|
فرعون.. ظاهرة مجتمعية وليست حالة فردية ..(1)
محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث
(Mohamed Mabrouk Abozaid)
الحوار المتمدن-العدد: 8269 - 2025 / 3 / 2 - 14:07
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
بداية، عند البحث في هوية فرعون لا ينبغي أن نبحث في هوية شخص، وإنما هوية مجتمع بكامله، فلا بد أن نتناول الموضوع كظاهرة وليس حادثة فردية؛ بمعنى أن حالة ادعاء الإلوهية من قِبل شخص ما هي ليست حادثة فردية متعلقة بهذا الشخص، وإنما متعلقة أيضاً بالمغفلين الذين أطاعوه وصدقوا أن هذا الشخص الذي يتبرز العفن مثلهم من الممكن أن يكون إله خالق لهذا الكون أو يستحق العبادة، ومتعلقة أيضاً بما إذا كان هناك حالات أخرى تكررت في مجتمع بعينه أم لا، لأن مجرد انصياع فئة من المجتمع لهذا المجنون وعبادتهم له، فهذا يؤكد حتماً أنها ظاهرة مجتمعية وليست حالة فردية، وهذا ما يعني بوضوح إمكانية تكرارها ليس في الشخص الذي ادعى الإلوهية وإنما في سلالات الأشخاص الذين عبدوه إذا ما جاءت أحدهم الفرصة فلا حرج أن يستغلها .. وبالتالي علينا البحث في الحالة العقائدية للمجتمع وعلى مدار حقبة أو حقب تاريخية.
وإذا نظرنا للمجتمع الجبتي القديم سنجده قد أبدع في الفلسفة العقائدية وتوصل بالفطرة إلى أن هناك خالق لهذا الكون محله في السماء ورمزوا له بالشمس باعتبارها أكبر كيان كوني غير ملموس وهو مصدر الضوء والعطاء الذي ينير الكون كله، بل إننا نقرأ في الجبتانا التي دونها الكاهن الجبتي القديم مانيتون السمنودي، عن تصور لرحلة المعراج السماوي التي انتشرت بين جميع الديانات وفي الميثولوجيا القديمة، وهي تمثل نوعاً من الخيال يعد أرقى درجات الفكر الروحي لدى الإنسان. ومثل هذا المجتمع بهذا الفكر العقائدي المتطور جداً لا يمكن إقناعه بداهة بأن يعبد شخص يتبرز العفن مثل الحيوانات أو يسمحوا له بادعاء الإلوهية والقدرة على الموت والإحياء والخلق.. بل إن الجبتيين القدماء ينفردون على شعوب العالم بعقيدة البعث والخلود بعد الممات، فإذا ادعى شخص الإلوهية فمن البديهي أن يسألوه عن قدرته على البعث والخلود وخلق الكون من حوله وتصريف أمور العباد والتحكم في الشمس والقمر والفُلك الفضائي الذي أدركوه في عصور مبكرة، لأنهم ببساطة كانوا يعتقدون أن الإله الذي يستحق العبادة هو من يستطيع تسيير الكون من حولهم، والكون هنا بالمنظور الواسع الذي استوعبه أجدادنا القدماء، وبمنظور الحضارة القبطية القديمة، فلو أخذنا عيّنة من الصلوات الجبتية القديمة، (متون هرمس: واحد من أهم نصوص "تحوت" المعظم والذي يتحدث عن طبيعة الإله الخالق) فتقول التراتيل ؛ هو الواحد الصمد لا يشوبه نقص هو الباقي دوماً، هو الخالد أبداً هو الواقع الحق ، كما أنه المطلق الأكمل الأسمى هو جماع الأفكار التي لا تدركها الحواس ولا تدركه المعرفة مهما عظمت الإله هو الفكر الأول، وهو أعظم من يطلق عليه اسم "أتوم" هو الخفي المتجلي في كل شيء تُعرف كينونته بالفكر وحده، وتدركه عيوننا في الآفاق لا جسد له، ولكنه في كل شيء وليس هناك ما ليس هو لا اسم له، لأن جميع الأسماء اسمه هو الجوهر الكامن في كل شيء هو أصل ومنبع كل شيء. هو الواحد الذي ليس كمثله شيء. هذا واحد من أهم نصوص "تحوت" المعظم والذي يتحدث عن طبيعة الإله الخالق، وهذا النص لا نجد له مثيل في المخيلة العربية على مدار تاريخها القديم، ومثل هذه التراتيل وهذه المعاني والمفردات لا نجد لها مثيلاً في أمم الشرق حتى ما كان منها موحداً مثل اليهود وسلالة بني إسرائيل، فلو فتحنا التوراة على وضعها الحالي، فلا اعتقد أن نجد نصاً يحمل من التضرع والخضوع والتقديس والتوحيد للإله الخالق كما حملت أدعية الجبتيين القدماء، بقدر ما نجد نصوصاً عن الارتحال من أرض إلى أرض واحتلال أرض جديدة للرعي فيها ووضع اليد وتوريثها للأحفاد..إلخ، ونحن هنا نقارن مجتمع " مُوحّد " مؤمن بالله (اليهود كمثال عربي) مع مجتمع مؤمن بالخالق بفطرته دون أن يعرفه من خلال رسول أو نبي، فما بالنا لو نظرنا إلى مجتمع شرقي آخر من جنس هؤلاء " الموحدين " لكنه غير موحّد، فكيف سيكون عليه وضع الإيمان والعبادة! غير أن من يتصور أن هناك رجل يستحق العبادة ووصف الإلوهية لهو مجتمع يعيش في قاع الجهل والعتمة العقلية وعدم الإدراك، فلا يمكن أبداً اتهام رمسيس بأنه ادعى الإلوهية، ليس تنزيهاً لرمسيس، وإنما لعدم معقولية اقتناع الشعب بهذا الهذيان في عصره، فقد كان الشعب الجبتي القديم في قمة تطور الفكر الديني والعلمي، وبالتالي مستحيل أن يقتنع بهذا الهذيان ! بل حتماً كانت ستحدث كارثة شعبية، لأن العبث في الفكر الديني لم يكن ليمر بهذه السذاجة أبداً، بل إننا لو نظرنا إلى عهد إخناتون - برغم أنه وصل إلى قمة تطور الفكر الديني وعقيدة التوحيد- إلا أن منهجه في العبادة أحدث ثورة لم تهدأ إلا بوفاته، فقط لأنهم اعتبروا فكره عبث بالمعبود، فكيف نتصور فرعون يدعي أنه إله ويلتف حوله لفيف من المشعوذين يعبدونه، ولفيف من الحراس والجنود يتبعونه ! هذا الفكر الهمجي من المستحيل تصور حدوثه في مصر القديمة.
وهذا مقطع من صلاة إخناتون المنقوشة علي الحجر بالهيروغليفية في تل العمارنة: " أيها الإله الواحد الذي لا مثيل له أبداً.. ما أكثر أعمالك الخافية علينا.. يا من خلقتَ الأرض كما يهوي فؤادك.. حين كنت وحدك.. ولا أحد غيرك.. إن كل الناس وأمم البشر.. وكل أسراب وقطعان الأنعام.. وكل ما يدب على الأرض بالأقدام.. وكل ما يطير في علا السماوات بجناحين.. وكل ما يدب على أرضي كِميت.. وفي كل الأراضي الأجنبية في سوريا وبلاد النوبة.. أنت الذي تضع كل رجل في موضعه الذي حددته بإرادتك.. وأنت الذي تمد الجميع بحاجياتهم.. وأنت الذي تهب كل حي برزقه.. وتمنحه أيام حياته المعدودة.. وأنت الذي جعل البشر يتكلمون بمختلف اللغات.. وجعلت أشكالهم مختلفة.. وميزت بين الأمم وبعضها.. وأنت الذي جعلت الفصول تختلف.. لينعم بها كل مخلوقاتك.. خلقتَ الشتاء والبرد.. وخلقتَ حرارة الصيف التي تأتي من عندك.. وخلقتَ السموات العلا.. لتطل منها حين تشرق.. وتنظر إلى كل ما خلقت وصنعت.. أنت وحدك تسطع في صورة آتون الحي.. وبالرغم من سطوعك من بعيد.. إلا أنك قريب إلى كل يد.. ملايين الأشياء والأشكال والصور.. أنت وحدك خلقتها.. المدن والقرى و الحقول.. والطرق والأنهار.. وكل العيون تتجه صوبك لتراك.. لأنك آتون النهار.. يطل من السماء فوق الأرض.. أنت في قلبي.. وما من أحد آخر يعرفك سوى ابنك وعبدك إخناتون.. الذي منحته الحكمة والقدرة على فهم تدابيرك وقدرتك.. كل الناس في جميع أنحاء العالم.. كلهم في يدك.. بنفس الصورة التي خلقتهم فيها.. وأقمتهم لابنك ملك كِميت.. (العائش في الحقيقة).. سيد التيجان.. إخناتون ذي العمر المديد.. ولزوجته الملكية المحبوبة.. سيدة الأرضين: نفر نفرو آتون نفرتيتي.. عاشت مزدهرة إلى الأبد..".
