أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مالك ابوعليا - انحلال حضارات العصر البرونزي والتنقلات القَبَلية















المزيد.....



انحلال حضارات العصر البرونزي والتنقلات القَبَلية


مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)


الحوار المتمدن-العدد: 8273 - 2025 / 3 / 6 - 18:57
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


مؤلف المقال: فاديم ميخايلوفيتش ماسون

ترجمة مالك ابوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

حدَثَت في الأف الثاني قبل الميلاد، تحولات كُبرى في تطور المُجتمع على مساحة شاسعة من آسيا الوُسطى، وتغير شكل التطور الاثني. بالدرجة الأُولى-وهذا أكثر ما أعاره الباحثون من اهتمام- سَقَطَت مراكز الثقافة المُستقرة السابقة وبدأت في الانحلال والتفكك. وهكذا صارَت عواصم حضارة هارابا المُتمركزة في مدينتي موهينجو دارو Mohenjo-daro وهارابا مهجورةً في وادي الاندوس، وتداعَت الحياة هُناك. وفي نفس الوقت تقريباً، هُجِرَت من السُكان منطقتي تيبي حصار Tepe Hissar وتيبي تورنغ Tureng Tepe في شمال شرق ايران، وحدث الشيء ذاته في السهل المُجاور لسلسلة جبال كوبيت داغ في مركزين ثقافيين محليين، وهُما نامازغا ديب والتين ديب. ولكن تظهر أهمية هذه الظاهرة بشكلٍ خاص عندما ندرس المواد لأول مرة. فقد أظهَرَت الحفريات والكشوفات الأثرية اللاحقة، أن الوضع الحقيقي للأمور كان أكثر تعقيداً. فالى جانب الانحلال والتفكك، نجد بعض التقاليد التي تُشير الى أن هُناك تغيراً ثقافياً وليس انقطاعاً في التطور. فقد أعقَبَ انحلال المراكز القديمة، زراعة أراضٍ جديدة. على سبيل المثال، أعقَبَ هجرات التين ديب ونامازغا في سهل كوبيت داغ الشمالي، انتقالاً مُنتظماً مُتزامناً، لجماعات بشرية نحو الشرق باتجاه دلتا دلتا مورغاب، ثم زراعة أراضي خصبة على طول مجرى نهر آمو داريا الأوسط، المنطقة التي عُرِفَت فيما بعد باسم باكتريا أو باختريا. ولم تكن التغيرات في منطقة السهوب في آسيا الوسطى السوفييتية أقل أهميةً. فهُنا، حلَّت ثقافات رُعاة السهوب الذين تركوا ورائهم بقايا ما يُسمى بالثقافة البرونزية السهبية، محل ثقافات الصيادين وصيادي الأسماك، الذين مارسوا شكلاً من أشكال الاقتصاد الانتاجي، خلال الألف الثاني قبل الميلاد. كان الرُعاة المتنقلون الذين يستخدمون عربات حربية خفيفة تجرها الخيول، يزحفون باتجاه مناطق مُتنوعة. لدينا في الجنوب، لأدلةً لا تقبل الجدل على اتصالاتهم النشطة مع اولئك الذين بنوا الحضارات المُستقلة. وبالتالي، تميَّز التطور التاريخي خلال الألف الثاني قبل الميلاد، بنمط مُعقَّد من التحركات والهجرات والتفاعلات الثقافية التاريخية.
في الحضارة التي نشأت في الواحات المُجاورة لسلسة جبال كوبيت داغ، والتي تُعطينا مؤشرات على نزوح المراكز التقليدية، نجد أدلَّةً على انحلال أصابها في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد بالمُقارنة مع الفترة السابقة. فقد انهارت التين ديب، وقسم كبير من نامازغا ديب، ثم أُفسِحَ المجال لنشوء مُستوطنات صغيرة لا تتجاوز مساحتها 10-20 دونماً. وقد نشأت بعض هذه المُستوطنات في مواقع جديدة (تيكيم ديب Tekkem-depe وإلكين ديب Elken-depe)، في حين احتلت مُستوطنات أُخرى نفس الموقع الذي كانت تشغله المُستوطنات الكبيرة السابقة (نامازغا ديب، التلة الجنوبية في آناو Anau وأولوغ ديب Ulug-depe). لقد أصبَحَت منطقة التين ديب مهجورةً بالكامل، وتوقف تطور الثقافة الزراعية في هذه المنطقة مؤقتاً.وبدأ انشاء المقابر خارج المُستوطنات (ياندي كالا Yandi-kala)، في حين كانت عمليات الدفن تجري داخل المُستوطنة في الفترة السابقة. وقد أظهَرَت الحفريات في تيكيم ديب ونامازغا ديب، أنه على الرغم من انخفاض حجم المُستوطنات، الا أنه تم الحفاظ على تقاليد العمارة المُتطورة المبنية من الطين الخام غير المشوي: تكونت المُستوطنات من منازل متينة مُكونة من عدة غُرَف، تفصل بينها ممرات ضيقة. وُجِدَت أشكال من السيراميك أقل ابداعاً، ولم تعد تماثيل الطين الانثوية موجودة، أو صارت أقل، وأصبحت الأختام نادرةً نسبياً.
تدل هذه الصورة، على أن الانحلال والنزعة الاقليمية الواضحة، يتناقض بشكلٍ صارخٍ مع ما نجده في منطقة مورغاب السُفلي (مارجيانا Margiana) والتي تم فيها الكشف عن نحو 100 من بقايا المُستوطنات تعود الى الألف الثاني قبل الميلاد. هذه هي بقايا المُستوطنات القديمة المُنتشرة على طول ضفاف دلتا المورغاب السابق، والذي يقع الآن في منطقة الطبقات الرملية لصحراء كاراكوم Kara Kum. تنتظم المُستوطنات في مجموعات حسب تواجد الواحات القديمة، وهُناك 8 مجموعات منها معروفة في الوقت الحاضر، وأقدمها، هي مجموعة كيليلي Kelleli التي تعود الى المراحل الأخيرة من العصر البرونزي، ويرجع تاريخها الى بداية الألف الثاني قبل الميلاد. شَهِدَت هذه الفترة وصول عدد من المُجتمعات Communities من الحزام الذي يُحيط بالجبال، والتي جَلَبَت معها جميع الأشكال الرئيسية للثقافة المادية، من الأواني الفخارية الى التماثيل الطينية، والتي بدأ الحرفيون القُدامى في صُنعها مُباشرةً حيث استقروا. عندما كان الحزام الذي يُحيط بالجبال، في أواخر العصر البرونزي، مسرحاً للانحلال والاضمحلال، كان هُناك على العكس من ذلك،، ازدهاراً في منطقة مورغاب وارتفاعاً آخر في الثقافة، وتوسعاً في نطاق العناصر الثقافية لتشمل، أختما حجرية مُسطحة وصوراً اسطورية وأختام اسطوانية مثل تلك الموجودة فيما بين النهرين. في المُجمَل، ينتقل مركز تطور مُجتمع جنوب تُركمانستان في هذا الوقت، من الحزام الذي يُحيط بالجبال، الى منطقة مارجيانا.
