أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قيس كاظم الجنابي - فارس الرحاوي.. من القصيدة الى التوقيع















المزيد.....


فارس الرحاوي.. من القصيدة الى التوقيع


قيس كاظم الجنابي

الحوار المتمدن-العدد: 8276 - 2025 / 3 / 9 - 18:53
المحور: الادب والفن
    


-1-
يعيش فارس الرحاوي بين القصيدة في (شفق ودخان) والتوقيع في (تواقيع بين جفني امرأة) رحلة زمن ونصوص وتحولات، وانتقالة من القصيدة الى الومضة، تتناسب مع سرعة المتغيرات والاحداث، التي عاشها العراق وعاشتها الموصل مدينة الشاعر ورئته التي يتنفس هواءها ويشم نسيمها؛وفي مجموعته (شفق ودخان) الصادرة عن دار تموز – دموزي( دمشق، 2021م) الشعرية ، وحتى المتن تتردد مفردات (دخان ، نار، حرائق) لتحاول ان تعطي كل منها مجموعة شفرات للقارئ بأن الشاعر يوثق أوضاع العراق بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003م، وما تلته من ظروف واواضاع مختلفة؛ فعبر الشاعر من خلال تلك الشفرات عن علاقة الرمز باللغة او بالكلمة، في جمل تستحق ان توغل في لعبة التأويل؛وعلى الرغم من انه الشاعر كتب مقدمة تنظيرية عن القصيدة الشعرية التي تحاول من خلال ذلك ان تؤكد بانها" هوية الشاعر" ،و"هوية التواصل بين الشاعر والمتلقي "؛ ثم حاول في نهاية المقدمة إعطاء تبريراته عن طبيعة هذه القصاد وزمنها والوقائع التاريخية المحيطة بها مشيراً الى انها تمثل المجموعة الثالثة ،وقصائدها كتبت بين عامي 2004-2019م؛ أي ان ظروف الصراعات الدموية لمرحلة ما بعد الاحتلال من متغيرات واحداث لها حضورها المباشر او المضمر في هذه القصائد.
لغة الدخان والنار هي سيطرت على لغة الشعر،وهي لغة متفجرة ومؤسسة لتصورات جديدة، وان كانت قد عرضت - بعض الأحيان - جوانب استعارية مهمة تعتمد على البيان العربي، لو على تناصات تراثية معروفة كالمثل والاستعارة لتأثيث النص الحالي او القصيدة الشعرية المبتكرة، على وفق لغة الإحساس بقوة الرد على الاخر(المحتل)،وعلى ما تعرضت له مدينة الموصل من ظروف استثنائية.. ووفقاً لذلك كيف نقرأة هذه القصائد؟
موضوعة القصائد الرئيسية، هي كيفية مواجهة المواقف الطارئة بعد الاحتلال، فقد تضمنت غالبية القصائد في عنواناتها ومتونها احالات واشارات الى الحرائق والدخان ،ومنها:( شفق .. ودخان، جمر ودخان ، جمر وشوق، جمر الصمت)؛ فقد جاءت كلمة (جمر) لتغدو الأكثر حضوراً من كلمة(شفق)؛ مما يعني ان النار ومرادفاتها هي الأكثر نصيباً في التردد داخل القصائد، فانار عند العرب تأكل الاخضرواليابس ،والنارولا العار ،والنار فاكهة الشتاء.. وهكذا. الى الخوف والاغتراب وزمن المحنة، وهذه القصائد محمّلة برموز واحالات خاصة لم يستهدف بها الشاعر ايثار العلامة، بقدر استئثاره بالرمز العربي ، اذ تبدو القصيدة الأول( رسالة الى احمد الكوفي) تغالا للبحث عن الرمز العربي القديم، في حاضرة الكوفة وتأثيرها بوصفها عاصمة العالم الإسلامي لمدة من الزمن،ولكن قصائده التي تناولت الصراع بين الاحتلال ومناهضيه ذات علاقة مباشرة بأسلوب الذي يعد النار علامة والنار مركزاً ،كما قالت العرب(لا نار بلا دخان).
يحيل العنوان الى لون النار ولون الدخان، من خلال شفق او احمرار الشمس ،ودخان الحرب، حيث تجتمع الكلمتان لتكون صورة من صور الوجع والالم،والعتمة والنيران ، وكذلك حملت عنوانات القصائد كعلامات للتعبير عن الحدث التاريخي حيث تشير القصائد:( جمر ودخان، جمر وشوق، جمر الصمت)؛ احالات الى الحرب ومقاومة الاحتلال الأمريكي، وتحيل عنوانات مثل (هوية السؤال، كان الفجر موعدنا ، اغتراب مسافر، ادر اهلي)
فاذا كانت النار علامة للحرب فانها علامة تفضي الى التاويل، وبيان العلاقة بين العلامة والرمز الذي تبثه العلاقة بين الدخان والنار بصفة عامة، وليست من طبيعة امارتية؛ اذ الامر يتعلق بترابط ألافكار باعتبارها هي الأخيرة التي تنتمي الى نسق الثانية. فالعلاقة بين الدخان والنار في هذه الحالة الأخيرة هي علاقة رمزية، فالدخان امارة/علامة على وجود النار واذا أرادوا ان يصفوا قوماً بالبخل قالوا عنهم: " أولئك قوم يوقدون نارهم بالوادي".[ص85/السيمائيات التأويلية امتلاك الموضوع الثقافي: د. عبدالله بريمي، دار نيبور(الديوانية، 2014م)]وهكذا صار الدخان دليلاً على وجود النار،وصارت دليلاً على وجود الناس والحياة وكرمهم والفتهم.
-2-
في قصيدة( شفق ودخان) التي حملت المجموعة عنوانها ، ثمة عرّافة عجوز تروي حكاية وتضحك تارةً، او تحمل بشارة السلام، وتعبس وجهها، لتنسج الحيرة له في فنجان (من عبق ذلك الدخان)،وكأنّ الدخان إحالة او علامة عن حصول امرٍ ما كالحرب اوغيرها.. فلماذا اقترنت الحيرة بالدخان..؟
بالطبع القصيدة مكتوبة في الموصل في 30/9/2019م، في احداث الموصل والصراع الذي حصل فيها، اما قصيدة (رسالة الى احمد الكوفي) فانها تتحدث عن الانسان العربي المهزوم كرمز من خلال صورتي المتنبي وسيف الدولة وكافور، فصار الوطن جوازاً بلا هوية ، لهذا يدعو (احمد الكوفي) ليرحل عن هذا الزمن العربي ، لان (كل العناوين الجديدة خناجر..)،لانه (زمن العراقيين/والقوالين/ والبراقع السود)؛ وفي قصيدة (بدلة الخاكي) التي اهداها الى (الشهيد سالم ابليس،وهو يرتدي بدلة الخاكي) يستعين برمز نبوخذ نصر لكي ينطلق نحو فضاء التأويل والقصيدة كتبت في دمشق في أيلول عام 2006م، وهو مع ذلك يستخدم الدخان والنار والحرائق كعلامات للتعبير عن الفوضى والحروب والصراعات والاهوال، فالشفق إحالة الى اللون الذي تمثله النار، ولون الدخان يحيل الى الحروب والاحتلال الأمريكي، وهو في كل هذا وذاك يشير ال مخلفات الاحتلال للعراق ، بطريقة مباشرة او غير مباشرة، مع حضور صورة الدم او لونه الذي يقترب من لون النار، ذلك ان النار تعد واحداً من عناصر الوجود الأربعة (الماء والنار والهواء والتراب)، وبهذا فان لون الدم هو الذي سيصبغ الصورة التي تستدعيها قصيدة(تراتيل لغدٍ عائد)، حين يقول:
دمي هوية الحلم والضجر..
دمي أنت أيُّها المعنى..
يا نبع اللغات،
وتذكار السفر..
دمي يغسل حُزنكَ الحسيني ..
عبقٌ كربلائيٌّ ..
يُهللُ بالنُّذورِ والشموع..[ص 42]
وهنا يشكل (الدم) مركزاً في حركة الصور والرموز والاحلام والالام والمواقف، فهو مركز الحركة والانتقال ، معمقاً حضوره بالاستعانة بالموروث الشعبي كالنذور وايقاد الشموع والحزن الكربلائي؛ وهنا يتمركز الرمز للانطلاق نحو فضاءات التأويل بحيث تبدو الصورة موازية للرمز التاريخي والوجود الإنساني، والرؤى العربية المصاحبة لهما واضحة، وكأن الصورة هي تعبير عن الماضي بصورة الحاضر ، ولهذا يجتمع لون الدم مع لون الشفق ومع لون الفجر لينبثق احمرار الشمس للتعبير عن ولادة الصراع من أجل التضحية.
ولأنه يحمل جرحه معه، فانه حين يستحضر الصراعات الدامية فانه يمزجها بالاسطورة الإنسانية للتعبير عن أقدم أنواع الصراعات منذ صراع هابيل وقابيل، كما في قصيدة (العراب والمدين تحترق) عندما يقترن الاحتراق المرتبط بالنار بالرموز التاريخية عن الحروبوالقتل، مثل قابيل وهابيل وعطر منشم ليقول:
يحترق الحرف على جُرف الفم
لهاث يجري كالسيل
من بعيد كالسّراب
ومازال في مرابعنا،
نبحث عن عطر منشم ..[ص46]
وحين يشموا (عطر الخيانة) ينتقل الرمز من اللون الى الشمّ، ثم يعود اليه ليوظف صوره الدينية في صراع ابني آدم قابيل وهابيل وقصة النبي يوسف ؛ بجانب حكاية المثل العربية الذي جسده زهير بن أبي سلمى:" دقوا بينهم عطر منشم"، ويقال ان "منشم) كانت عطارة تبيع الحنوط لقومها حين كان يتحاربون؛ وفي هذا إحالة رمزية واضحة للدم والخوف والالام، لهذا كان يقول:
الف قابيل طوّقوا المدينة..
احلوا دمي (في الأشهر الحرم)..
وهابيل يقتلُ عمداً..
هابيل يموتُ..
بلا تابوت...
بلا تاوبوت..
ينتظر القدر ..
يا غراب المحنة أين السّفر ..؟ [ص 48-49]
بجانب لون الشفق او لون الدم يحضر لون الحزن(السواد) ولون (الغراب) ليكملا الصورة في فجيعة الخوف والالام.
-3-
في قصيدة (أنين على اعتاب المقابر) يقترن اللون بالموت/المقابر، يصف الاحتلال بالاغتصاب لعذرية البلاد، حيث يبدو الدم هو دم اغتصاب البكارة، حين يقول:" هل تعود البكارة حين يرقعها الوهم..؟"، والقصيدة مهداة الى (شهداء الفلوجة) ومؤرخة في (الموصل 23/11/2004) وتكاد ان تكون قصيدة(هتافات السائحين) استمراراً واستكمالاً لها، وهي قصيدة غير مؤرخة تحاول ان توظف التاريخ الحضاري للعراق منذ الجنائن المعلقة الى نصب الحرية لجواد سليم، حيث يصف جنود الاحتلال بالقول:
جاؤوا سًواحاً..
ببزات وخوذ عسكرية
لُقطاء من مزابل الطرقات
لا يحملون قرون الغول ..
وفي اعناقهم بندقية [ص58]
وهي ذات صلة بقصيدة (جمر ودخان) التي تتحدث عن العشق والجنين، والأزمات التي تلاحق الانسان والوطن، فتكمل صورها وتوجهاتها قصيدة (مسافر) المؤرخة في(الموصل آب 2011) والتي تشير الى انه الف حزنها (المتوضأ بالعشق) فتألفه الحكايات القديمة وخرافات العراقيين ومغازل جدته التي تحيك له وطناً مسافراً.
أما قصيدة (هوية السؤال) فكانت تتحدث عن جسدها بلا هوية، ثم يعترف بالقول:" أنا حقيقة عارية لا تحتاج في اكتشافها الى عناء ،او سفر..)؛وهي مؤرخة في (بغداد، 20/4/2011) ولكنها مبعة بالامل وبالعشب الاخر ، فالاخضرار لون متفائل يقف بوجه لون النار والشفق والدم، كما فعل في (حجر وشفق) الذي وصفه بحجر الشوق وبانه "يهيج الجمر" لانه يعتقد بان"العالم كله يحترق بالشوق"، أما قصيدة (وجع الناي) فتشير الى الحرائق والدخان، مستفيداً من رمز العرّاف الذي ينبئ بالاحداث، حيث يشير الى نار المجوس المرتبطة بالاحتلالات الأجنبية ؛ بينما تبدو الخضرة حاضرة في قصيدة (ويظل العشب أخضر) في حين تشير قصيدة (جمر وشوق) الى وجع الناي والحرائقاما قصيدة (اغتراب..) المؤرخة في 7/8/ 2018 والتي اهداها الى حارث معد الجبوري ليقول في نهايتها:
مدينتي ليست مدينة ..
