أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قيس كاظم الجنابي - متاهات السرد في رواية (سيرة موجزة للألم)















المزيد.....

متاهات السرد في رواية (سيرة موجزة للألم)


قيس كاظم الجنابي

الحوار المتمدن-العدد: 8277 - 2025 / 3 / 10 - 01:03
المحور: الادب والفن
    


-1-
استطيع القول ان رواية (سيرة موجزة للالم ، الحب الموت الجنون) للكاتب حميد المختار، الصادرة عن دار سطور ببغداد عام 2025م، اختزلت أساليب السرد الرواية والسيرة/الاعترافات الشخصية، او الأدبية بشكل عام، ودمجت كل ذلك بالتاريخ المعاصر (1980- 2020م) على وجه التقريب، فهي رواية ملحمية بكل معنى الكلمة، في زمن صارت فيه الرواية قصيدة مسهبة، حجماً ومشغلاً وتصوراً. لقد صورت هذه الرواية حركة الصراع بين الهامش والمركز وكشفت المسكوت عنه ،واستخدمت الرموز والاحلام والاساطير في تفسير الاحداث والتصورات ؛اوالاحداث السياسية والانهيارات الكبيرة في بنية الواقع بكل تفاصيله الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ فهي رواية تمثل جيلنا وتمثلنا جميعاً تدين مرحلة نخجل ان ندينها.
بدءاً من العنوان فان وصفها بالسيرة الموجزة للألم وجعلها في (11) محطة وختمها باشارة مهمة تصريح بانها استقت معلوماتها من الوثائق والرسائل، هو نوع من الانتقال من التخيل الى التاريخي المضمر، وبطل الرواية بطل جماعي، وان كان فرداً، فهو الكاتب والوطن والآخرين، وقد أتاح تقسيم الرواية الى محطات واقسام متتالية لكل محطة، شيئاً من المرونة في الحركة والانتقال من زمن الى زمن ومن مكان الى مكان، مع ان هذه السيرة استعانت بأدب المذكرات والوثائق والذكريات وجمعت بين الوعي واللاوعي وبين العقلانية والجنون، وبين الموت والحياة والاحلام والاساطير.
في المحطة الثانية، الفقرة(4) ثمة حوار تقول فيه هي:" نعم هي قصتي مع الحدود، لأنني ممنوعة من السفر، لا أريد ان ابوح لك بكل ما في الكتاب، اقرأ الرواية بمتعة".[ ص41] تبدو هذه الإحالة دعوة لقراءة الرواية، وليس غيرها.
منذ البدء أحاول تناول البنية السردية بشكل خاص، لان هذه الرواية تحاول ان تكون رواية سيرة، ولكنها غير ذاتية تماماً، تتفجر في داخلها الكثير من الذكريات والالام، منذ بدأ بسردها على لسان سعيد في قوله:
"خذيني بعيداً قبل ان يستيقظ الكلاب!!".[ص9]
وللكلاب رمزيتها المعروفة، ثم تنبجس الذكريات وتتدفق بصورة مباشرة او غير مباشرة، حين تصبح الذاكرة بديلاً عن الذكريات،لانه يقرن الذاكرة بالالام والاوجاع والسجون والمصحات حتى لتبدو بعض الذكريات مقلوبة.
-2-
تعد الرموز الاحلام والاساطير والتواريخ، هي مركز الصراع بين الهامش والمركز، وبين السرد بنزعته الشاعرية المكتنزة والسرد بنزعته المنفتحة على التاريخ؛ حيث يبرز التكثيف واضحاً للصور والأجواء والشخصيات من اجل الإمساك بقوة اللعبة ووجعها، في ظل نوع من الانفجار السردي الذي قد يبلغ مبلغ الفوضى والجنون الذي يطرحه الكاتب بديلاً عن العقل في زمن الخوف. ثم يكمل مساره عبر السجن؛ فمن مشفى المجانين الى السجون ثمة أكثر من لغة مشتركة، وفي ظل هذا الكبت والتضييق تتفجر الاحلام والكوابيس لتؤدي مهمة سردية ورؤى تلح على الكاتب لتمريرها، فصارت للاحلام مساراً يوازي السرد ويقدم من خلاله مسيرة الألم والعنف، كما يحضر الحب والموت والجنون في عالم تتصادم في الرموز لترسم صورة حية لوطن مذبوح. وهنا تشكل الاحلام نسبة كبيرة من سرديات العمق النفسي في الرواية مدعومة بسرديات المشافي والجنون والسجون والمؤامرات والاغتيالات وصناعة الخوف والانتحار والزنا العادي وزنا المحارم.
