إضاءة: -تولستوي أو دوستويفسكي- لجورج شتاينر/ إشبيليا الجبوري - ت: من الفرنسية أكد الجبوري

أكد الجبوري

الحوار المتمدن-العدد: 8275 - 2025 / 3 / 8 - 00:48
المحور: الادب والفن
    

مقدمة عامة مبسطة؛
كتاب ("تولستوي أو دوستويفسكي". 1959) () للكاتب الامريكي من أصول فرنسية جورج شتاينر (1929- 2020)(). يفك لثام تأثير اللغة والصمت وتشكل التعددية اللغوية. ناقدا الحدود والأهتمام والتقاطعات المدهشة. مبينا حضورًا ملفتاً في الملاحظات الاكثر طموحا حول الفكرة المدهشة نحو إعادة تعريف الثقافة والتحليل وعلاقتها بالادب. مشيرة على إن الأدب العالمي لا يحتوي على صراعات مثيرة للاهتمام مثل التباين بين الجبابرة: ليو تولستوي (1828- 1910)() وفيودور دوستويفسكي (1821- 1881)(). من ناحية أخرى، هناك تولستوي، المهندس العظيم للواقع، الذي تبني أعماله عوالم واسعة ومفصلة، حيث يتكشف الزمن بإيقاع الحياة الحقيقية. ومن ناحية أخرى، هناك دوستويفسكي، نبي الهاوية، الذي يلقي بشخصياته في معضلات ميتافيزيقية ونفسية ذات شدة مذهلة. يقدم جورج شتاينر، في كتابه "تولستوي ودوستويفسكي"، تحليلاً رائعاً لهذين العملاقين في الأدب الروسي، مستكشفاً تقاربهما، وتعارضاتهما، وتأثيراتهما على التقليد الأدبي.

لا يقتصر شتاينر على المقارنة الأسلوبية أو الموضوعية بين الكاتبين فحسب؛ ويتسم منهجها بالفلسفة والوجودية والجمالية، وتسعى إلى فهم ما يمثله كل منها في السياق الأوسع للأدب والفكر الغربي.

إن هذا العمل هو، في نفس الوقت، تأمل في طبيعة الرواية ذاتها، لأن تولستوي ودوستويفسكي ليسا فقط اثنين من الروائيين العظماء، بل نظرتان متعارضتان للعالم، وطريقتان متميزتان لفهم الوجود والفن. فإنه يدعونا إلى الاعتراف بأن كل الأدب العظيم هو، في نهاية المطاف، مرآة تتأمل فيها البشرية نفسها في مجدها ومأساتها. إن شئتم.

1. تولستوي: الواقعية باعتبارها الشكل الأعلى للحقيقة؛
يبدأ شتاينر تحليله مع تولستوي، مشددًا على الطريقة التي يتم بها بناء خياله على أساس رؤية شاملة وعضوية للعالم. إن واقعيته ليست مجرد تقنية أدبية، بل مبدأ فلسفي: الاعتقاد بأن الرواية يمكن أن تشمل مجمل التجربة الإنسانية.

في روايتي ("الحرب والسلام". 1867)() و("آنا كارنينا". 1878)()، يأخذنا تولستوي في رحلة حيث يتم إعادة بناء الواقع بدرجة من التفصيل تقترب من المطلق. يتدفق الزمن في روايات تولستوي بطريقة طبيعية، دون اصطناعية البناء التقليدي للسرد. شخصياته ليست رموزًا أو نماذج أولية، بل هي كائنات بشرية في تعقيدها الملموس، مليئة بالغموض والنمو والتناقضات الدقيقة.

ويرى شتاينر أن تولستوي ينظر إلى التاريخ باعتباره حركة عضوية، وليس سلسلة من الأحداث الفوضوية. إن رؤيته للعالم تسترشد بالواقعية الأرسطية تقريبًا، حيث يكون منطق الوجود مفهومًا، حتى وإن كان يتميز حتماً بالمعاناة والزوال. في الخيال التولستوي، هناك محاولة لالتقاط الواقع بكل ملئه ــ ومن هنا جاء هوسه بالتفاصيل، وبالحياة اليومية، وبتدفق الحياة الذي لا يمكن اختزاله في صيغ فلسفية أو عقائدية.

ومع ذلك، فإن هذا البحث نفسه عن الكلية يولد تناقضًا مركزيًا: يريد تولستوي أن يكون إلهًا في أدبه، ولكنه لا يقبل وجود إله في العالم الحقيقي. إن أزمته الدينية، والتي تتجلى بوضوح في أعماله اللاحقة، تعكس الصراع بين الرغبة العميقة في المعنى ورفضه قبول الإجابات الجاهزة. وكما يشير شتاينر، فإن تولستوي هو روائي منظم، ولكنه مفكر شك.

