عزالدين محمد ابوبكر
الحوار المتمدن-العدد: 8277 - 2025 / 3 / 10 - 12:18
المحور:
الادب والفن
سِرن آبي كيركجور (المعروف عند البعض بـ سورين كيركجارد)* ؛ هو فيلسوف دنماركي ولد عام 1813 في مدينة كوبنهاجن ، وتوفى فيها عام 1855 ، وحياته رغم أنها كانت قصيرة ؛ إلا أنها كانت ينبوعًا ثريًا دافقًا انهل منه المفكرين الوجوديين ، ومع ذلك فإن كيركجور كان مثل فردريك نيتشه غير مُقدر في حياته ؛ إلا أنه أصبح مُقدرًا بعد وفاته ، بعدما طالع الفلاسفة مؤلفاته ، و بعدما أصبحت الوجوديّة فلسفة إنسانيّة لها ثقلها وقوتها ، في الأوساط الفلسفيّة الفرنسيّة والأوروبيّة ؛ أصبح كيركجور هو ”الأب الروحي“ للوجودية الحديثة ، حيث قد ركزت فلسفته على الفرد ، والإيمان ، والحرية ، والقلق الوجودي ، وقد كان رافضاً للفلسفة العقلانية المجردة ، ومؤكدًا على التجربة الذاتية للفرد ، ودور الإيمان في تحقيق المعنى الحقيقي للحياة.
وكانت الفكرة المحورية في فلسفته هي الوجود الفرديّ ، حيث قد رفض كيركجور الفلسفة الهيجليّة ، لأنها تجاهلت الإنسان الفرد ، واعتبر كيركجور أن الحقيقة ليست في المفاهيم المجردة ؛ بل في التجربة الشخصيّة والاختيارات الوجوديّة ، وقد عُرفت الوجوديّة بـ اعتبارها فلسفة «فرديّة» وفي نظر الفيلسوف أو المفكر الوجوديّ ، كونك فردًا في مجتمعنا (المجتمع البشري) الضخم هو إنجاز وليس نقطة انطلاق ، وبما أن الوجوديّة فلسفة أفكار لا تيارات ، سوف نجد أن لكل فيلسوف وجودي تعامل خاص مع أي موضوع مطروح للنقاش ، إلا أن الفكرة الأساسيّة في الوجوديّة ؛ هي أن المجتمع يقوم بـ إبعاد الفرد عن فرديّته وتفرده ، و يأخذه نحو الامتثال المجتمعي ، مما يمحو الوجود الواعي والأصيل للفرد ، ويجعله جزءًا من الـ «قـطـيـع» (حسب المصطلح الفلسفي النيتشاوي) ، مما يذكرنا بـ قول سارتر ”الجحيم هو الآخرون“.
ويرى كيركجور في مؤلفه "حاشيّة ختاميًة غير علميّة" ؛ أن المفكر الهيجلي يهمل التمييز الأساسي بين الفكر والواقع ، ويقوم بـ إقامة مذهب فلسفيّ يستعبد وجوده هو نفسه ، لأنه يسعى إلى إدراك نفسه ، على أساس أنه تعبير عن المقولات المجردة الكليّة غير الخاضعة للزمان ، ومن الجدير بالذكر ؛ الإشارة إلى أن المقولات إنْ ظلّت معزولة وحدها ، وكانت مجردة تجريد أجوف لا يعبّر ، عن الواقع العيني الحي الذي يحلله المفكر الهيجلي ، ولهذا فإن على المفكر أن يكون على وعي تام بأن ”التجريد خطر على التفكير“ ، كما قال هيجل في مقال له عن ماهيّة المفكر التجريديً ، ويقول كيركجور في هذه الحالة : "ينبغي أن يحتاط المرء كل الاحتياط ، وهو يتعامل مع فيلسوف ينتسب إلى المدرسة الهيجليّة ، وأن يتأكد قبل كل شيء ؛ من هويّة الموجود الذي يتشرف بالحديث معه (ويتابع كيركجور حديثه ، لكن بطريقة لا تخلو من التهكم السقراطيّ)".
وبما أن هيجل قد وقع فريسة لطعنات كيركجور العقلية ، فلا عجب أن ديكارت بـ جلالة قدره قد وقع فريسة التهكم ، وشارك هيجل في مصيره مع كيركجور ؛ حيث أنه من المعروف أن ديكارت ، هو من زود الفلسفة الحديثة بـ فكرة الكوجيتو ؛ أو «أنا أفكر ؛ إذن أنا موجود» ، ويرى كيركجور أن الـ «أنا» الذي هو موضوع المقولة السابقة يشير إلى ، كائن إنساني موجود (وجود) جزئي ، وفي هذه الحالة لا يكون ديكارت قد برهن على شيء ؛ لأنه «إذا كنت أنا أفكر ، فما العجب في أني أنا!) ، ومحاولة ديكارت البرهنة على وجوده بهذه المقولة (وهي أنه يفكر) ، نقول إن هذه المحاولة الديكارتيّة لا تفضي إلى نتيجة حقيقية ، لأنه بمقدار ما يفكر ، يُجرد من وجوده هو ، وهكذا نعرف أن الذات الحقيقية ليست الذات العارفة ؛ بل الذات الموجودة التي تكون ملتزمة أخلاقيًا.
والمفكر الذاتي هو المفكر الذي يقوم بـ نبذ تشييئات العقليين للعقل ، وكيركجور لا ينكر أبداً سلامة الفكر طالما كان راسخًا وجوديًا ، لأن المفكر الذاتي هو مفكر يستخدم الفكر ، من أجل الوصول لتراكيب ذاتية ، لفهم نفسه في وجوده وتعزيزه له (أي: جعله أكثر أصالة)* بـ فكره وفهمه ، مثلما كان يفعل المفكر اليوناني العظيم ، وشهيد الفلسفة سقراط.
وبما أني سبق وذكرت أن كيركجور ، هو ”الأب الروحي“ للفلسفة الوجودية ، فـ سقراط كان أول من عاش حياة الفلسفة ، وفهم وجوده وعرف ماهيّته ؛ قبل أن تظهر الفلسفة الوجودية للوجود بـ آلاف السنوات ، ومن الجدير بالذكر الإشارة ، إلى أن كيركجور كان «سقراط الدانماركيّ» ، ومحتوى وأسلوب كتابه "حاشيّة نهائيّة غير علميّة" شاهد على ذلك ؛ وفي هذا الكتاب قد صرح كيركجور ، بأن سقراط هو ذلك اليوناني الشهير ، الذي لم يغفل لحظة ؛ عن هذه الحقيقة ... ألا وهي ان الفكر يظل فردًا موجودًا ، ويسود التهكم السقراطيّ كتاب كيركجور الأخير...
وفي نهاية حديثنا عن هيجل ، أود الإشارة إلى أن ؛ هجيل قد تصور الحقيقة الوجوديّة ، على أنها نمو جدليّ للعقل المطلق ، الذي يصل إلى تركيبات جديدة ابتداء من مفهومي القضية ونقيض القضية (راجع منطق هيجل) ، وفلسفة هيجل تقدم مذهبًا عقليًا شاملاً ، ولكنها في نفس الوقت رومانتيكية جداً بسبب طابعها الديناميكيّ والدياليكتيكي التطوريّ.
وكيركجور ؛ من حيث كونه فيلسوفًا لم يكن معروفًا ، إلا مع الحرب العالمية الثانية عندما تنبّه المثقفين وقراء الجرائد ، إلى وجود مذهب جديد وغريب في الفلسفة الأوروبيّة يسمى بـ «الوجوديّة» ، وحتى كتب تاريخ الفلسفة لا تذكر كيركجور وفلسفته ؛ إلا بشكل ضئيل بالنسبة إلى ميراثه الفكري الكبير ، لكن الآن استطيع أن أقول أن كيركجور والفلسفة الوجوديّة ، قد أصبحوا جزءًا هامًا من تاريخ الفلسفة الأوروبيّة ، والعالميّة ، ونجد نفس الأمر في الأدب وعلم النفس ؛ حيث أن الوجوديّة بعد كيركجور قد تطورت تطورًا عظيمًا ، إلى درجة وجود انشقاقات وخلافات في بُنيتها وأفكارها الأساسيّة ، إلا أن مكانتها بعد كتابات هايدجر ، وسارتر ، وكامو ؛ قد ازدادت وتوغلت بـ جذورها في الفكر الإنساني الغربيّ منه ، والشرقيّ ، والأوسطيّ.
وقد كان كيركجور ، مثل يوهان جورج هامان (منتقد إمانويل كانط ، وعقلانيّة عصره ، وصاحب التأثير على كيركجور في كتاباته المتعلقة بـ المسيحية) منشغلاً بـ المشكلات الدينيّة ، وبالكيفيّة التي يمكن للفرد أن يصبح مسيحيًا حقًّا ، ورأى أن الذات الإنسانية تتقدم ، عن طريق الانتقال من المرحلة الحسيّة الجماليّة (وسوف اتكلم عن المراحل الكيركجورية في مقال آخر) إلى المرحلة الأخلاقيّة حتى يصل المرء إلى المرحلة الدينيّة ؛ وهذه المراحل لا يمكن أن تُقام بطريقة عقليّة ، أو منطقيّة ، أو نُسقيّة ؛ لأن المسيحيّة بالنسبة إلى كيركجور هي مفارقة ، وتتطلب ”قفزة“ نحو الإيمان ، ويرى كيركجور أن الطقوس والمهام التي تمارسها الكنيسة الدنماركية (في عصره) ، لا تمثل إلا انحراف وسوء فهم للمسيحيّة الحقيقيّة ، ونجد صوت كيركجور في مؤلفاته قد بدأ يعلو ويزداد عنفًا ، في انتقاداته وهجماته ضد المؤسسات المسيحيّة الدنماركيّة ؛ حيث نجده يوجه انتقادات ذات طابع سقراطيّ ، إلى العهد الجديد ولا عجب في ذلك ؛ لأن كيركجور هو سقراط الدنمارك ، ونجده ينتقد المقولات الإنجيليّة التي تتعامل مع إرادة الإنسان وتريد تغييرها ، وانتقادات كيركجور هذه ، ليست غريبة لأن كيركجور مفكر ذاتي أصيل ، قضيته الأولى والأخيرة هي الفرد ووجوده ، لكن مع كل انتقاداته للكنيسة ونظامها ، إلا أن كيركجور ينتمي إلى الوجودية ”المؤمنة“ التي غالباً ما يرتبط بها باسكال بالمناسبة ، والمسيحية بالنسبة إلى الفلسفة الوجوديّة ؛ نجد الكثير من الأفكار التي تتحدث عنها سواء بـ الإيجاب أو بـ السلب ، لكن الوجوديّة مثلها مثل أي فلسفة لها الحريّة في التعبير عن رأيها ، عن طريق مفكريها وأعلامها ، لكنها فلسفة متزنة (إذا جاز التعبير) بـ خصوص الأديان وتحترمها كافة ، لكنها تنتقد ما قد يعوق الفرد من معرفة وجوده الأصيل ، ومكانته في الوجود ، وأُعيد وأكرر أن الوجوديّ الحقّ ؛ هو من احترم الإنسان ، وفكره ، وحاول أن يساعده في فهم وجوده وزيادة أصالته ، سواء كان ذلك دينيًا أو فلسفيًا ، مع عدم قمعه فكريًا ، وعدم محاولة إزالة أيديولوجيته الدينيّة أو الفلسفيّة (لكن يختلف الأمر إذا كانت مرجعيته الفكريّة هدامة بالنسبة إلى الإنسان) ، حتى وإن كانت مناهضة للوجوديّة وتذكر دائماً يا رفيقي/رفيقتي العزيز/العزيزة أن للإنسان حق ، وللفلسفة حق أيضاً ؛ ويجب احترامها وتفضيل الأول على الثانية.
مصادر المقال :
- صـ 61 ، الوجودية ، تأليف جون ماكوري ، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام.
- صـ 213 ، عصر الأيديولوجية ، تأليف هنري د. أيكن ، ترجمة فؤاد زكريا ، نسخة رقمية صادرة عن مؤسسة هنداوي عام 2023.
- صـ 7678 ، دراسات في الفلسفة الوجودية ، تأليف عبد الرحمن بدوي.
#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