ترتبط الرواية بالسيرة والاحلام، أحلام اليقظة احياناً، والكوابيس والخوف، ثم تعزز قدراتها بالرؤى المجنونة، والليالي الطافحة بالاوهام والأرض الباردة والاحلام السريالية وتشظيات العالم الدائمة والاضغاث والسجون. اما الاساطير والرموز فتؤدي مهمة صعبة ، وتمتلك احالات جريئة الى رؤى ومواقف واحداث وثقافات وأفكار موغلة في القدم،وبالطبع تعد الأسطورة علامة مميزة للاحالة الرمزية وقناعاً يتخفى خلفه الكاتب، في محاولة لقراءة وتحليل المواقف خارج اطارها المباشر. وقد كثرت الاحالات الى ثلة من الاساطير بمسمياتها الصريحة وغير الصريحة، مثل جلجامش وملحمته؛ فمنذ وقت مبكر من الرواية كانت الأسطورة عبارة عن رؤى حين تتامل شخصية" عصفوراً وحيداً يغني على الاسلاك مع امرأة ورجل خطفها طائر غريب وأخفاهما في ظل جبل عملاق فتحولا الى هيكلين مصنوعين من حجر وثلج ثم صارا بمرور الازمان مزاراً للعذارى العشاق والمتوحدين في الكهف الموحشة".[ص13]
تحيل هذه الحكاية الى فكرة مسخ الانسان الى الحجر ، كما حصل في اسطورة صنمي اساف ونائلة في مكة لغرض الموعظة والتخويف من عذاب الله لانهما فجرا في الحرم فاحالهما الله الى حجر، وهذا يكشف عن الأثر الديني للمضمرات السردية في هذه الرواية.
تعمل الأسطورة بطبيعتها في الخفاء وتتحرك كانساق مضمرة داخل الرواية، كما في توظيف ملحمة جلجامش وشخصياتها التي تحمل رمزياتها الخاصة بها كالصراع بين الخير والشر والبحث عن الخلود وفكرة الصراع بين الموت والحياة، كما استخدم رمزية العالم السفلي مثل اسطورة نزول تموز الى العالم السفلي بعقوبة من الالهة عشتار الام الكبرى، من خلال السجون والظلام والخوف؛ لقد عشّق الكاتب بين هذه الفكرة وبين انكي رب الحكمة وذكر جزءاً من هذه الأسطورة؛ كما أشار الى حكاية حلاق الاسكندر حينما تتحول يد نونا المكسورة "الى ناي يعزف الحاناً"، وكذلك شكلت ملحمة جلجامش والاحلام التي وردت فيها تعبيراً عن أزمة نفسية وهواجس لها صلة بمفسرة الاحلام العجائبية نانشة ام جلجامش ؛ وهنا تتعاون الأسطورة مع الحلم لانتاج سرد مشبع بالخوف والاوهام والعجائب السريالية ،والجنون الذي فجره الكبت السياسي.
ففي" مجلس الفاتحة والقراء على روح العريس الشاب ذهبت قبائل الجن بلحاها الطويلة وقاماتها القصيرة واوقدوا نيراناً حول السرادقات الكبيرة وغسلوا فناجين القهوة"[ص240]
الى جانب استخدام التعاويذ والتعازيم وعظام الهدهد المطحونة وغيرها ضد العقم(العقر)، حيث تجمهرت الساحرات حول الطفل الرضيع، فينتهي ذلك بان يحطّم الباب "ام الساحرات مخنوقة بالساتان الأسود الخشن".[ص241]
هذا فضلاً عن اساطير الازتيك والهنود الحمر وآلهة سومر وآشور وبابل وآلهة الاولمب وبرومثيوس سارق النار.. وغيرها من الاساطير العالمية ، وتوظيف عقدة اوديب وعقدة الكترا، مع رموز أخرى مثل العصفورة القتيلة وحضور السحرة والشياطين وحوادث الانتحار، بوصف الحدث الأخير فعلاً تدميرياً للذات الإنسانية؛ وانه كان في حقيقة الامر انعكاساً لضغوط الواقع الخارجية؛ بحيث يمكن ان نعد هذه الرواية رواية نفسية، من خلال توظيف الاحلام والاساطير والجنون والمشافي النفسية والسجون المظلمة والانتحار واستخدام السم والاغتيالات والأسلحة المريبة وزنا المحارم والعلاقات الجنسية الأخرى. في ظل تفاقم الازمات الإنسانية وتراجع القيم الأخلاقية.
تحضر الشجرة برمزيتها الأسطورية وبدورها كصورة للام الكبرى، كرمز واسطورة ذات دلالات مهمة لا يمكن تجاهلها ، فقد كانت (السدرة) ذات الصفات المقدسة في الأديان والاسطير واحدة من تجلياتها، والتي كانت تذكر السارد بالام فكانت "تشعر باليُتم والعطش والوحدة". [ص58، راجع،ص 61،83] في إشارة الى رمزية الشجرة ودلالتها على الوطن والامهات المنكوبات بموت الأبناء في الحروب والصراعات السياسية، فاختلطت الأسطورة بالموروث الشعبي المحلي والتاريخ المعاصر والاحداث المتلاحقة فصارت العلاقة بين الواقع والتاريخ نوعاً من التشكيل الحي للرؤى والمواقف المرتبطة بالاحداث، ولهذا انعكست على البناء السردي للرواية وهو يؤرخ لمرحلة السبعينات وما تلاها من احداث متصارعة من حيث بناء الصور واللوحات والاسئلة والمصحات والعصابات ودهاليز الأجهزة الأمنية، كما حصل لنونا حين اعتقلوها واخفوا موتها ،واعتقاده بخلود روح العشاق لانهم لا يموتون، في محاولة منه لاسطرة الواقع والشخصيات والمواقف، مثل قيام الطبقة السياسية باستخدام السحر والشعوذة لتفكيك الاسرة والسلطة مع استخدام استحضار الأرواح والاسرار وغير ذلك. من خلال رؤية خاصة في الاحالات المباشرة والمضمرة، بحيث صارت الرواية سيرة او مذكرات او جزءاً من أوهام وسحر وتعاويذ وجنون، او نوعاً من الابتزاز الجسدي كما حصل مع(رولا جبور) المحررة والعشيقة، وكل ذلك يحصل بتواشج بين السرد الروائي والسينمائي لتأسيس صلات متطورة بين الواقع والخيال ،والانس والجن. وفي كل ذلك وهذا يكون الاستلاب والخوف مسيطراً على حركة الاحداث والصور والتحولات والروح العدوانية للسارد الذي يختفي ثم يعود ثانية.
لقد رسمت السجون والاقبية والمشافي صورة قاتمة من صور الظلام والاذلال والالم والخصاء الافتراضي، في العودة الى الرحم ،ومنه سجن النبي يوسف، والتجويع والتحولات التي تحصل لبعض السجناء؛ بسبب غرابة الموقف، فيتحول الى ربوع الخيانة للاصدقاء والنفس والعفة ، فقد تحول سجين بقضية غسل العار الى شاذ جنسياً سالباً يمارسون معه الجنس بالليل وفي النهار ينظف ويطبخ الطعام حاله حال المثقف السياسي الذي يدخل لاجل قضيته ويتحول الى جاسوس، فيندم على موقفه؛ وهنا يدخل التاريخ بجانب الأسطورة كقوة محبطة للإنسان في تصوراته وافكاره.
-3 -
استوعبت الرواية غالب أساليب السرد بدءاً من السرد التقليدي الى تعدد الرواة وأسلوب الرسائل والوثائق والتاريخ، ووظفت ماوراء الرواية و ماوراء الواقع؛ والتناص والكولاج والرؤى باستخدام السرد الحلمي(ما وراء الواقع)؛ وهذا فضلاً عن الحوار والوصف وتعدد الضمائر،ولكن الكاتب سرد اغلب الفصول عبر تعدد الرواة مع هيمنة لصوت السارد، فقد سمح لسعيد ورنكين ونونا وانعام ونادية، كل حسب دوره الموكل اليه، وكان حصة الراوي واضحة بينهم، ولكن سرده لا يبلغ مستوى المنظور الروائي لان كل راوٍ لا يتملك افق الأيديولوجي المستقل وان امتلك تصوراته الشخصية؛ كانت المحطة الأولى مع سعيد وهو يستذكر الأيام الأولى من دخوله في الجامعة معبراً عن حضوره الذاتي بوصف يكتب الشعر، وهذا منذ المحطة الأولى حتى محطات تالية أخرى(من 9-32، 33-66)، ثم سمح له بمحطات أخرى(187 – 220، 266، 297- 320)؛ ما يؤخذ على هذا الراوي انه كان بعمر الشباب او بداية حياته، ولكن الكاتب منحه وعيه الخاص به، فجعله يمتلك وعياً اكبر من سنّه، وقد حدد ذلك هو في مرحلة الثمانينات، فجعله متزامناً مع الحرب العراقية – الإيرانية(1980-1988م)؛ وقد منيت زميلته الشابة بفقد حبيبها في هذه الحرب، وهي التي وصفها مثل غصن شجرة يواجه الريح الشرسة.