تعود آثار العصر البرونزي المُتأخر في مارجيانا الى مُنتصف الألف الثاني ونصفه الأخير، قبل الميلاد، وتنقسم الى مجموعتين زمنيتين: مجموعة أوشين الأقدم Auchin group، ومجموعة تاهربي Tahirbay الأحدث. وقد تزامنت في فترة أوشين مع ازدياد ملحوظ في المساحة المأهولة بالسُكّان، والتي تتضمن اليوم ستة واحات، يُجانب كُل منها مُستوطنات مُتنوعة. كانت الواحات مركزاً لمستوطنات كبيرة ذات مساحة تزيد على 50 دونماً، وتتضمن عادةً قلعةٍ مُربعة الشكل تقريباً ذات أبراج دائرية في الزوايا، وتلة مُجاورة. وتضمنت هذه المُستوطنات أيضاً أحياءاً خاصة للحرفيين، حيث كانت هُناك أفران لشوي الفخار وتصنيعها، وكذلك تصنيع المواد والأدوات المعدنية على ما يبدو. ومن هذه المُستوطنات، كان هُناك مُستوطنة تايب 1 Taip التي تبلغ مساحتها الاجمالية 120 دونماً وقلعةً مُربعة. ويتميز هذا الموقع بثراء ثقافته، فقد تم الكشف عن أربعة أختام اسطوانية هُنا، فضلاً ختمين اسطوانيين، وطبعات على وعاءٍ من الطين. وكانت أكبر مُستوطنة في دلتا المورغاب، والتي رُبما كانت نوعاً من العاصمة المحلية، هي مُستوطنة غونور Gonur(أ) والتي وصلَت مساحتها الى 55 دونماً، وكان هُناك قلعة يبلغ قياسها 135X 125 متراً. إن العديد من المُستوطنات القديمة صغيرة، تُغطي مساحتها من 5 دونمات الى 30 دونماً، ولا تُظهر في العادة أي اثارٍ لنشاط تجاريٍ كثيف. المراكز الكبيرة هي التي ينبغي اعتبارها مُستوطنات مدينية، وهي التي كانت أساساً أولياً للوحدة الاجتماعية التي نعرفها باسم دولة المدينة.
ولكن لا يُوجد حتى الآن أي دليل على أن هذا المُستوى من التطور السياسي الاجتماعي قد تحقق في أواخر العصر البرونزي في مارجيانا. والواقع، أن مُستوطنات مورغاب نفسها، فضلاً عن المنطقة المُحيطة بها، كانت خلال الفترة الأوشية الأقدم، تحتوي على أوانٍ فخارية ذات نماذج مُزخرفة بنقوشٍ بسيطة، وهي الأواني الفخارية التي تُشبه الى حدٍّ كبير تلك التي كانت تستخدمها قبائل العصر البرونزي في السهوب، وهو ما يُشكل دليلاً واضحاً على التحركات السُكانية. تُظهِر الأواني المصنوعة على دواليب بعض الأشكال الجديدة. ولكن الأشكال الأقدم كانت لا تزال محفوظةً بشكلٍ أساسي. كما طرأت بعض التغيرات على أنماط تماثيل النساء، وإن كان عددها قد تناقصَ الى حدٍّ كبير. كما انتشَرَت التماثيل البشرية المصنوعة بأشكال تخطيطية. واستُخدِمَت هذه التماثيل مشاهد على حواف الأواني المُستخدمة في العبادة، والتي تضمنت رسومات ثعابين وحيوانات بأربعة أرجل. ولكن الابتكار الأكثر اثارةً للاعجاب هو الأختام الحجرية. فهي مُسطحة ومُربعة الشكل عادةً، وتحتوب على ثُقبٍ لربط العُقد. وتُصور أغلبها حيوانات برية. ولكن هُناك ختم يُصور بطلاً عظيماً يُمسك بوحشين مُستلقيين على الأرض. إن هذا التصوير يُذكرنا بوضوح بالبطل جلجامش، وهو المُفضل في بلاد ما بين النهرين. فهُناك العديد العديد من تصويرات الحيوانات وهي تتقاتل، وخاصةً الثيران والتنانين، والتي تم رسمها على هيئة ثعابين ذات قرون. كما رُسِمَ بطل آخر يُقاتل وحشاً برياً، وطيوراً في الجو، وأسد وثور يقفان على جانبي شجرة، ورسم يضم شخصيات بشرية وجِمال وحيوانات أُخرى. هذه الرسومات، تُعيد انتاج مواضيع اسطورية عزيزة على القبائل الزراعية المُستقرة في مارجيانا.
في المرحلة الأخيرة من تطور مُستوطنات العصر البرونزي المُتأخر في دلتا المورغاب، كان هُناك انخفاضاً في عدد الواحات، كما لوحِظَت بعض التغيرات في الثقافة المادية، حيث تضائلَ تدريجياً صنع التماثيل الطينية للشخصيات البشرية والحيوانية. ما نجد أنه كان يتزايد في المُستوطنات، هو الأواني الفخارية سيئة الصُنع، والتي كانت عادةً بدون زخارف. من الأشكال الخزفية الجديدة التي وجدناها، يجب أن نذكر الأواني ذات الصنابير المُدببة.
لم يكن استيطان المُجتمعات الزراعية المُستقرة لدلتا المورغاب سوى مُقدمة للتطور اللاحق لمناطق جديدة. في مُنتصف الألف الثاني قبل الميلاد، ظَهَرَت على طول الروافد الوسطى لنهر آمو داريا، على الضفة اليُمنى في اوزباكستان وطاجيكستان، والضفة اليُسرى في أفغانستان، مُستوطنات دائمة ذات ثقافة لا تختلف عملياً عن ثقافة مورغاب.
وقد دَرَسَ الأركيولوجيين السوفييت بالتفصيل البقايا الأثرية التي عُثِرَ عليها على الضفة اليُمنى، ونسبوها الى ثقافة سابالي Sapalli culture وهي احدى تفرعات ثقافة نامازغا 6. في هذه المنطقة، تشغل المستوطنات الدائمة بشكل رئيسي، الشريط المُمتد على طول سفوح سلسلتي جبال كويتينداغ Köýtendag وبيسونتاو Baisuntau الأوزبكية، حيث تتجمع تلك المُستوطنات بالقُرب من الجداول والراوفد التي تتدفق منها. تقع أقدم مستوطنة سابالي الى الجنوب من هذه المنطقة، على بُعد أميال قليلة من مجرى نهر آمو داريا، من حيث تنتشر المُجتمعات تدريجياً نحو الشمال على طول وادي سورخان داريا Surkhan Darya. وقد توغَّلَت ماعات مُنفردة الى وادي فغش في طاجيكستان، في المكان الذي عُثِرَ فيه على مقبرة لثقافة سابالي بالقُرب من مدينة نوريك Nurek الطاجيكية. لا شكَّ أن مياه الجداول الصغيرة المُتدفقة من الجبال، كانت تُستَخدَم لري الحقول، طالما أن هطول الأمطار في هذه المنطقة لم يكن كافياً دائماً للري. وحقيقة أن أسنان شعب ثقافة سابالي لم تتعرض للتآكل كثيراً، تؤكِّد بأن الأطعمة البقولية والحليبية كان تُهيمن على نظامهم الغذائي، بالرغم من أنهم، كانوا يضعون في القبور، أجزاء من جُثث الأغنام. تألَّفَ حوالي ثُلث ماشية السابالي من سُلالة صغيرة من الماشية مُعظمها من الأغنام. وهُناك أيضاً عظام مُتفرقة للجِمال والخنازير والحمير. وامتَزَجَ الاقتصاد الرَعَوي الزراعي عضوياً بالتجارة المُتقدمة. وصُنِعَت الفخاريات على الدواليب وكانت تُشوى في أفران مُزدوجة. وهناك عدد كبير من المواد والأدوات المعدنية، بما في ذلك الأسلحة بشكلٍ خاص، وخاصةً الفؤوس الحربية ورؤوس الرماح المُدببة، ومجموعة متنوعة من أدوات الزينة، بدءاً من المرايا، وصولاً الى الدبابيس والأساور والخواتم. وبَلَغَ شَغل الحجارة درجةً كبيرةً من الاتقان، مع الاستخدام الواسع للحجر الصابوني steatite، وهونوع من الصخور المُتحولة الغنية بالمغنيسيوم. استُخدِمَ هذا الحجر في صناعة الأواني والخرز والتمائم والأختام المُطابقة لتلك المصنوعة في المورغاب.
كانت سابالي نفسها نموذجاً لهذا النوع من المستوطنات. وقد تم التنقيب فيها على مدار عدة مواسم. كان مركز المُستوطنة عبارة عن قلعة مُربعة الشكل تبلغ مساحتها 82 X 82 متراً، مُحاطة بجدارٍ من الطوب الطيني مع أبراجٍ بيضاوية. وعلى طول كُل جدار، كانت تمتد غُرفتان ضيقتان تُشبهان الممرات. وفي وسط القلعة كان هُناك منطقة مفتوحة، مثل القاعة، وكان يُوجد على جوانبها أماكن العمل والمعيشة، التي تتألف من عدة مبانٍ صغيرة، ولكن مجموعة منها نوع واحد من المواقد. ويُمكن تقدير عدد الأشخاص الذين يعيشون في هذه المُستوطنة شبه المُحصنة بنحو 230-250 شخصاً. كانت القبور موجودة داخل المُستوطنة، والتي تم ترتيبها داخل حُفر خاصة تحت أرضية، وفي بعض الحالات كانت أسفل جُدران المباني. كان هُناك، بجوار القلعة، تلة غير واضحة الشكل، والتي كان مبني عليها مبانٍ أُخرى من أنواعٍ مُختلفة. يتميَّز مُجتمع سابالي، مثله مثل المُستوطنات الأُخرى من هذه الثقافة، بمُستوىً ماديٍّ رفيع. ويشهد على ذلك، المخزون الوفير من المواد التي عُثِرَ عليها في القبور: ففي بعض الحالات، كان القبر يحتوي على ما يصل الى ثلاثين قطعة فخارية وعشرة أشياء برونزية ونحاسية. وتتنوعت هذه العطايا والمواد الجنائزية الى حدٍّ كبير. فمن بين تلك التي وصَلَت الينا، أربعة أنواع من الأواني الخشبية، والسِلال والمواد الجلدية، بما في ذلك قُبعات وأحدذية جلدية. وقد وُضِعَ أحد الجُثث في تابوتٍ خشبي. من الناحية الثقافية، لا يُمكن تمييز سابالي عملياً عن المُستوطنات من مجموعة أوشين القديمة، ومن الواضح أنها واحدة من أقدم المُستوطنات على الضفة اليُمنى لنهر آمو داريا. عندما انتشرَت المُجتمعات الزراعية المُستقرة الى الشمال، قامت مُستوطنة أُخرى، وهي جاكورتان Djarkutan في كازخستان. كان يوجد في هذه المُستوطنة قلعة مُربعة، ولكنها أكبر حجماً، تُغطي مساحة 4 هكتارات. وخارج هذا المركز المُحصَّن، كان يُوجد هُناك أماكن معيشة وعمل ومقبرة واسعة، تم الكشف عن 900 قبر فيها. كان عُمر جاكورتان أطول من سابالي، وكانت أكبر مركز من ذلك الجُزء من باكتيريا على طول الضفة اليُمنى للنهر. وكما هو الحال في سابالي، عُثِرَ على صرح أحد القبور على فأس ورُمح من البرونز، مما يُشير الى أنها وُضِعَت لاحياء ذكرى مُحاربٍ قُتِلَ في مكانٍ قريب. ويُشير ارتفاع عدد المقابر الى وجود الصراعات بين القبائل، التي شارَكَ فيها أرستقراطية المُجتمع والمُحاربون الأثرياء. وبالنسبة للفترة اللاحقة من تطور السابالي، يُميِّز الأركيولوجيين بين عدد من المراحل التي تنتمي في مُجملها الى النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد، والتي تتوافق من حيث الزمن، مع آثار مجموعة تاهربي في المورغاب.
إن الروابط الوثيقة بين بقايا ثقافة سابالي ومستوطَنات المورغاب تتجلى ليس فقط في نمط المواقع المحصنة، ولكن أيضًا في تشابه الأشكال الأساسية للفخار والأختام التعويذية المسطحة. وكما هو الحال في المورغاب، فإن تماثيل التراكوتا النسائية نادرة للغاية في باكتريا وسرعان ما تختفي تمامًا. وبالمثل، نجد في هذه الثقافة قطعًا فنية رائعة، لا سيما الأختام، حيث نجد على سبيل المثال نقوشًا تصور جملًا أو نسرًا بأجنحة ممدودة. كما توجد أختام على هيئة صليب مسنن، تحيط به أفاعٍ متشابكة تُطوّق ميدالياتٍ لأربعة حيوانات: وعل جبلي، وخنزير بري، وأسد، وحيوان مفترس آخر من فصيلة السنوريات. ومن القطع المتميزة أيضًا المرايا ذات المقابض المصممة على شكل هيئة بشرية، خاصة المرأة التي تحل المرآة محل رأسها.
إن التشابه بين بقايا ثقافتي سابالي والمورغاب يشير بوضوح إلى الصلة النشوئية بينهما وإلى كونهما مستمدتين من مصدر واحد. وفي هذا السياق، هناك آراء متباينة. فبعض الباحثين يفترضون أن مركز نشأة هذا النمط الجديد من الثقافة كان في مكانٍ ما في خراسان الإيرانية، ومنها انتشرت القبائل باتجاه دلتا المورغاب ووسط مجرى نهر جيحون (آمو داريا). بينما يرى باحثون آخرون أن الأمر كان نتيجة انتقال مجموعات سكانية من الحزام الممتد عند سفوح جبال كوبيت داغ. وبالفعل، فإن العناصر الأساسية لثقافتي سابالي والمورغاب تستحضر مباشرة حضارة ألتين ديب، كما أن واحة كيليلي تمثل المرحلة الأولى من توسعها لاحقًا نحو الشرق.
أما أروع نماذج القطع الأثرية الجديدة التي ظهرت في العصر البرونزي المتأخر، فهي الأختام التعويذية المسطحة والأختام الأسطوانية، بالإضافة إلى بعض أنواع القطع البرونزية التي عُثر عليها على الضفة اليسرى لنهر جيحون (آمو داريا). وبالرغم من أن أشكال الأختام متميزة للغاية في نهاية المطاف، إلا أن العديد من الموضوعات والسمات الأسلوبية تشير إلى تزايد الاتصالات مع غرب آسيا، ولا سيما بلاد ما بين النهرين. ويمكن تفسير هذه العلاقات إما بفضل زيادة الروابط التجارية أو من خلال حركة مجموعات أو قبائل معينة، والتي اندمجت مع سكان المورغاب ووسط نهر جيحون واستوعبتها البيئة الثقافية المحلية.
وهناك أيضًا عدد من أوجه التشابه مع المناطق الواقعة جنوبًا. على سبيل المثال، تم العثور على مرايا ذات مقابض مصممة على شكل بشر في جنوب بلوشستان. ولكن لا تقل أهمية الأدلة التي تشير إلى وجود اتصالات في الاتجاه المعاكس، نحو الشمال.
في العديد من المستوطنات الدائمة الواقعة في الحزام المجاور لسلسلة جبال كوبيت داغ، وفي دلتا المورغاب، وعلى طول المجرى الأوسط لنهر جيحون (آمو داريا)، نجد أدوات تختلف تمامًا عن الفخار عالي الجودة الذي تم إنتاجه في هذه المراكز. حيث أن الأواني المعنية تم تشكيلها وتزيينها بنقوش محفورة بسيطة. وتشكل هذه الاكتشافات دليلًا واضحًا على التفاعل المتبادل بين عالمين ثقافيين – حضارات العصر البرونزي المستقرة وقبائل السهوب من الرعاة والمزارعين.
في الواقع، خلال الألف الثاني قبل الميلاد، بدأت ثقافة العصر الحديدي الباكر الخاصة بقبائل السهوب تتشكل، رغم أن أصول هذه العملية تعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، كما يتضح من بقايا ثقافة أفاناسييفو Afanasievo التي خضعت للدراسة في جنوب سيبيريا. وكانت هذه المجتمعات قد دجنت بالفعل جميع الحيوانات المنزلية الرئيسية – كالأبقار والأغنام والماعز، بالإضافة إلى الخيول. كما صنعت بعض أدواتها – مثل الحلي والمثاقب والسكاكين الصغيرة – من البرونز المطروق، ولكن هناك أيضًا حُلي مصنوعة من الذهب والفضة. ومع ذلك، كانت هذه الخطوات الأولى فقط في ميدان التعدين في منطقة السهوب الآسيوية، إذ لا تزال العديد من الأدوات الكبيرة، مثل الفؤوس ورؤوس الرماح، تُصنع من الحجر. أما الفخار، فكان هشًا نظرًا لعدم حرقه في أفران مخصصة، بل على طبقات من الفحم، وكانت الزخرفة تقتصر على نقوش محفورة بسيطة. ولا تزال مواقع سكن شعب أفاناسيفو غير معروفة، ولكن استنادًا إلى حجم المدافن، يبدو أنها كانت مستوطنات صغيرة تتكون من ثماني إلى إحدى عشرة عائلةً صغيرة.
وعلى عكس ما حدث في المنطقة الجنوبية حيث انتشر أقدم المزارعين والرعاة، كان انتشار تربية الماشية في نطاق السهوب مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالمراكز الأولى لاستئناس الحيوانات. وبينما يُعتقد أن الأغنام والماعز جاءت من الجنوب، لا يستبعد الخبراء أن تكون تربية الأبقار قد نشأت في مراكز متعددة، نظرًا لانتشار الثيران البرية على نطاق واسع في سهوب القارة الآسيوية. أما الجمل، فقد تم تدجينه في منطقة المزارعين الجنوبيين، على ما يبدو منذ الألف الرابعة قبل الميلاد.
وكانت حالة الحصان مختلفة. فقد أظهرت الدراسات التي أجراها علماء الحيوان أن الحصان المستأنس ربما يعود أصله إلى الحصان البري الذي كان يعيش في أوروبا الشرقية. وإذا كان الأمر كذلك، فقد انتشر الحصان المستأنس من الغرب إلى الشرق، من سهوب بحر قزوين مع ثقافة أفاناسييفو وصولًا إلى منغوليا والصين. وفي الواحات الواقعة عند قاعدة جبال كوبيت داغ وفي ما وراء نهر جيحون (ترانساوكسانيا)، ظل هذا الحيوان، الذي ينتمي إلى بيئة السهوب البحتة، غير معروف في حالته المستأنسة خلال الألف الثالث قبل الميلاد، بل وحتى في بداية الألف الثاني قبل الميلاد.
كانت معالم ثقافة أفاناسيفو مجرد البادرة الأولى للتغيرات الحاسمة التي حدثت في منطقة السهوب وشبه الصحارى. وترتبط هذه التغيرات بثلاثة ظواهر رئيسية: انتشار تعدين البرونز، استخدام الخيول لجر العربات الحربية، والتوطد العام لنمط اقتصادي يجمع بين تربية الحيوانات وزراعة الأرض. بدأ سكان السهوب في إقامة تلال دفن خاصة فوق مواقع الدفن الخاصة بهم، إضافةً إلى إقامةً مبانٍ أكثر تعقيدًا، لا تزال واضحة اليوم في المناطق المفتوحة على شكل مقابر تلِّية. وتعد المدافن التلية سمة نموذجية لرعاة السهوب، وكذلك للبدو الأوائل الذين جاؤوا بعدهم.
تأتي أكثر المواد المميزة للمرحلة الأولية من هذه العملية من المنطقة المجاورة لجبال الأورال وغرب كازاخستان، حيث تم اكتشاف عدد من المستوطنات ومواقع الدفن المثيرة للاهتمام التي تعود إلى الفترة بين القرنين السابع عشر والسادس عشر قبل الميلاد. ومن بين هذه المواقع مقبرة سينتاشتة (Syntashta I)، التي ركزت الحفريات فيها على أكوام ترابية تغطي حفر دفن واسعة، مبطنة من الداخل بجذوع الأشجار المثبتة بواسطة أعمدة رأسية، بينما كانت القبور ذاتها مغطاة بسقف خشبي. وفي خمس من هذه المدافن، تم العثور على بقايا عربات حربية خفيفة ذات عجلات يبلغ قطرها نحو متر واحد. لم تكن هذه المركبات مجرد عربات خشنة ذات أربع عجلات منحوتة من قطع خشبية، بل كانت عربات ذات عجلتين، خفيفة الحركة وسريعة. وبطبيعة الحال، فإن الحيوانات المستخدمة لجرها لم تكن الثيران البطيئة أو الجمال، كما كان شائعًا في الواحات الواقعة عند سفوح جبال كوبيت داغ، بل كانت خيولًا سريعة.
تم العثور على جماجم وهياكل كاملة لهذه الخيول داخل مواقع الدفن، حيث دُفنت العربات أيضًا. في أحد القبور، وُجدت جماجم الأجزاء السفلية لأرجل حصانين، ومن المحتمل أن تكون جلود الخيول قد وضعت هناك أيضًا. كان يتم تكديس أجساد الخيول فوق المظلات الخشبية التي تغطي القبور، وغالبًا في مجموعات من اثنين أو أربعة، ولكن في إحدى الحالات وُجدت سبعة خيول. ومن اللجام، لا تزال بعض القطع المصنوعة من العظام محفوظة. كما وُجدت في الموقع مبانٍ طقسية تحتوي على جماجم خيول وثيران وأغنام مدفونة في حفر بجانب أوانٍ تحتوي على قرابين جنائزية متنوعة. تم تكديس التراب فوق القبور لإقامة تلال دفن، وأُشعلت محارق جنائزية، مما تسبب في احمرار التربة.
كما تم الكشف عن أسلحة داخل القبور، مثل رماح برونزية ذات حواجز عرضية، وفؤوس برونزية ذات مقابض صغيرة، بالإضافة إلى صولجانات حجرية. كما وُجدت حُلي تشمل أساور نحاسية، وخواتم، وأحزمة مزخرفة أحيانًا بأوراق الذهب. وفي إحدى الحالات، تم العثور على شظايا من درع فضي. في المقابل، كان الفخار الذي عُثر عليه في هذه القبور أدنى جودة من الفخار الجنوبي؛ إذ كان يُصنع يدويًا، غالبًا باستخدام قوالب، ويزين بنقوش بسيطة على شكل متعرجات، ومثلثات، وأشكال تشبه شجر التنوب.
أما المستوطنات في تلك الفترة، فقد كانت تتألف من عدة عشرات من المساكن الإطارية الغائرة قليلًا في الأرض، وكانت مستطيلة الشكل، بقياسات تصل إلى 60 × 95 أو 70 × 120 مترًا. ما يلفت النظر هو الاهتمام الخاص بالتحصين الدفاعي، حيث كانت المواقع محاطة بجدران مزدوجة وخندق (مثل مواقع نوفونيكولسكوي Novonikolskoye 1 وبيتروفكا Petrovka 2). وفي معظم المستوطنات، توجد أيضًا دلائل على إنتاج المعادن، حيث تم العثور على خبث نحاسي، وقوالب صب، وأحيانًا سبائك معدنية مصبوبة.
تكشف بقايا المواقع من نوع سينتاشتة (المعروفة أيضًا باسم نوع نوفوبتروفو Novopetrovo أو Novokumaksk نوفوكوماك) عن صلات قوية بثقافة شرق أوروبا في جوانب عديدة. فعلى سبيل المثال، تتشابه بعض أشكال الأواني المزخرفة مع فخار ثقافة أباتشيفو Abashev، كما أن العديد من الأدوات البرونزية تظهر تشابهًا ملحوظًا مع نظيراتها الغربية. ومن الواضح أن التأثيرات الغربية لعبت دورًا بارزًا في تشكيل هذا المركب الثقافي الخاص بالعصر البرونزي في السهوب.
والنتيجة كانت ظهور نمط جديد من الثقافة والمجتمع، حيث أصبح لفئة المحاربين على متن العربات الحربية دور مهم. لقد كانت هذه الفترة مضطربة، وسعت حتى المستوطنات الصغيرة عبثًا إلى حماية نفسها من الوافدين غير المرغوب فيهم. ومع ذلك، سرعان ما انتشر هذا النمط الثقافي الجديد على نطاق واسع، ويبدو أن ذلك حدث نتيجة للهجرات وربما أيضًا بسبب النزاعات، حيث تبنت القبائل المحلية المهزومة الموروث الثقافي الذي جلبه الغزاة.
وفي منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، كانت قبائل ذات مستويات ثقافية متشابهة تهيمن على مناطق واسعة من كازاخستان، وجنوب سيبيريا، وأراضي نهر سير داريا Syr Darya، فضلاً عن المناطق السفلى من نهري جيحون (آمو داريا) وزرافشان. وبات من المتعارف عليه أن البقايا التي خلفتها هذه الجماعات تُعرف بثقافات البرونز السهوبية steppe bronze cultures. وحتى في وادي فخش Vakhsh في طاجيكستان، تم اكتشاف مستوطنة موسمية لهؤلاء الرعاة الرحّل، كما تم العثور على شظايا فخارية وأوانٍ فخارية مُفردة في شمال أفغانستان.
كان اقتصاد هذه القبائل في الأصل مزيجًا من تربية الحيوانات وزراعة الأرض، حيث كانت تربية الماشية هي النشاط السائد بين أنواع الثروة الحيوانية، وكانت المستوطنات تقع في المنخفضات وأودية الأنهار، حيث كانت الظروف مواتية لرعي الماشية. ومع ذلك، كانت الخيول تشكل نحو ثلث الثروة الحيوانية. ومع مرور الوقت، ازدادت أهمية الخيول والأغنام، وانتشرت سلالة من الأغنام ذات الصوف الناعم، التي كانت قادرة، مثل الخيول، على البحث عن العلف في الشتاء تحت الثلوج. ونتيجة لذلك، ازداد نطاق الأراضي المزروعة، وظهرت مستوطنات في السهوب المفتوحة، حيث كان يتم الحصول على المياه من الآبار، التي عُثر على آثارها خلال عمليات التنقيب في العديد من المواقع. وتشير جميع الأدلة إلى أن الترحال الرعوي قد تطور في المناطق شبه الصحراوية والسهوب القاحلة. وقد تم العثور على مقابر تعود إلى العصر البرونزي السهبي في المناطق الجبلية المرتفعة في سلاسل جبال تيان شان T’ien Shan وبامير Pamir ranges في آسيا الوسطى، حيث كانت القطعان تُنقل للرعي خلال فصل الصيف.
وعلى الرغم من أن ثقافة قبائل العصر البرونزي في السهوب كانت موحدة مقارنة بالواحات المتطورة في الجنوب، إلا أنها كانت تتميز بسمات محلية مرتبطة بثقافات أخرى. فعلى سبيل المثال، تشكل بقايا ثقافة أندرونوفو Andronovo، التي تغطي منطقة شاسعة من وسط نهر ينيسي Yenisey إلى غرب كازاخستان، فئة متميزة. وتُزين فخارياتها بزخارف فنية مميزة، أبرزها الأنماط المتعرجة، وأحيانًا رموز الصليب المعقوف. كما توجد صلات واضحة بين بقايا غرب كازاخستان ونوع ثقافي رئيسي آخر من ثقافات العصر البرونزي السهبي، وهو ثقافة القبور الخشبية timber-grave في شرق أوروبا. كما توفر المدافن أدلة على وجود شعب مختلف؛ فبينما يمثل المستوطنون على نهر ينيسي وشرقي ووسط كازاخستان ما يُعرف بالنوع الأندرونوفي من العرق الأوروبي البدائي، نجد في أراضي نهر الفولغا وغرب كازاخستان سكانًا من النوع الأوروبي الدوليكوسيفالي dolichocephalic (طويل الرأس) الذي يُعرف بالنوع المتوسطي الشرقي.
وتظهر السمات الثقافية والاقتصادية المحلية أيضًا في ثقافة أندرونوفو. ففي شرقي كازاخستان، وإلى حد ما في وسطها، توجد بقايا من النمط الفيدوروفو Fedorovo، المشابهة لتلك الموجودة في منطقة السهوب المشجرة في جنوب سيبيريا. كما كشفت عمليات التنقيب في مقابر نهرَي ينيسي وأوب Ob أن بعض الموتى قد دُفنوا، بينما تعرض آخرون للحرق، وحُفظت بقاياهم في صناديق حجرية. ولم يُعثر حتى الآن على أي مستوطنات في هذه المناطق، مما يشير إلى أن هذه المواقع كانت مساكن مؤقتة لمجتمع رعوي. وخلال فترة أندرونوفو، كان هناك استغلال مكثف لمكامن المعادن في كازاخستان، حيث تم استخراج وصهر النحاس والقصدير والذهب. ففي منطقة قيزكازغان وحدها، تم صهر عشرات الآلاف من الأطنان من خام النحاس في المصاهر القديمة.
كان تحرك هذه القبائل نحو الجنوب، مرتبطًا بكلا المنطقتين الثقافيتين. ففي المناطق السفلى من نهر آمو داريا، بالقرب من خوارزم، انتشرت ثقافة تازاباجياب Tazabagyab في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد (مقبرة كوكشا)، وهي ثقافة مرتبطة بعالم قبائل القبور الخشبية وكذلك ببقايا غرب كازاخستان. وقد تم التعرف على حوالي خمسين مستوطنة هنا، وكانت في الغالب صغيرة الحجم، وتتكون عادة من منزلين أو ثلاثة منازل مستطيلة كبيرة ذات تصميم يعتمد على الأعمدة، وكانت غائرة جزئيًا في الأرض. وكان متوسط عدد السكان في هذه المواقع حوالي 100 شخص. ومن بين هؤلاء كان هناك صناع مهرة في الأشغال المعدنية، حيث تم العثور في منزل أحدهم على قالب حجري لصب الرماح ذات الحواجز العرضية.
وفي الظروف السائدة في دلتا نهر آمو داريا سابقًا، طور شعب تازاباجياب الزراعة المروية، حيث حفروا قنوات صغيرة تتفرع عن المجاري المائية المتراجعة لري الحقول. كما انتشرت ثقافة مماثلة حول المناطق السفلى من نهر زرافشان. كذلك، امتدت قبائل القبور الخشبية جنوبًا، حيث تم اكتشاف عدد من مدافنهم غرب السهول المتاخمة لسلسلة جبال كوبيت داغ.
أما قيرغيزستان ووادي فرغانة Ferghana، فقد شهدتا توغل قبائل ثقافة أندرونوفو، التي جلبت معها التقاليد الشمالية في إقامة المدافن في مقابر منفصلة ضمن حاويات حجرية أو تحت تلال ترابية أُنشئت بجلب التربة أو مزيج من التربة والحجر. ومن أمثلة ذلك مقبرة توتارا Tautara الواقعة على المنحدرات الشمالية لسلسلة جبال كاراتاو Karatau. كما تشمل الفخار المكتشف في هذه المنطقة أشكالًا غير موجودة في المناطق الشمالية، وتبدو كمحاكاة للأواني التجارية التي كانت تُنتج في الواحات المستقرة في الجنوب.
تتميز قبائل تيان شان بالاستخدام الطقوسي للأوعية التي تحتوي على المواد الغذائية وغيرها من المواد في طقوس حرق الجثث. فعلى سبيل المثال، تم العثور في إحدى القبور بمقبرة تاشتيبي على أكثر من 100 وعاء من البرونز والفضة، وخرز زجاجي، وما يقرب من 1,200 قرط مصنوع من الأنتيمون. وخلال تنقلاتهم، وصلت قبائل الرعاة السهبيين إلى تخوم واحات باكتريا ومورجيانا، وربما أصبحوا هم أنفسهم من سكان المستوطنات الدائمة. وفي بعض الحالات، ظهرت ثقافات هجينة تجمع بين سمات المزارعين المستقرين في الجنوب وسكان السهوب في الشمال، كما هو الحال في ثقافتي بشكنت Beshkent وفخش Vakhsh في جنوب طاجيكستان. ومن ناحية أخرى، تبنت ثقافة الواحات المستقرة الحصان المستأنس، الذي لم يكن معروفًا هناك من قبل، ويبدو أن العربات ذات العجلات الخفيفة المتصلة بمحاور قد ظهرت، كما تدل على ذلك النماذج المكتشفة للعربات. وربما بدأت أيضًا عملية الاندماج الاثني. وعلى أي حال، كشفت الحفريات في مستوطنة تاهرباي-3 في مورغاب عن وجود طقوس دفن تشير إلى مزيج من السكان المستقرين، حيث وُجدت حالات حرق جزئي للجثث، كما تضمنت القبور بقايا لأشخاص ينتمون إلى نوع أنثروبولوجي مماثل لنوع أندرونوفو. ومن بين الزخارف المرسومة على الأوعية، ظهر نمط جديد لم يكن معروفًا سابقًا في الواحات الواقعة عند سفوح جبال كوبيت داغ، وهو الصليب المعقوف. ومن المحتمل أن الزيادة الحادة في عدد الواحات في دلتا مورغاب خلال منتصف الألف الثاني قبل الميلاد تعود جزئيًا إلى اندماج الوافدين الجدد من السهوب ضمن السكان المستقرين المحليين. ويعد هذا التفاعل سمة مميزة لثقافات الاستقرار في منطقتي مرغب وترانزوكسانيا خلال النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد.
أما في شمال شرق إيران، حيث ازدهرت ثقافة حصار-تورانغ تيبي خلال فترة العصر البرونزي المتقدم، فلا توجد حتى الآن بيانات توضح ما حدث للمجتمع بعد أن تم إخلاء هذه المراكز الكبيرة في بداية الألف الثاني قبل الميلاد. ومع ذلك، تشير جميع الأدلة إلى أنه لم يكن هناك انقطاع كامل في التقاليد المحلية، والتي كانت تتميز بتفضيل الأواني الفخارية الرمادية والسوداء. وعلى أي حال، تم التنقيب عن مقبرتين في الجزء الغربي من جبال كوبيت داغ في وادي سومبار، تعودان إلى العصر البرونزي المتأخر (على ما يبدو خلال النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد)، ويمكن اعتبار المواد المستخدمة فيها امتدادًا لتقاليد ثقافة تيبي حصار وشاه تيبي Shah-tepe.
تقع هذه المقابر خارج حدود المستوطنات، وهي عبارة عن سراديب دفن أغلقت مداخلها بالحجارة أو الطوب غير المشوي بعد الانتهاء من عملية الدفن. وتُظهر الأواني العديدة التي وُضعت في القبور، والتي تذكرنا بعادات موقع سابالي، تنوعًا كبيرًا في الأشكال، مثل المزهريات ذات القواعد الطويلة، وأباريق الشاي ذات الفوهات، وأوانٍ أخرى ذات فوهات ضخمة تضيق عند الأطراف لتتحول إلى صنبور طويل . ويرتبط كل من شكلها ولونها الرمادي ارتباطًا وثيقًا بالتقاليد الثقافية التي كانت سائدة سابقًا في منطقة جنوب شرق بحر قزوين. كما تم العثور على خناجر، ورؤوس رماح وسهام ذات سيقان، بالإضافة إلى دبابيس حجرية مصقولة. ويوجد أيضًا عدد كبير من الحلي، مثل القلائد، والأطواق، والتيجان المخروطية، والخرز المصنوع من العقيق واللازورد. ومن القطع المثيرة للاهتمام ختم خزفي مخروطي الشكل يحمل رسمًا تخطيطيًا لشجرة. ولم يتم العثور حتى الآن على مستوطنات أخرى تعود إلى تلك الفترة في المنطقة المجاورة مباشرة، ولكن جودة الأدوات الفخارية المصنوعة لأغراض تجارية، واستخدام الطوب غير المشوي، يمثلان دليلًا واضحًا على أن تقاليد المجتمع الزراعي المستقر قد استمرت.
وعلى عكس مناطق جنوب تركمانستان وترانزوكسانيا، لا يوجد حتى الآن دليل على أن المجتمعات الزراعية المستقرة في جنوب أفغانستان وجنوب شرق إيران قد وسعت نطاق الزراعة إلى مناطق جديدة خلال الألف الثاني قبل الميلاد. فقد استمر التطور في المراكز التقليدية، ولكن كما هو الحال في السهول المجاورة، تظهر في منطقة كوبيت داغ مؤشرات على الانحدار. ففي سيستان، شهدت مدينة شهر سوخته تقلصًا في مساحتها المأهولة من 80 هكتارًا إلى 5 هكتارات في بداية الألف الثاني قبل الميلاد؛ فبعد أن كانت مركزًا حضريًا مزدهرًا، تحولت إلى مجرد مستوطنة عادية سرعان ما سقطت في حالة من التدهور التام. وبالمثل، شهدت منطقة قندهار تقلصًا في حجم مستوطنات موندياك. ويتميز مجمع موندياك الخامس، الذي يعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، من ناحية، باستمرار التقاليد الحضارية السابقة، ولكنه يعكس أيضًا، من ناحية أخرى، مظاهر واضحة للتدهور الثقافي. فقد تم الحفاظ على تقاليد البناء، حيث كشفت الحفريات في طبقة موندياك الخامسة عن هيكل ضخم مصنوع من الطوب غير المشوي. ومع ذلك، في هذا الوقت كانت معظم أجزاء المستوطنة قد دُمرت، ولم يتم بناء أي منشآت جديدة على أساساتها.
أبرز التغييرات الملحوظة ظهرت في الفخار، حيث أصبح يصنع يدويًا في هذا الطور، خلافًا للمجمعات السابقة في موندياك. أما الزخرفة، التي تقتصر على مجموعة محدودة من الأنماط الهندسية، فهي مرسومة باللون الأسود على أرضية حمراء. وتعد التمثيلات التخطيطية للحيوانات أو أجزاء منها نادرة نسبيًا – على سبيل المثال، يظهر نمط زخرفي لحواف قرون الماعز، وهو امتداد للزخارف ذات الطابع الحيواني التي استخدمت في الفخار المزخرف من موندياك IV. ومع ذلك، لا تزال أصول ثقافة موندياك V غير واضحة في كثير من الجوانب. فقد اقترح الباحث جان ماري كاسال Jean-Marie Casal أن القبائل التي حملت الفخار المزخرف من ثقافة تشوست، والتي كانت موجودة في وادي فرغانة، قد انتشرت خارجًا، لكن هذا الفخار في فرغانة يرجع إلى فترة لاحقة مقارنة بموندياك. وعلى أي حال، فإن بقاء بعض مظاهر الاستمرارية الثقافية يتزامن مع تغيرات في التقاليد الحرفية – فمثلًا، أصبح الفخار المصنوع يدويًا يحل محل الفخار المصنوع باستخدام عجلة الخزاف.
