راضي شحادة
الحوار المتمدن-العدد: 8277 - 2025 / 3 / 10 - 15:00
المحور:
الادب والفن
مُسافِر يَطّا يُسافِر الى غزّة
بقلم: *راضي شحادة
الفيلم الوثائقي"لا أرض أخرى" الحائز على جائزة "الأوسكر"، هو إنتاج مشترك بين فلسطين والنّرويج، وإخراج مشترك بين الفلسطينيَّيـْن "باسل عدرا"، و"حمدان بلال"، والإسرائيليَّيـْن "يوڤال إبراهيم" و"راحيل تْسور".
استغرق العمل على إنتاج هذا الفيلم خمس سنوات، لأنه يوثّق مرحلة طويلة من خلال التّصوير والاستعانة بوثائق مصوّرة عن واقع الفلسطينيّين الذين يتعرّضون للقمع والتّهجير، وتدمير البيوت والمؤسّسات العامّة من قِبَل المستوطنين الإسرائيليّين، وبمساعدة مباشرة ومَفضوحة من جيش الهجوم الإسرائيلي، مدعومين بقرارات من محاكم السّلطات الإسرائيليّة العُليا.
لا يمكننا تقييم فيلم وثائقي سياسي بالاكتفاء بطرح وجهة نظرنا لعلاقة إنسانيّة بين بَطَلين، دون اعتباره فيلماً ذا مغزى وثيق الصّلة بواقعنا الوطني والسّياسي في خضم بحثنا لفترة حسّاسة ودمويّة جدّاً، وصل وضعُ شعبنا فيها الى قمة التّعرض للقتل والإبادة والتّهجير والتّدمير، واستيلاء الاحتلال على كلّ مقومات عيش هذا الشَّعب المظلوم.
تبدو قوة الضّعف ضعيفة في إمكانياتها الحاليّة أمام قوّة سلاح الاحتلال، فقوّة الضّعيف تنتصر إنسانيّاً وتحصل على تأييد كبير وتضامُن من قِبَل الشّعوب الإنسانيّة، التي تبدو أنّها ليست صاحبة القرار في القضايا المصيريّة، وتبدو قوّة الضّعيف أحياناً مُكرَّسة من أجل استدرار الشّفقة والتّضامن، مع أنّ قوّته مدعومة بقضيّته العادلة والحقّانيّة؛ ولكن القوي صاحب السّلطة لا يأبه بهذه القوّة الضّعيفة، ويستغلها لمزيد من الاحتلال والقتل والتّهجير والتّدمير. الذين ينفّذون الهدم والقتل والتّهجير من شرطة وجيش وموظّفين، وظيفتهم التّنفيذ بتصريح صريح، وبأوامر من السّلطة العليا، ويبدو أن الوقوف أمامهم لا يجدي ولا يمنعهم من تنفيذ الأوامر.
"باسل عدرا" يصوّر ويوثّق، و"يوڤال ابراهيم" اليساري الذي يبدو يساريّاً إسرائيليّاً يكاد يبدو "يتيماً" في يساريّته وإنسانيّته أمام المدّ الإسرائيلي اليميني المتطرّف الفاشي. ناشطون آخرون يصوّرون ويوثّقون، ولا أحد استطاع في المحصّلة أن يؤثّر من أجل تغيير قرارات الاحتلال بتنفيذه المزيد من الضمّ والقتل والتّهجير وتوسيع الاستيطان والمزيد من الاحتلال. وبدا "طوني بلير" في الفيلم، هو البريطاني الصّهيوني، كأنّه ملاك الرّحمة الذي تكرَّم بزيارة إحدى قُرى "مسافر يطّا" لكي يعبّر بخجل عن موقفه مما يحدث ضدّ الفلسطينيّين.
يقول "باسل": "يدمّروننا ببطء. كلّ أسبوع يهدمون بيتاً.كلّ أسبوع يوجد عائلة، او تَرْحَل، او تَتَحمَّل. العائلة التي تَرْحل تخسر الأرض وتستأجر بيوتاً في المدن المكتظّة".
ويقول "يوڤال": "استراتيجيّتهم؛ يفعلون ذلك بالتّدريج على طوال سنوات لكي يُيَئِّسوا الناس لكي يرحلوا ولكي يفرضوا الأمر الواقع الجديد".
وفي المحصّلة ، وفي نهاية الفيلم، وأمام قوة الضّعف، ينتهي الأمر بالهجرة، او اضطرار سكّان مسافري يطّا الى السّفر خارج بيوتهم الـمُدمَّرة بأوامر عسكريّة، وأمّا من بقي فهو سيعيش تحت الخطر والمعاناة والتّهديد، ومنهم أصبحوا سكّان بعض المـُغُر المتوفّرة في منطقة "مسافر يطّا"، وللأسف فهي ليست متوفّرة لدى "مسافر غزّة"؛ والمسافر الى يطّا لا يستطيع أن يكون مسافراً الى غزّة، فَكِلاهـُما كما قال "أحمد شوقي": "نَصَحْتُ ونحنُ مـُختلِفونَ داراً ولكن كلّنا في الهَمّ شَرْقُ". يبقى "مسافر يطّا" و"مسافر غزّة" موجودين لسبب واحد، ألا وهو أن أناسهما متمسّكون بالحياة، حتى وإن هُدمت بيوتهم واستشهدوا أو أصبحوا من سكان المـُغُر. ألم تشاهد في الفيلم الفرق الشّاسع بين سكّان المستوطنين في المستوطنات الفارهة، وبين السّكان الفلسطينيّين الذين يسكنون في العراء او في المـُغُر؟ يقول "باسل:" إنهم يتوسّعون في المستوطنات ويضيّقون علينا".
كم من أفلام الرّعب والأفلام الوثائقيّة التي ستحتاجها كامِرتُك الشّجاعة يا "باسل" لو أتيح لك ان تكون معها في "مسافر غزّة" المرعبة، حيث الإبادة والتّدمير أضعاف أضعاف ما أنتجته كامِرتُك في "مسافر يطّا"؟
لقد اخترتَ يا "باسل" ان تمتشق "سلاحَك" الكامِرة، وهو أضعف الإيمان بما تستطيع فعله، محارباً بواسطته، مدافعاً عن قضيّتك، مُسَلّحاً بدراستك لموضوع المحاماة، جامعاً الأدلّة الدّامغة التي تدين المحتل بجرائمه الظّاهرة الى عيان النّاس بفعل كامِرتك، وربما هذه هي قوة الضّعيف القويّ الذي يؤمن بقضيّته العادلة، ولكنّه لا يزايد في موقفه الـمُتَّزِن، فيقول:" مرّات بيكون عندي أمل كبير، ومرات بيكون عندي يأس كبير".
عند الـمُلِمَّات والمحكّات الصّعبة، فإنّ التّقارب الإنساني بين بَطليّ الفيلم "يوڤال" اليهودي و"باسل" الفلسطيني، لا بدّ أن يصطدم بالواقع السّياسي الاحتلالي الذي لا بدّ أن يؤدّي في نهاية "التّعايش" الى توضيح الحاجة الى الحلّ الأمثل للطّرفين، وليس تركه للتّأويل الغامض لما يجب أن ينتهي به هذا الصّراع بين طرفين محكومين بواقع سُلطوي احتلالي لا يمكن أن يجعلهما في كَفَّتيّ ميزان متساويتيّ الثّقل.
هنا، في الفيلم، نحن أمام قُوّتين إحداهما مسلّحة بكلّ انواع العتاد والأسلحة الحديثة، وقوّة أخرى تجد قوّتها في عدالة قضيّتها التي تحارب من أجلها، وفي أضعف الإيمان، إظهارها بكثافة إعلاميّة أمام العالم ضمن الإعلام الـمُتاح والخاضع للرّقابة الـمُتحيّزة. تصبح الكامِرة بنفس وزن حجارة الانتفاضة الأولى التي لم يكن الهدف منها تغلّب الحجر كأداة عسكريّة يمكنها التّغلّب عسكريّاً على الاحتلال. يقول "باسل": "الكامِرة لإثبات الدّليل، وكوسيلة لكي نحمي أنفسنا".
يقول "يوڤال": "نحن نعيش في نظام أنا فيه تحت حكم مدني، بينما "باسل" تحت حكم عسكري". ومع كلّ محاولات "يوڤال" جاهداً ان يحمي صديقَه "باسل" من الاحتلال، فإنّه بدا في النّهاية عاجزاً عن صَدّ الآلة العسكريّة التي يستعملها نظام دولته وسلطاته المحتلّة. هنالك اعتراف بعدم توازن في القوة بين الطّرفين، الاحتلال والواقع عليه الاحتلال.
يعترف "يوڤال" "مشكوراً!؟" في إحدى لقاءاته الصّحفيّة أنّ: "هدم البيوت والتّهجير والتّضييق يتمّ ضد المواطنين العرب المواطنين داخل إسرائيل". نعم يحدث ذلك في قرية "العراقيب"، وقرية "ام الحيران" وقرية "الخان الأحمر"، وكلّ ذلك ساري المفعول أيضا على كلّ المواطنين الفلسطينيين في الدّاخل.
وفي لحظة استنتاج بسيط يقول "باسل": "هاي البلاد فش فيها استقرار".
فَيَردّ عليه "يوڤال": "لو فيها استقرار أزورك وتزورني بأريحيّة"
عندما قرر "يوڤال" أن يصبح بينه وبين باسل وأهله "عيش وملح"، ولم نشاهد في الفيلم أن هذا العيش والملح تطوّر أيضاً مع عائلة "يوڤال"، رأينا كم كانت الضّغوطات كثيرة عليه من أبناء جلدته ومن إعلام سلطته المحتلة الذين اتّخذوا موقفاً معادياً له لوقوفه الى جانب الفلسطينيّين، وأنّه بدا وحيداً كالبعير المعبّد، الشّاذ عن القاعدة في موقفه هذا، وعِمْلة نادرة في هذا الزّمن الصّهيوني بامتياز.
ولسان حال "باسل" يقول: "هل قرّرْتَ أن تَتعايش معنا يا يوڤال، ومن ثم نعيش مع بعض سواسية؟".
"يوڤال" الذي حثّته سلطاته لكي يتعلّم اللغة العربيّة لكي يكون جزءاً من جهاز المخابرات، وربما من المستعربين، ها هو يقرّر أن يختار الاتّجاه المعاكس، فيصبح صحفيّاً، يغامر في تجربةِ معنى أن يعيش الإنسان تحت الاحتلال، فيتصادق مع "باسل" وأهله، ويستغل إتقانه للّغة العربيّة لكي تكون جزءاً من "العيش والملح" بينه وبين هؤلاء المظلومين. طَغَت عليه إنسانيّته، وكان واعياً لأهميّة قضيّة صديقه "باسل" العادلة.
هل توصّلتما يا "باسل" ويا "يوڤال" الى الصّيغة النّهائية التي تودّان التّعايش بموجبها، أم أنّ الأمور خارجة عن سلطتكما، وأنّها بِيَد سُلطات أقدر وأقوى منكما؟ هل سترضَيَا بإسرائيل على ما هي عليه؟ هل سنطالبها بأن ترضى عنّا على ما نحن عليه؟ هل سنكتفي بمطالبتها ككيان وحيد وأوحد على كامل فلسطين، وأن نكون مواطنين متساوين فيها وتحت سلطتها، ونكتفي بمطالب إصلاحيّة فقط؟ هل سنكتفي بمطالبتها بأن تشفق علينا، وأن لا تُدمِّر بيوتنا، وأن لا تهجّرنا وأن لا تبيدنا؟ وماذا عسانا نفعل إذا رضينا بهذا الهمّ، وهذا الهمّ لا يرضى بنا؟ هل نتعايش معها مؤقّتاً ضمن إمكاناتنا الحاليّة، ومن ثمّ ربما يحين الوقت الذي نعيش ونتعايش هنا تحت سقف دولة واحدة لا هي يهودية ولا هي إسلامية ولا هي مسيحيّة، وربّما يأتي اليوم الذي قد نتّفق على إطلاق تسمية لها ترضي الطرفين، ولا مانع أن نحاول تسميتها باسمها الأصلي "فلسطين".
وأخيرا، ما لفت انتباهي بعد مشاهدة فيلم "لا أرض أُخرى" هو عدم طرح القضيّة من منطلق ديني، على الرّغم من وجود أسماء مثل "الياس" و"يوڤال" و"باسل". هي لفتة مثيرة للاهتمام، وأظنّ أن التّطرّق الى موضوع القضيّة الفلسطينيّة من منطلق وطني يعيدها الى أصلها، فَفلسطين ليست، ولم تكن، قضيّة إسلاميّة او يهوديّة أو مسيحيّة، بل، لطالما كانت قضيّة أمميّة وقوميّة وإنسانيّة من الدّرجة الأولى.
*راضي شحادة- مسرحيّ وروائيّ وباحث فلسطيني.
#راضي_شحادة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