أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الْمَشْرُوع الْفَلْسَفِيّ الشَّامِل لِلْوُجُود الْإِنْسَانِيّ















المزيد.....



الْمَشْرُوع الْفَلْسَفِيّ الشَّامِل لِلْوُجُود الْإِنْسَانِيّ


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8269 - 2025 / 3 / 2 - 15:13
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ مَنْشَأ الْعِلْم :
الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْفَلْسَفَةِ هِيَ عَلَاقَةٌ مُعَقَّدَة وَحَمِيمِة فِي أَنَّ وَاحِد. فَالْعِلْم لَمْ يَنْشَأْ فِي فَرَاغِ، بَلْ كَانَ نِتَاجُ تَطَوُّر فِكْرِي وَ فُلَسفي طَوِيلُ إمْتَدّ لِقُرُون عَدِيدَة. بِالنَّظَرِ إلَى جُذُور فَلْسَفَة الْعِلْم، نَجِدُ أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى زَمَنِ أَرِسْطُو عَلَى الْأَقَلِّ. فَقَدْ كَانَ لِأَرِسْطُو إِسْهَامًات كَبِيرَةٌ فِي وَضْعِ الْأُسُس الْفَلْسَفِيَّة لِلْعِلْم، حَيْث مَيَّزَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ النَّظَرِيَّةِ مِنْ جِهَةِ، وَالْمَعْرِفَة الْعَمَلِيَّة وَالْفُنُون مِنْ جِهَةِ أُخْرَى. وَرَبَط أَرِسْطُو بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْفَلْسَفَةِ، فَآعْتُبِرَ العِلْمُ جُزْءًا مِنْ الفَلْسَفَةِ الطَّبِيعِيَّة. وَ مَع مُرُورِ الْوَقْتِ، تَطَوَّرَتْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْفَلْسَفَةِ. فَقَدْ كَانَ الْعُلَمَاءُ فِي الْبِدَايَةِ يَعْتَبِرُونَ أَنْفُسَهُمْ فَلَاسِفَة، وَكَانَتْ الْفَلْسَفَة هِي الْمَيْدَان الرَّئِيسِيّ لِلْبَحْث الْعِلْمِيّ. ثُمّ تَدْرِيجِيًّا بَدَأَ الْعِلْمُ يَسْتَقِلُّ عَنْ الْفَلْسَفَةِ وَيَنْمُو لِيُصْبِح مَجَالًا مُنْفَصِلًا بِقَوَاعِدِه وَأَسَالِيبِه الْخَاصَّة. وَقَدْ شَهِدَ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ طَفْرَةٍ فِي فَلْسَفَةِ الْعِلْم كَمَجْال مُتَمَيِّزٌ. فَبَعْد الْحَرَكَة الْوَضْعِيَّةُ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، ظَهَرَتْ مَدَارِس فَلْسَفِيَّة مُخْتَلِفَة لِلْعِلْمِ مِثْلُ الْمَدْرَسَةِ التَّحْلِيلية وَالْمَدْرَسَةُ الْبَرَاجِماتية. وَ بَرَزَ مُفَكِّرُون بَارِزُون فِي فَلْسَفَةِ الْعِلْمِ مِثْلُ كَارْل بِوَبَر وَتُومَاس كَوْن وَأَيْمري بُويِز, فَفِي فَتْرَةِ مَا قَبْلَ تُومَاس كَوْنُ، كَانَ يَنْظُرُ إلَى الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ يَتَطَوَّر بِشَكْل خَطِّي مُتَسَلْسِل. لَكِنْ تُومَاس كَوْن قَدم رُؤْيَة جَدِيدَة لِلتَّقَدُّم الْعِلْمِيّ بِإعْتِبَارِه سِلْسِلَةً مِنْ الثَّوَرَات الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي تَطِيح بِالنَّظَرِيَّات الْقَدِيمَة وَتَحِلّ مَحَلِّهَا نَظَرِيَّات جَدِيدَة وَ فِي الْفِكْرِ الْمُعَاصِرِ، تَجَاوَزَتْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْفَلْسَفَةِ تِلْكَ الْحُدُودِ التَّقْلِيدِيَّة. فَنَشَأَتْ فِي الْعُلُومِ ذَاتِهَا حَرَكَات نَقْدَيْة ذَاتِيَّة لِبِنْيَتِهِا الْعِلْمِيَّةِ مِنَ الدَّاخِلِ، لِإخْتِبَار الْأَفْكَار وَالْمَبَادِئ الْأَسَاسِيَّة. وَأَصْبَحَ الْعُلَمَاءُ أَنْفُسِهِمْ يَنْخَرِطُون فِي النَّقَّاشُات الْفَلْسَفِيَّة حَوْل طَبِيعَة الْعِلْم وَأَسَّسَه. وَمَنْ هُنَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْعِلْمَ لَمْ يَنْشَأْ فِي فَرَاغِ، بَلْ كَانَ نِتَاجُ تَطَوُّر فِكْرِي طَوِيل إمْتَدّ عَبْرَ الْقُرُونِ، وَتَفَاعل وَثِيق بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْفَلْسَفَةِ عَلَى مَرَّ الْعُصُور. فَالفَلْسَفَة سَاهَمَت فِي وَضْعِ الْأُسُس النَّظَرِيَّة لِلْعِلْمِ، فِي حِينِ أَنَّ تَطَوُّر الْعِلْم ذَاتِه أَثَر بِدَوْرِه عَلَى الْفِكْرِ الْفَلْسَفِيّ وَ أَفْرَز مَدَارِس فَلْسَفِيَّة مُتَنَوِّعَة لِلنَّظَرِ فِي طَبِيعَةِ العِلْمِ وَ مَنَاهِجِهِ. عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَدْ يَنْظُرُونَ إلَى الْفَلْسَفَةِ بِإزْدِرَاء بِاعْتِبَارِهَا مُجَرَّد "ضَجِيج" حَوْل قَضَايَا لَا يُمْكِنُ حَسْمَهَا، إلَّا أَنْ هُنَاكَ عَلَاقَة عَمِيقَة وَ وَثِيقَة بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْفَلْسَفَة. فَالفَلْسَفَة تَسْعَى إِلَى الْبَحْثِ فِي الْأُسُس وَالْمَبَادِئ وَ الْمَفَاهِيم الْأَسَاسِيَّة لِلْعِلْم، بَيْنَمَا يَسْتَفِيدُ الْعِلْمَ مِنْ الْمَنْهَجِية الْفَلْسَفِيَّة فِي التَّفْكِيرِ النَّقْدِيّ وَ الِإسْتِقْصَاء الْمُنَظَّم. وَلَا شَكَّ أَنَّ فَلْسَفَةَ الْعِلْمِ هِيَ الْمُعَبَّرُ الرَّسْمِيّ وَالشَّرْعِيّ عَنْ أُصُولِ التَّفْكِير الْعِلْمِيّ. وَعَلَى مَرِّ التَّارِيخِ، تَطَوَّرَتْ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ بِتَطْور الْعِلْمُ ذَاتِه. فَفِي الْبِدَايَةِ كَانَ الْعُلَمَاءُ يَنْظُرُونَ إلَى أَنْفُسِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ فَلَاسِفَة، ثُمّ تَدْرِيجِيًّا بَدَأَ الْعِلْمُ يَسْتَقِلُّ عَنْ الْفَلْسَفَةِ. لَكِنْ فِي الْفِكْرِ الْمُعَاصِرِ، عَادَتْ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ لِتَتَجَدَّد بِشَكْل أَوْثَق، حَيْثُ بَاتَ الْعُلَمَاء أَنْفُسِهِمْ يَنْخَرِطُون فِي النَّقَّاشُات الْفَلْسَفِيَّة حَوْل طَبِيعَة الْعِلْم وَ أَسَّسَه. وَ هَكَذَا فَإِنْ فَلْسَفَة الْعِلْم تُقِيم جِسْرًا مَتِينًا بَيْن الْبَحْث الْفَلْسَفِيّ وَالْبَحْث الْعِلْمِيّ، ربِطَتْ نَفْسِهَا بِقَضَايَا عَامة عَنْ طَبِيعَةِ الْعِلْم وَأَسَّسَه الْمَنْهَجِية، وَلَمْ تَعُدْ قَاصِرَةٌ عَلَى قَضَايَا نَظَرِيَّة بَحْتَة. إنْ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْفَلْسَفَةِ لَيْسَتْ عَلَاقَة خُصُومَةٍ أَوْ صِرَاع، بَلْ هِيَ عَلَاقَةٌ تَكَامُل وَ تَفَاعَل مُسْتَمِرٌّ عَلَى مَرَّ التَّارِيخ. فَالنَّقْد وَ الْمُمَارَسَة النَّقْدِيَّة هِيَ أَسَاسُ الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ وَالْفَلَسِفِيّ عَلَى حَدِّ سَوَاءٍ.
_ مَنْشَأُ الْأَخْلَاق :
الْأَخْلَاق هِيَ مَوْضُوعُ فَلْسَفِيّ وَلَيْس دِينِيًّا فَحَسْب، حَيْثُ إخْتُلِفَ الْفَلَاسِفَة عَبْرَ التَّارِيخِ فِي تَفْسِيرِ مَنْشَأ الْأَخْلَاق وَ أَصْلِهَا. فَمَنْ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ رَبْطِ الْأَخْلَاق بِالطَّبِيعَة وَالْعَقْل الْبَشَرِيّ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَبَطَهَا بِالْإِيمَان الدِّينِيّ وَالْوَحْي الْإِلَهِيّ. فَمَنْ وِجْهَةُ نَظَرِ فَلْسَفِيَّة، يَرَى بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ الْأَخْلَاقَ تَنْشَأُ مِنْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ وَعَقْلِهِ. فَالْفَيْلَسُوف الْأَسْكَتَلَنْدي دِيفِيد هَيُوم (1711-1776) يَرَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ تَتَأَسس عَلَى الْمَشَاعِر وَالِإنْفِعَالَات الْبَشَرِيَّة، وَلَيْسَ عَلَى الْعَقْلِ وَالْمَنْطِقِ. فَهُوَ يَرى أَنَّ أَحْكَامَنَا الْأَخْلَاقِيَّة تَنْبُعُ مِنْ مَشَاعِرِنَا وَإنْفِعَالَاتِنا تُجَاهَ الْأَفْعَال وَالْأَشْخَاص، وَلَيْسَ مِنْ خِلَالِ إسْتِدْلَالَات عَقْلِيَّة. وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْأَخْلَاقَ عِنْدَهُ لَيْسَتْ عِلْمًا مُجَرَّدًا بَلْ هِيَ مَسْأَلَةُ حَقِيقَة وَ وَاقِع. وَخِلَافُ لِهِيوم، يَرَى الْفَيْلَسُوفُ الْأَلْمَانِيُّ إيمَانْوِيل كَانَط (1724-1804) إنْ الْأَخْلَاق تَنْبُعُ مِنْ الْعَقْلِ وَالْإِرَادَة الْحُرَّة لِلْإِنْسَانِ، وَلَيْسَ مِنْ مَشَاعِرَه. فَالْقَانُون الْأَخْلَاقِيّ عِنْدَهُ هُوَ حُكْمُ عَقْلِيّ عَامٌّ يَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَلْتَزِمَ بِهِ بِمَحْضِ إرَادَتِه، وَلَيْسَ بِدَافِعٍ مِنْ الشُّعُورِ أَوْ الِإنْفِعَال. وَعَلَيْهِ، فَإِنْ الْجَانِب الْعَقْلِيِّ هُوَ مَنْشَأُ الْأَخْلَاقِ عِنْدَ كَانَط. كَمَا يرْبَطُ الْبَعْضِ الْآخَرِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ مَنْشَأ الْأَخْلَاق بِالْجَوَانِب الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَ السِّيَاسِيَّةِ. فَالْفَيْلَسُوف الْأَلْمَانِيُّ كَارْلَ مَارْكِسَ (1818-1883) يَرَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ هِيَ وَسِيلَةٌ يَسْتَخْدِمَهَا الْأَقْوِيَاء وَالْمُتْرَفُون لِإسْتعباد الضُّعَفَاء وَ الْمَعْدُومِين. فَالْأَخْلَاق عِنْدَهُ لَيْسَتْ سِوَى أَدَّاة لِلَّهِيَمْنَة الطَّبَقِيَّة، وَ فِي مُقَابِلِ هَذِهِ الْآرَاءِ الْفَلْسَفِيَّةِ، هُنَاكَ مِنْ يرْبَط الْأَخْلَاق بِالْجَانِب الدِّينِيّ وَالإِلَهِيّ. فَالْأَخْلَاق مِنْ هَذَا الْمَنْظُورِ تَنْبُعُ مِنْ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ وَالتَّعَالِيم الدَّيْنِيَّةَ. وَهَذَا مَا نَجِدُهُ عِنْدَ فَلَاسِفَة الْإِسْلَام كَالْفَارِّابِيّ وَآبْنُ سِينَا وَآبْنِ رُشْدٍ، الَّذِينَ رَبَطُوا الْأَخْلَاق بِالْجَانِب الْمَيتَافِيزِيقِيّ وَالإِلَهِيّ. كَمَا نَجِدُ ذَلِكَ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ الْمَسِيحِيِّين كَأَوْغسطين وَ تَوَما الَّإكْوِينِيّ. وَ مِنْ جِهَةِ أُخْرَى، هُنَاكَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ مَنْ رَبْطِ الْأَخْلَاق بِالْجَانِب الِإجْتِمَاعِيّ، كَالْفِيلِسُوف الْيُونَانِيّ أَرِسْطُو الَّذِي رَبَطَ الْفَضَائِل الْأَخْلَاقِيَّة بِالسُّلُوك الِإجْتِمَاعِيّ الْمُسْتَقِيم. فَالْفَضَائِل الْأَخْلَاقِيَّة عِنْدَه تَتَشَكَّل مِنْ خِلَالِ الْمُمَارَسَة وَالْعَادَات الِإجْتِمَاعِيَّة الْحَمِيدَة. وَبِشَكْلٍ عَامٍّ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ إخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ مَنْشَأ الْأَخْلَاقِ، بَيْنَ مَنْ رَبَطَهَا بِالْعَقْل وَ الطَّبِيعَة الْبَشَرِيَّة، وَ بَيْنَ مَنْ رَبَطَهَا بِالْجَانِب الدِّينِيّ وَالإِلَهِيّ، وَ بَيْنَ مَنْ رَبَطَهَا بِالْجَانِب الِإجْتِمَاعِيّ وَ السِّيَاسِيّ. وَ تَعْكَس هَذِهِ الِإخْتِلَافَاتِ التَّعْقِيد وَ التَّنَوُّعُ فِي التَّفْكِيرِ الْفَلْسَفِيّ حَوْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأَسَاسِيَّة.
_ الْوَحْدَةُ الْفَلْسَفِيَّة لِمَنْشَأ الْعِلْم وَ الْأَخْلَاق :
الْفَلْسَفَة هِي الْمَجَالُ الَّذِي يُحَاوِلُ الرَّبْطَ وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاق عَلَى نَحْوِ مُتَكَامِل وَمَتَنَاسُق. فَالفَلْسَفَةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ نَظَر إسْتِدْلَالِيّ مُجَرَّدٌ، بَلْ هِيَ نَشَاط عَقْلِيّ عَمَلِي يَهْدِفُ إِلَى فَهْمِ الْوَاقِعَ الْإِنْسَانِيَّ بِكُلِّ أَبْعَادِهِ الْمَعْرِفِيَّة وَالْأَخْلَاقِيَّة وَ الوُجُودِيَّة. مِنْ مَنْظُورٍ فَلْسَفِيّ، الْعِلْم وَالْأَخْلَاق لَيْسَا مَجَالين مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُنْفَصِلَيْنِ، بَلْ هُمَا وَجْهَانِ لِعَمَلة وَاحِدَة تَتَمَثَّلُ فِي سَعْيِ الْإِنْسَان لِفَهْمِ الْكَوْنِ وَالْحَيَاةِ وَالْوُجُود وَالْوُصُولُ إلَى الْحَقِيقَةِ. فَالْعِلْم يَسْعَى إلَى فَهْمِ الْوَاقِع الْمَادِّيّ مِنْ خِلَالِ الْبَحْث وَالتَّجْرِيب وَالِإسْتِقْصَاء، بَيْنَمَا الْأَخْلَاق تَهْتَمّ بِالسُّلُوكِ الْإِنْسَانِيِّ وَ الْقَيِّم وَ الْمُثُلِ الْعُلْيَا الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا الْإِنْسَانُ فِي تَعَامُلِهِ مَعَ ذَاتِهِ وَمَعَ الْآخَرِين وَمَعَ الْكَوْنِ مِنْ حَوْلِهِ، وَتُؤَكِّد الْفَلْسَفَةِ عَلَى ضَرُورَةِ تَوَافُر التَّرَابُط وَالتَّكَامُل بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق، فَالْعِلْم بِمُفْرَدِهِ لَا يَكْفِي لِتَوْجِيهِ السُّلُوكِ الإِنْسَانِيِّ نَحْوَ الْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ، كَمَا أَنَّ الْأَخْلَاقَ بِمَعْزِلٍ عَنْ الْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّةِ قَدْ تَقَعُ فِي بَرَاثِن الْخُرَافَة وَالتَّعَصُّب. فَالفَلْسَفَة تَسْعَى إِلَى الْجَمْع بَيْن الْحَقِيقَة الْعِلْمِيَّة وَالْقَيِّم الْأَخْلَاقِيَّة فِي مَنْظُومَةِ مُتَكَامِلَة تَحَقَّق النُّمُوّ وَالِإزْدِهَار الشَّامِلِ لِلْإِنْسَانِ. إنَّ الْفَلْسَفَةَ الْإِنْسَانِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ الْفِكْرِ وَ الْعَمَلِ، بِحَيْثُ يُقَيِّدْ الْفِكْر بِالسُّلُوك وَ الْعَمَلِ بِالْقِيَم. فَالفَلْسَفَة تَتَجَاوَز كَوْنِهَا مُجَرَّد تَبْرِير مَنْطِقِيّ و تَأَمَّلْ خَالِصٍ فِي الْقَضَايَا الْإِنْسَانِيَّةِ، بَلْ هِيَ مُمَارَسَة عَقْلِيَّة عَمَلِيَّة تَسْعَى إِلَى تَوْجِيهٍ السُّلُوكِ الإِنْسَانِيِّ وَرَفَعَهُ إلَى أَعْلَى مُسْتَوَيَات الْفَضِيلَةِ وَ الْكَمَالِ. وَ مِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ، فَإِنْ الْفَلْسَفَة تُؤَكِّدُ عَلَى ضَرُورَةِ رَبَط الْعِلْم بِالْأَخْلَاق، بِحَيْثُ لَا يَقْتَصِرُ دَوْرُ الْعِلْمِ عَلَى مُجَرَّدِ الْكَشْفِ عَنْ الْحَقَائِقِ الْمَوْضُوعِيَّة، بَلْ يَتَعَدَّاهُ إلَى تَحْدِيدِ الْقِيَمِ وَالْمَبَادِئِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَحْكُمَ إسْتِخْدَام الْعِلْم وَالتِّقْنِيَة فِي خِدْمَةِ الْإِنْسَانِ وَرَفَاهِيَتُه. فَالْعِلْمُ بِمُفْرَدِه قَدْ يُؤَدِّي إلَى نَتَائِج كَارْثية إذَا لَمْ يَكُنْ مُقْتَرِنًا بِأَخْلَاق تَحِدُّ مِنْ إسْتِخْدَامِهِ فِي أَغْرَاضٍ هَدَّامَة أَوْ تَدْمَيْرِيَّة. وَ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، فَإِنَّ تَطَوُّر الْعُلُومِ الطِّبِّيَّةِ وَ الْبُيُولُوجِيَّة قَدْ أَتَاح إِمْكَانِيَّة التَّحَكُّمِ فِي عَمَلِيَّةِ الْإنْجَاب وَالتَّدَخُّل فِي الْجِينَات الْبَشَرِيَّةِ، مِمَّا أثَار تُسَاؤُلَات أَخْلَاقِيَّة حَوْلَ مَدَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذِهِ الْمُمَارَسَات وَ تَأْثِيرِهَا عَلَى الْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَيتَطَلَّب الْأَمْرَ هُنَا تَدْخُلُ الْفَلْسَفَة لِوَضْع الضَّوَابِط الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي تَحْكُمُ هَذِه الْمُمَارَسَات وَتَوَجُّهُهَا نَحْوَ تَحْقِيقِ الْخَيْر وَ النَّفْع لِلْإِنْسَانِيَّة. وَ بِالْمِثْل، فَإِنَّ التَّقَدُّمَ الهَائِلَ فِي عُلُومِ الْأَسْلِحَة وَالتِّكْنُولُوجْيَا الْعَسْكَرِيَّةُ قَدْ أَدَّى إلَى إنْتَاجِ أَسْلِحَة دَمَار شَامِل قَادِرَةً عَلَى إفْنَاء الْبَشَرِيَّة بِأَكْمَلِهَا. وَ هُنَا تَبْرُزُ الْحَاجَةِ إلَى تَوْجِيهِ هَذِهِ الْعُلُومِ نَحْو أَغْرَاض بِنَاءَة وَ سِلَّمية مِنْ خِلَالِ وَضْعَ ضَوَابِطَ أَخْلَاقِيَّة صَارِمَةً عَلَى إسْتِخْدَامِهَا وَ إخْتِيَار الْأَهْدَافِ الَّتِي تُسْتَخْدَمُ مِنْ أَجْلِهَا، وَ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْفَلْسَفَة تَسْعَى إِلَى تَحْقِيقِ نَوْعٌ مِنْ التَّوَازُنِ وَ التَّكَامُلِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاق، بِحَيْثُ يَكُونُ الْعِلْمُ فِي خِدْمَةِ الْإِنْسَانِ وَ تَحْقِيق رِفَاهِيَتِه، وَ يَكُونُ السُّلُوكِ الإِنْسَانِيِّ مُسْتَنَيِّرًا بِالْمَعْرِفَةِ الْعِلْمِيَّة وَ مُتَوَافِقًا مَعَ الْمَبَادِئِ الْأَخْلَاقِيَّةِ. وَ هَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَ الْأَخْلَاق فِي إِطَارِ فَلْسَفِيّ شَامِل هُوَ مَا يضْمَنُ تَقَدَّمَ الْإِنْسَانُ وَ إزْدِهَارِه عَلَى كَافَّةِ الْأَصْعِدَة. إذْن يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْفَلْسَفَةَ تَلْعَبُ دَوْرًا مُحَوَّريا فِي الرَّبْطِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْأَخْلَاق، إذْ تَسْعَى إِلَى تَحْقِيقِ التَّوَازُنِ وَ التَّكَامُلِ بَيْنَهُمَا فِي إِطَارِ رُؤْيَة شَامِلَة لِلْوُجُود الْإِنْسَانِيّ. فَالفَلْسَفَة لَيْسَتْ مُجَرَّدَ تَأَمَّلْ نَظَرِيّ، بَلْ هِيَ نَشَاط عَقْلِيّ عَمَلِي يَهْدِفُ إِلَى تَوْجِيهٍ السُّلُوكِ الإِنْسَانِيِّ نَحْوَ تَحْقِيقِ الْخَيْرِ وَ الْفَضِيلَةِ مِنْ خِلَالِ رَبَط الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة بِالْقِيَم الْأَخْلَاقِيَّة.
_ بِنِيَّة الْعِلْمَ :
الْعِلْمَ هُوَ نِظَامٌ مَعْرِفِيّ مُكَوَّنٍ مِنْ مَجْمُوعَةِ مِنْ الْمَعْلُومَاتِ وَ الْمَفَاهِيم وَالْحَقَائِق وَالْقَوَانِين وَالنَّظَرِيَّات الَّتِي تُشَكِّلُ الْبِنْيَة الدَّاخِلِيَّة لَهُ وَاَلَّتِي تُحَدِّد هُوِيَّتُه الْمُمَيِّزَة. إِنَّ دِرَاسَةَ بِنِيَّة الْعِلْمِ تُعْتَبَرُ الْمِحْوَر الأَسَاسِيّ لِفَلْسَفَة الْعِلْم الْكَلاَسِيكِيَّة، خَاصَّةً مَعَ ظُهُورِ النَّزْعَة الوَضْعِيَّةِ الَّتِي رَكَّزَتْ عَلَى حَصْرِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّةِ فِي حُدُودِ التَّجْرِبَة وَ الْمَنْطِق وَ قَوَاعِدُ اللُّغَةِ فَقَطْ. كَان هَدَف الْمَشْرُوع الْوَضْعِيّ بِنَاء نَسَق عِلْمِي مُتَمَاسِك يَتَخَلَّصُ مِنْ كُلِّ مَا هُوَ خَارِجٌ دَائِرَة الْمَنْطِق وَ التَّجْرِيب وَ الْمُعْطى اللُّغَوِيُّ، فَلَا مَكَانَ فِيه لِأَيّ مَقُولَة تَتَجَاوَز الْإِطَار الّإبستمولوجي. إلَّا أَنْ هَذَا الْمَشْرُوعِ تَعَرَّضَ لِإنْتِقَادَاتٍ شَدِيدَةً مِنْ قِبَلِ الِإتِّجَاهَات الْفَلْسَفِيَّة الْجَدِيدَةِ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ وَ اَلَّتِي عُرِفَتْ بِفُلَسفة مَا بَعْدَ الْوَضْعِيَّة، فَقَدْ تَحَوَّلَ إهْتِمَام فَلْسَفَة الْعِلْم الْمُعَاصِرَةِ مِنْ التَّرْكِيزِ عَلَى الْبِنْيَةِ الدَّاخِلِيَّة لِلْعِلْمِ إِلَى الِإهْتِمَامِ بِالْبُنْيَة الْخَارِجِيَّة لَهُ، وَإعْتِبَارُ الْعِلْم ظَاهِرة إجْتِمَاعِيَّة وَ إِنْسَانِيَّة تَتَأَثَّر وَ تُؤَثِّرُ فِي السِّيَاقَات الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَ الثَّقَافِيَّةِ. وَ بِذَلِكَ لَمْ تَعُدْ الْبِنْيَة الدَّاخِلِيَّة لِلْعِلْمِ هِيَ الْمِحْوَر الأَسَاسِيّ لِفَلْسَفَة الْعِلْم الْحَدِيثَة، بَلْ أَصْبَحَ الْبَحْثِ فِي الْعَوَامِلِ الِإجْتِمَاعِيَّةِ وَ الثَّقَافِيَّةِ وَ السِّيَاسِيَّة الْمُؤَثِّرَة عَلَى تَشْكِيلِ الْبِنْيَة الْمَعْرِفِيَّة لِلْعِلْمِ هُوَ الِإهْتِمَام الرَّئِيس. وَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الْبِنْيَة الدَّاخِلِيَّة لِلْعِلْم تَتَكَوَّنُ مِنْ ثَلَاثَةِ مُكَوِّنَات رَئِيسَية، أَوَّلًا الْمَعْلُومَات وَ تَشْمَل الْحَقَائِق وَ الْمَفَاهِيم وَ الْقَوَانِين وَ النَّظَرِيَّات الْعِلْمِيَّة. ثَانِيًا، أُسْلُوب تَنْظِيم وَ تَرْتِيب الْمَعْلُومَاتُ، أَيْ الطَّرِيقَةُ الْمَنْطِقِيَّة وَالْمِنْهَجِيَّة فِي تَنْظِيمِ الْمَعَارِف الْعِلْمِيَّة. ثَالِثًا طُرُق الْبَحْثِ وَالدِّرَاسَةِ وَ تَتَضَمَّن الْأَسَالِيب وَ الْإِجْرَاءَات الْمَنْهَجِية الْمُتَّبَعَةُ فِي إكْتِسَابِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة. وَ عِنْد تَحْوِيلِ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ الدَّاخِلِيَّة لِلْعِلْمِ إِلَى مُحْتَوَى تَعْلِيمِي فِي الْمَدَارِسِ، يَجِبُ مُرَاعَاةُ جَمِيعِ هَذِهِ الْمُكَوِّنَات وَ التَّرْكِيز لَيْسَ فَقَطْ عَلَى نَقْلِ الْمَعْلُومَات الْعِلْمِيَّة، وَ لَكِنْ أَيْضًا عَلَى تَعْلِيمِ الطُّلَّاب أَسَالِيب التَّفْكِير الْعِلْمِيّ وَ طُرُق الْبَحْث وَ الِإسْتِقْصَاء. وَ يَرَى بَعْضُ الْبَاحِثِينَ أَنَّهُ نَظَرًا لِغَزَارَة الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة الْمُتَرَاكِمَة، فَلَيْسَ مِنْ الْمُمْكِنِ وَلَا الضَّرُورِيّ إسْتِيعَاب كَامِل مُحْتَوَى الْعِلْمِ فِي المَنَاهِجِ التَّعْلِيمِيَّة، وَإِنَّمَا يَجِبُ إخْتِيَارُ الْمُحْتَوى وَفَقَأ لِأَهْداف تَرْبَوِيَّة وَ إجْتِمَاعِيَّة مُحَدَّدَة تَهْدِفُ إِلَى تَطْوِيرِ شَخْصِيَّة الْمُتَعَلِّم، وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ بِنْيَةَ مَنَاهِج الْعُلُومِ فِي التَّعْلِيمِ الْعَامّ يَنْبَغِي أَنْ تُرَاعي الْبِنْيَة الْمَعْرِفِيَّة لِلْعِلْمِ مِنْ حَيْثُ الْمُحْتَوَى وَ الْمَنْطِق وَ الطُّرُق الْبَحْثَيْة، بِحَيْثُ تَكُونُ شَامِلَةً وَ مَتَمَاسِكة وَ تَحَقَّقَ الْأَهْدَاف التَّرْبَوِيَّة وَ التَّعْلِيمِيَّة لِلْمُجْتَمَع. إذْن يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ دِرَاسَةَ بِنِيَّة الْعِلْم إنْتَقَلَتْ مِنْ التَّرْكِيزُ عَلَى الْبِنْيَةِ الدَّاخِلِيَّة فِي الفَلْسَفَةِ الْكَلاَسِيكِيَّة إلَى الِاهْتِمَامِ بِالْبُعْد الِإجْتِمَاعِيّ وَ الثَّقَافِيِّ فِي فَلْسَفَةِ مَا بَعْدَ الْوَضْعِيَّة، مِمَّا يَتَطَلَّب مُرَاعَاةِ هَذِهِ الجَوَانِبِ عِنْدَ تَحْوِيلِ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة إلَى مُحْتَوَى تَعْلِيمِي فِي الْمَدَارِسِ.
_ بِنِيَّة الْأَخْلَاق :
الْأَخْلَاق هِيَ مَجْمُوعَةٌ الْمَبَادِئِ وَ الْقِيَمِ الَّتِي تُحَدِّدُ مَا هُوَ صَوَابٌ وَ مَا هُوَ خَطَأٌ فِي سُلُوكِ الْإِنْسَانِ وَ الَّتِي تُشَكِّلُ مِحْوَر الْوُجُود الِإجْتِمَاعِيّ لِلْبَشَر. وَ قَدْ كَانَتْ مَوْضُوع عِنَايَة الْفَلْسَفَةِ عَلَى مَرَّ الْعُصُور لِأَهَمِّيَّتِهَا الْبَالِغَةِ فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَ الْمُجْتَمَعِ. مِنَ وِجْهَةُ نَظَرِ فَلْسَفِيَّة، يُمْكِنُ النَّظَرُ إلَى بِنِيَّة الْأَخْلَاقِ مِنْ عِدَّةِ زَوَايَا، أَوَّلًا الْمَصْدَر وَ الْأَسَاس؛ هَلْ الْأَخْلَاق مَصْدَرُهَا الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ أَمْ هِيَ وَحَيٌّ إلَهِيٌّ؟ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ جَدَلِيَّةٌ طَرَحَهَا الْفَلَاسِفَة عَبْرَ التَّارِيخِ. فَالْفَيْلَسُوف الْأَلْمَانِيُّ إيمَانْوِيل كَانَط، عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، يَرَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ مَصْدَرُهَا الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ وَ الْإِرَادَة الْحُرَّة، بَيْنَمَا يَرَى الْمَنْظُور الدِّينِيّ أَنَّ الْأَخْلَاقَ وَحْيٌ مِنْ اللَّهِ وَ إِنْ مَصْدَرُهَا الشَّرِيعَةُ الْإِلَهِيَّةُ. ثَانِيًا؛ الطَّابَع الْكُلِّيّ أَمْ النِّسْبِيّ: هَلْ الْأَخْلَاق مُطْلَقَة وَ كُلِّيَّة أُمٌّ نَسَبِيَّةٌ وَ مُتَغَيِّرَة بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَ الْمَكَانِ؟ فَمِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ كَانَط، فَإِنْ الْأَخْلَاق تَتَّسِم بِالطَّابَع الْكُلِّيّ وَ الْعَالَمِيّ، فَهُنَاك قَانُون أَخْلَاقِيّ كُلِّيّ يَسْرِي عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ. بَيْنَمَا يَرَى الْبَعْضِ الْآخَرِ أَنْ الْأَخْلَاق نِسْبِيَّة وَ تَخْتَلِفُ بِإخْتِلَافِ الْمُجْتَمَعَات وَ الثَّقَافَات. ثَالِثًا؛ طَبِيعَة الْأَحْكَام الْأَخْلَاقِيَّة: هَلْ الْأَحْكَام الْأَخْلَاقِيَّة هِيَ أَحْكَامُ وَصَفِيَّة تَصِف الْوَاقِع الْأَخْلَاقِيّ أَمْ إِنَّهَا أَحْكَام مِعْيَارِيَّة تُنْظَمُ السُّلُوك وَ تَقَيمه؟ فَالْمَنْظُورُ الْوَضْعِيّ يَرَى أَنَّ الْأَحْكَامَ الْأَخْلَاقِيَّة هِيَ أَحْكَامُ وَصَفِيَّة تَصِف الْوَاقِع الْأَخْلَاقِيّ الْقَائِم، بَيْنَمَا الْمَنْظُور الْمِعْيَاري يَرَى أَنَّهَا أَحْكَامُ مِعْيَارِيَّة تَصْدُرُ أَحْكَامًا عَلَى السُّلُوكِ وَ تَصِفُه بِالْحَسَنِ أَوِ الْقُبْح. رَابِعًا؛ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْأَخْلَاق وَ الدَّيْن: هَلْ الْأَخْلَاق مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الدَّيْنِ أَمْ مُرْتَبِطَةٌ بِهِ؟ فَهُنَاكَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْأَخْلَاقَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِلَّةً عَنْ الدَّيْنِ، بَيْنَمَا يَرَى الْبَعْضِ الْآخَرِ أَنْ الْأَخْلَاق تَرْتَبِط إرْتِبَاطًا وَثِيقًا بِالدَّيْن وَ تسَتمد مِنْهُ مَصْدَرُهَا وَ أُسُسِهَا. وَ هُنَاك مُحَاوَلَات لِتَوْفِيق بَيْن الْأَخْلَاق الدِّينِيَّة وَ الْأَخْلَاق الْفَلْسَفِيَّة. خَامِسًا؛ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْأَخْلَاق وَ السِّيَاسَة: كَيْف تَتَحَدَّدُ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْأَخْلَاق وَ السِّيَاسَة وَ بِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ؟ فَالْبَعْض يَرَى أَنَّ السِّيَاسَةَ يَجِبُ أَنْ تَخْضَعَ لِلْأَخْلَاق وَ تَلْتَزِم بِهَا، بَيْنَمَا يَرَى آخَرُونَ أَنْ السِّيَاسَة لَهَا مَنْطِقِهَا الْخَاصُّ الَّذِي قَدْ يَتَعَارَضُ مَعَ الْمَنْطِقِ الْأَخْلَاقِيّ. كَمَا بَرَزَتِ أَيْضًا مُحَاوَلَات لِوَضْع فَلْسَفَةٍ أَخْلَاقِيَّةٍ لِلسِّيَاسَة. سَادِسًا ؛ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْأَخْلَاق وَ الْعِلْمِ: هَلْ الْعِلْمُ مَحَايد أَخْلَاقِيًّا أَمْ أَنَّهُ يَرْتَبِط بِالْأَخْلَاق وَ لَه أبْعَاد أَخْلَاقِيَّة؟ فَالْبَعْض يَرَى أَنَّ الْعِلْمَ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْأَخْلَاق وَ أَنَّه مَحَايد، بَيْنَمَا يَرَى آخَرُونَ أَنْ لِلْعِلْم أَبْعَادًا أَخْلَاقِيَّة تَتَمَثَّلُ فِي مَسْؤُولِيَّةِ الْعُلَمَاءِ عَنْ إسْتِخْدَامِ نَتَائِج بُحُوثَهُمْ. هَذِهِ هِيَ بَعْضُ الزَّوَايَا الْفَلْسَفِيَّة الْبَارِزَةِ فِي النَّظَرِ إلَى بِنِيَّة الْأَخْلَاق وَ جَوَانِبِهَا الْمُخْتَلِفَةِ. وَ قَدْ أَنْتَجَ هَذَا النَّقَّاش الْفَلْسَفِيّ الثَّري مَدَارِس وَ تَيَارَات فَلْسَفِيَّة مُتَنَوِّعَة فِي مَجَالِ الْأَخْلَاق مِثْل الْمَذْهَب الطَّبِيعِيّ وَ الْمَذْهَب المِثَالِيّ وَ الْمَذْهَب الْوَضْعِيّ وَ الْمَذْهَب الْقِيَمِيّ وَ الْمَذْهَب الْإِلَهِيّ وَ غَيْرِهَا.
_ الْوَحْدَة الْفَلْسَفِيَّة للْبِنِيَّة الْأَخْلَاقِيَّة وَ الْبِنِيَّة الْعِلْمِيَّةِ :
فَلْسَفَة الْعُلُوم هِيَ فَرْعٌ الْفَلْسَفَة الَّذِي يَهْتَمُّ بِأُسُس الْعِلْم وَ تَدَاعِيَاتُه. تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الدِّرَاسَاتِ الْأَسْئِلَة الْجَوْهَرِيَّة حَوْل طَبِيعَة الْعِلْم وَ الْمَنْهَج الْعِلْمِيّ وَ الْمَعْرِفَة الْعِلْمِيَّة وَ مُوثوقية النَّظَرِيَّاتِ، أَضَافَة إلَى الْغَرَضِ النِّهَائِيّ لِلْعِلْم. فِي الْمُقَابِلِ، تُرْكَز الْفَلْسَفَة الْأَخْلَاقِيَّة عَلَى قَضَايَا الْقِيَمِ وَ الْأَخْلَاقِ، وَ تُحَاوِل تَحْدِيد الْمَعَايِير وَ الْمَبَادِئِ الَّتِي تُنَظِّمُ السُّلُوكِ الْأَخْلَاقِيِّ لِلْإِنْسَانِ فِي الْمُجْتَمَعِ. إذْ أَنَّ الْأَخْلَاقَ تُشْكِل النَّسِيج الْحَيَوِيّ لِوُجُود الْإِنْسَانِ وَ الْمُجْتَمَعِ هُنَاك عَلَاقَة وَثِيقَةٌ بَيْنَ الْبِنْيَة الْأَخْلَاقِيَّة وَ الْبِنْيَة الْعِلْمِيَّةِ فِي الْفِكْرِ الْفَلْسَفِيّ. فَالْعِلْمُ لَيْسَ بِمَنْأًى عَنْ الْقَيِّمِ الْأَخْلَاقِيَّة، بَلْ إنَّهُ مَشْرُوعٌ إِنْسَانِيٌّ يَحْتَاجُ إلَى التَّأْسِيس الْأَخْلَاقِيّ. يَقُولُ الْفَيْلَسُوفُ أَمَّانويل كَانَط: "شَيْئَانِ يَمْلاَن نَفْسِي إعْجَابًا وَ إحْتِرَامًا "السَّمَاء الْمُرَصَّعَة بِالنُّجُوم فَوْقِي وَ الْقَانُون الْأَخْلَاقِيَّ فِي أَعَمُّاقي" إنَّ أَوْجَهَ التَّرَابُطَ بَيْنَ الْبِنْيَة الْأَخْلَاقِيَّة وَ الْبِنْيَة الْعِلْمِيَّة يَتَمَثَّلُ فِي عِدَّةِ جَوَانِب،
أَوَّلًا؛ الْأَخْلَاق كَمَرَجْعِيَّة لِلْبَحْثِ الْعِلْمِيّ بِحَيْث تُشْكِل الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ ضَوَابِط وَ أَطُر مَرْجِعِيَّة لِلْمُمَارَسَة الْعِلْمِيَّةِ، لِضَمَان سَلَامة وَ أَمَانَة الْبَحْث وَمَوْضُوعُيته. فَالْعِلْمُ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَرَاكَم لِلْمَعَارِف بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ بِمَعْايِير أَخْلَاقِيَّة كَالصِّدْق وَالنَّزَاهَة وَالْمَسْؤُولِيَّة. ثَانِيًا الْأبْعَاد الْأَخْلَاقِيَّة لِلنَّتَائِج الْعِلْمِيَّة، نُدْرِك تَمَامًا أَنْ لَدَى الْعِلْم وَالتِّكْنُولُوجْيَا نَتَائِج وَ تَطْبِيقَات تَمَسّ حَيَاةِ النَّاسِ وَ بَيْئتَّهَم، لِذَا يَجِبُ أَنْ تَخْضَعَ هَذِه التَّطْبِيقَات لِإعْتِبَارَات أَخْلَاقِيَّة وَ قِيمية. فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، يُثِير الْبَحْثِ فِي الْهَنْدَسَةِ الْوِرَاثِيَّة وَ تَعْدِيل الْجِينَات مَخَاوِف أَخْلَاقِيَّةٍ وَ إِنْسَانِيَّةٍ حَوْل حُدُود التَّدَخُّلِ فِي الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ. ثَالِثًا؛ دُور الْأَخْلَاقِ فِي تَوْجِيهِ التَّطَوُّرُ الْعِلْمِيُّ، إذَا كَانَ الْعِلْمُ قَادِرًا عَلَى تَحْقِيقِ تَقَدَّم هَائِل وَ إِيجَابُيّ فِي حَيَاةِ الْبَشَرِ، فَإِنَّ تَطْبِيقًاتِه يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَحْكُومَة بِالْأَخْلَاق لِضَمَانِ عَدَمِ إسَاءَةِ إسْتِخْدَامُهَا. فَالْأَخْلَاق تَقُود التَّطَوُّرُ الْعِلْمِيُّ وَ التِّكْنُولُوجِيّ فِي الِإتِّجَاهِ الَّذِي يُحَقِّقُ الْخَيْرِ لِلْإِنْسَانِيَّةِ وَ يَضْمَن مَصَالِحِهَا الْعُلْيَا. رَابِعًا؛ الْأَخْلَاق كَمَعْيار لِتَقْيِيم الْعِلْمِ، فِي ظِلِّ التَّطَوُّر الْهَائِل لِلْعِلْم وَ التِّكْنُولُوجْيَا، تَبْرُز الْحَاجَةِ إلَى مَعَايِير أَخْلَاقِيَّة لِتَقْيِيم مَدَى إِيجَابِيَّة وَ سَلْبِيَّة نَتَائِج الْعِلْم وَ تَطْبِيقِاته. فَالفَلْسَفَةُ الْأَخْلَاقِيَّة تَوَفُّر الْمَرْجِعِيَّة الْفِكْرِيَّة لِفحْص وَ تَقْوِيمُ الْمُمَارَسَات الْعِلْمِيَّة. يَتَّضِحُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الْبِنْيَة الْأَخْلَاقِيَّة وَ الْبِنْيَة الْعِلْمِيَّة مُتَرَابِطَتان بِعَلَاقَةِ عُضْوِيَّة وَ جَدَلية. فَالْأَخْلَاق تَوَجَّه الْعِلْم وَ تُحَدُّد مَسَارَاتِه، فِي حِينِ أَنَّ الْعِلْمَ بِدَوْرِه قَدْ أَغْنَى الْبَحْث الْأَخْلَاقِيّ وَ أَثْرَى الرَّؤى الْفَلْسَفِيَّة حَوْل الْقَيِّم وَ الْمَعَايِير الْأَخْلَاقِيَّة. وَ هَذَا التَّرَابُط يُؤَكِّدُ عَلَى ضَرُورَةِ التَّكَامُلِ وَ الِإنْسِجَامِ بَيْنَ الْجَانِبِ الْأَخْلَاقِيّ وَ الْجَانِب الْعِلْمِيِّ فِي إِطَارِ الْمَشْرُوع الْفَلْسَفِيّ الشَّامِل لِلْوُجُود الْإِنْسَانِيّ.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أَخْلَاقِيَّات الْعِلْمُ وَ عِلْمِيَّة الْأَخْلَاق
- حِوَارٌ مَعَ صَدِيقِي الشَّيْطَانُ الْأَكْبَرُ
- جَدَلِيَّة الِإنْتِمَاء و الِإنْتِسَاب
- جَدَلِيَّة التَّنْمِيط وَ التَّسْطِيح
- السُّؤَالُ عَنْ السُّؤَال
- إيلَون مَاسِك عَبْقَرِيّ أَمْ شَيْطَانِي
- سُّلْطَة المُثَقَّف أَمْ مُثَقَّف السُّلْطَة
- مَقَال فِي الأَسْئِلَةُ الْوُجُودِيَّة الْكُبْرَى
- ثَمَنِ قَوْلِ الْحَقِيقَةِ فِي مُجْتَمَعَاتٍ النِّفَاق وَالت ...
- جَدَلِيَّة الْفَلْسَفَة و التَّفَلُّسِف


المزيد.....




- -معاوية-.. خالد صلاح كاتب المسلسل يوضح الغاية منه
- وزير الدفاع الأمريكي يرد على هيلاري كلينتون بصورة لها مع لاف ...
- ممثل شهير يعلق شعار -فلسطين حرة- على صدره خلال حفل -أوسكار- ...
- زيلينسكي يرد بحدة على سيناتور جمهوري طالبه بالاستقالة
- ستارمر يرفض إلغاء الدعوة الموجهة لترامب لزيارة بريطانيا
- بعد المشادة مع ترامب ونائبه.. زيلينسكي يُعلق على موقف أوكران ...
- ابتكار بخاخ أنفي لمساعدة المصابين بإصابات دماغية رضية
- رئيس وزراء اليابان حول المشادة بين ترامب وزيلينسكي: لا ننوي ...
- مسؤول إسرائيلي: المفاوضات ستبدأ بمجرد موافقة -حماس- على مقتر ...
- أزمة كهرباء وانهيار العملة.. احتجاجات في حضرموت تعكس معاناة ...


المزيد.....

- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الْمَشْرُوع الْفَلْسَفِيّ الشَّامِل لِلْوُجُود الْإِنْسَانِيّ