توجد أدلة أوضح حول مصير حضارة وادي السند (حضارة هارابا) Harappan civilization. ففي مراحلها المتأخرة، ظهرت بالفعل اختلافات ثقافية بين المناطق المتنوعة، وقد تفاقمت هذه الاختلافات خلال فترة الانحلال والتراجع السكاني. فعلى سبيل المثال، في البنجاب، ظهرت مجمعات تعود إلى النمط المعروف بـ "مقبرة النوع H" في هارابا نفسها، بينما في إقليم السند بقيت آثار ثقافة جوهار Jhukar، وفي غوجارات Gujarat تطور شكل محلي للمرحلة المتأخرة من حضارة هارابا، والتي أطلق عليها البعض وصف "المنحلة". ومع ذلك، استمر إنتاج الفخار عالي الجودة المزخرف في جميع هذه المناطق، مما حافظ على التقاليد الهارابية في كل من الشكل والزخرفة. لكن، في الوقت نفسه، اختفت العديد من العناصر المميزة للحضارة الهارابية، مثل الأختام المربعة المصنوعة من الحجر الصابوني (الستيتايت) التي تحمل نقوشًا، وأبرز أنواع الأدوات المعدنية.
وقد قدم الاركيولوجيون الهنود صورة مثيرة للاهتمام حول التحولات الثقافية التي حدثت خلال الألف الثاني قبل الميلاد، لا سيما في منطقتي البنجاب وهاريانا. وكانت نتائج الحفريات في موقع بهاجوانبورا Bhagwanpura في هاريانا من أبرز ما تم اكتشافه. فقد تأسست هذه المستوطنة خلال أواخر العصر الهارابي، حيث قام أوائل المستوطنين ببناء مساكنهم مباشرة فوق الرواسب الطميية لنهر ساراسفاتي Sarasvati (غاغار). وتشير الطبقات العلوية من الموقع إلى حدوث تغييرات ثقافية كبيرة، إذ تم العثور على فخار من النمط الهارابي المتأخر يعرف بـ "الفخار الرمادي المزخرف"، والذي كان أكثر شيوعًا خلال العصر الحديدي المبكر في شمال الهند. ويبدو أن موقع بهاجوانبورا هو أقدم مجمع معروف يحتوي على هذا النوع من الفخار. ومن الجدير بالملاحظة أن بعض أشكال هذا الفخار تعكس نماذج هارابية، مما يدل على الروابط الوثيقة التي كانت قائمة بين التقاليد الثقافية للهارابيين والمجموعات التي جاءت بعدهم. أما الزخارف المستخدمة في الفخار الرمادي المزخرف، فتتميز بأشكال مميزة مثل الكعكات والدوائر الشمسية، بالإضافة إلى الصليب المالطي المحاط بمعين Maltese cross inscribed in a lozenge.
وتبرز تطورات مثيرة في النمط المعماري لهذه الثقافة ما بعد الهارابية. فقد عاش المستوطنون الأوائل في مساكن بيضاوية أو شبه بيضاوية مصنوعة من إطارات خشبية أو من نبات الخيزران ومغطاة بالقش. وبعد ذلك، استبدلت هذه المساكن قصيرة العمر بمنازل ذات جدران مكسوة بالطين، وتوج هذا التطور بظهور منازل متعددة الغرف ذات جدران مبنية من الطوب الطيني المستطيل. وهكذا، يبدو أن هناك قطيعة واضحة في الأساليب المعمارية مقارنة بأسلوب البناء الهارابي، ولكن تدريجيًا، عاد السكان إلى تقاليد البناء السابقة، التي تعرضت للانقطاع ولكن لم تُنسَ تمامًا. ويمكن رؤية نفس النمط في مواقع أخرى مثل دادار وناجار. وبالتالي، هناك كل الدلائل التي تشير إلى أن سكانًا جددًا قد وصلوا إلى شمال الهند، وكانوا على الأرجح غير ملمين بتقنيات العمارة الطينية، وربما كانوا من المجتمعات الرعوية المتنقلة. ومع مرور الوقت، حدثت عملية استيعاب ثقافي، حيث تبنى الوافدون الجدد تقنيات البناء التي طورتها سابقًا حضارة هارابا.
المقارنة بين السمات الحضرية وغير الحضرية يمكن تتبعها من خلال سلسلة كاملة من القطع الأثرية المادية. على سبيل المثال، هناك عدد كبير من التماثيل الفخارية التي تصور الحيوانات مثل الكلاب والطيور والأغنام، بما في ذلك تماثيل مثبتة على عربات. ومع ذلك، وعلى عكس ثقافة حضارة هارابا، فإن هذه التماثيل مزينة بخطوط محفورة، ويبدو أن الأغنام تحظى بمكانة مميزة بين الحيوانات المصورة.
تتنوع الحلي والمجوهرات بشكل كبير، حيث تشمل خرز الفخار، ودبابيس مصنوعة من النحاس لتثبيت تسريحات الشعر المعقدة، بالإضافة إلى الزخارف المصنوعة من الأصداف والزجاج المعجون (الفاينس). أما القطع النحاسية فهي قليلة العدد، لكن بعضها، مثل دبوس برأس حلزوني مزدوج، يتماشى بوضوح مع تقاليد الصب التي انتشرت في المراكز الزراعية المستقرة في إيران وسهول سلسلة جبال كوبيت داغ.
كان سكان بهاجوانبورا Bhagwanpura والمستوطنات المشابهة لها يعملون في الزراعة، كما يتضح من العثور على المدقات الحجرية وأحجار الطحن، بالإضافة إلى تربيتهم للماشية والأغنام والماعز. ومن المُكتشفات ذات الأهمية الخاصة، العثور على هيكل عظمي لحصان، مما يشير إلى احتمال استخدامه في الجر. على أي حال، نحن أمام دليل واضح على نشوء نوع جديد من الثقافة في شمال الهند، يجمع بشكل عضوي بين تقاليد حضارة العصر البرونزي المحلية وعناصر جديدة ترتبط بوضوح بوصول مجموعات سكانية جديدة. ومع تطور هذه العناصر الجديدة، ظهرت ثقافة العصر الحديدي الباكر المعروفة باسم ثقافة الفخار الرمادي المزخرف painted grey ware culture، والتي قد تتزامن مع ثقافة الإمارات الآرية الأولى.
تشير جميع الأدلة إلى أن أسباب الأحداث التي وقعت في آسيا الوسطى خلال الألف الثاني قبل الميلاد كانت متعددة، ولا يمكن اختزالها في عامل واحد فقط، كما كان يُعتقد سابقًا. فعلى سبيل المثال، قدّم مورتيمر ويلر Mortimer Wheeler تصورًا دراميًا لانهيار حضارة هارابا كنتيجة للغزو الآري، في حين أن بعض الباحثين ربطوا تراجع مدن وادي السند بالتغيرات المناخية. وفي الآونة الأخيرة، تم تفسير أسباب التراجع، كما هو الحال في موقع شهر سوخته Shahr-i Sokhta، على أنها نتيجة للتغيرات في أنماط الحركة السكانية والعمليات الاجتماعية والاقتصادية.
