفن الأوربي في الدول التي كانت ضمن الإتحاد السوفيتي والإتحاد اليوغسلافي وجيكوسلوفاكيا وبولندا..
الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية كانت صاخبة على المستوى العالمي وقد أفرزت ظواهر أدبية تجريبية جديدة(تخطت مفهوم الحداثة الجمالية الشكلية ( وتعاملت المقاربة الروائية الجديدة مع حيوات أفراد الطبقتين (العمّالية) و (الدنيا المتوسطة) بلا حذلقات عاطفية بطولية.. كانوا [الأبطال] في الغالب خاسرين, مخمورين, كاذبين جوَّالين, وعابري سبيل لا أثر لهم ولا ذِكر..) - جيسي ماتز- تطوُّر الرواية الحديثة- ت:لطفيَّة الدليمي – ص 241- وأفرزت الحرب العالمية الثانية أجيال من الكتّاب الشباب سُمّيَ في أمريكا جيل البيتلز (عرّف جاك كيرواك جيل البيتلز ( كُتّاب وشعراء الغضب في أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية بأنهم أعضاء الجيل الذي شبَّ عن الطوق وبلغ سن الرشد مع نهاية الحرب العالمية الثانية أوالحرب الكورية... الجيل الذي خاض غمار الصراعات الإجتماعية والجنسيّة وتبنى أفكاراً مُناقضة للإنضباط الصارم..) – جيسي ماتز- نفسه – ص 245- لابد أن أصداء الحرب العالمية قد وصلت إلى أحيائنا وإنعكست على حياة التقشّف والفقر وما كان يُعطى في البطاقة التموينية من طحين أسمر ومن قماش الجيت (قماش الأكفان) وكان يُعامل بالأصباغ العطّارية مرّات حتى يتلف. تلك القصص سمعناها من الأهل, وفي كل بيت علامة أو شاهد من شواهد الحرب, كأغلفة مدافع الدانة التي يستعملها الناس أواني لدقّ البذور وغير ذلك.. أمّأ مثقفوا بغداد فكانوا يلتقون في مقهى في الأعظمية أطلقوا عليها إسم (الواق واق) وكانوا يتداولون فيها الأحاديث في السياسة والفن والأدب والموسيقى, ولا بد أن صوَّر لوحات بيكاسو عن الحرب الكورية وجورنيكا قد وصلتهم ولم يكن الشعراء مثل السياب ونازك والبياتي ومحمود البريكان بعيدين عن تلك اللقاءات كما تروي ذكرياتهم وتسرَّبت أصداءها إلى أشعارهم بتعابير مُباشرة كما عند السيّاب في قصيدته (الأسلحة والأطفال). أو بأشكال رمزية كما ظهر في قصيدة نازك الملائكة (كوليرا). يمكننا القول أن أوضاع العالم يومئذٍ كانت تُدوي بالضوضاء الفكرية والفنيّة على السواء. فالتمرد على الشكل الفني (العمود الشعري) ترافق مع تجارب تفكيكية في المباني الشعرية متوازيا مع موجات الحداثة في السينما والفن التشكيلي والموسيقا؛ كالسريالية والتكعيبية والوحوشية والتجريدية وما بعد الواقع وما بعد الحداثة.
يمكننا الآن إعادة تصوُّرات الشاعر محمود البريكان إلى زمن كتابتها. أي السنوات العشر التي تبدأ بعام 1947والتي كان عمر الشاعر فيها ستة عشر عاماً, وهو سن تلميذ الصف الرابع الإعدادي. وفي شوط الدراسة يقظة أدبية وفكريَّة ووعي سياسي. رغم أنه إختار الدخول إلى عالم الوعي من خلال الإبداع والتجديد. تشير قصائد المرحلة الأولى إلى صراع مع الشكل الفني للقصيدة وصولاً إلى مبناها الرشيق المسمى قصيدة التفعيلة وهي محطة وقتية في محطات جميع شعراء المرحلة. ثمَّ تجاوزها أغلبهم بإتجاه الشعر الحر وقصيدة النثر. كان الشاعر مواكباً للتطورات السياسية وإنعكاساتها على الواقع الإجتماعي ومواقف السلطة الملكية من الإحتجاجات الشعبية ومقابلة التضاهرات السلميِّة بالرصاص, وكما هو معروف في سرديات التأريخ العراقي الحديث. فكانت موضوعات الشاعر مستوحاة من هذا الغليان التأريخي. أقول مستوحاة كحوادث ترجمها الشاعر في صياغات رمزية على مباني من الصوَر الشعرية. وهنا نؤكد للقارئ أن كتابتنا عن هذه المرحلة من تجربة الشاعر لاتعني بحثاً في سيرته السياسية, إنما ثمَّة مواقف آيديولوجية وراء النصوص والصوَر الشعرية والإستعارات والرموز لايمكن تخطيها والإكتفاء بتجاربه الشكليّة في اللغة والوزن والإيقاع وغيرها. كيف إختار الشاعر موضوعات المضاهرات والسجون ومراقبة النشطاء المُثقفين ورصد حركاتهم ليخلق منها عوالم شعرية ما بين الواقع والخيال؟ لم يكن مُبشراً لآيديولوجيا سياسية, بل كان شاهداً على أحداث تراجيدية في وقت إنشغاله بقضيَّة الشكل الفني في مرحلة صراع المباني الشكلية في القصيدة العربية. تتألف القصيدة البريكانية من مبنى موضوعي ومن نسيج مقاطع؛ وحدات صغيرة؛ وحدة تصويرية منظورة من بعيد؛ تليها وحدة تشريحية بتصوير مجهري؛ بعدها وحدة اللاَّوعي النفسيَّة الإعترافية؛ وحدات حوارية مُعلنة وغير مُعلنة, مونولوجيَّة. وقد تتكرر الوحدات وتتباين زوايا الرؤية وصولاً إلى الوحدة الأولى التصويرية كما سنرى في قراءة بعض القصائد.
كان يؤسس لأشكال ستظهر لاحقاً بتأثيرات تشكيلية, رسم ونحت, أشكال وخطوط وظلال وعوالم مجهرية, وسينمائية من طفرات الحداثة ما بعد الإنطباعية كالتجريد والسريالية, ومن تداخل الفنون المكانية مع الفنون الزمانية. يمكن الإنتباه إلى أن موضوع (السجين) تكرر وتطوَّر في تجربة الشاعر؛ من الموضوع التجسيمي, المرئي والمُدرك حسيَّاً, إلى التكوين الرمزي المُستعار من الفنون التشكيلية كموضوع (التمثال) في القصيدة بهذا العنوان, سنقرأها لاحقاً وقصيدة (حارس الفنار) وهو إنسان موضوع في غرفة فوق مستوى الإرتفاعات ليرى البحار والآفاق وأعماق المياه ويرى سيرورة التأريخ تنساب أمامه كحالة التمثال الذي يرمر لمملكة تنهار وتتساقط علاماتها. في عالمه منظومات من الصوَّر الثابتة والمُتحركة والأصوات والإيقاعات الداخلية؛ النبض والترقّب والإنتظار. تلك المنظومات السيميولوجية مُشبَّعة بالقلق والخوف وكأن شبح السجن أو الإغتيال راقدٌ فيها. يرى الشاعر موضوعه الإنساني من زوايا نظر مُختلفة وتُعبِّر عن تلك الزوايا أوضاع الشخصيات في الأماكن وإستخدامات الضمائر السردية. ضمير المُتكلم هو الأقرب في النقل الداخلي للعواطف ورؤية أطراف الزمن الشخصي, الماضي والمستقبل إنطلاقاً من اللحظة الحاضرة. اللحظة في حياة السجين تُضاهي سنوات في الطول والأهميّة. كما في قصيدة الشاعر(الرقم 96) وقصيدة (هواجس عيسى بن أزرق في الطريق إلى الأشغال الشاقّة/1958). و(أُغنية حب من معقل المنسيين/1958)و(أُسطورة السائر في نومه)و(إنسان المدينة الحجرية/1959) و(أُغنية رعب هادئ/1959).(فن التعذيب/1961) (في الرياح التأريخية/1962).
في هذه القصائد وغيرها طوفان في الزمن ومحاور تلتقي حول مركز جذري هو الإنسان الضائع في مواجهة الأقدار في الكهوف أو في عصر الكهرباء؛ إعترافات وحوارات داخلية ومونولوجات من عالم اللاَّوعي وأحلام اليقظة. في سيَّر المُبدعين, على إختلاف أدواتهم, توجد فترات من الإعتكاف حول محور موضوعي أو بؤرة جمالية. وقد يمتد الإعتكاف لمدة زمنية طويلة. مثال ذلك إنشغال بيكاسو باللون الأزرق لمدة عشرين سنة وسمَّيَّت المرحلة الزرقاء. ثمَّ أعقبها بمراحل أُخرى تختلف في موضوعاتها وألوانها. وينطبق هذا التقييم على الكتَّاب والشعراء تبعاً لأطوار حياتهم. ومن هذا الإعتقاد نرى أن شعر محمود البريكان يُصاغ في الغالب مُتأثراً بالمدارس التشكيلية الحديثة. يرسم المشهد الأولي باللمسات الإنطباعية (يصف مشهد الإستهلال بصوت هادئ وسرد خبري) ثم يشتغل بالضربات الحادة (شظايا ورموز تأريخية وتداعيات وتجاور أضداد) فيكون أقرب إلى تكعيبية بيكاسو في لوحته (الجورنيكا) التي جمع فيها حِزماً من المشاهد غير الخاضعة لروابط منطقية. لذلك نرى أن قراءة قصائده ينبغي أن لا تتقيَّد بالمعايير السائدة في تحليل الأشكال اللغوية والنحوية والوزنية, وهو أُستاذ اللغة العربية وصانع الصورة الشعرية الغرائبية. يتوجب هنا مقاربته مع بيكاسو والدادائيين والسرياليين وكل المُجددين في الأدب والفن.
ومن التواريخ التي ثبَّتها الشاعر مع قصائدة نستنتج مرحلة شعرية موضوعها الإنسان وهمومه الوجودية على مدى التأريخ. تعددت حالات ومصائر الناس؛ فقد يكون السجن مكاناً للتعذيب وللبوح بالتداعيات النفسية, وقد يكون الإنسان في المكان الرمزي كالقفص الزجاجي. ويظهر الكائن الإنساني شبحاً أو تمثالاً أو حكاية يرويها سجين لتتحول إلى قصة حب. تبدأ رؤية الشاعر من الوضع الإنساني الواقعي, ثمَّ تنمو السيرورة بإتجاه التأريخ والجغرافية الميتافيزيقية وعوالم التجريد. وهكذا تتشكَّل الرؤية لموضوع (السجين المجهول) منذ الأربعينيات وحتى مطلع العقد الستيني من القرن الماضي ولأجل ذلك ثبَّتنا تواريخ بعض القصائد كما وردت في المُختارات (متاهة الفراشة).
(يتبع)
#شاكرحمد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