فكل ملوك القبط القدماء، جميعهم ولا أحد فيهم لم يترك تدوينه تعبر عن إيمانه بجلاء، أما ظاهرة ادعاء الإلوهية فهي حالة فكرية لا نجدها إلا في مجتمع جاهل وسطحي الفكر بدائي العقيدة إلى درجة السفه، منفوخ إلى درجة الغرور والتعالي، فمجرد ظهور الفكرة في مجتمع ما فلا بد أن يكون لها إرهاصات وإشارات أخرى متناثرة هنا وهناك في ثقافة المجتمع، حتى في عصر الإسلام بمجرد رحيل النبي محمد خرج رجال ونساء يقرضون شعراً ويدعون النبوة ! ويسخرون من القرآن مثل سجاح ومسيلمة الكذاب وغيرهم ! إلى هذه الدرجة من التبجح وصلت العقلية الغريبة !، لأن المجتمع كله عبارة عن نسيج واحد اجتماعي فكري مترابط، وهذه الملامح النفسية لا نجدها في أي شعب من شعوب العالم إلا الشعب العربي، لدرجة أنه يحتفي ويفتخر بالأنساب دون أن يكون النسب نفسه ذا قيمة فعلية ! وهذه الملامح النفسية الذهنية نجدها متجسدة في قصائد الشعر العربي دون حاجة إلى إثبات، فالمعلقات العربية التي حملت قصائد شعرهم على أستار الكعبة خير دليل، وهي لا تقارن بالأدعية والصلوات والتراتيل التي دونها أجدادنا ضمن كتاب الموتى على جدران المقابر والأهرام..
وهذه الظاهرة لم تكن حالة فردية في بلاد العرب (شبه الجزيرة العربية) إنما كانت ظاهرة مجتمعية يمكن العثور عليها في حقبة أو حقب تاريخية متوالية ومتعدد ومتكررة وفي أقوام هم عشائر متجاورة مكانياً وزمانياً، ولم تكن حالة عارضة تمثلت في شخص واحد عبده مجموعة من السفهاء حوله، إنما هي ظاهرة مجتمعية يمكن العثور عليها بكثافة في البيئة العربية وبذورها منتشرة في كل أرجاء الجزيرة، فالنمرود ادعى الألوهية وحاول حرق سيدنا إبراهيم (ع)، والحاكم الظالم " ذو نواس " الذي تجبّر في الأرض وقتل أصحاب الأخدود، وفرعون ادعى الألوهية وحاول قتل سيدنا موسى ومن آمنوا به، وعَبَده قومه وعبدوهم أقوامهم في كل حالة، هذا غير أقوام العرب البائدة التي اشتهرت بالزندقة والإلحاد والفُجر الأخلاقي والسلوكي التابع للفساد العقلي، ولهذا انتشرت ظاهرة العقاب الإلهي الجماعي بأسلحة الدمار الشامل، من مصرايم إلى إرم ذات العماد، وقوم عاد وثمود وهود وصالح ولوط وشعيب لأصحاب الأيكة ...إلخ. كل المساحة الجغرافية التي اكتسحها طوفان نوح كانت هي البيئة الديمجرافية لهذا النسيج العقلي بملامحه وصفاته.
