|
تناقضات في قوة الاقتصاد الأمريكي!
ادم عربي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8278 - 2025 / 3 / 11 - 13:51
المحور:
الادارة و الاقتصاد
هيمنة الدولار الذي وُلدَ لصاَ! بقلم : د. ادم عربي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أصبحت معظم دول العالم قادرة على شراء ما تحتاجه تقريباً من الولايات المتحدة، التي كانت تلتزم في الوقت ذاته بتبديل عملتها الورقية بالذهب. حيث كان بإمكان أي دولة أنْ تحصل على الذهب من الولايات المتحدة عند إعادة الورقة الخضراء إليها.
مع انخفاض الحصة العالمية للولايات المتحدة في الصادرات الصناعية، وإعلانها وقف قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، تراجعت بشكل كبير الحاجة إلى الدولار في المعاملات الدولية ، سواء في التجارة أو في عمليات الدفع والاحتياطي النقدي. وفي ظل هذه التغيرات، برزت فكرة "البترودولار" كفكرة جهنمية جديدة تعيد للدولار أهميته. النفط، كسلعة استراتيجية عالمية، يشكل حاجة أساسية لجميع الدول، مما جعله أداة مثالية لتعزيز الطلب على الدولار. وفي هذا السياق، لعبت السعودية، التي كانت أكبر مصدر للنفط في العالم عام 1973، دوراً محورياً حمتْ الدولار من الهلاك عندما وافقت على تسعير نفطها بالدولار فقط. هذا الاتفاق أدى إلى إحياء الحاجة العالمية للدولار، حيث أصبح شراء النفط بالدولار شرطا ًأساسياً للتجارة النفطية العالمية. وهكذا، تحول النفط إلى أداة تعيد للدولار الأمريكي مكانته كعملة رئيسية في الاقتصاد العالمي، خاصة وأنَّ الولايات المتحدة، كانت مستورد رئيسي للنفط آنذاك، مما أتاح لها طباعة كميات هائلة من الدولارات ، وآصبحت تتمتع بقدرة غير محدودة على طباعة الدولار ، وقد كتب التاريخ أنَّ السعودية حمتْ الدولار من هلاكه المحتوم آنذاك. وهكذا ظهر نظام البترودولار إلى الوجود، ليحل الذهب الأسود (البترول) محل المعدن النفيس الأصفر (الذهب) كأساس للقيمة النقدية العالمية. ودخلت السعودية التاريخ كدولة لعبت دوراً محورياً في إنقاذ الدولار من الانهيار المحتمل، مؤكدة مكانته كعملة عالمية رئيسية. وبحلول عام 1975، اتفقت جميع الدول الأعضاء في منظمة "أوبك" على تسعير صادراتها النفطية بالدولار حصرياً، مما عزز من هيمنة العملة الأمريكية على الاقتصاد العالمي. وكأن هنري كيسنجر، من خلال الاتفاقية التي عقدها مع السعودية، أراد أن يوجه رسالة واضحة للعالم بأسره مفادها أنَّ الحياة لا تستقيم دون النفط ولا غنى عن النفط ، ولا يمكن الحصول على النفط إلا بالدولار ولذلك لا حياة دون دولار ولا دولار دون حياة. وهكذا أصبح الدولار مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بأهم سلعة استراتيجية في العالم، مما ضمن استمرار هيمنته المالية. تُعد الولايات المتحدة، ولا تزال، القوة العظمى المهيمنة على الساحة العالمية، إلّا أنَّ بنيتها الاقتصادية تحمل في طياتها مجموعة من نقاط القوة والضعف التي لا يمكن تجاهلها. ومن أبرز التحديات التي تواجهها هو التراجع المستمر في حصتها من الإنتاج الصناعي العالمي، والذي يمكن تتبعه عبر الأرقام التالية: ففي عام 1945، كانت حصتها تبلغ 80%، ثم انخفضت إلى 55% في بداية الستينيات، واستمرت في الانحدار حتى وصلت إلى 25% عام 2010، ثم إلى 18% بحلول عام 2024. ومع ذلك، احتفظ الدولار بمكانته كالعملة العالمية الرئيسية.
إلى جانب ذلك، شهدت الولايات المتحدة تزايداً ملحوظاً في الميل نحو الاستهلاك، يقابله تراجع مماثل في الميل نحو الإنتاج والاستثمار. هذا التحول أدى إلى تعزيز الاعتماد على الاستدانة، حيث أنَّ سهولة الحصول على القروض زادت من الميل نحو الاستهلاك الشخصي، مما خلق حلقة مفرغة من الاستهلاك والاقتراض، مما يزيد من تعقيد التحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد. قامت الولايات المتحدة بتفكيك العلاقة الطبيعية التي كانت تربط بين كمية النقد المتداول عالمياً وقيمة السلع المنتجة، سواء كانت صناعية أوْ زراعية. ففي الوقت الذي يقدر فيه الناتج الإجمالي العالمي بحوالي 100 تريليون دولار، نجد أنَّ كمية النقد المتداول في الأسواق والبورصات المالية العالمية تصل إلى نحو 1000 تريليون دولار. وهذا التفاوت الكبير يشير إلى أنَّ المعروض من النقد المتداول على مستوى العالم يتجاوز قيمة الإنتاج المادي من سلع وخدمات بعشرة أضعاف تقريباً! وهو ما يعكس اختلالاً كبيراً في التوازن بين القيمة الحقيقية للاقتصاد العالمي وحجم السيولة النقدية التي يتم تداولها، مما يطرح تساؤلات مثل حول استدامة هذا الوضع وتأثيره على الاستقرار الاقتصادي العالمي وطباعة دون قيود للدولار. على الرغم من انتهاء الحرب الباردة، استمر الإنفاق العسكري في الولايات المتحدة في التصاعد بشكل كبير، حتى تجاوز تريليون دولار، مما يعكس أولوية عسكرية متزايدة رغم تغير الظروف العالمية. وفي المقابل، فقد الاستثمار في الولايات المتحدة جزءاً كبيراً من جاذبيته، مما أدى إلى تفاقم ظاهرة هروب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية من البلاد، وذلك لأسباب عديدة يأتي في مقدمتها تراجع معدلات الأرباح.
إلى ذلك، تظهر التفاوتات الاقتصادية بشكل صارخ في المجتمع الأمريكي، حيث تفوق ثروة 10% من السكان ثروة 80% منهم. كما أنَّ الفجوة في الدخول آخذة في الاتساع والتعمق بشكل كبير، ففي بداية الثمانينيات، كان دخل رئيس الشركة يعادل 30 ضعف دخل العامل العادي في المتوسط، ثم ارتفعت هذه النسبة إلى 300 إلى 1 بحلول نهاية التسعينيات. أما اليوم، فقد وصلت هذه النسبة إلى 3000 إلى 1، مما يعكس تفاوتاً هائلاً في توزيع الثروة والدخل داخل المجتمع الأمريكي. الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنَّ الجزء الأكبر من الثروات المالية في الولايات المتحدة لا يتم استثماره في القطاعات الإنتاجية الحقيقية مثل الصناعة والزراعة، والتي تُعد مصادر الثروة الحقيقية للأمة، بلْ يتم توجيهه نحو قطاع الخدمات، وخاصة في الأوراق المالية والمضاربات.
من ناحية أخرى، دخلت الولايات المتحدة مرحلة جديدة من الاستقلال النفطي، مما يقلل من اعتمادها على واردات الطاقة. كما أنَّها تمتلك الحصة الأكبر من احتياطيات الذهب العالمية، مما يعزز من مكانتها المالية. ومع ذلك، فإن الدين الحكومي الأمريكي وصل إلى مستوى مذهل يقدر بنحو 36 تريليون دولار، مما يزيد من مخاطر "الغرق الاقتصادي".
وفي ظل هذه التحديات، تتعاظم احتمالية تعرض الولايات المتحدة لأزمة اقتصادية كبيرة. ولكن الخطر الأكبر هو أنَّ العالم بأسره قد يغرق معها، حيث أنَّ الاقتصاد العالمي مرتبط بشكل وثيق بالاقتصاد الأمريكي، مما يجعل من الولايات المتحدة "زورق نجاة" للعالم، حتى لو كانت هي نفسها تواجه خطر الغرق ، فالعالم بوضعه الحالي أحرص من الولايات المتحدة على استقرار الدولار ، حتى أنَّ للأفراد مصلحة في ذلك ، فلا أظنُّ أنَّ أحداً يودُّ أنْ يصحو من نومه ليجد مدخراته قد تبخرت.
لحل مشكلة العجز في الموازنة والميزان التجاري وميزان المدفوعات، تحتاج الولايات المتحدة إلى تحقيق معدل نمو اقتصادي سنوي يفوق 10%، وأن يستمر هذا المعدل لمدة 75 عاماً متواصلة. إلّا أنَّ هذا الهدف يبدو مستحيلاً، خاصةً وأنَّ معدل النمو الاقتصادي للولايات المتحدة لم يتجاوز 4% حتى خلال سنوات الازدهار الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي.
وتكمن المفارقة في أنَّ الولايات المتحدة، التي تُعد أغنى دولة في العالم، هي أيضاً أكبر دولة مدينة على مستوى العالم. فهي تجمع بين قمة الثروة وقمة الديون، وهو تناقض يسلط الضوء على التحديات الهيكلية التي تواجهها. تُهيمن الولايات المتحدة على ما يقارب 40% من حجم التجارة العالمية، حيث بلغت صادراتها 273 مليار دولار ووارداتها 365 مليار دولار في عام 2024. كما تساهم بحوالي 25% من الإنتاج العالمي للسلع والخدمات، بما يعادل 25 تريليون دولار. ومع ذلك، فإنَّ الولايات المتحدة تشكل حالة استثنائية في الاقتصاد العالمي، حيث تتجاوز استهلاكها حدود إنتاجها. فبينما تنتج نحو 25% من السلع والخدمات العالمية، تستهلك أكثر من 45% منها، وهو ما يناقض القاعدة الاقتصادية للبشر التي تقضي بعدم قدرة البشر على استهلاك أكثر مما ينتجون.
واللافت للنظر أنَّ الولايات المتحدة، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5% من سكان العالم، تستهلك ما يقارب 42% من الطاقة العالمية، ونحو 50% من السلع والخدمات المنتجة عالمياً. هذه الأرقام تعكس حجم التفاوت الكبير بين إنتاج الولايات المتحدة واستهلاكها، وتُبرز دورها كقوة اقتصادية مهيمنة تعتمد بشكل كبير على الموارد العالمية لتحقيق مستويات استهلاكية تفوق بكثير إسهاماتها الإنتاجية ،فيا للعجب!.
#ادم_عربي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما زالت المرأة العربية عبدة للعبيد !
-
الحتمية ماركسياً ودينياً!
-
متى تأخذ الطبقة العاملة مصيرها بيدها؟!
-
تطوير الآلة وتأثيرها على المجتمعات!
-
عبث الظلال!
-
الترامبية وهم عابر أم إستراتيجية دائمة؟
-
ماركس يتحدى نقاده في الاقتصاد!
-
شبحُ ماركس يعود مع كل أزمة!
-
أَكَادُ أَتَفَجَّرُ!
-
في حرية التعبير!
-
الزمن!
-
البراءة والخطيئة!
-
يجب الارتقاء بصناعة الإنسان في مجتمعاتنا!
-
أوهام البقاء!
-
سوء فهم أفكار ماركس!
-
الحرب والأخلاق!
-
القمر والنار!
-
حرب البترودولار!
-
مشكلة الفهم والتفسير في السياسة!
-
خُمرُ المَعابِد!
المزيد.....
-
رسوم ترامب على الصلب والألمنيوم.. كيف أثرت على الاقتصاد في ا
...
-
استعداد عراقي لإطلاق الدينار الرقمي.. خطوة نحو اقتصاد بلا نق
...
-
ترامب يؤكد أن الرسوم الجمركية هي الحل الأنسب لأزمة الاقتصاد
...
-
روسيا وإيران توقعان مذكرة تفاهم بشأن الإنتاج المشترك للإلكتر
...
-
24 مليون دولار أرباح أوراسكوم للتنمية مصر في 3 أشهر
-
أرباح فولكسفاغن تهبط 31% بفعل المنافسة الصينية
-
خسائر تسلا وسقوط ناسداك وهجوم -إكس-.. ما علاقة إيلون ماسك؟
-
الإنتاج الصناعي السعودي يرتفع 1.3% على أساس سنوي في يناير
-
الذهب يرتفع قبل بيانات التضخم الأميركية
-
1.22 مليار دولار تضخ في العقارات السكنية بالسعودية هذا العام
...
المزيد.....
-
دولة المستثمرين ورجال الأعمال في مصر
/ إلهامي الميرغني
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ د. جاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|