ينتقل كل راوٍ في داخله من شخصية الى أخرى بحيث يتخلى عن حضوره ويترك لكل شخصية الأجواء لكي تنفتح على الفضاء المرسوم، فتحضر شخصية خيري الخطاط الماهر. ثم في المحطة الثانية (الهروب) يكون السرد بصوت (سعيد) الذي يقول:
" قال لي عرَّاف صثدفة في الطريق،" بأنني سالتقي بحبيبتي الراحلة في حياة أخرى لكن من غير ان اعرفها"، قال ذلك واختفى".[ص33]
وفي هذه المحطة تحضر شخصية (نونا) التي فرقته وذهبت الى كوكب آخر، لهذا اثر هو الآخر الرحيل الى كوكب بعيد عن مدينته؛ فكان الحب نوعاً من المقاومة للموت والدمار والحروب حيث يقول:" صارت قلوبنا مناجم سعادة تقينا رياح الحروب والموت والدمار، نسينا سيل التوابيت الملفوفة بالاعلام".[ص64]
وهو مع ذلك لا ينسى ان يمرّ بمرحلة السبعينات حيث سادت موضات (السالف الطويل)و(الجالس) وغيرها من ملامح تلك المرحلة التي عاشها الكاتب ؛ كما ساهمت شخصيات الرواة الاخرين بسرد بعض المحطات التي سردها او شاهدها، فكان هؤلاء الرواة يحاولون ان يندمجوا بادوارها، لتصبح تلك المشاهد جزءاً من سيرورة روائية تحاول ان تنتقل من سيرة الألم الى بناء روائي رصين يؤسس وجوده عبر أساليب مهمة قادرة على رسم صورة الواقع بكل تفاصيله.
وفي المحطة الثالثة (المصحة) كان لشخصية رنكين حضورها وقدراتها على عرض هواجسها في الرواية؛ فكان (سعيد) هو الشخصية الحاضرة مع رنكين،وفي المصحة تحضر شخصيات تعاني من الامراض النفسية كالفصام مثل سفين وغيرها. وان محاولة الكاتب خلق نوع من التوازي بين الواقع والعصاب هو نوع من الهروب الى الامام، من الضغوط النفسية التي يعاني منها الانسان في زمن التسلط والخواء، ولهذا كان العصاب والكوابيس والاحلام محاولة لتفسير الواقع المؤلم وتفسير لسيرة بطل اشكالي مخضرم، تقلبت به الاحداث منذ السبعينات وما بعدها.
ولا يخلو ذلك السرد من مشاهد وجمل وأفكار تدين الواقع السياسي الذي كان سائداً، عبر صورة الاب الذي يهيمن على كل شيء، ويُقتل افتراضاً كما فعلت احدى الشخصيات ،كقوله:" هل فكر ابي بكم وبحصاركم وسجنكم في بيتنا الكبير!!".[ص73] وقد حاول الكاتب المزج بين المشهد السياسي والمشاهد الاجتماعية، من خلال افتراض وجود علاقة حب بين(رنكين) و(سفين)؛ وبهذا تشابكت الرؤى والاحداث وتصاعدت الصراعات في ظل واقع يحوّل الاحلام الشفافة الى عصاب او جنون او كوابيس.
لقد جاء صوت الراوي في المحطة الرابعة(استجواب) ليعبر عن مرحلة خطيرة؛ وهنا تكشفت صورة العاشق المهيمن بين سعيد ونونا عبدالحكيم التي كتب لها قصائده والتي احبها حتى الموت، فكانت الحقيقة الوحيدة في حياته المليئة بالاوهام والعبث والجنون، وكل هذا حصل خلال التحقيق معه والاستذكار لايام الشباب، حين كان يقرأ بصمت وسرية تامة؛ والحقيقة ان هذه المحطة كانت جزءاً من سريات ومنظور سعيد وضمن قدراته على الاستحواذ على حركة الرواية لقربه من الكاتب او انه هو صوته المتكلم باسمه، او صورته الموازية له.