وبوجهٍ عام، فإن شعب الجزيرة العربية ينفرد بظاهرة عقلية وعقائدية غريبة تماماً، ولهذا السبب كانت الجزيرة العربية هي أرض الديانات لأن الله لا يرسل نبياً أو رسولاً إلا حيث يكون الشعب قد فسدت عقائده بالدرجة المُضرّة بالصحة العامة.. ولهذا تعدد الرسل والأنبياء في جزيرة العرب، ففي كل قرية بُعث فيها رسول وقد عددهم الله ووصفهم بالأحزاب زمرة واحدة، وهذا الوضع لا يمكن أن نجده في المجتمع الجبتي القديم أبداً، بل إن العرب حتى بعد نزول الإسلام خرج منهم الكثير بعقائد فاسدة فساد غير عادية، وليس أوّلهم ولا آخرهم الخليفة الوليد بن يزيد الذي جاء بعد النبي كخليفة على العرب بما يقارب الخمسين عاماً وكان يسخر من العبادة ويستهزئ بكتاب الله، وغيره أمثلة لا يمكن حصرها، بالإضافة إلى ظاهرة التمرد الديني والزندقة، وظاهرة النفاق الديني، بينما هذه الظواهر المرضية لم نجدها في المجتمع الجبتي على مدار تاريخه، فلم يرصد أي باحث حالة نفاق ديني في المجتمع الجبتي سواء في عصر عبادة آمون وأوزير أو عصر ظهور اليهودية أو المسيحية أو الإسلام، لأن الظاهرة أصلاً ليست من سمات العقلية الجبتية وليست من مؤهلاته الجينية الموروثة، فيقول جيمس هنرى برستيد " نحت الجبتيون لفظ الأخلاق من الخالق فتبعتهم بقية الأمم "( جمس هنري برستد - كتاب : " فجر الضمير ") .
وعندما يقول (برستد) في مقدمة "فجر الضمير" وهو يخاطب الشباب الغربي أنه " يجب على نشء الجيل الحاضر أن يقرأوا هذا الكتاب الذي يبحث في تاريخ " نشأة الأخلاق بعد بزوغ الضمير في العالم المصري"...، فهذا يعني أن الشباب الجبتي لا بد أن يدرس هذا الكتاب في كل مراحل الدراسة التعليمية والتربوية، لا أن نترك تاريخ أجدادنا العظماء وندرس مرويات العرب واليهود الأفاقين الكذبة الذين يقولون لنا بأن أجدادنا كانوا كُفار ومدعي إلوهية وزنادقة...إلخ. هذا الفكر العربي البري بعد أن غطى غباره على العقل الجبتي وصار ينخر في عموده الفقري مثل السوس، فلم يعد العقل الجبتي قادراً على الإنتاج المعرفي خاصة وأنه اتخذ من أعراب الصحراء قدوة وآباء روحيين له بينما هم بمعيار الحضارات لا خلاق لهم، ولا عقل لهم، بل إنهم يفكرون بعقول إخوانهم الصهاينة.
وكتاب فجر الضمير الذي ألفه الباحث الأمريكي جيمس هنري بريستيد يتحدث - كما يدل عنوانه - عن فجر الضمير ومطلع الحس الأخلاقي لدي الإنسان في أول حضارة عرفتها البشرية، ولدي أول إنسان سعي لإدراك العلاقة بين الإنسان وخالقه، والفروض التي يفرضها الخالق علي الإنسان المؤمن به، بخلاف الشائع لدينا من معلومات عن أن الديانات السماوية هي فقط التي تقوم على بنيان أخلاقي قوي، وعقيدة واضحة المعالم، وإيمان راسخ بما وراء الطبيعة، فهذا الكتاب لا يترك مجالا للشك بأن هذه المعتقدات والأفكار خاطئة من أساسها، فالإيمان راسخ منذ الحضارات القديمة، والبنيان الأخلاقي كان له درجة عالية من الرقي قبل عصر الأديان السماوية، والعقيدة لم تكن هلامية التكوين حسبما يتراءى للغالبية الآن، ولا كانت وثنية، بل كان هناك إيمان قوي بالبعث والحساب الأخروي والحياة الآخرة بعد الموت، مع اختلاف في تصور التفاصيل بين كل دين ودين، فعقيدة البعث والحساب بعد الممات تتميز بها كل الأديان السماوية، بل هي المحور الرئيس الذي يميزها عن غيرها من الأديان، وهذه العقيدة قد توصل إليها أجدادنا دون رسول أو نبي! ألا يكفي ذلك لدرء التهم اليهودية عنهم؟! فالجبتيون القدماء لمجرد إيمانهم بعقيدة البعث والخلود بعد الممات (وهي فكر معنوي خالص في قمة تطور الفكر الديني) فلا يمكن بعد ذلك وصف هذا الشعب بالـ" وثنية "، وإذا كان غير ممكنٍ وصفه بالوثنية، فكيف يمكن وصفه بالإلحاد أو ادعاء الألوهية ؟!.
فمن العدم بني الجبتيون القدماء حضارة لم تكن علي مثال سابق، ولم تكن هذه الحضارة مجرد إنشاءات معمارية ومنجزات علمية فقط، بل إن هذه الإنشاءات والمنجزات المعمارية والاكتشافات العلمية العبقرية تعتبر أقل ما قدمه الجبتيون للحضارة، أو على أقل تقدير فهي موازية في مسار ارتقائها لمسار ارتقاء الأخلاق والعقائد الدينية، لكن هذه الحضارة تميزت في المقام الأول بأنها - من بين كل الحضارات القديمة - هي التي قدمت للعالم القديم فكرة الضمير والأخلاق والحساب الأخروي، فهل من باب الصدفة أن يتهمها اليهود والعرب بأنها كانت رمز للفسق والفساد وادعاء الألوهية ؟! خاصة إذا كان العرب هم الشعب الأوحد في العالم الذي انتشرت فيه ظاهرة الزندقة وتعددت ظواهر الفساد الأخلاقي والفكري، فلم نجد إنسان في العالم يقتل طفلته بيديه ويدفنها حية !!
فقد قدّم الكتاب عرضاً تاريخياً لظروف خاصة قادت الإنسان القديم للهبوط إلى أرض مصر والتجمع حول نهر النيل، ظروف قادت الإنسان إلي بناء وتكوين أول مجتمع كبير العدد احتاج معه إلي أن ينظم الصفوف بقوانين معروفة تحكم الجميع. في هذا المجتمع ظهرت أول نصوص تدل على وجود الأخلاق والضمير الفردي والجماعي، وقدم الباحث كذلك مقارنات دقيقة عن الأسباب التي أتاحت للمصريين فقط - دون غيرهم من الشعوب - تكوين أول دولة قومية في التاريخ. وهذا ما يدفعنا إلى التأكيد على أن ظاهرة ادعاء الألوهية لا يمكن أن تكون حالة فردية وإنما ظاهر مجتمعية إن حدثت فلن تكون فردية لأن المجتمع هو نسيج اجتماعي فكري مترابط، وفي الوقت ذاته لا يمكن تصور وجودها في المجتمع الجبتي القديم الذي عاش على مساحة عريضة جداً تتجاوز المليون كيلومتر مربع في ترابط وتشابك لساني وفكري وثقافي وأخلاقي وعقائدي، فبذور فكرة التمرد الديني والنفاق الديني والتجبر وادعاء الألوهية، بذور هذه الفكرة لا يمكن أن تنبت في البيئة الجبتية، إنما البيئة الأنسب لهذه الظاهرة كانت جزيرة العرب.
وقارن الكاتب بين ما ظهر لدينا من آثار الضمير والأخلاق وما ظهر لدي حضارات بابل وآثار الأنبياء لدي بني إسرائيل، فكان مما ظهر في بابل أن القوانين وأحكام الأخلاق كانت تفرق بين الناس حسب مراتبهم الاجتماعية، لكن القوانين الأخلاقية الجبتية لم تفرق بين الناس، فالإله في مصر يقبل الصدق من الرجل التقي ولا يقبل ثور الغني غير الصادق، كما يقول الحكيم الجبتي القديم، كما أن المقارنة بين نصوص من التوراة وما قدمه "إخناتون" في أناشيده وتراتيله الدينية تشير إلي أن التطابق بينهما يؤكد درجة ارتقاء وازدهار هذه العقلية من الناحية الأخلاقية إلى درجة الأستاذية دون مُعلّم أو رسول، فقد توصلت إلى منظومة من الأخلاق والعقائد الدينية تكاد تقترب مع ما نزلت به التوراة في فجر التاريخ، لكن الفارق أن التوراة نزلت على شعب فاسد عقائدياً لإصلاحه، بينما تراتيل إخناتون كانت من الجهود الذاتية والإبداع والتعبير التلقائي عما يجول في خلجات النفس بالفطرة.. كانت من نبت العقلية وليست مما هبط من السماء بالوحي، والنصوص الجبتية القديمة التي استشهد بها "فجر الضمير" تعتبر دلالة قوية على روعة ما وصل إليه الجبتي القديم من فكرٍ راقٍ وضمير يقظ، وباعتباره لم يسبق إلى ما وصل إليه - بين الحضارات القديمة المعروفة في وقته - فإن هذا الإنجاز العظيم هو فخر ما قدمته مصر للإنسانية جمعاء.
نلاحظ بجلاء أن المؤلف " جمس هنري برستيد " خلال فصول الكتاب اتبع منهج البحث والاستقصاء العلمي الدقيق وبعقلية حيادية استطاع لملمة معالم الحياة الدينية والأخلاقية للشعب الجبتي القديم ، لكن الكاتب في الفصل الأخير من هذا الكتاب نحى عن العلم والعقل جانباً واتجه إلى توظيف منتجه العلمي العظيم هذا لخدمة الصهيونية بأن جعل العبرانيين معبراً أو قنطرة ثقافية عبرت خلالها عصارة الحضارة الجبتية القديمة إلى أوروبا، وهذا فقط ليبرز للإسرائيليين دوراً تاريخياً عظيماً برغم أنه وهمي، ففي وقت صعود الحضارة الأوروبية القديمة 1200ق.م ما كان الإسرائيليون والعبرانيون سوى عشيرة تائهة في البراري تبحث لها عن مأوى هنا أو هناك في المغاور وبطون الجبال ، وتحتل أرضاً أو مرعى فتهجم عليها العشائر الأخرى وتتمزق أوصالها مرات ومرات في جنوب غرب الجزيرة العربية ، حتى استقرت في حصن أورشليم باليمن بعدما اغتصبوه من عشيرة اليبوسيين حيث كان وكراً لهم وأقاموا به حقبة إلى أن جاء البابليون وقضوا عليهم وأخذوهم عبيداً إلى قرية بابل هناك باليمن... وكان واضحاً جداً في ثنايا هذا الفصل الأخير من قلم المؤلف أنه يتصبب صهيونية خبيثة ويمهد لتوسيع الاحتلال الإسرائيلي في إيجبت باحتلال ثقافي يضرب جذور تاريخية وهمية في منطقة وادي النيل بحيث يعتبرها أوتاد يقف عليها في الحاضر.. وكل هذا محض عبث وكذب باسم العلم والفكر وهو نوعٌ من النصب لا أكثر...
وهناك غير برستد الكثير من الكتاب والمفكرين الغربيين يحاولون دائماً استغلال الحضارة الجبتية القديمة في بناء وتجميل قومية عبرانية يهودية بحيث تصبح لها اسمها وسمعتها الدولية بينما هي في الأصل عشيرة لا تختلف عن مئات العشائر القبلية التي ذابت في جزيرة العرب.. وكثير من الممارسات المغرضة باسم العلم، كأن يفتتح فرويد عيادته في اليوم الموافق لخروج اليهود المتحدث عنه من مصر بقيادة موسى، وقد حاول فرويد أن يصوّر موسى على أنه لم يكن عبرانياً بل أميراً أو فرعوناً صغيراً ليجمع لليهود مجدين معاً؛ مجد الحضارة الفرعونية ومجد كونهم شعب الله المختار.. أو أن يحاول فرويد الإشارة إلى عادة معينة كان الجبتيون يحملونها قبل اليهود وهي عادة الختان، ويحاول فرويد أن يقدم موسى مختوناً ليس باعتباره يهودياً ولكن باعتباره مصرياً قبل اعتباره كاهناً ومؤسساً للدين العبراني، وباعتبار موسى أتى لإعادة إحياء ديانة آتون بشكل أو بآخر بُعيد موت إخناتون.
وبذلك يكون فرويد قد انتهى إلى نتيجتين معاً الأولى أن موسى نتاج القومية الجبتية الفرعونية والثانية أن الديانة العبرانية هي تطور للديانة للمصرية القديمة، يعني في النهاية قومية عبرانية وليدة من الحضارة الجبتية القديمة ! وفي الحقيقة فإن كل هذا عبث بالدين والعلم معاً، لأن موسى لم يدخل إيجبت ولم يتربى في إيجبت وإنما تربى في كنف فرعون حاكم مصرايم العربية، وكانت عادة الختان محمولة في التراث العبراني منذ عهد جدهم إبراهيم (ع)، إذ انه أول من اختتن من غير الجبتيين القدماء، وجاءت الديانة الموسوية امتداد لديانة إبراهيم وليس إخناتون، لكن هكذا دائماً يحاول فرويد بخبث اليهود أن يغرس قدمهم في بلادنا عنوة، كما كان يتنكر أحياناً للديانة اليهودية أو يدعي الإلحاد بينما هو يقيم طقوس زواج ديني، وفي عيادته لا يستقبل الفقراء، بينما يستقبل الأغنياء ليجمع منهم الكثير من الأموال... والمشكلة التي يقع فيها فرويد وأمثاله هي أنهم يفترضون أن ديانة اليهود جاءت امتداد للديانة الجبتية القديمة، بينما ذلك يجعل من ظاهرة (فرعون) مستحيلة الحدوث، لأنه ببساطة إذا كانت الديانة الجبتية متطورة لهذه الدرجة وحاضرة، فليس من المنطق بروز ظاهرة الفرعون في هذا العصر على الأقل، وكما تحدثنا أن ظاهرة الفرعون ليست ظاهرة فردية وإنما ظاهرة مجتمعية يشترك فيها أغلبية المجتمع ليس باعتبار ادعاء الألوهية ولكن بقبول هذا الدعاء وقبول عبادة شخص يتبرز العفن وجعله إله خالق ومنزه... بل إننا عند دراسة المرحلة التاريخية برمتها وفلسفاتها الدينية، فمن المستحيل أن تسمح هذه الحقبة ببروز مثل ظاهرة الفرعون على أي وجه، بل إن الحقبة بكاملها تنفر نفوراً جماعياً متعدد الأوجه، لأنها كانت مرحلة تطور ملحوظ وارتقاء وازدهار في الفكر الديني . بينما في المقابل كانت البيئة العربية خصبة وجاذبة لهذا النوع. يُتبع ... ( قراءة في كتابنا : مصر الأخرى – التبادل الحضاري بين مصر وإيجبت ( (رابط الكتاب على أرشيف الانترنت ): https://archive.org/details/1-._20230602 https://archive.org/details/2-._20230604 https://archive.org/details/3-._20230605 #مصر_الأخرى_في_اليمن): https://cutt.us/YZbAA #ثورة_التصحيح_الكبرى_للتاريخ_الإنساني
#محمد_مبروك_أبو_زيد (هاشتاغ)
Mohamed_Mabrouk_Abozaid#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مصر الملعونة ... (3)
-
مصر الملعونة ... (3)
-
مصر الملعونة ... (2)
-
مصر الملعونة ... (1)
-
تاريخ الفراعنة ومصر العربية البائدة (3)
-
تاريخ الفراعنة ومصر العربية البائدة (3)
-
تاريخ الفراعنة ومصر العربية البائدة (2)
-
تاريخ الفراعنة ومصر العربية البائدة (1)
-
الإسقاط الجغرافي لإقليم مصر بجزيرة العرب (3)
-
الإسقاط الجغرافي لإقليم مصر بجزيرة العرب (2)
-
الإسقاط الجغرافي لإقليم مصر بجزيرة العرب (1)
-
حرب الإسرائيليات في صدر الإسلام (12)
-
حرب الإسرائيليات في صدر الإسلام (11)
-
حرب الإسرائيليات في صدر الإسلام (10)
-
حرب الإسرائيليات في صدر الإسلام (9)
-
حرب الإسرائيليات في صدر الإسلام (8)
-
حرب الإسرائيليات في صدر الإسلام (7)
-
حرب الإسرائيليات في صدر الإسلام (6)
-
حرب الإسرائيليات في صدر الإسلام (5)
-
حرب الإسرائيليات في صدر الإسلام (4)
المزيد.....
-
-معاوية-.. خالد صلاح كاتب المسلسل يوضح الغاية منه
-
وزير الدفاع الأمريكي يرد على هيلاري كلينتون بصورة لها مع لاف
...
-
ممثل شهير يعلق شعار -فلسطين حرة- على صدره خلال حفل -أوسكار-
...
-
زيلينسكي يرد بحدة على سيناتور جمهوري طالبه بالاستقالة
-
ستارمر يرفض إلغاء الدعوة الموجهة لترامب لزيارة بريطانيا
-
بعد المشادة مع ترامب ونائبه.. زيلينسكي يُعلق على موقف أوكران
...
-
ابتكار بخاخ أنفي لمساعدة المصابين بإصابات دماغية رضية
-
رئيس وزراء اليابان حول المشادة بين ترامب وزيلينسكي: لا ننوي
...
-
مسؤول إسرائيلي: المفاوضات ستبدأ بمجرد موافقة -حماس- على مقتر
...
-
أزمة كهرباء وانهيار العملة.. احتجاجات في حضرموت تعكس معاناة
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|