أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيمة عبد الجواد - -بوشكين- مؤسس الأدب الروسي وزعيم الحرِّية















المزيد.....


-بوشكين- مؤسس الأدب الروسي وزعيم الحرِّية


نعيمة عبد الجواد
أستاذة جامعية، وكاتبة، وقاصة، وشاعرة، وروائية، وباحثة، ومكم دولي

(Naeema Abdelgawad)


الحوار المتمدن-العدد: 8274 - 2025 / 3 / 7 - 01:59
المحور: الادب والفن
    


جوهر الحياة هو ألَّا تتوقف عن المحاولة حتى ولو في أحلك لحظات الضعف واليأس، فأولى خطوات الحُرِّية طبقًا للفيلسوف الفرنسي "جون بول سارتر" Jean-Paul Sartre (1905-1980) هو "أن تتخذ مما يحدث لك سبيلًا للحرية"، أي الاستفادة من الصعاب وتحويلها لدرجة مهمة في سلَّم النجاح. وحتى لو تراكمت الهموم على الفرد ولم يستطع التفكير السليم والتخطيط للتغلُّب على الصعاب، فيجب أن يبحث عن وسيلة إلهاء نافعة يمكن تحويلها فيما بعد لوسيلة للنجاة. فمن يتباكى ويعيش في دائرة من الأحزان دون مقاومة يصير كمن يعطي للجلَّاد هيبة وعذرًا لما هو فاعل به، أو كما يؤكد "سارتر": "لكم أكره الضحيَّة التي تحترم الجلَّاد."
وبالرغم من صعوبة تلك التعاليم الوجودية القاسية، لكنها حقيقة ثابتة منذ قديم الأزل؛ فمهما انغمس الفرد مع آخرين، لكنه في نهاية المطاف لا يجد سوى نفسه فقط ليخلد إليها، مما يحتِّم عليه أن يهيئ ذاته لكل الظروف؛ لكيلا يضجر عندما يجد نفسه يومًا وحيدًا، لا يجد من يساعده أو يسانده. ولدفع الأفراد على العمل الدائم للتمسُّك بكل ما هو أعظم وأسمى من لحظات القهر، أطلق "سارتر" في إحدى محافله العلمية الشعبوية نداءه للتحرر من أي لون من ألوان الضغوط النفسية والمادية بتوكيده: "إذا شعرت بالوحدة عندما تكون وحيدًا، فاعلم أن صحبتك سيئة."
وبالرغم من سهولة إطلاق العبارات والتعاليم التي لا يستطيع أن يحتمل ضغط أغلبها الفرد الشجاع، الشاعر والكاتب والروائي والقاص وكاتب قصص الأطفال وكتب الرحلات "ألكسندر بوشكين" لم يستطع فقط احتمال كل هذا القدر من العذاب النفسي، بل أيضًا أن يغيّر وجه تاريخ روسيا للأبد؛ ويكفي القول أنه لولا إنجازات "بوشكين" اللغوية والأدبية والفكرية لكانت روسيا تتحدث اللغة الفرنسية، بل ولم نكن لنسمع عن الكتاب الفلاسفة الروسيين ذوي الأفكار العميقة مثل: "فيودور دستوفسكي" و"ليو تولستوي"؛ فلقد كانت أعماله الأدبية منجم للأفكار العميقة التي نهل منها جميع كتاب روسيا العظماء ولامست وجدان جميع شعوب العالم؛ لأنها سبرت الأعماق النفسية للإنسان. ولتعدد مواهب "بوشكين" الأدبية، ينعته "بوشكين" ب"وليام شكسبير" روسيا، إلَّا أن إنجازاته الأدبية والفكرية التي صنعت منه "شاعر روسيا الأول" و"مؤسس الأدب الروسي الحديث" تتخطى ذاك التصنيف. فلقد أصبح "بوشكين" رمزًا أدبيًا مقدَّسًا، وأعماله يتم تدريسها في المدارس بداية من الصفوف الأولى، وكذلك يتم طرحها كمنهج علمي معتمد لطلَّاب الجامعات. وأمَّا في الحياة اليومية، أضحى اسمه دارجًا؛ فكلَّما تحاذق أحدهم، ينظر له آخر قائلًا: "أتظن نفسك بوشكين".
والمثير للدهشة، أن ذاك الانتاجه الأدبي الغزير لم يعيش صاحبه سوى سبع وثلاثون عامًا فقط؛ فلقد مات "بوشكين" في مبارزة دبَّرها له القيصر والمقرَّبين له، وزج ب"بوشكين" في هذا النزال ليدافع عن شرف زوجته. والسبب وراء هذا روحه الثورية التي اشتعلت جذوتها في نفسه النبيلة بداية من الأجداد. فلقد ولد "بوشكين" لأبوين من طبقة النبلاء؛ بيد أن الغريب هو أن بشرته لم تكن بيضاء؛ وذلك لكون جده من ناحية والدته كان أفريقي، وبالتحديد من الكاميرون. لكنه وصل إلى روسيا بعد أن تم أسره من الدولة العثمانية، ثم أهداه السلطان العثماني لقيصر روسيا "بطرس العظيم" (1672-1725) الذي اتَّخذ منه رفيقًا وصديقًا؛ نظرًا لشجاعته، بل وأنزله مرتبة النبلاء المقرَّبين من الإمبراطور.
ودون شكّ، عرَّض أصل "بوشكين" وبشرته المغايرة لنوع من التمييز العنصري، لكنه لم يبالي، وإن هذا أشعل في نفسه نيران البحث عن الحرِّية، مما جعله يكتب قصائد في ذاك السياق، لكنه لم يرغب يومًا في تدبير إنقلاب ضد القيصر، بل كان راغبًا في تصحيح ما يلمسه من أوضاع تسلب حرِّية الشعب الروسي، ولهذا السبب قام الإمبراطور "ألكسندر الأول" بنفيه مرتين؛ واحدة خارج البلاد وأخرى بداخلها تحت حراسة مشددة.
ففي المرة الأولى، قام "ألكسندر الأول" بنفيه في منطقة القوقاز، لكن "بوشكين" وجد في ذلك فرصة للاستمتاع بطبيعة القوقاز الخلَّابة والانخراط أكثر في الحياة الأدبية والفكرية لسكان الشرق، وكان لتجربته أثرًا بالغًا على قصصه الشعرية الرومانتيكية التي كتبها إبَّان تلك الحقبة، ومن أهمها "أسير القوقاز" و"نافورة باخشي سراي"، بالإضافة إلى مجموعة وافرة من القصائد التي تنادي بالحرِّية ووجوب نيلها، مما ألهب شهرته في وجدان الشعب الروسي بعد أن اشتعلت في جميع أنحاء البلاد.
وبالتأكيد، زاد ذلك من حنق الامبراطور، الذي أمر بنفيه مرَّة أخرى في ضيعة "ميخائيلوفسكي" النائية، حيثما حدد إقامة "بوشكين"، ولم يكتفي بذلك، بلفلقد وضعه تحت رقابة مشددة. لكن ذاك الأمر لم يمثِّل عائقًا لذلك الأديب الكبير، فلقد اتخذ من ذلك فرصة للتقرُّب من الطبقات الكادحة من الشعب الروسي ومعرفة التفاصيل الدقيقة لحياتهم، وترجم هذا في صوة روايته الشعرية الخالدة "يوجين أونيجن" Eugene Onegin التي يطلق عليها لقب "موسوعة لحياة الشعب الروسي" وبسبب ثرائها الأدبي كثر اقتباسها وتحوَّلت لأعمال مسرحية وباليه وأوبرا. ولقد عشق "بوشكين" عزلته، ووجد فيها سبيلًا لفتح مداركه الثقافية بالقراءة والاطلاع على آداب الدول الأخرى والتعرُّف على لغاتهم؛ مما أحبط مخططات القيصر لإخراسه، فما كان من القيصر إلَّا وأن دبَّر لذاك النزال حتى يتخلَّص من نهائيًا من "بوشكن" ويخرس صوته أعماله التي تلح على الحرِّية.
وما ساعد "بوشكين" على الوصول لوجدان الشعب الروسي أنه حرر الأدب من قيود اللغة الروسية الكلاسيكية شديدة التعقيد، صعبة المفردات التي جعلت كتابة وقراءة الانتاج الأدبي الروسي قاصرة على طبقات شديدة الثَّقافة والاطلاع، فعزف الشعب والنبلاء عنها، ووجدوا في تعلُّم اللغة الفرنسية السبيل للحرِّية من تعقيد وغموض اللغة الأم التي تختلف تمامًا عن اللغة الدَّارجة. فما كان من "بوشكين" إلَّا أن كتب أعماله الأدبية باللغة الروسية الدَّارجة، وهي نفس اللغة التي يستخدمها الشعب الروسي حتى الآن.
ولم تكن جميع أشعار "بوشكين" ثورية، بل كان يكتب أشعار شديدة الرومانسية رقيقة المشاعر، أصبحت سطورها بمثابة إرشادات رومانسية عالمية الاستخدام. فعلى سبيل المثال، هو من نصح الرجال بأن يقللوا من مقدار محبتهم للمرأة الراغبين فيها لاشعال نيران الحب في قلبها، أو كما نقول نحن حاليًا: "سيب البنت تحبك، حب البنت تسيبك". مما يؤكِّد أن تجربيته الصَّادقة تصل للعقول والقلوب في آن واحد؛ لرغبته في ملامسة وجدان العامة. ولعل هذا كان أيضًا سببًا في إيثاره للتعبير عن المواقف والصور المجازية بأقل وأسهل الكلمات. وذاك الإيجاز والبعد عن الإسهاب كان يأخذ منه مجهودًا عظيمًا، فلقد عرضت مسودة لأحد أعماله تبيَّن فيها أنه كان يشطب أكثر من ثلثي النص ويعمد التبسيط حتى يخرج العمل الأدبي شديد التكثيف، وهذا أسلوب شديد الحداثة يتبعه الأدباء حاليًا، مما يؤكِّد أن أسلوب "بوشكين" سابق لعصره.
لقد أراد القيصر وأعوانه إخراس "بوشكين" نهائيًا بقتله، لكن في نفس اليوم الذي قُتِل فيه تحوَّل منزله لمزارًا مقدَّسا، وتحوَّل شخص "بوشكين" لرمز خالد للصمود والتجديد والقوة النفسية التي لا تنهزم، ولعل السبب في ذلك أنه وجد في وحدته الصحبة الطيِّبة التي جعلته يلتقي مع ذاته.



#نعيمة_عبد_الجواد (هاشتاغ)       Naeema_Abdelgawad#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ميجل دي ثربانتس والسعي للجنون لمزيد من السعادة
- عدم حتمية القانون وقنبلة العقاب الموقوتة: بنتهام وبيرجس
- عندما تحدَّث -سبينوزا- و-ستيندال- عن ممارسة الإرادة الحرَّة
- إذا أردت تعريفًا للجيل الضائع، إسأل ديلمور شوارتز وصناع المح ...
- القوة والمعرفة ما بين فوكو والبحتري وتأثير السلطة الحيوية
- حرب الأسياد والعبيد وفلسفة الحقّ: هيجل
- -دوستويفسكي- الأديب الذي يحسد الأدباء هزائمه
- الكاتب الذي ظلمه عصره وكرَّمه المستقبل: -جول فيرن-
- رواية -وشم-والنقد الوجودي للمجتمع
- سحرية الواقع حلم مرعب: ستيفن كينج
- حلقات التاريخ ما بين روسو والذكاء الاصطناعي
- روسو وفلوبير بين السيادة على الأفكار وعبودية الشعور
- هروب فرانسواز ساجان من سجن النُّخبة
- عندما خرج ويلز من بلد العميان
- هكذا تحدَّث زوربا: حُرِّيات كازانتزاكيس
- الواقع الجمعي للأمَّة والمجموعات المرَضِيَّة: فؤاد التكرلي
- أدب المقاومة بنكهة كافكا: إميل حبيبي
- الذكاء البشري أسير الخوف
- أعداءك ضمان النجاح والبقاء
- تاريخ الحجاز في العصر الأموي من خلال شعر الأحوص


المزيد.....




- عــرض مسلسل ليلى الحلقة 24 مترجمة قصة عشق
- نبض بغداد.. إعادة تأهيل أيقونة العاصمة العراقية شارع الرشيد ...
- فنانة شابة في علاقة حب مع نور خالد النبوي؟ .. يا ترى مين ضيف ...
- إيران.. 74 جلدة لنجم شهير حرض على خلع الحجاب!
- سلي أولادك بأفضل أفلام الكرتون.. اضبط أحدث تردد لقناة كرتون ...
- انتقادات واسعة للمسلسل العراقي -ابن الباشا-.. هل هو نسخة من ...
- فنان مصري مشهور يفقد حاسة النطق.. وتامر حسني يتدخل
- شاهد.. مغني راب يصفع مصارعا قبل نزالهما في الفنون القتالية
- -أشغال شقة جدا- كاد ألا يرى النور.. مفاجآت صادمة عن المسلسل! ...
- معرض للفنان العراقي صفاء السعدون بين جدارن جامعة موسكو الحكو ...


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيمة عبد الجواد - -بوشكين- مؤسس الأدب الروسي وزعيم الحرِّية