اما المحطة الخامسة فكانت بعنوان (يوميات قاتل) على لسان محمد الذي تحوّل الى مجرم قاتل مأجور لدى السلطات الأمنية، لهذا كان يقول:" جميعنا قتلة"، والذي شغله ريسان الساعي ،فالى جانب هذا الراوي وسعيد سمح الكاتب باستخدام السرد على لسان بعض الشخصيات عبر الرسائل(ص 39، 197، 301- 303، 313)، على لسان نونا وانعام ونادية مع بعض التداعيات واليوميات ، وقد جسد ذلك بطريقة ذكية تكاتفت مع الأساليب الأخرى، مثل أسلوب المخطوطة عبر استخدام الوثائق(ص 117- 126)، او عبر ما دعاه بـ( ملاحظات أخيرة ورؤوس أقلام) في(ص136-145)، وهو أسلوب ماوراء الرواية/ ميتا سرد، كما في قوله عن رنكين:
" روايتها ابداً، وقد اضاعت رنكين فصلاً مأسوياً آخر في مسيرة الألم والجنون ، ماذا حدث إذن..؟"[ص84] وكذلك في حديث السارد عن رواية نجيب محفوظ (اللص والكلاب) وهو يتابع شخصية "نور العاهرة العاشقة ربة البيت التي امتلأت حباً وحناناً(...) حالما انتهت الرواية خرجت عائداً من البيت".[ص171]
كما حضر هذا الأسلوب في المحطة السادسة الى جانب اليوميات التي هي بمثابة مخطوطة في المحطة التاسعة والمعنونة( يوميات الحب الأول)؛ وهذا ما يسري على المحطة العاشرة والحادية عشرة، حيث تكررت بعض الاحداث فكانت بمثابة إضافة غير ضرورية فنياً للرواية ،ولكنها كوثيقة تاريخية لها أهميتها الخاصة، اذ قال في بداية المحطة التاسعة:
" لنسمها نونا
هكذا تكون طفلة صغيرة ذات شعر قصير كسول".[ص262]
فكانت الفقرة(1) توطئة، ثم صار يؤرخ ذلك من دون ذكر السنوات؛ ففي الفقرة(2) يبدأ يوم الاثنين 9/2، ثم ينتهي عند يوم الجمعة 2/5 ويكمل ذلك عبر استخدام أسلوب الرسائل الذي هو الاخر أسلوب يوازي بنية المخطوطة، كما في رسالة نونا الى سعيد ورسالة سعيد اليها ورسالة انعام الى سعيد .. وهكذا.
اما المحطة العاشرة (وجّه آخر) فكانت على لسان سعيد ونوعاً من الكوابيس وتذكيراً بأصوات التسجيلات او المقالات التي كان سعيد يقرأها، وقد امتدت هذه الاحداث الى ما بعد سنة 2003م، حيث يكون القتل المجاني محوراً والاغتيالات والصراعات السياسية وتقلب المواقف والشخصيات وتحولاتها من جانب الى آخر، فكانت شخصية ريسان خير مثال لهذا الزمن وما سبقه.
كما استخدم الكاتب الكولاج(اللصق) المحصور بين قوسين معقوفين [....] بصفته ميتا سرد او سرد شارح داخل المشهد السردي.[ص 76،77، 80، 83، 130، 269]. وربما استخدمه لزج بعض النصوص الأسطورية التي تتناول العالم السفلي التي تخاطب الاله(انكي)، كقوله:" أبتِ انكي لا تدع لازورد الثمين يتكسّر".[ص77] كنوع من الاطلالة على بناء الميتا سرد او بنية المخطوطة، للتخلص من بعض الفجوات التي قد تخلخل السرد والنص الروائي، فضلاً عن الرغبة في ضخ اكبر مادة لافكار ورؤى تاريخية متعددة قديمة وحديثة لتسهم في تأثيث الأفكار اوالرؤى في سيرورة السرد ومجساته المختلفة، بجانب بعض التداعيات ذات الطابع النفسي والذاتي ، بحيث شكلت نوعاً من التناص المقحم والمباشر،وليس المضمر في دائرة السرد.[ص86، 143، 144، 145، 161]وهذا المسلك ربما يخالف التناص بشكله الطبيعي المستخدم في الروايات المعتمدة عربياً وعالمياً، وقد استخدمه بعض الساردين في القصة القصيرة والرواية مثل احمد خلف ومحمود جنداري ،ولكن بصورة مباشرة.