لا يحكمها آشور..
مدينتي أضحت قضية..[ص110]
وهكذا كانت القصيدة قصيدة للدخان والنار والحروب والاوجاع، لتبدو جملها الشعرية التي تجسدها مشحونة بالاحزان والسواد،ولا تقدم النار شيئاً مهماً الى القارئ سوى هاجس الخوف والحروب.
-4-
في مستهل مجموعة الشاعر فارس الرحاوي (تواقيع بين جفني امرأة) ثمة مقدمة بعنوان (قصيدة النثر ، متاهات بين سلطتي اللغة وشعرية الشعر) ربما تحمل نوعا من المفاتيح لقراءة النصوص وهي تحمل معها لفظة(توقيع) وقد جعلها على قسمين: الأول، بعنوان (تواقيع موصلية) و(اسطنبوليات)و(تواقيع في المنفى)و(تواقيع عائدة كم المنفى)؛ في محاولة منه لرسم صورة حية للقصيدة الومضة، والتي هي قريبة من قصيدة التوقيع او قصيدة الضربة السريعة الخاطفة والقادرة على احداث لحظة التنوير كما يحصل في الاقصوصة. وذلك من خلال المفارقة التي تكشف عن خفايا الموقف في بواطنه وتجلياته العميقة، وتسمح للمعنى الظرفي الذي يمكن تأويله.
والتوقيع، من وقعت في الشيء أوقع توقيعاً وكتاب موقع فيه ورجل موقع فاذا امرت قلت: وقِع فيه. وحقه في اللغة التأثير القليل الخفيف. يقال : دف هذه الناقة موقع اذا اثرت فيه حبال الاحمال - والدف الجنب – تأثيراً خفيفاً.
وقال جعفر بن يحيى لكاتبه " ان استطعتم ان تكون كتبتكم كالتوقيعات فافعلوا". يريد بذلك حضهم على الايجاز والاختصار. وكان أبو سلمة يوقع في الكتب:"آمنت بالله وحده".[ص137/ ادب الكتاب: أبو بكر الصولي، تع احمد حسين بسبح، دار الكتب العلمية (بيروت، 1415هـ/1994م)].
ويعتقد بعض الباحثين بأن (التوقيعة) هي قصيدة قصيرة مكثفة، وهي أقرب الى الومضة، تتضمن حالة شعرية إدهاشية، ولحظة شعرية تشبه الى حدٍّ ما اللحظة القصصية في قصة اللحظة، ولها ختام مدهش مفتوح أو قاطع حاسم. وقد تكون القصيدة طويلة الى حدِّ معين وتكون القصيدة توقيعة اذا التزمت الكثافة والقفلة المتقنة المدهشة.
هناك كثير من النقاد سمّوها القصيدة القصيرة ولكن ليست كل قصيدة قصيرة الطول- توقيعة. وسماها نزار قباني (قصيدة البرقية – التلكس). وقد تكون قصيدة تفعيلة أو قصيدة نثر أو عمودية . [ إشكالية قصيدة النثر : عز الدين المناصرة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر – دار الفارس (عمّان، 2002م)، ص168.]
في اول توقيع موصلي وعنوانه( بلا رتوش) يتكون هذا التوقيع من جمل مترابطة ومتواصلة بأدوات رابطة يهيمن عليها أسلوب العطف (أو،و) ويخلق التوتر فيه نوع من الأسئلة التي تحتاج الى إجابات في حركة دائبة مستمرة للوصول الى النهاية ؛ حيث يختتم التوقيع بكلمة العنوان(بلا رتوش) بما يوحي بان التوقيع الواحد، هو مجموعة تواقيع/ومضات/ نصوص قصيرة مترابطة يتصل بعضها ببعض لتمرير فكرة الاتصال والتواصل بين المنتج/ الباث والمتلقي/القارئ ، كنوع من البنية النصية القادرة على خلق نمط من الخطاب الشعري الذي يسير على وفق نسق مضمر من الاحالات والاسئلة والاجوبة، للكشف عن الدلالات الكامنة في النص، والمعطيات القادرة على صناعة اللغة واستدراج القارئ ، على وفق أسلوب يبتعد عن الرموز المستوردة من خارج النص،وانما دفع النص لانتاج رموزه الخاصة به، كقوله:
لو ان ورقة سقطت عند باب قلبك..
