سبينوزا وفلسفة السعادة: طريق العقل إلى الحرية

أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8268 - 2025 / 3 / 1 - 20:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    

مدخل إلى فكر سبينوزا
يُعتبر باروخ سبينوزا أحد أبرز فلاسفة القرن السابع عشر، ورائداً في تقديم رؤية فلسفية متماسكة عن السعادة والحرية. لم يكن سبينوزا مجرد مفكر تأملي، بل كان فيلسوفاً عملياً يرى أن الإنسان قادر على تحقيق السعادة الحقيقية عبر المعرفة والتأمل في الطبيعة. انطلق في رحلته الفكرية متأثراً بفلسفة ديكارت في ثنائية العقل والجسد، لكنه سرعان ما تجاوزها ليصل إلى رؤية أكثر وحدة وانسجاماً مع الطبيعة.
البحث عن السعادة الحقيقية
يقول سبينوزا في رسالته في إصلاح العقل:
“بعد أن علَّمتني التجربة أن كل ما يحدُث في الحياة العادية عبَث وباطل، ورأيتُ أن الأشياء التي كنتُ أخشاها، وكانت تخشاني ليس فيها خيرٌ أو شرٌّ إلا بمقدار ما يتأثَّر به العقل، اعتزمتُ أخيرًا أن أبحث عمَّا إذا كان هنالك شيء يصحُّ أن يكون خيرًا بحق، ويمكن للعقل أن يتأثر به إلى حدٍّ يستغني به عن كل شيءٍ آخر.”
هذا المقطع يعكس رؤية سبينوزا العميقة للحياة، إذ يعتبر أن القيم والمفاهيم التقليدية للسعادة – كالمال والسلطة والشهرة – ليست سوى أوهام مؤقتة لا تحقق السعادة الدائمة. فقد رأى أن الإنسان، كلما زاد تمسكه بهذه الأمور، زادت معاناته إذا فقدها. من هنا، انطلق سبينوزا في البحث عن خير أسمى لا يتأثر بتقلبات الحياة.
الاتحاد مع الطبيعة: مفتاح السعادة
يرى سبينوزا أن الخير الأسمى يتمثل في إدراك الاتحاد بين العقل وسائر الطبيعة. فكلما تعمق الإنسان في فهم قوانين الطبيعة، زادت قدرته على فهم ذاته وتحرير نفسه من الأهواء والانفعالات السلبية. العقل، حين يدرك النظام الكوني، يصبح أكثر قدرة على توجيه حياته وفق قوانينه الخاصة، فيتحرر من المؤثرات الخارجية التي قد تسلبه راحته.
إن سعادة الإنسان، بحسب سبينوزا، لا تتحقق بالخضوع لرغباته أو اتباع مشاعر آنية، بل بتحقيق وعي أعمق للعالم ولذاته. كلما ازدادت معرفة الإنسان بحقيقة الأشياء، كلما تحرر من الوهم والاضطراب، وكلما اقترب من حالة السعادة المتعالية التي لا تخضع للزوال.
السعادة بوصفها تحرراً عقلياً
يخلص سبينوزا إلى أن الطريق إلى السعادة ليس في البحث عن ملذات زائلة، بل في السعي وراء المعرفة العميقة. العقل وحده هو القادر على تحقيق التوازن والحرية الداخلية التي تمنح الإنسان القدرة على مواجهة الحياة بروح متصالحة. فالتحرر العقلي ليس مجرد امتلاك معرفة نظرية، بل هو أسلوب حياة يجعل الإنسان أكثر قدرة على إدارة مشاعره وتوجيه سلوكه بما يتوافق مع قوانين الطبيعة.
خاتمة
فلسفة سبينوزا في السعادة ليست مجرد تأملات نظرية، بل دعوة للإنسان كي يعيد النظر في مفهوم الخير الحقيقي. فالسعادة، وفقاً له، لا تأتي من الخارج، بل من الداخل؛ من فهم الإنسان لذاته وللعالم، ومن تحرره من الانفعالات التي تقيده. إنها حالة من التوازن العقلي والانسجام مع قوانين الكون، حيث يصبح الإنسان سيد نفسه، قادراً على تذوق “فرح المعرفة” بوصفه أسمى درجات السعادة.
المصادر:
1. سبينوزا، رسالة في إصلاح العقل
2. سبينوزا، الأخلاق
3. جوناثان إسرائيل، عصر التنوير الراديكالي

#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات