إن أخطر المعالجات لقضية تمكين المرأة من ممارسة العمل السياسي هو تبسيطها، و التعامل مع اشكالياتها المعقدة و المتشابكة بأسلوب مدرسي، بمعنى أن نقول: المجتمع الدولي ضمن حقوق المرأة السياسية في سياق مفاهيم و قضايا حقوق الإنسان، أي أن الظروف الموضوعية قد توافرت، بعدها نضيف بأننا بحاجة لمعرفة معالم و مفاهيم العمل السياسي المطلوب، و ما هو سقفه؟ و كأن هناك محددات مطلقة في علم السياسية.
فضلاً عن تعميم الاعتقاد بأن المرأة قد تحصلت في مجتمعاتنا على حقها من الوظائف العامة العليا في المجالات المتعددة، و أنه لا يوجد عوائق دستورية أو قانونية و لا تمييز على أساس الجنس، باعتبار أن معظم دول المنطقة قد وقعت على اتفاقية التمييز ضد المرأة (السيداو)، رغم التحفظات التي رافقت تلك التواقيع، و التي حسب المحللين مست مضمون و جوهر الاتفاقية أساساًِ. أما أكثر المعتقدات انحرافاً، هي عندما نؤمن بأن المرأة في مجتمعاتنا استطاعت التعبير عن أفكارها و آراءها كتابة و خطابة و نشراً و تعليماً و رعاية اجتماعية و صحية و لا يتعرض فكرها للاضطهاد الاجتماعي، كما لا قيود تحد من تنمية شخصيتها الثقافية. إذن و حسب هذا التحليل.... ليس لدينا أية إشكالية. و السؤال لماذا هذه التجاذبات حول قضايا المرأة و المجتمع و أبرزها مع العمل السياسي؟! ما الذي يقلقنا؟!!
من الواضح أننا لا نزال نعيش وسط ركام متشبك، يحتاج إلى تفكيك أسبابه و مواجهة قضايا و آراء تطرح بخفوت وتحتاج إلى مكاشفات و مبظع جراح منها:
• فعلى مستوى الواقع هناك تغلغل نفوذ الثقافة التقليدية الذي يستدعي النبش في صناديقه القيمية و موروثاته و دراسة تأثيراتها العميقة، فهو المعني على سبيل المثال بحصر المرأة في منظومة الزواج و الأمومة كأولوية، و يبالغ في فهم الدور الذي تلعبه المرأة على مستوى الأسرة و تأثيره سلباً أو إيجابا على المجتمع، هذا التوجه الذي يتحاشى النظر لهذا الدور بشكل مترابط و متكامل مع الأوجه و الجوانب المتنوعة للنشاط المجتمعي، فضلاً عن أنه يستثني مسئولية المجتمع و الدولة و الرجل معهما، و يحمل المرأة كافة الأعباء و المسئوليات و يحاسبها على أي تقصير أو ظواهر خلل قد تنعكس على مؤسسة الزواج و أطرافها. أيضاً لا نغفل دور المؤسسات التقليدية و ما تؤديه من أدوار في غاية الحساسية في ترسيخ دونية دور المرأة في المجتمع، و سلبية دور بعض المنظمات و الجمعيات التي تعنى بشئون المرأة و قضايا الأسرة و الأعلام و عدم قدرتها على مواجهة هذا الواقع و تقديم أو تغيير الصورة النمطية لدور المرأة في الإنجاب و شئون العائلة.
• هناك اختلال في الوعي الاجتماعي السائد حول أهمية مشاركة المرأة في الحياة السياسية و عملية التنمية، لا زالت بعض مجتمعاتنا لا تقر بحقوق المرأة السياسية و تعاني من خلل في المفاهيم الدستورية و تعديلها و في التشريعات القائمة أو حتى لإصدار تشريعات جديدة تؤكد على حق مساواة المرأة في التمثيل في المؤسسات التشريعية و الوطنية، فضلاً عن قصور في مفهوم الحريات السياسية و الإنسانية و المدنية التي لا تزال مقيدة، حتى في حال وجود حياة برلمانية، كأن تجد مجتمعات تتوافر على مجالس تشريعية و لا تحظي منظماتها السياسية بالاعتراف بها كأحزاب سياسية، و خلل في القوانين الانتخابية التي قد لا تصل بالمرأة لقبة البرلمانات إلا فيما نذر و ضمن تحالفات سياسية.
• وبعيداً عن خلط الحابل بالنابل كما قيل، ثبت أن التعليم و ارتفاع نسبة المتعلمات في السنوات الأخيرة، لم يعزز مواقع المرأة في صنع القرار، فالمشاركة لا تزال محدودة و متدنية و أبرز أسباب التدني له علاقة مباشرة بمركز القرار و غير مباشرة منه قصور في اكتساب المرأة للقدرات المعرفية و إنتاجها بما يتناسب و التطور العلمي و التكنولوجي و المعرفي، فحسب تقارير التنمية البشرية، فإن دول المنطقة العربية هي الأدنى في الوصول إلى تقانة المعلومة و الاتصالات مقارنة ببعض الدول الأفريقية. عند التمحيص لا نستطيع التوقف عند حدود أرقام مبهمة تقول بارتفاع في أعداد الخريجات الجامعيات و حملة الشهادات العليا، و نتعامل معها كمؤشر للتقدم الذي تحقق في قضية إدماج المرأة و تمكينها كشريك، على الرغم من أهميته، فأن معظم هؤلاء النسوة غائبات عن الحراك السياسي طواعية أو جبراً، و لا يجوز الأخذ بمعيار الدرجات العلمية و التعليم كمؤشر وحيد و أساسي في إحداث أي تطوير على مستوى التمكين الذي نتحدث عنه.
• لسبب أن ثقافة المجتمع مع الممارسة الديمقراطية لا تزال في بداية أطوارها فأن معالجة مسألة تمكين المرأة في العمل السياسي، دائماً ما تكون أحادية النظرة، بعيدة عن تفعليها مع أوجه الاقتصاد و الاجتماع، إذ يبدو أننا بحاجة لمناقشة واقع الحقوق و الحريات على مستوى المجتمع، منها حق اعتناق الفكر و التعبير، الانتخاب و الترشيح، الانتماء للأحزاب السياسية.. الخ. أن ميثاق الأمم المتحدة و الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يربط شراكة المرأة التي تبرز بمحدوديتها و هامشيتها في مجتمعاتنا، بقضية الديمقراطية و التنمية، فلا ديمقراطية بدون مشاركة فعالة للنساء في الحياة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و الحزبية. كما يبدو من إلقاء الضوء على الواقع أن تسمية النساء العربيات في الوظائف المهنية و حصصهن في مقاعد البرلمانات تعاني من نقص شديد، و نسبة مشاركتهن في المنظمات السياسية و تمثيلهن في هياكلها التنظيمية محدود للغاية، و هذا يلقى بظلال سؤال ملح.. هل نتوسل وسائل مؤقتة مثل التمييز الإيجابي و الأخذ بنظام الحصص (الكوتا)؟ أم أن مثقفي مجتمعنا سيكونون أحد أبرز المعارضين لهذا التوجه ليس إلا لسبب اختبار عضلات النساء و قدراتهن في اختراق الواقع دون أي جراحات؟
و ماذا بعد؟ هل هناك مزيد من الاشكاليات؟
• نعم... و هي الإشكالية الأكثر خطراً و مأساوية، و التي تتعلق بالنساء أنفسهن، خاصة الفئات التي تأثرت بالثقافة الاستهلاكية، و تتحاشى الانخراط في النشاط السياسي و المجتمعي، بحجة عدم وجود وقت فراغ، و بعضهن ينتظرن التعيينات في مواقع صنع القرار و المناصب من قبل الجهات الرسمية، أو من يقدن عمل نسائي مؤسسي مشخصن، أو تلك الفئات التي استسلمت طواعية للتوجه التقليدي و حصرت نفسها في تابوات حددت لها نطاق تحركها في حدود وحدة الأسرة أو العائلة أو الجماعة القرابية، علاوة على ضعف قدرات النساء على الالتزام بمسئوليات العمل السياسي سواء بإرادتهن أو بسبب ما ذكرناه آنفاً، و في إلهاء المرأة و استهلاكها في تربية الأولاد و العناية بالأسرة، فلا يتبقى لديها من الوقت لتساهم في الحراك السياسي.. و هناك النخب الثقافية و السياسية المتنورة التي لا تقرن القول بالعمل فكم من المثقفين يرغي بحقوق المرأة، لكنه غير مستعد أن يجلي صحون المطبخ أو يجالس الأولاد لكي تتمكن زوجته من حضور اجتماع.. هناك الكثير ..الكثير من العوامل المؤثرة.
• بقى ملاحظة أن أي توترات خارجية أو داخلية تتعلق بطبيعة الدولة التي تدير مجتمعها و مدى ملائمتها لتحديث و تطوير ذلك المجتمع، سوف تؤثر سلباً أو إيجاباً على مشاركة المرأة في العمل السياسي، و ما إذ توافرت هذه المجتمعات على تقاليد ديمقراطية راسخة أم لا، بعيداً عن ظواهر الاستبداد و التراجعات و انعدام الحريات، التي بالضرورة تنعكس على تقدم أو تراجع الوعي و الالتزام.
ستظل أماننا رائعة.. و أحلامنا عالية السقوف .. لكن المشكل.. المشكل أننا أمام غول يستدعي المواجهة بيد من نار و أخرى من حديد!!