-4-
بعد هذه المصاحبة لهذه الرواية، نتساءل: ما الذي يمكن ان نخرج به عنها؟
في البدء لابد ان نعرف ان الرواية كتبت لتكون سيرة لمرحلة تاريخية مهمة، تمثل جزءاً بارزاً من حياة وتاريخ شخصيات الكاتب والتاريخ السياسي منذ عام 1970 حتى ما بعد 2003، وهي مرحلة طويلة زمنياً وصاخبة ومريرة، وكان من الممكن اختزالها بكتابة سيرة او مذكرات لكي تكون وثيقة تاريخية، اما كونها رواية فهي عمل أدبي نثري، او رواية تاريخية ،ولكن من الممكن اختزال الكثير من الاحداث وعدم اللجوء الى الاطالة في توزيع العلاقات بين الحب والمصحة والسجن والتعذيب والانتقال من مكان الى اخر من بغداد الى السليمانية والى الأردن، لان توزع المكان يضر بالعمل الروائي وتشتت الرؤى فيه.
يبدو تعدد الشخصيات والاهواء والمواقف، غير ضروري تماماً، لان الأهم هو البناء الرصين للرواية، بتقليل التفاصيل والاكتفاء بالتلميح والايحاء مع التخلص من الزوائد والشوائب والاكتفاء بما هو ضروري بعيداً عن الاستطرادات الطويلة، والموازنة بين الداخل والخارج والظاهر والغاطس والواقع والخيال والاحلام. فضلاً عن ان الاكثار من الشخصيات والأساليب يدفع العمل السردي الى التنوع والتوزع والانبساط في فضاء واسع، بما يقلل من سيطرة الكاتب عليه، ويضفي عليه نوعاً من الضبابية والغموض، ذلك لان الكاتب يرى بان هذه رسالة لا بدّ له من ايصالها الى الاخرين، وكانه يريد من الرواية ان تكون سيرته التاريخية وهذا مع انه يكشف عن تفاصيل مهمة في الكتابة ولكنه يعيدنا الى الرواية الكلاسيكية في الادب الأوربي.



#قيس_كاظم_الجنابي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فارس الرحاوي.. من القصيدة الى التوقيع
- النزعة المثلية في شعر وهاب شريف
- في حداثة قصيدة النثر عند حكمت الحاج
- التماسك السردي في (موسيقى سوداء)
- الازدواجية الحضارية في كتاب (علم آثار عيلام)
- سيرة ذاتية للخيانة قراءة في كتاب (لمسات وراق فرنسي الهوى)
- نساء مغامرات في طريق الاستشراق قراءة في كتاب ( سيدات الشرق)
- الرحلة والسيرة في كتاب (الطريق الى مكة)
- الرحلة بوصفها في (مغامر عماني في ادغال أفريقيا)
- باسم عبد الحميد حموي
- فصول ذاتية من سيرة غير ذاتية عند الدكتور علي جواد الطاهر
- الرحلة اليتيمة (حصون تحت الرمال)
- حول رحلة المس بيل (من مراد الى مراد)
- التبشير والتصوف في رسائل ماسنيون للكرملي
- سيرة جيل في كتاب (بغداد السبعينات، الشعر والمقاهي والحانات)
- بين المقهى والمنفى
- الظل والضوء في رواية (سيرة ظل)
- ميراث الفصول.. قراءة في روايتي (طوفان صَدفي) و(رياح قابيل)
- ما الذي يعنيه أدب المذكرات؟
- رؤية شرقية لفرنسا


المزيد.....




- الفن والقضية الفلسطينية مع الفنانة ميس أبو صاع (2)
- من -الست- إلى -روكي الغلابة-.. هيمنة نسائية على بطولات أفلام ...
- دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-. ...
- -سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر ...
- البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة) ...
- تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
- المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز ...
- طفل يُتلف لوحة فنية تُقدر قيمتها بخمسين مليون يورو في متحف ه ...
- بوتين يمنح عازف كمان وقائد أوركسترا روسيا مشهورا لقب -بطل ال ...
- كيلوغ: توقيع اتفاقية المعادن بين واشنطن وكييف تأخر بسبب ترجم ...


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قيس كاظم الجنابي - متاهات السرد في رواية (سيرة موجزة للألم)