او ريشة طرقت باب حُلمكَ..
او قلم شفة معسولةٍ بالقُبَلِ..
حاول فَكَّ عُقدةِ لسانكَ..
ماذا فعل،
وأنتَ معتفٌ
في محراب الكلمات..؟ [ص25/ منشورات الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق(بغداد، 2022م)].
كانت البداية مع حرف التمني والشرط(لو) الذي يحتاج الى جواب،وكأنه يضمر فيه الاستفهام، لكنه دفع جملة الشرط الى الاستمرار، ثم حاول رفدها بأدوات ربط وعطف لتصبح هناك سلسلة من الجمل المتتالية التي تؤكد او تفسر لحظة التمني(لو)، فثمة (أو، أو،و)فجاء وجود جملة طلبية تبدأ بفعل الامر(حاول) بمثابة انتهاك لجملة الشرط التي تبحث عن جواب لها، كان المفترض ان تكون(فحاول) حتى تكتمل الدلالة؛ لهذا تلافياً لهذا الموقف انتقل الى الاستفهام المضمر بـ(لو) الى الاستفهام الظاهر بـ(ماذا)، ثم فسر ذلك بالحال(وأنت معتكفٌ) فالحرف(و) بهذه الجملة هو جزء من حركة الومضة، حركة التوقيع القادر على فعل ما هو مهم ومؤثر. ثم يضع فراغاً من مجموعة نقاط(...) ليعود الى خطاب الامر (دع قلبك)، ثم(لتنام) لان اللام هنا هي(لام كي)؛ أي (لكي تنام) في تنويه ما الى حياة المستقبل.
هذا التوزيع للتوقيع هو تفسير لوجود الاستهلال ، بوصفه مجرد إحالة او افتتاح لا غير. لكنه مشروط بـ(لو)، ثم نهاية تعود الى العنوان (بلا رتوش)؛ مما يعني ان وحدة التوقيع متواصلة من الاستهلال حتى اللحظة الأخيرة، بصفة جمل متتالية، ترتبط بروابط تجعل كل جملة واحدة قائمة بذاتها،وغير مكتملة بذاتها الا من خلال محيطها اللغوي؛ وهذا بدوره يجعل قصيدة التوقيع لها مواصفات خاصة قريبة من التدوير الخاص بالوزن او التفعلية ،ولكنه يحتفي بتفردها واستقلالها.
لقد تلاعب الشاعر بحجم قصيدة التوقيع،وهو جزء من تلاعب يهدف من خلاله الى صياغة رؤى جديدة عنها، فالقصيدة التي تصنع حضورها من داخلها يمكن ان تتواصل مع مجسات أخرى يراها الشاعر جديدة بها، اعتقد ان إطالة التوقيع تؤثر على اهم مزاياه الا وهوالتركيز على التأثير.
واحدة من أدوات الاطالة هو التكرار، تكرار اللازمة،او الفعل او الحرف،او كلمة استهلال، كقوله في (تواقيع بين جفني امراة) في(التوقيع الأول)، حيث يقول:
يبقى الحرب في ظل جفنيك قصيدة..
تنتشلني من هزيمة الأوهام..
يبقى الحرفُ صدى،
يؤرقني..
يبقى اسمي ....
يا سيّدتي ..
بين جفنيك عنوانَ قصيدةْ ..[ص26]
فهنا يسهم النداء(يا سيدتي) ،والعطف (و) في توثيق الاتصال بين الجمل المختلفة،وهي في الغالب جمل فعلية طرية قادرة على خلق ليونة مضمخة بالجمال والتدفق داخل النص،وفي (التوقيع الثاني) يتكرر استخدام النداء بـ(يا) والعطف بـ(او) مع الاستدراك بـ(لكن) والاستثناء بـ(الا) والفعل الطلبيبـ(خذ، ارحل)؛ ويستمر الاستهلال بالفعل في التوقيع الثالث (قلت)و(سمعت)؛ ثم ينتقل الى الاسم (مكتوب) او بشبه الجملة (عليّ)،وهذا الاهتمام بالعطف وخصوصاً حرف العطف بالواو بما عرف بواو السياب، التي شاعت في شعر الأخير، والشاعر يستخدم الجمل الاستهلالية في الثوقيع الثامن (وأنا)، اما في السابق فيبدأ مع الفعل المضارع (اتسلق) وفي التاسع (انا) والعاشر بالاستفهام بـ(هل).
ولهذا كان الاستفهام حاضراً بشكل مباشر او بشكل مضمر في التواقيع العشرة ، فعوض عنه بالنداء في الأول(يا) وكذلك في الثاني والثالث، كما كان مباشراً في الرابع والسابع (هل، لماذا)، حيث الاستفهام والأساليب الأخرى أواصر التوقيع بطرق شتى، فيكون نوعاً من الاستحضار،والبحث عن شيء غائب، لهذا يكون النداء قريباً منه، وكثير من الجمل تبدو ذوات نزعة استفهامية تثير بعض التساؤلات ،وان لم يرد فيها أداة استفهام. او عبر لام كي التي تنصب الفعل المضارع (لأقرأ)؛ وهكذا تعمل اللغة نحوياص ولغوياً في رسم الخطوات المهمة في الكشف عن المسكوت عنه، عبر التلميح او التصريح، او عبر الممكنات داخل بناء الجملة سواء اكانت الجملة اسمية ام فعلية، ذلك ان الجملة الفعلية تكون في الغالب ذات طبيعة نفعية وجافة ،وان تمتعت بقوتها وصلابتها.
-5-
تتكون توقيعاته المفردة، في العادة من عدة مقاطع، يربط بينها بحرف عطف (و) في الغالب ؛ ففي توقيع( عزف منفرد) المؤرخ في 24/11/ 2013م كان الاستهلال:
بكل هدوءِ..
تسللت اليكِ..
ثم يفصل المقطع الأول عن الثاني بنقاط، ثم يستمر بالقول:
ولما استيقظتُ،
وجدتُه..
ثم يختتم التوقيع بقوله:
ولكن .....
يترُكْني وحديداً..
في انفعالاتكِ..[ص34]
فحرف العطف(و) مع(ولما) ومع(ولكن) افاد الأول الاستمرار من خلال كلمة(لما)،والثاني استعان بالاستدراك بـ(لكن) لوضع اللمسات الأخيرة، او خاتمة لنهاية المطاف، فاذا كانت (لما) تفيد الشرط، فانه أجاب عن ذلك في (وجدته).. وهكذا كانت الجملة.
اما في توقيع (تمردي) فقد بدأه بقوله:
ذاتَ ليلةٍ ..
اسرني حُلمك..
والمدينة في حظر تجوال.. [ص35]
جاء الربط بحرف العطف(و) للتعبير عن الحال، ثم يستمر الشاعر في استخدام الفعل (ابحث) وهو فعل مضارع، تلاه بحرف ربط يفيد الحال(ومشكلة)، ثم يكمل المقطع الأول بثلاث نجمات،وكأن النص يشبه النص القرآني الذي يتكون من علامات تدلل، على الاكتمال، قم الاستهلال والاستمرار، ليعود بعد ذلك الى الزمن (ليلة) الذي بدأ به التوقيع، ويستمر الشاعر في استخدام (الواو) لأكثر مرة في (والشعر، وفي ،واحترق،...) ثم يجيب عن الاشتراط المفترض في جملة (فتمردي يا صديقتي) مصحوباً بالنداء، مما منحه فرصة للتكرار في الفعل (تمرد)او(كلانا) وانتهى ذلك بكلمة مرتبطة بالواو(واشتياق..) مفتوحة الى المستقبل. وهذا ما يسري في توقيع (اعتراف) حيث يتكرر الحرف (في) ليؤكد على حضور شبه الجملة، بعد ان بدأها بالفعل المضارع(تسقط).
وفي توقيع (الدرويش والمحراب) محاولة لتوظيف شخصية المتصوف(أبي بكر الشبلي) في نوع من التماهي معه، ومع منجزه الادبي، فهو يحاول ان يندمج مع هذه الشخصية بطريقة ذكية، في العودة الى الموروث العربي، او استدعاء الشخصيات الإسلامية، لكي تساهم في استثمار التراث العربي،وخصوصاً تيار الزهد والتصوف. يتكون هذا التوقيع من خمسة مقاطع مفصولة بالنجمات، وجعل كل مقطع مرتب بنيوياً، بصفة جمل متواصلة بطريقة تجمع بين التساؤل والاجابة ،او الحركة المضمرة لوجود تنمر او تمرد على الواقع لتأسيس نوع من الفاعلية،ولكنه في المقطع الأول، يوقف استمرارية تواصل الجمل باستخدام النداء، ثم الوقف مع رؤية متجددة مع المستقبل. اذ يقول في بداية المقطع:
حين لقيتُ أبا بكر الشبلي سألني:
ماذا تشربُ أيُّها العاشق الصوفيُّ..
