للاإيمان الشباني
الحوار المتمدن-العدد: 8277 - 2025 / 3 / 10 - 16:48
المحور:
الادب والفن
حميد بركي : مسار فكري أدبي
...
حميد بركي، الشاعر والمفكر والناقد المغربي، يُعدّ أحد أعمدة الشعر والفكر النقدي في المغرب والعالم العربي، حيث جمع بين الحس الأدبي العميق والرؤية الفلسفية المتجذرة في التراث الإسلامي والإنساني. لقد تشكل وعيه الإبداعي في بيئة زاخرة بالعلم والتصوف، إذ ينتمي إلى سلالة الأشراف الأدراسة، ويعود نسبه إلى آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما انعكس بوضوح على مسيرته الفكرية والأدبية، حيث حمل في كلماته وأشعاره إرثًا روحيًا ولغويًا عريقًا. فجدّه بوشعيب تزوج بابنة قائد تمصلوحت، القايد محماد، الذي كان قائدًا للشرفاء، ووالد جدّه اليزيد تزوج بدوره بابنة قايد بن مسكين، وهو قايد بوحافة، ما جعل هذه الأسرة متجذرة في القيادات التقليدية والعلمية بالمغرب. أما من ناحية والدته، فرقية بنت الفقيه الحاج سي محمد، فقد ورثت أصولها من أمها غضيفة التي يعود نسبها إلى سيدي رحال البودالي، بينما أعمامها ينتمون إلى العرارشة الذين قدموا من أولاد السبع، وهم من الشرفاء الذين هاجروا من الساقية الحمراء والعيون إلى قلعة السراغنة، ما جعل هذه العائلة تجمع بين الانتماء الروحي والعمق التاريخي الذي أثرى هوية الشاعر وميز مسيرته الفكرية والأدبية.
لقد حمل حميد بركي هذا الإرث ليصنع منه هوية أدبية متفردة، حيث استطاع أن يجمع بين قوة البيان ورحابة الفكر، مما جعل النقاد يصفونه بأنه ابن عربي عصره ومتنبي زمانه، فقد أبدع في الشعر الفلسفي والتصوف التعبيري وأنتج نصوصًا تزاوج بين الفكرة العميقة والصورة الشعرية المتجددة. إن شعره لم يكن مجرد ترف لغوي، بل كان انعكاسًا لرحلة فكرية وروحية طويلة، جعلت بعض المتلقين يقفون عند كلماته بإعجاب ودهشة، إذ استطاع أن يخلق أسلوبًا خاصًا به يعتمد على مزج الحكمة بالتصوف في بناء لغوي متين. لقد كان شعره يتسم بالسهل الممتنع، وهو ما جعله قريبًا من الشباب الباحث عن نصوص تحمل أبعادًا فلسفية وإنسانية عميقة، حتى أصبح شخصية محورية في المشهد الأدبي المغربي والعربي، ليس فقط كشاعر، وإنما كمفكر أعاد النظر في كثير من القضايا الأدبية والفكرية المعاصرة.
وفي الوقت الذي كانت فيه القصيدة المغربية تعاني من تراجع أمام موجات الشعر الغربي والتأثيرات القادمة من الشرق، وخاصة مع صعود نزار قباني في الستينيات وأدونيس بعده، ثم تأثيرات مدرسة البعث والإحياء والديوان وأبولو، جاء حميد بركي ليعيد للقصيدة المغربية مجدها، حيث رفع لواء القصيدة العمودية وجدد في بنيتها وسياقها، فحمل الشعر المغربي إلى مستويات جديدة من التفاعل مع القضايا الفكرية والروحية، معتمدًا في ذلك على إرثه المعرفي العميق وقراءاته الواسعة في الفلسفة والفقه وعلوم اللغة. وقد كان من أبرز الذين تتلمذوا على يد الدكتور عبد الله راجع، أحد أعمدة الشعر المغربي، حيث تتلمذ عليه في أواخر السبعينيات وكان يعتبر التلميذ الوحيد له، مما أتاح له فرصة فريدة لاكتساب خبرة أكاديمية ومنهجية جعلته يقف في مصاف كبار الشعراء رغم حداثة سنه آنذاك.
ورغم التحديات التي واجهها، خاصة في ظل الأوضاع السياسية المضطربة التي شهدها المغرب خلال أحداث 1981، حيث كانت السلطة تفرض رقابة مشددة على الكلمة الحرة، استطاع حميد بركي أن يحافظ على استقلاليته الفكرية والإبداعية، فرفض الانخراط في أي تيار سياسي، واختار طريق الإبداع النقي الذي يعبّر عن رؤيته الخاصة للحياة والوجود. لقد كان يرى أن الشعر رسالة إنسانية قبل كل شيء، وأن الكلمة الحرة يجب أن تكون منبع نور، وليست أداة للصراع أو التفرقة، وهو ما جعل منه شخصية مميزة وسط المشهد الأدبي المغربي.
لقد كان تأسيسه لنادي "الحواس الخمس" سنة 1984 بدار الشباب سيدي مومن نقطة تحول كبيرة في المشهد الأدبي المغربي، حيث كان هذا النادي أول مدرسة أدبية مغربية تُعنى بتطوير الحس الشعري والفكري لدى الشباب، مما جعله بؤرة ثقافية أنتجت أجيالًا من المبدعين الذين تتلمذوا على يديه. وقد شكل هذا النادي نقطة التقاء لشعراء وكتاب عصاميين، ليكون بمثابة حركة أدبية حقيقية وضعت بصمتها في تاريخ الأدب المغربي. وقد كتب عن هذه التجربة الفيلسوف والشاعر محمد عزيز لحبابي بجريدة "العلم"، حيث وصف أعضاء الحواس الخمس بأنهم "نوابغ القرن الواحد والعشرين"، وهو وصف يعكس مدى الأثر الذي تركته هذه الحركة في الساحة الثقافية المغربية.
كما لم يقتصر تأثيره على الشعر والنقد، بل امتد إلى تأسيس الرابطة الأدبية التي ضمت نخبة من الأدباء والمفكرين، مثل فاطمة فكري، مصطفى سمرة، أمينة الناجي وغيرهم، مما ساهم في إغناء الحياة الثقافية المغربية. ورغم انتقاله إلى قلعة السراغنة، وهي مدينة معروفة بتقاليدها الفقهية والصوفية، إلا أنه استطاع أن يحدث فيها تحولًا ثقافيًا، حيث أسس أندية ثقافية بدار الشباب "ثالث مارس"، وكرّس جهوده لتدريس الشعر واللغة العربية من نحو وبلاغة وأدب، حتى أصبحت قلعة السراغنة من المدن المغربية الرائدة في المجال الأدبي بفضل جهوده، مما جعله يفكر في تأسيس "الفكر الأدبي" كمفهوم جديد يهدف إلى تحقيق التوازن بين الإبداع الأدبي والتأصيل المعرفي.
وفي سنة 2008، تم تكريمه من طرف جامعة القاضي عياض فرع قلعة السراغنة، في أول ملتقى وطني احتفاءً بمجموعة الحواس الخمس، تحت شعار "الحواس الخمس حركة ونبوغ والشعر سلوكات مدنية وأخلاق اجتماعية"، حيث شهد هذا التكريم حضور نخبة من الأكاديميين والباحثين الذين أقرّوا بريادته في الشعر والفكر النقدي، كما تسلم لواء "أمير الشعراء" من جمعية أدباء النهضة، في اعتراف واضح بمكانته الأدبية والفكرية.
لقد كتب عنه العديد من الباحثين والنقاد، فصدر عنه كتاب "منارة الشعر العربي في الشعر والفكر الأدبي"، كما كتب عنه الدكتور عدنان الهمص كتابًا بالفرنسية بعنوان "التاج"، وكتب عنه البدر عبد القادر في إصدارات الجزيرة السعودية تحت عنوان "حقيقة أمير الشعراء التاريخ المنسي"، كما تناول الناقد مصطفى الحناوي تجربته في جريدة "المنعطف"، فيما أدرجت الباحثة فاطمة بوهراكة اسمه ضمن كتابها "أعلام مغربية"، إلى جانب أسماء كبار المفكرين مثل المهدي المنجرة ومحمد عابد الجابري.
لقد كان حميد بركي شاعرًا ومفكرًا متكاملًا، استطاع أن يمزج بين قوة الشعر وعمق الفلسفة، فكان تجسيدًا للعبقرية المغربية في أبهى تجلياتها. وبينما كان البعض يسعى إلى تسطيح الوعي الأدبي، كان هو يرفع سقف التحدي، ويعيد للأدب مكانته كقوة فاعلة في بناء الفكر الإنساني. إنه لم يكن مجرد شاعر، بل كان مدرسة قائمة بذاتها، أخرجت أجيالًا من الشعراء والمفكرين الذين سيحملون مشعل الإبداع لعقود قادمة، ليظل اسمه خالدًا في سجل الشعر العربي الحديث، كشاعر حمل همّ الكلمة الحرة، وسعى إلى أن يجعل من القصيدة فضاءً للحكمة، ومن الفكر وسيلةً لصناعة التغيير.
#للاإيمان_الشباني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