عبد السلام انويكًة
باحث
الحوار المتمدن-العدد: 8275 - 2025 / 3 / 8 - 22:44
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
حول نشأتها ونواتها وأصل تسميتها ودلالات تسميات عدد من معالمها الأثرية الشاهدة، شتات دلالات وقراءات وذاكرة هو تازة وتراثها المادي واللامادي، المدينة العتيقة المغربية التي بعظمة موقع وربوة وصخرة وشرفة وجبل واجراف محيطة وانسان، لِما أحيطت به من عناية عبر أزمنتها منذ مغرب العصر الوسيط ومنها عناية السلاطين التي جعلتها بأثاث حضري رفيع، من قبيل ما هو مرافق روحية وعلمية وسياسية ودفاعية. وقد جمعت بين دار إمارة ومدارس وإقامة طلبة وزوايا ودور عبادة منها الجامع الأعظم السلطاني، الذي يعود بناء جزئه الموحدي للقرن السادس الهجري كأحد أجمل تحف عمارة المغرب عن هذا العهد. ولعل جامع تازة هذا الذي يحضر في المصادر التاريخية، حضي برعاية ملوك بني مرين الذين جعلوا تازة عاصمة أول أمرهم السياسي بالبلاد.
ويسجل حول نشأة تازة ونواتها، أنه بقدر ما هناك من اشارات تاريخية مصدرية بقدر ما هناك من غموض يخص ما طبع أولها. فإذا كانت قد شكلت وجهة لحملات المولى ادريس الأول في بداية أمره السياسي، فمن الإشارات من تقول أن نشأتها سابقة عن هذه الفترة، بدليل ما ورد عند ابن خلدون مثلاً الذي أشار لِما استوطن المنطقة من كيانات على مستوى بلاد جرسيف حتى ممر تازة، من قبيل بني العافية وقبيلة مكناسة التي قد تكون اختطت تازة خلال القرن الثالث الهجري. وعليه، قد تكون نواة المدينة أحدثت قبل تعرضها لتخريب ما وقبل اعادة بناءها من جديد، وانتقالها من وضع رباط الى وضع مدينة زمن الموحدين. ما أشرنا اليه وتساءلنا حوله منذ سنوات في مؤلفنا “تازة صفحات من تاريخ مدينة”. لتبقى الكلمة الفصل في هذا الإطار، هو ما يمكن أن تسهم به الاركيولوجيا وعمل ودراسات المتخصصين في المجال، تحقيقا للمعطيات ذات الصلة التي وردت في المصادر التاريخية.
وإذا كان اسم تازة ورد بصيغ جمعت بين تيزا وتازا وتازى وتازة منذ القرن الرابع الهجري، عبر ما جاء عند مؤرخين عرب ومغاربة من قبيل المقديسي وابن حوقل والبكرى ثم ابن خلدون..، فبلوغ أصل التسمية والحديث عنه ليس أمراً سهلاً، وعيا بما للمسألة من علاقة بدراسات أماكنية وتدقيق طوبونيمي، وعلما أيضا أن تسمية تازة أمر شبيه بما هو أثر قد يكون فَقَد كثيراً من دلالاته الأولى، بل اسم تازة قد يكون تجمد بدوره مع الزمن ولم يبق منه سوى بقايا شيء ربما تفكك منذ قرون. ومن هنا ما يحيط بأصل الاسم من صعاب وتغيرات. وفي هذا السياق عوض الحديث عن تزي باعتباره أصل التسمية التي اشتق منها اسم تازة، قد يكون العكس أي كون اسم تيزي هو الذي اشتق من تازة. بل ايضا من فعل الطبيعة ومكوناتها وعواملها ومشاهدها قد يكون مصدر اسم تازة، وهنا غير خاف ونحن أن مجال المنطقة غني بصخر الكلس الذي يعرف محليا ب”تافزة”، وهو اسم ضارب في القدم وحاضر في الذاكرة الشعبية كصخر تصنع منه مادة الجير والذي قد يكون أصل تسمية تازة.
وقد يكون لإسم المدينة أيضا علاقة بصوت في مكان تحدث فيه رياح قوية عند التقاءها بأجراف وفتحات كهفية، الأمر غير المستبعد في علاقة بما ورد عند لسان الدين ابن الخطيب لما زار تازة ورتب حولها صورة ومن ثمة مقولة، مشيراً الى أن المدينة بمكان ممتنع مرتبط بجبل وأن ريح المكان عاصف وبرده لا يصفه واصف، وهي الخاصية التي لا تزال قائمة من خلال باب تاريخي شهير بها يعرف ب"باب الريح" من جهة الغرب، لشدة ما يكون عليه من قوة ريح محدث لصوت بصدى قوي خاصة خلال فصل الشتاء لدرجة يصعب المرور عبره والوقوف فيه. وقد يكون مكان نشأة تازة (الصخرة المعلقة الواسعة المحاطة بالأجراف)، هو أصل التسمية لِما قد يكون هناك من علاقة بما يعني الصخرة باللغة الأمازيغية. وعموما أمام ما هناك من تعدد قراءات لأصل تسمية المدينة، من الدلالات أيضا ما يرتبط بالممر الفج، خاصة وأن تازة توجد على مستوى ممر فاصل في علاقته بجبال الأطلس المتوسط جنوبا ثم تلال مقدمة الريف شمالا.
وأما حول تازة وتسمية مدينة النحاس، فهذه اشارة لم ترد في أي مصدر تاريخي لا عربي ولا مغربي، والحديث عن معدن النحاس وتازة بل وغيرها من المدن الأخرى التي نعتت بهذا الوصف "مدينة النحاس"، هو درب من الخيال والأساطير والخرافة غير الخفية الممتدة في الزمن والبعيدة عما هو معرفي تاريخي رصين. مع أهمية الإشارة هنا الى أن منطقة تازة عموما ليست بأي معدن للنحاس في طبيعتها، ولو كان لخضع للاستغلال خلال فترة الاستعمار الفرنسي للمغرب. وقد يكون ما حصل حول "تازة مدينة النحاس" مجرد لبس تعبير وإسم وتدوين ورد في تقارير استعمارية أعدها رحالة ومستكشفون أجانب أواخر القرن التاسع عشر، معتمدين في محتوى تقاريرهم على كل شيء يتم التقاطه من رواية الأهالي، من أجل تلبية هاجس جمعهم للمعلومة بما في ذلك رواية الأهالي غير الدقيقة حول عدد من القضايا. وعليه، قد يكون ما ورد مكتوبا باللغة الفرنسية لدى بعض الرحالة الأجانب الاستخباراتيين، يعني "مدينة النعاس" وليس "النحاس" بحيث كتبوا الكلمة وفق ما سمعوه ربما من رواية محلية، علما أن تازة كانت محطة توقف واستراحة للزوار والعابرين من تجار قوافل التجارة بين شرق البلاد وغربها، فكانوا يقيمون فيها لبعض الوقت. مع أهمية الاشارة هنا لما كان بتازة من فنادق بأثر لا يزال شاهدا لحد الآن، ومن حمامات ورحبات بيع وشراء وحرف تقليدية بخدمات لقوافل التجارة وغيرها. فكل هذه الأشياء وغيرها من اشارات حول مجال تازة ومشاهدها الطبيعية ومياهها المتدفقة في علاقتها بنشاط الأهالي وتفاعلاتهم، وحول معالم المدينة الأثرية في امتدادها المجالي وتنوع مستويات أدوارها ومظاهر وهندسة بناءها من جوامع ومدارس وأبواب وأبراج وساحات ودروب وحصون دفاعية وغيرها، كما بالنسبة لحصن المدينة السعدي الشهير ب ”البستيون”. ولعل هذه المساحات والأثاث التاريخي والحضاري الذي طبع تازة عبر الزمن، عملنا على اثارته ومناقشته في مناسبات عدة وعبر مقالات وانشطة علمية واعلامية هنا وهناك، ومن هذه المواعيد حلقة خاصة كان قد نظمها مركز باريس العالمي للدراسات والأبحاث حول تازة قبل يضع سنوات، بمساهمة وحضور واشارات وقراءة الأستاذ مبروك الصغير صاحب أعظم مؤلف تاريخي بلمسة اركيولوجية حول تازة، والذي لا يزال أهم مرجع علمي للباحثين والمهتمين نظرا لما تأسس عليه من جهد بحثي وتوثيق وببليوغرافيا رفيعة المستوى.