أفقت من حُلمي... [ص 46 ]
وبعد اللقاء به حصل التحول عبر الفعل (تهجد) وجمل فعلية مضارعة لتوكيد انه استدعى الماضي وآمن بالحاضر، عبر الافعل:( تهجد،شرب، توضأ)؛ ثم يبدأ نوع من الجمل الاعتراضية استخدم فيها أسلوب النداء (يا آهة الروحيا شوقي الدفين)، ثم كانت لحظة التنوير في هذا التوقيع بقوله:( والآتي من عبق السنين..)؛ وهكذا يستمر في هذا التوقيع في تنميط كتابة التوقيع، أي انه لم يلتزم بقانون قصيدة التوقيع ،وهي القصر والايجاز والاقتصاد اللغوي وضغط الكلمات والجمل والاكتفاء بالإشارة الملحة والمركزة، وذلك لشعوره بضرورة توكيد فعل التوقيع نفسه، وانه من الممكن ان يتحول التوقيع الى خاتمة للحوار او للنص، او كهامش يتضمنه مركز السلطة وقوتها، يريد ان يصبح متناً او نصاً معبراً عن تلك السلطة لامه فهم ان قصيدة التوقيع يكون فيها التوقيع لولب النص ومركزه ونهايته المطلوبة الفاعلة، لانه يتلاعب بالاليات والوسائل من أجل بسط سلطة النص القوية.
-6-
يتكون (اسطنبوليات) من 14 توقيع تكاد ان تتشابه في بنائها في كل منها، وقد بدأها بتوقيع( آهة الغربة) وهو مؤرخ في إسطنبول -16/7/2014) ويبدأ بتساؤل:
كيف أنساك ...!
والاهة جكرٌ يحترق بدمي...
وانيني صدى السنين الحالِمات..
وشكوى غُربةٍ،
وفِراق..[ص51]
هذا مجرد تساؤل يبحث عن جواب، بدأه بقوله(يبقى اسمك وهجاً..)، ثم يستمر في عطف الجمل الواحدة بعد الأخرى، كما فعل في البداية،وحين ينتهي منها، يكمل ذلك بشبه جملة(بلا) ويتمه في بيت آخر (لمرابع الولادة..)مع جملة معطوفة تستمر كوحدة موضوعية حتى نهاية التوقيع مستخدماً الفعل المضارع المثير للحركة (نرفض معاً نغني معاً ونتيه)وكذلك (نجول..) كضربة أخيرة تحاكي لحظة التنوير في الاقصوصة.
يبدأ في (تواقيع في المنفى ) بتوقيع (نزيف الروح) المؤرخ في دهوك – 5/11/2014 فيكون الاستهلال بداية ناجحة لازدياد الجمل المتتالية القائمة استخدام الحرف(و) كتعبير عن الحال، او العطف او غير ذلك، حين يبدأ بجملة اسمية (نزيف الروح..)، ثم يعطف عليها جملة اسمية أخرى (وأشياء من ذكريات وخواطر عابرة..) حتى ينتهي التوقيع بقوله:( انّك تبقين آخر أنفاسي..)؛ وهنا تسيطر الجمل الاسمية على التوقيع، لان الجملة الاسمية اكثر صرامة ونفعية من الجمل الفعلية.
ثم يكمل ذلك في (تواقيع عائدة من المنفى) فيبدأها بتوقيع (شئتَ وشئتُ وما يشاءُ) المؤرخ في بغداد – 30/12/2017 وهو توقيع مكتنز وجميل ، يبدأ بفعل الامر (قل) وينتهي بجملة اسمية تبدأ باسم فعل(حذار) كنوع من التوكيد والتركيز والإصرار على الموقف ، فبدأ بقوله:( قل لنفسِكَ ما تشاء..) ثم يسدرك بحرف مشبه بالفعل بـ(لكن)، ثم يعود الى أسلوب الطلب ، من خلال اسم فعل الامر(حذار) المقترن بالنداء (أيها الرفيق) بحيث يمكن ان نجعل المقطع التالي مقطعاً اعتراضياً نحشره بين الاستهلال وجمله،وبين الاكتمال وجمله،وهو قوله:
حذارِ أيها الرفيق..
ان تفرض عليَّ ما تشاء ..
فأنا وحدي يا رفيق القلب..
اقرّرُ ما أشاء..[ص121]
ولكنه يكمل جمل(أقرر) بجملة (أحبّ) حتى يستدرك بقوله( ولكني اعلم)؛ وهذا يعني سيطرة أدوات النصب المشبهة بالفعل كنوع من التوكيد او الاستدراك، لخلق لعبة القبول والرفض، او السؤال والجواب كلعبة تداولية مشحونة بالقلق او رفض مبدأ القوة او التسلط.
يسرد آخر توقيع في هذه المجموعة وعنوانه(الوهم) بطريقة تحلينا الى الميتا شعر وذلك باستخدام بنية المخطوطة عبر استخدام الاقواس الصغيرة وهي أدوات للتنصيص "....."، ثم ينتهي المقطع الأول من التوقيع بفاصلة من ثلاث نجمات ليبدأ الأسلوب الخطابي (قولي لي) مستخدماً كلام العرافة التي أنبأته بان عشقها موهوم، وهنا يبرز العجز والخوف فيستعين بأسلوب الاستفهام عبر الحرف(هل)ن ثم ينهي التوقيع كله بنص محصور بين قوسين متوسطين (....) كنوع من الإحالة الى الاقتباس، بعد ان انهى النصف الأول من المقطع الأول بتوقيع شكل ضربة نهائية للتوقيع فوضع له عنواناً هو(توقيع السجان).
وفي النهاية نتساءل:
- لماذا انتهت هذه التوقيعات بالوهم؟
بالتأكيد الشعر هو نوع من الوهم الجميل ،او الخيال الذي يصنع للشاعروهمه الخاص به.



#قيس_كاظم_الجنابي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النزعة المثلية في شعر وهاب شريف
- في حداثة قصيدة النثر عند حكمت الحاج
- التماسك السردي في (موسيقى سوداء)
- الازدواجية الحضارية في كتاب (علم آثار عيلام)
- سيرة ذاتية للخيانة قراءة في كتاب (لمسات وراق فرنسي الهوى)
- نساء مغامرات في طريق الاستشراق قراءة في كتاب ( سيدات الشرق)
- الرحلة والسيرة في كتاب (الطريق الى مكة)
- الرحلة بوصفها في (مغامر عماني في ادغال أفريقيا)
- باسم عبد الحميد حموي
- فصول ذاتية من سيرة غير ذاتية عند الدكتور علي جواد الطاهر
- الرحلة اليتيمة (حصون تحت الرمال)
- حول رحلة المس بيل (من مراد الى مراد)
- التبشير والتصوف في رسائل ماسنيون للكرملي
- سيرة جيل في كتاب (بغداد السبعينات، الشعر والمقاهي والحانات)
- بين المقهى والمنفى
- الظل والضوء في رواية (سيرة ظل)
- ميراث الفصول.. قراءة في روايتي (طوفان صَدفي) و(رياح قابيل)
- ما الذي يعنيه أدب المذكرات؟
- رؤية شرقية لفرنسا
- قراءة في كتاب (جميل حمودي والحروفية في الفن)


المزيد.....




- هل تفقد أفلام جيمس بوند هويتها البريطانية؟ بروسنان يعلق على ...
- الكاتبة والصحافية العراقية أسماء محمد مصطفى تقيم أول معرض فن ...
- مجموعة رؤيا الإعلامية الأردنية توقع اتفاقية تعاون استراتيجي ...
- مبادرة -بالعربي- تكشف ملامح قمتها الافتتاحية في الدوحة ‎
- ميغان ماركل تكشف عن لحظات حميمة مع هاري وليليبيت (صور)
- بعد فراق دام 20 عاما.. لقاء مؤثر بين النجمة السورية منى واصف ...
- الفلسفة وفن الأوبريت أهم فعاليات اليوم الرابع للأسبوع الأدبي ...
- تعزية في وفاة الفنانة الكبيرة نعيمة سميح
- تيم حسن يخرج من قمقم الممثل الأوحد في -تحت سابع أرض-
- وفاة المطربة المغربية الشهيرة نعيمة سميح


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قيس كاظم الجنابي - فارس الرحاوي.. من القصيدة الى التوقيع