محيي الدين ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 8280 - 2025 / 3 / 13 - 08:22
المحور:
الادب والفن
حنيني غريب .. إلى صحبتي .. إلى إخوتي .. إلى حفنة الأشقياء الظهور ينامون ظهراً على المصطبة .. وقد يحلمون بقصر مشيد .. وباب حديد .. وحورية في جوار السرير .. ومائدة فوقها ألف صحن .. دجاج وبط وخبز كثير ..
كنت وقتها طالباً بكلية الهندسة بجامعة القاهرة، وكنا نستعد بجدّ لبروفات مسرحية "الأميرة تنتظر" للمشاركة في مسابقة الجامعة، وكانت الساعة الرابعة عصراً حين دخلنا مسرح الطليعة الخالي من الجمهور، وما لبث أن تلاقت أعيننا مع نور ساحر ينبعث من ركن الصف الثالث الأمامي، حيث كان جالساً الشاعر الأسطورة صلاح عبد الصبور.
لقد كان ذلك المشهد بمثابة بصيص من ضوء الحقيقة في عالمنا الجامعي، حينما أصبح لنا لقاء لا يُنسى مع من تجسّد فيه الشعر، وتجسدت معه معاني جديدة، للحياة والتمرد على القيود.
وُلد صلاح عبد الصبور في مايو 1931، في بيت يملأة عبق الأدب والحنين؛ كانت والدته السيدة اعتدال عثمان الباجوري، هي معلمته الأولى، وأول من وضعته على سلم الفن والأدب، فهي أول من أهدته أولى كلمات الحب والعطاء، بينما كان والده، عبد الصبور يوسف الحواتكي، يعمل بوزارة الداخلية ولاعلاقة له بعالم الأدب والفن، ولذلك كان يردد صلاح عبد الصبور دوما في جلساته الخاصة، أنه ورث شغفه الكبير بالإبداع من والدته، بل أن هذا الميراث، هو ما دفعه منذ صغره إلى أن يسلك درب الشعر، متخلياً عن دروب الطب في عام 1947، لينضم إلى كلية الآداب ويتتلمذ على يد الشيخ أمين الخولي الذي شارك في ثورة 1919 ونفاه الإنجليز مع سعد زغلول إلى جزيرة سيشيل.
ولم يمر وقتٌ طويل حتى انطلقت مسيرته الأدبية وانضم إلى جماعات "الأمناء" و"الجمعية الأدبية"، فصدرت دواوينه الأولى "الناس في بلادي" و"أقول لكم" التي رسّخت مكانته بين أبناء الشعر الحر، وجعلت من كلماته مرآة تعكس نبض الوطن وحكايات الشباب الثائر.
وفي إحدى اللحظات التاريخية، قدم له صديقه مرسي جميل عزيز، أحد أعز أصدقاء عبد الحليم حافظ، الفرصة لكتابة قصيدة "لقاء" لعبد الحليم حافظ، لتصبح بذلك جسراً من العاطفة بين الموسيقى والشعر، ولينقل اسمه إلى آفاق الشهرة الأدبية.
لم يكن نجاح صلاح عبد الصبور معزولاً عن معارك الفكر؛ فقد خاض صراعات محتدمة مع نقاد تقليديين مثل عدوه اللدود الأديب والشاعر والروائي الكبير "عباس محمود العقاد" الذي رفض اعتناق الشعر الحر واصطفى منهج الوزن والقافية كأساس للأدب، معتقداً أن التجديد ماهو إلا خروج عن التراث؛ ففي إحدى الحوارات الحامية تحدى العقاد "صلاح عبد الصبور" بقوله: "أتحداك ياصلاح أن تقرأ عشرة أسطر من النثر دون أن تخطئ في تشكيلها!"، وكان رد صلاح عبد الصبور على هذا التحدي جريئا في مقال له عنونه بأسم "والله العظيم موزون" وهو مقال كان له وقعٌ مدوٍ في الساحة الأدبية، معلناً أن التجديد ليس نقضاً للتراث بل هو تجسيد لروح الكلمة الحرة.
كما شهدت مسيرة صلاح عبد الصبور، مراحل تنمر درامية على المستوى الوطني والدولي؛ ففي مهرجان دمشق الشعري هدد العقاد بالاستقالة من منصبه لدى وزارة التربية إذا تم السماح لصلاح أو لزملائه مثل عبد المعطي حجازي أو فتحي سعيد بإلقاء قصائدهم هناك، وحيث كانت معارك الفكر والثقافة تمثل ساحة حقيقية للتحدي بين منارات النقد الكلاسيكي كالعقاد، ومن يمثل روح التجديد الحر كعبد الصبور وجيله.
كنت أتمنى أن أراه وأن أستمع له وهو يتكلم، فقد كان بالنسبة لنا جميعاً هرماً عظيماً يجسد الأدب العربي المعاصر، كان هزيلاً جداً ولا يترك سيجارته تسقط من يده إذ كان يشعل سيجارة من أخرى، ووقتها دارت معه نقاشات كثيرة كانت تنتقده وربما أتذكر عبارة قطع بها كل الأسئلة التي حاوطته بأن قال بصوت خافت: "دعوني أجد ثمن السيجارة التي لا غنى لي عنها فقد أخذ مني السجن والاعتقال كل شيء"، كنت صغيراً فلم أستوعب خطابه القصير وحزنه العميق اللاهث، لكن فرحتي بلقائه كانت أعظم من أي لغز شاب هذا اللقاء القصير.
وعلى الرغم من معاناة الشاعر من موجات التنمر والهجوم على مبادئه الوطنية والفكرية، ظل محافظاً على حرية التعبير ومُعلناً دائماً أن الفن هو صوت الحرية؛ فكانت كلماته وكتاباته في صحيفة "روزاليوسف" ضمن سلسلة "ماذا يبقى منهم للتاريخ" التي تناولت إبداعات عمالقة الفكر مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وإبراهيم المازنى، شهادة خالدة على أن الكلمة الصادقة قادرة على تحدي الزمن.
ولم يكتمل مسار حياته دون أن تشهد نهايته لحظة درامية أخيرة؛ ففي منزل أحمد عبد المعطي حجازي، التقى برسام الكاريكاتير بهجت عثمان الذي كان في قمة غضبه بسبب التطبيع ومشاركة إسرائيل في معرض الكتاب الذي تشرف عليه الهيئة المصرية العامة للكتاب والتي كان يرأسها الشاعر صلاح عبد الصبور، إذ انطلقت كلمات قاتلة من فم بهجت عثمان وقال لصلاح عبد الصبور: "بعت نفسك بمليم يا صلاح". ولم يتحمل قلب صلاح عبد الصبور هذه الكلمات فمات متأثراً بها بعد ثلاثة أيام فقط في 13 أغسطس 1981.
هذه ظلال صغيرة أتذكرها من حياة أسطورة الشعر الحر، الشاعر المتمرد صلاح عبد الصبور، ولعلنا نظل نتذكر كلماته التي يقول فيها:
الشعر زلتي التي من أجلها هدمت ما بنيت .. من أجلها خرجت .. من أجلها صُلبت .. وحينما عُلقت .. كان البرد والظلمة والرعد .. ترجني خوفاً .. وحينما ناديته، لم يستجب .. عرفت أنني ضيعت ما أضعت.
إن صلاح عبد الصبور سيظل صوتا شامخاً كمنارة لا تنطفئ، مشعلاً دروب الأرواح الباحثة عن الحرية ومُلهماً لمن يسير على خطاه، فهذا الشاعر الأسطوري لاشك رسم بمفرده خريطة الفكر والتجديد، وكان رمزاً للتمرد على القيود والظلمات التي حاولت أن تحجب نور الكلمة الصادقة، وصارت كل قصيدة من قصائده بمثابة جسر يربط بين الماضي العتيق ومستقبل واعد لا يعرف إلا شغف الإبداع، إن صلاح عبد الصبور، في كل بيت من قصائده، مازال يتردد صدى وطن، صدى يحلم بأن يكون له وجه جديد، وكل كلمة نطق بها في قصائده مازالت بمثابة دعوة لنهضة روحية تعيد للبشر قيم العشق والحرية، إنها نداءات من قلب لم يعرف الاستسلام، وفي حضوره، كان الشعر يتحول إلى لغة عشق وصمت عميق، حيث تتراقص الحروف على إيقاع قلوب المتمردين وتتمايل مع نسيم الأمل الذي لا ينقطع، فكان رمزاً للكرامة والصدق، ينشد حكاية وطن عانى من جراح الزمان وظلمات الواقع، حكاية تحدّت كل الصعاب لتبقى منارة للأجيال.
إن رؤيتي له في تلك اللحظات، وهو يشعل سيجارة تلو الأخرى أراها وكأنها مشعل يقود طيفه في سماء الحرية، لقد كانت لحظة ساحرة جمعت بين الحنين والجرأة، بين الألم والأمل، لتذكرنا بأن الكلمة الصادقة هي جسر بين الروح والكون، لا يستطيع الظلام أن يخبو نورها مهما اشتدت العواصف.
هنا تتجلى قضية الشاعر الوطنية التي حملها في قلبه وروحه؛ فقد وقف صفاً واحداً مع كل من آمن بأن الفن سلاح لا يُقهَر، وأن الحرية لا تُباع بثمن، بل تُستحق بالنضال والوفاء.
إن إرث صلاح عبد الصبور، ليس مجرد دواوين أو مقالات، بل هو شعلة خالدة تلهم كل من يبحث عن بصيص نور في عوالم الظلام، وتعيد إلى الأذهان معاني الحب والعشق الحقيقي، ومن ثم، تظل قصته مرآة تعكس عظمة روح لا تموت.
وفي كل كلمة من كلماته، وكل سطر من سطوره، نجد أن روحه المتمردة لم تنطفئ، بل استمرت تتجدد في عروق الأدب كأنها نغمة خالدة لا تنقطع، تدعو القلوب إلى صفاء لم تعهد مثيله، وتهمس في أذان الزمن بأن الحرية تُولد من رحم المعاناة وتزهر في حدائق النضال.
هكذا ستبقى قصة صلاح عبد الصبور شاهدة على أن الإبداع الحقيقي لا يعرف حدوداً، وأن الكلمة التي تُكتب بمداد الحب والتمرد تشكل الأساس الذي يُقيم عليه مستقبل الشعوب، فتظل خالدة في ذاكرة الإنسان، رمزاً للحرية .. القوة .. الحياة، تلك التي تنبض دوماً بالأمل والتجدد.
#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