في غارة عند الفجر، اعتقلت قوة من الشرطة الفرنسية قوامها ثمانين عنصراً معززاً بحوامة استطلاع وكلاب بوليسية المناضل الفرنسي المناهض للعولمة والسياسات الاحتكارية جوزيه بوفيه من مزرعته جنوبي فرنسا وذلك إثر عودته من مشاركته النشيطة في القمة الشعبية الموازية لقمة دول الاتحاد الأوربي حيث عقدا كلاهما في اليونان.
بوفيه، المزارع ومربي الأغنام ورئيس اتحاد فلاحين فرنسي، أصبح ناقدا بارزا لكل من مبدأ تحرير التجارة وعمليات إنتاج الأغذية الشامل حيث أمضى في العام الماضي حكماً بالسجن لمهاجمته مطعماً من مطاعم «ماكدونالدز» في بلدته ميلو، ومن المزمع أن يمضي الآن حكمين منفصلين بالسجن عشرة أشهر على خلفية إتلاف محاصيل ذرة وأرز معدلة وراثياً في أواخر عقد التسعينات.
وبينما فشلت مساعي بوفيه لنقض الحكمين القضائيين الصادرين بحقه إثر رفض الاستئناف في شباط، اشتكى محاميه من أن الشرطة اعتقلته من منزله في عملية توازي في حجمها عملية كوماندوس بما في ذلك استخدام الحوامة وكلاب الشرطة ورجالها الذين دكوا باب بيته الأمامي.
وأقرت مصادر إعلامية غربية أنه بالنسبة للكثيرين في فرنسا وغيرها فإن بوفية ليس مجرماً بل بطلاً مصمماً على مناهضة الغزاة الأجانب سواء اتخذوا شكل ماكدونالدز أو الأغذية المعدلة وراثياً حيث يتزعم بوفيه مجموعة مناضلة من المزارعين تدافع عن حقوق صغار المنتجين في وجه التجارة الضخمة وتضمنت أهدافهم المواقع التي يجري فيها استنبات المحاصيل المعدلة وراثياً إذ توجد مائة من هذه المواقع في فرنسا بموافقة حكومتها .
ووسط الاحتجاجات التي عمت فرنسا على عملية اعتقال بوفيه في الثاني والعشرين من الشهر الجاري اتخذت الصحف اليومية الفرنسية مواقف متباينة من الحدث. فقد أكدت صحيفة «لوموند» أن «جريمة» بوفيه هي جريمة جماعية ورمزية: «تصرف بوفيه خدمةً لقضية يمكن أن تكون مثار جدل ولكن لايمكن دحضها في كل الأحوال وهي تتمثل في الدفاع عن بيئة صحية وعن حرية المزارعين باستخدام بذارهم الخاص وعن حماية الحياة ضد الاستغلال التجاري(..) إن الحكومة ترد على الاستفزاز باستفزاز آخر مراهنة بتحويل جوزيه بوفيه إلى شهيد لقضيته».
صحيفة «لو فيغارو» عمدت من جانبها إلى إصدار إشارات ازدراء ساخرة لمؤيدي بوفية على اليسار: «إن البلاد تكرر أصداء صيحات الغضب العارم التي يصدرها الممثلون الرسميون للضمير الشمولي» وزعمت الصحيفة أن إزاحة بوفيه من مزرعته بواسطة الحوامة كان عملية سريعة وغير عنيفة رافضة الاتهامات القائلة بحدوث هجوم سياسي على سلطة النقابات: «في دولة تقوم على القانون ينبغي على كل فرد أن يقبل عواقب أعماله» متسائلة إذا ما كان الخيار الأفضل هو أن لا يقوم الرئيس شيراك بالعفو عن بوفيه استجابة لمطالب مؤيديه وبالتالي سحب فتيل الأزمة: «في تلك الحالة فإن سجن بوفيه بشكل عادل ولفترة قصيرة سيكون له فضائل أقلها تذكير الناس أنه لا توجد حرية حقيقية دون مسؤولية»، وكأن عملية الحقوق والمسؤوليات ينبغي أن تسير باتجاه واحد ينطبق فقط على المناضلين ضد الرأسمالية وشركاتها الاحتكارية دون أن ينطبق على الجرائم التي ترتكبها هذه المؤسسات لتحقيق الربح السريع والكبير.
في المقابل، رأت صحيفة «ليبراسيون» في التعامل مع جوزيه بوفيه مثالاً عن قيام نزعة أوسع نحو التسلط والهيمنة لدى الحكومة، وطبقاً للصحيفة فإن حيز اللاتسامح يتوسع من إدانة جرائم العطف إلى إضرابات القطاع العام والهجرة غير المشروعة وارتداء الحجاب الإسلامي في المدارس. وعلى هذا المنوال من انتهاء التسامح، تمضي الصحيفة، تم اقتياد بوفيه إلى السجن وكأنه زعيم من العالم السفلي حيث تنزع الحكومة نحو العودة للفكر الذي كان سائداً في عام 1968: «بعد مبدأ من غير المسموح عدم السماح تصبح الوصفة السحرية الشاملة هي التسامح غير مسموح به».
معارضة واعية وليست رعاعاً…
ويبدو واضحاً أن ما يستفز الأجهزة الأمنية لدى الدوائر الرأسمالية الاحتكارية ليس خروج عشرات الآلاف في تظاهرات مناهضة لسياسات العولمة الإمبريالية بما تتضمنه من شن حروب وإحداث المزيد من الإفقار على يد دول الشمال الغني بحق دول الجنوب الفقير أساساً بل حقيقة وجود برامج عمل فعلية لدى أوساط الحركة الدولية المناهضة للعولمة الآخذة في الاتساع على امتداد العالم.
ففي مدينة سالونيك شمالي اليونان تضمن جدول أعمال القمة الشعبية الموازية للقمة الأوربية الرسمية في منتجع بورتو كاراس المجاور جملة فعاليات ونشاطات شارك فيها أكثر من ستين منظمة من مختلف أرجاء العالم وبدأت في التاسع عشر وانتهت في الثاني والعشرين من حزيران، فإلى جانب التظاهرات اليومية التي حاولت الاقتراب من مقر انعقاد القمة الرسمية تحت شعارات ورايات مناهضة لحلف الأطلسي والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، نظمت الشبيبة الشيوعية اليونانية واتحاد الشباب الديمقراطي العالمي اجتماعاً دولياً لمناقشة موضوعة الجيش الأوربي، كما نظمت جبهة نضال كل العمال بالتعاون مع الاتحاد العالمي لنقابات العمال اجتماعاً نقابياً دولياً لمناقشة ظروف الاستغلال الجديدة التي تعاني منها الطبقة العاملة العالمية، وكذلك عقد اجتماع دولي آخر تحت شعار: «سنتابع النضال ضد المؤسسات الإمبريالية وفي سبيل أوربا خالية من الحروب والفقر والقمع».
العالم يتضامن مع الشعوب العربية..
وبينما اختتمت الفعاليات في سالونيك بحفلة موسيقية ضخمة تضامناً مع شعوب كوبا وفلسطين وسورية والعراق وكورية الديمقراطية استضاف الحزب الشيوعي اليوناني في مقره الرئيسي في العاصمة اليونانية أثينا اجتماعاً حاشداً شارك فيه 71 حزباً شيوعياً ويسارياً من كافة أنحاء العالم لمناقشة ظاهرة العولمة وانعكاسها على الشعوب والدول والأحزاب الشيوعية واليسارية في العالم عبر ممارسة سياسات الإفقار والإقصاء والتهميش، حيث فضح برنامج العمل المشترك في نهاية الاجتماع أهداف الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق والمخططات الموجهة نحو الدول العربية وجمهوريتي كوبا وكوريا الديمقراطية.