ولعل من معالم تازة الأثرية المادية الروحية، هناك جامع تازة الأعظم التاريخي الموحدي المريني، وفي علاقة هذا الجامع بدولة الموحدين التي حكمت المغرب حتى منتصف القرن السابع الهجري، فبقدر ما كانت عليه من تقدم عمراني جعلها بمنزلة حضارية في زمن المغرب، بقدر ما أن ما هو زخرفة في بداية حكم عبد المومن بن علي الكًومي الموحدي كان بحرج فكري، وهو ما جعل البناء والعمارة عموما في عهده خالياً من كل زخرفة سيراً على نهج مؤسس الدولة المهدي ابن تومرت في الزهد. لكن ما أن فتح عبد المومن بن علي بلاد الأندلس حتى بدأ ينهل من حضارتها وعمارتها وبدائع زخارفها، لكي لا يوصف بتخلف عما بات تحت نفوذه من أقاليم جديدة. وعليه، كان أول عمل له في التشييد بعد فتح تازة بناءه لجامعها الأعظم (مسجد) وبنفس التخطيط الذي طبع مسجد تنمل. وكان بناء جامع تازة قد بدأ عند تأسيس عبد المومن بن علي للمدينة 529ه، مشتملا في بنيته الأولى على بيت صلاة من ثلاث بلاطات وأربعة أساكيب، مع أسكوب محراب بثلاث قباب وبصحن الجامع مجنبتان متصلتان ببلاطين شرقي وغربي، مع أهمية الاشارة الى أن صومعة الجامع وضعت في ركنه الشمالي، وأن ما أضيف في زمن حكم بني مرين من زيادة هو أمر واضح مقارنة بما هو أثر موحدي. وحتى يكون هذا الجامع ظاهراً من جميع الجهات تم تشييده في موضع هو نواة المدينة (أشرقيين)، وهو موقع مرتفع يطل من خلاله هذا الجامع على ممر شهير يصل شرق البلاد بغربها (ممر تازة). وتؤكد ميزة اتساع صحن مسجد تنمل شكل صحن مسجد تازة الموحدي، الذي ورث شكله عن مساجد دولة المرابطين بفاس التي يعتبر مسجد قرطبة نموذجها الأول. ومسجد تازة الذي شكل انتقالا بين عمارة الموحدين وعمارة المرينيين (الجامع)، يعود لأواخر القرن السابع الهجري 691 ه زمن أبي يعقوب يوسف المريني الذي كان وراء زيادة فيه، حيث أصبح يشتمل على سبعة بلاطات وثمانية أساكيب مع أسطوانة محراب مريني جديد تميز بأروع قبة اسلامية. وكان للوح تأسيسي عبارة عن نقش يخص ما أضافه بنو مرين من زيادة، فضل في فك غموض تحديد معالم المسجد الموحدي بتازة (الجزء الموحدي من الجامع الأعظم بالمدينة) وحدوده مع أسماء وتواريخ مساعدة. وقد جاء هذا النقش بخط مغربي من خمسة عشرة سطراً، يحتوي كل واحد منها على سبع كلمات وبه أخطاء إملائية كالتالي :”أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد، أما بعد أمر أمير المسلمين وناصر الدين أبي يعقوب ابن أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، أبي يوسف أسماه الله وخلده ببنا الزيادة التي زيدة (كذا) في هذا الجامع شرفه الله، وذلك أربعة بلاطاة (كذا) في قبلته وبلاطان شرقي وغربي(مع) الصحن الذي وابتديء في مفتتح ربيع الأول من العام المنصرم(..)، وكان الفراغ منه أواخر شوال إحدى وتسعين وستمائة”.
وعموما يسجل حول جوامع المغرب خلال فترة حكم دولة المرينيين بالمغرب، أنه ليست هناك معطيات شافية تاريخية حول سبل الإنارة بها، وأن الإشارات الوحيدة تلك التي تهم فاس وسبتة وتازة وتهم ما يتعلق بثريات واستعمال زيت الانارة. وكان صاحب روض القرطاس قد أورد معطيات بقيمة هامة حول ثريا تازة، مشيراً لتاريخ صناعتها 693 ه بعد انتهاء يوسف بن يعقوب المريني من توسيع جامعها. اضافة لكلفتها ووزنها وعدد كؤوسها. قائلا :” وسنة ثلاث وتسعين وستمئة فرغ من بناء جامع تازة، وعملت الثريا وزنها إثنتان وثلاثون قنطاراً من النحاس وعدد كؤوسها خمس مئة كأس وأربعة عشر كأساً، وأنفق في بناء الجامع وعمل الثريا.. ثمانية آلاف دينار ذهباً.” يذكر أن ثريا جامع تازة مكونة في قسمها الرئيسي من شكل مخروطي مصنوع من البرونز، بشعاع مترين وخمسة وأربعين سنتمتر وبعلو متر واحد وأربعين سنتمتر.
ثريا جامع تازة التي بتميز في المغرب والغرب الاسلامي والعالم الاسلامي، ما يزيد من تفردها كون جزئها الأسفل يحتوي قصيدة شعر منقوشة عليه، وهي بمعاني بالغة التعبير والوصف لشاعر مجهول الى حين، قصيدة شهيرة عند أهل تازة لارتباطهم وجدانياً بهذه التحفة التي زين بها جامع مدينتهم، اعترفاً بفضلها وفضل وأهلها زمن نشأة دولة بني مرين أول أمرهم السياسي. ولعل من الاشارات الهامة التي تحتويها هذه القصيدة، تاريخ تعليقها 694 ه بخلاف ما هناك من لبس تعبيري فيما جاء عند ابن أبي زرع، وهو ما يطرح سؤال سبب تأخير ونقل وتعليق هذه التحفة الفنية في جامع تازة. وكان الوزير الاسحاقي عند زيارته لتازة ضمن رحلة حجية له، قد أورد أن من جملة ما رآه وأثار انتباهه في تازة ثرياها العجيبة التي يضرب بها المثل، مشيراً الى أنها لا مثيل لها كعنقود عظيم مرصع بمراكز قناديل متماسكة في الهواء من خلال سلسلة نحاسية. وإذا كانت ثريا تازة تشكل عملاً ابداعاً ونبوغاً حرفياً، فإن أصولها تنحدر من نموذج موحدي هو ثريا جامع القرويين التي أنجزت بداية القرن الثالث عشر الميلادي بأمر من السلطان محمد الناصر، والثريتين التي بتازة وفاس تتكونان من قاعدة سفلى بطبقات محاطة بجسم دائري كان مخصصاً لحمل قناديل يسرج بها الزيت.
ويبقى حول تراث تازة التاريخي، من قبيل الثريا المرينية التحفة المتفردة التي بجامع المدينة الأعظم منذ نهاية القرن السابع الهجري، ومن قبيل أيضا هذا الجامع الموحدي المريني الحاضن لحضارتين متميزتين. يبقى أنه باستثناء ما ورد عنهما من اشارات في نصوص مصدرية مغربية، وما ورد عنهما أواسط القرن الماضي في مؤلف”هنري تيراس” الذي خصصه لتاريخ وعمارة هذا الجامع، ولعله دراسة بمحاور جاءت بمعطيات على درجة عالية من القيمة العلمية حول ما هو حضاري يخص هذه المعلمة، لِما احتوته هذه الدراسة من تحليل ومقارنة وأشكال قياس وتصاميم وأبعاد هندسية. يبقى الذي يسجل امام ما هناك من اشارات واحاطات ارتبطت بتقارير أجانب فرنسيين تعود لفترة الحماية، غياب أبحاث حديثة ذات عمق وتدقيق تاريخي وتأسيس اركيولوجي، من أجل ما ينبغي من تنوير ومعرفة وتحليل أهم وأوسع، ليس فقط صوب جامع تازة وثرياه بل جوانب عدة أخرى من عمارة المدينة وتعميرها الدفاعي والعلمي والاجتماعي والسياسي، الذي لا يزال بحاجة لإنصات بحثي رصين من أجل معرفة وأجوبة علمية شافية مؤسَّسَة.
#عبد_السلام_انويكًة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