من المحتمل أن ما نشهده هنا هو نمط معقد من العوامل المتداخلة التي أدت في النهاية إلى تقويض الأنظمة التي كانت تُشكّل حضارة العصر البرونزي في آسيا الوسطى، والتي لم تكن مستقرة تمامًا منذ البداية. وعلى الرغم من أن تحركات القبائل الرحّل نحو الجنوب وصولًا إلى المناطق الوسطى لنهر آمو داريا تُعد أمرًا مؤكدًا، إلا أنه لا يوجد أي دليل على حدوث غزو عنيف من قبل مقاتلين قادمين من السهوب إلى المدن القديمة. ويبدو أن الهجرات القبلية التي رصدها الباحثون لم تكن عملية واحدة ومتزامنة، بل كانت عبارة عن عملية طويلة الأمد تضمنت تحرك مجموعات قبلية بشكل تدريجي، حيث اندمجت مع السكان المحليين أثناء تنقلها. وخلال هذه الرحلات الطويلة، تركت هذه القبائل وراءها مواقع دفن منتشرة، وهي الآن موضع دراسة دقيقة من قبل الأركيولوجيين.
ظهرت بعض التغيرات المناخية التي اتجهت نحو ازدياد الجفاف في منطقة ما وراء النهر (ترانسوإكسانيا) Transoxania في نهاية الألف الثالث والنصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد. حتى هذه الفترة، كانت المناطق الداخلية من صحراء قيزيل كوم Kyzyl Kum تتمتع بغطاء نباتي أكثر وفرة من الشجيرات والأحراش، مع تكثف للمياه الجوفية.
في موقع ألتين-ديب خلال الفترة ذاتها، لوحظ انخفاض في نسبة الأبقار، يقابله ارتفاع حاد في عدد الأغنام، التي تعتمد بدرجة أقل على المراعي الوفيرة. أما في مناطق المراكز الرئيسية لحضارة هارابا، فقد شهدت الفترة الممتدة بين 1800 و1500 قبل الميلاد زيادة في الجفاف، وهو ما يُرجح الخبراء ارتباطه، إلى حد ما، بالتأثير الذي مارسته المجتمعات البشرية نفسها على البيئة.
وفي سهل كوبت داغ الشمالي، من المحتمل أن يكون تراجع مدن العصر البرونزي المحلية قد نتج جزئيًا عن استنزاف الأراضي وزيادة ملوحتها، بعد أن خضعت لزراعة مروية مكثفة استمرت لما يقرب من أربعة آلاف عام.
ومهما كان الأمر، فقد شهدت الألف الثانية قبل الميلاد تغيرًا في النمط الجغرافي التاريخي، وظهرت مراكز حضرية جديدة ومتطورة في كل من مارجيانا وباكتريا. لكن في معظم المناطق، لم تكن السمات الثقافية الجديدة التي ظهرت ضمن نطاق حضارات العصر البرونزي خلال الألف الثاني قبل الميلاد نتيجة عمليات داخلية فحسب، بل كانت أيضًا نتاج وصول مجموعات سكانية جديدة، ارتبطت في الغالب بعالم الرعاة الرحّل في السهوب.
وقد أدى هذا التفاعل إلى نشوء حالة من التمازج الثقافي، حيث امتزجت العناصر المميزة لحضارات العصر البرونزي المتقدمة مع مكونات تُنسب إلى ثقافات أكثر بدائية. يمكن ملاحظة هذا التداخل الثقافي بوضوح في الهند، كما يتجلى أيضاً في المجمعات السكنية من نوع بهاجوانبورا. ومن خلال هذه الآليات المعقدة من التفاعل والاندماج، نشأت مجتمعات عرقية جديدة ارتبط معظمها بالمجموعة اللغوية الهندو-إيرانية.

* فاديم ميخايلوفيتش ماسون 1929-2010عالم ماركسي أنثروبولوجي ودكتور في العلوم التاريخية ورئيس معهد تاريخ الثقافة المادية في أكاديمية العلوم السوفييتية-الروسية 1982-1998. تخرّج من القسم الاركيولوجي لمعهد التاريخ في جامعة وسط آسيا الحكومية. دافَعَ عام 1954 عن اطروحته في الدكتوراه المُعنونة (الثقافة القديمة لداغستان- مسائل تاريخية وأركيولوجية). وفي عام 1962 دافع عن اطروحة الدكتوراة (التاريخ القديم لوسط آسيا-منذ نشوء الزراعة وحتى حملات اسكندر الأعظم)، ومن ثم بعد هذا عمِلَ في القسم القوقازي لمعهد تاريخ الثقافة المادية السوفييتي وصار رئيساً لهذا القسم عام 1968. ألّفَ ماسون لوحده أو بالتعاون مع علماء آخرين أكثر من 32 كتاباً و500 مقالة نُشِرَت في الاتحاد السوفييتي وبريطانيا والألمانيتين الديمقراطية والغربية واليابان وايطاليا. ومن أعماله: (وسط آسيا والشرق القديم) 1964، (دولة الألف مدينة) 1966، (وسط آسيا في العصرين الحديدي والبرونزي) 1966، (نشوء وتطور الزراعة) 1967، (ثقافة شعوب الشرق: المواد والبحث) 1976، (أولى الحضارات) 1989.

أ- يُرجع الأركيولوجيين السوفييت تاريخ هذا الموقع الى 2250-1700 ق.م

ترجمة لمقال:
THE DECLINE OF THE BRONZE AGE CIVILIZATION AND MOVEMENTS OF THE TRIBES V.M. Masson



#مالك_ابوعليا (هاشتاغ)       Malik_Abu_Alia#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطابع العالمي لعصر النهضة على مشارف الرأسمالية
- النساء البابليات اللواتي لم يكنَّ تحت السُلطة الأبوية
- نشوء مُجتمعات الاقتصاد المُنتِج (العصر الحجري الحديث)- وردٌّ ...
- الاثنوغرافيا وتاريخ المُجتمع البدائي
- حول نشأة الاقطاع على الصعيد العالمي في الشرق والغرب، ومفهوم ...
- مسائل اقتصاد مُجتمعات الصيد واللقاط
- الانسان في فجر الحضارة
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ...
- المعايير العالمية لمُجتمعات الصيد واللقاط
- الطبيعة والمُجتمع البدائي
- التشكيلة الاجتماعية-الاقتصادية العبودية
- تعليق ايغور دياكونوف على مقال هنري كلايسِن (الديناميكيات الد ...
- المشاعات الزراعية في الشرق الأدنى القديم
- الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية والمسائل الجديدة
- الدفن الانساني الطقوسي الواعي: العصر الحجري القديم الأوسط، ب ...
- حول مسألة دراسة تاريخ المُجتمعات البدائية انطلاقاً من الاثنو ...
- مسألة المُلكية الخاصة البدائية في الاثنوغرافيا الأمريكية الم ...
- المراكز المدينية في المُجتمع الطبقي الباكر
- تاريخ الري الزراعي في جنوب تركمانستان
- الشروط الايكولوجية لنشوء الزراعة في جنوب تركمانستان


المزيد.....




- ترامب يهاجم رئيس وزراء كندا مجددا.. ويؤجل الرسوم الجمركية عل ...
- بعد أزمة اجتماع ترامب وزيلينسكي.. مسؤولون أمريكيون وأوكرانيو ...
- الكويت.. قرار بسحب الجنسية من مئات الأشخاص والداخلية تكشف 3 ...
- شاهد كيف تبدو الحياة في غزة مع منع إسرائيل دخول المساعدات
- سوزي الأردنية: حبس التيكتوكر المصرية بتهمة الانضمام لجماعة - ...
- تعاطف في الجزائر مع متسابق تعرض للسخرية بعد المشاركة في برنا ...
- ماكرون يقترح سلاح الردع النووي الفرنسي لحماية أوروبا من الته ...
- -الدم المشروك- مسلسل مغربي بـ-طابع مصري- يثير الجدل
- قتلى وجرحى بين قوات الأمن السورية خلال اشتباكات في اللاذقية، ...
- اشتباكات بين متقاعدين وقوات الشرطة في الأرجنتين خلال مظاهرة ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مالك ابوعليا - انحلال حضارات العصر البرونزي والتنقلات القَبَلية