قمة أم تطييب خواطر على حساب الشعوب…
وكانت ساحات مدينة سالونيك ومنتجع بورتوكاراس شهدا مواجهات عنيفة بين آلاف من المتظاهرين المناهضين للعولمة وقوات ما يسمى بشرطة مكافحة الشغب المنضوية ضمن قوة قوامها أكثر 16ألف عنصر من الجيش والشرطة اليونانيين الذين تولوا معززين بصواريخ أرض جو وسفن حربية حماية القمة الرسمية واعتقلوا أكثر من مائة متظاهر بينهم 12 أجنبياً من أصول أمريكية وقبرصية ونمساوية وإسبانية وسورية.
ووسط هذا الاستنفار الأمني الذي تضمن الإعلان عن حالة التأهب القصوى عقد زعماء دول الاتحاد الأوربي قمة استمرت ثلاثة أيام وبحثت جملة قضايا سياسية واقتصادية ودستورية برز فيها بعد تجاوز الخلافات التي سادت فترة العدوان على العراق خلافات أخرى حول موضوعة الدستور الأوربي وأيضاً بين فرنسا وألمانيا من جهة وبريطانيا وأسبانيا وبولندا من جهة أخرى (وهو ذات التقسيم الذي كان سائداً في تباين المواقف الأوربية من العدوان الأميركي على العراق).
واعتمدت القمة مشروع الدستور الأوربي المقترح فرنسياً بانتظار إقراره في تشرين الأول المقبل حيث تتضمن صيغته جملة إصلاحات من بينها ترشيح رئيس لمجلس الاتحاد لفترة تستمر خمس سنوات واستبدال نظام الرئاسة الدولية المعمول به شهرياً حتى اللحظة، إلى جانب تعيين وزير خارجية أوربي وتقليص لجان الاتحاد الزائدة.
مرض التبعية لواشنطن…
وبينما انهمك قادة أوربا في بحث بقية المسائل التي تدرجت من معالجة قضايا اللجوء السياسي، والهجرة غير المشروعة، ورفع معدلات النمو الاقتصادي والتحضير للتوسيع المقبل في عضوية الاتحاد وصولاً إلى 25 عضواً من 15، إلى تحقيق السلام في الشرق الأوسط، مروراً بالترحيب بدول البلقان في عضوية الاتحاد بعد إجراء الإصلاحات المطلوبة بحسب المنطق الليبرالي الأوربي بقي السؤال عن مدى إمكانية قيام اتحاد أوربي يحمل هوية أوربية مستقلة في ضوء عجزه عن الفكاك من تحت ذراع واشنطن سواء عبر منطق الهيمنة والاستعلاء الأمريكي أو بواسطة أصابع البيت الأبيض في أوربا ممثلة بلندن ومدريد ومؤخراً بولندا المصنفة أمريكياً بوصفها جزءاً من أوربا الحديثة.
وبعد أن تجاوز طرفا الأطلسي ولو بصيغة شكلية برتوكولية خلافاتهما حول الموقف من العدوان على العراق عكست تصريحات وزير الخارجية اليوناني جورج باباندريو، الذي تتولى بلاده الرئاسة الدولية للاتحاد الأوربي، استمرار الأزمة القائمة أساساً على تناحر المصالح الإمبريالية بين الطرفين على حساب الشعوب الأخرى، علماً بأن اليونان تعد تابعاً وليست مركزاً للمراكز الإمبريالية الرئيسية. ففي معرض تعليقه على قمة الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي المقررة في واشنطن في الوقت الذي يكون فيه هذا العدد قيد الطبع قال باباندريو إنه بعد أزمة العراق أدركنا في أوربا أن لنا دوراً نلعبه وأنه يجب أن ينظر لنا بمثابة شركاء متساوين مضيفاً أن المسألة النووية الإيرانية ستكون موضع بحث خلال قمة واشنطن، وهو ما يعيد السؤال إلى حقيقته حول ما إذا كانت هذه الاجتماعات الإمبريالية المتتالية قمماً ترتقي لحمل مسؤولية تطور العالم ككل أم لقاءات لتطييب الخواطر على حساب الشعوب الأخرى؟
قاسيون