2. دوستويفسكي: الفوضى باعتبارها جوهر الحالة الإنسانية؛
إذا كان تولستوي يمثل النظام والعضوية، فإن دوستويفسكي يجسد التشرذم والشك الجذري وانفجار اليقينيات. رواياته عاصفة، تتسم بكثافة محمومة، حيث لا تتطور الشخصيات تدريجياً، بل تدخل في حالات شديدة من الألم والتنوير المفاجئ.
ويؤكد شتاينر أنه في حين يخلق تولستوي شخصيات معقولة، يخلق دوستويفسكي كيانات ميتافيزيقية، وشخصيات تجسد الصراعات الوجودية والمعضلات الأخلاقية المتطرفة. راسكولينكوف (الجريمة والعقاب". 1866)()، إيفان وأليوشا (الإخوة كارامازوف". 1880)()، ستافروجين (الشياطين". 1872)() - كلهم ليسوا مجرد أفراد، بل تجسيدات للأفكار، وقوى متعارضة تتصارع داخل الروح البشرية.

يرفض دوستويفسكي النظرة العالمية المنظمة لتولستوي. بالنسبة له، التاريخ ليس تدفقًا متماسكًا، بل ساحة معركة روحية، حيث تتصادم القوى غير العقلانية والشياطين الداخلية والتناقضات غير القابلة للحل بعنف. الزمن عند دوستويفسكي ليس خطيًا، بل متقطعًا؛ شخصياتهم لا تتطور ببطء، لكنها تتحول من خلال الأحداث المفاجئة من الكشف والانهيار.

ويشير شتاينر إلى أن دوستويفسكي لا يكتب روايات تقليدية، بل "مآسي ميتافيزيقية"، حيث يكون السرد مدفوعًا بأسئلة تتجاوز البنية الأدبية نفسها. إذا كان تولستوي يجعلنا نعتقد أننا نقرأ عن أشخاص حقيقيين، فإن دوستويفسكي يجعلنا نشعر بأننا نواجه تجارب فلسفية، حيث أن كل شخصية هي إمكانية جذرية للروح البشرية.

على عكس تولستوي الذي يبحث عن المعنى في التاريخ، يركز دوستويفسكي على العبث، وعلى غياب مبدأ النظام العالمي. إن الله في عمله ليس يقينًا، بل سؤالًا مستمرًا. كما يزعم شتاينر، فإن دوستويفسكي لا يرغب في وصف العالم، بل في الكشف عنه في تناقضاته الأكثر فظاظة.

3. وجهتا نظر للرومانسية، وجهتا نظر للعالم
ولا يقتصر تحليل شتاينر على المقارنة الأسلوبية أو البنيوية؛ وهو يسعى إلى فهم ما يمثله هذان المؤلفان ضمن تقاليد الفكر الغربي. إن الصدام بين تولستوي ودوستويفسكي ليس مجرد قضية أدبية، بل هو نزاع بين وجهتي نظر عالميتين لا يمكن التوفيق بينهما.

- تولستوي هو روائي الانسجام والاستمرارية والتماسك الداخلي للوجود. إن عالمه واسع، لكنه منظم، حتى في خضم فوضى الحرب أو المشاعر الإنسانية. ويعتقد أنه من خلال الملاحظة والتفصيل، من الممكن التقاط جوهر الواقع.
- دوستويفسكي هو روائي القطيعة، والانهيار، والتساؤل المتواصل. عالمه محموم، وشخصياته دائما على حافة الهاوية. إذا كان تولستوي يكتب ليصف، فإن دوستويفسكي يكتب للمواجهة.

يقترح شتاينر أن كلا المؤلفين يحددان أقطاب الخيال الحديث: من ناحية، الواقعية الكلاسيكية والشاملة لتولستوي، والتي من شأنها أن تؤثر على كتاب مثل توماس مان وبروست؛ ومن ناحية أخرى، أدب دوستويفسكي، الذي ينبئ بالوجودية والعبث والتفتت الحديث، والذي ألهم مؤلفين مثل كافكا وكامو وسارتر.

- الخلاصة: الرواية مرآة للإنسان؛
أخير يمكن ان نخلص. إلى أن في أعمال تولستوي أو دوستويفسكي، كما يقدمهما لنا جورج شتاينر أكثر من تحليل أدبي - فهو يقدم لنا تأملاً في جوهر الرواية والحالة الإنسانية. تولستوي ودوستويفسكي ليسا مجرد عملاقين في الأدب الروسي؛ إنهما نموذجان أصليان للفكر الغربي، وطريقتان متميزتان في التساؤل عن معنى الحياة والوجود.

في نهاية القراءة، لا يوجد فائزون في هذا الصدام. يقدم كلا المؤلفين رؤى مثيرة للاهتمام وضرورية بنفس القدر. يعلمنا تولستوي كيف نرى الواقع بوضوح، وكيف ندرك جمال العالم وتعقيده في تدفقه المستمر. يُجبرنا دوستويفسكي على النظر إلى الداخل، إلى أعماق الروح، إلى القلق الذي يميزنا.

وربما يكون هذا هو الفضل الكبير في عمل شتاينر: فبدلاً من اختيار جانب، فإنه يدعونا إلى الاعتراف بأن كل الأدب العظيم هو، في نهاية المطاف، مرآة تتأمل فيها البشرية نفسها في مجدها ومأساتها. إن شئتم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Copyright © akka2025
المكان والتاريخ: طوكيو ـ 03/08/25
ـ الغرض: التواصل والتنمية الثقافية
ـ العينة المستهدفة: القارئ بالعربية (المترجمة).

#أكد_الجبوري (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات