امان كفا
الحوار المتمدن-العدد: 8268 - 2025 / 3 / 1 - 10:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان بدء عملية إنهاء الحرب في أوكرانيا بعد المكالمة الهاتفية بين ترامب وبوتين، تلاها عقد مفاوضات بين الوفدين الأمريكي والروسي في السعودية دون حضور قادة الدول الأوروبية وأوكرانيا، محور نقاشات وتعليقات جميع وسائل الإعلام هذا الأسبوع. فبعد إعلان السياسة الأمريكية في مؤتمر ميونخ للأمن، والتي تضمنت عدم إرسال جنود أمريكيين إلى أوكرانيا والمفاوضات المباشرة مع روسيا والعلاقات "الودية" بين ترامب وبوتين، وصفت الحكومات ووسائل الإعلام الغربية هذه السياسة بعناوين مثل "عدم كفاءة" و"خيانة" الديمقراطية و"التسامح" مع الديكتاتورية و"الاستسلام أمام هتلر المعاصر"، بل وشبهوها بانقلاب داخل الكتلة الغربية.
وعلى العكس من ضجيجهم الدعائي، لم تكن "الصدمة الكبيرة" للحكومات ووسائل الإعلام الغربية جراء تهميش ترامب لدور أوروبا في المعادلات الدولية، بل جراء الإعلان العلني والرسمي عن ذلك دون أي اعتبار للدبلوماسية بين دول حليفة، والتي كانت تتم عادةً مع الحفاظ على مظهر "الوحدة".
لذلك، لم تكن سياسة ترامب تجاه أوروبا مفاجئة أو غير متوقعة. ففيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، كانت هناك همهمات حول عدم تقدم الكتلة الغربية في هذه الحرب والجمود السياسي والعسكري، والتي لم تكن مرتبطة بسياسة ترامب "غير التقليدية"، بل كانت تتردد منذ فترة. لعدة أشهر، اعترفت غرف التفكير وقادة حكومات الناتو بعدم وجود طريق للمضي قدماً عسكرياً تحت عنوان "انتصار أوكرانيا" في هذه الحرب. حتى حكومة بايدن واجهت صعوبات كبيرة في إقرار آخر حزمة مساعدات لأوكرانيا.
إن المؤتمرات التي نظمتها قوات الناتو والحكومات الغربية الحليفة مثل مؤتمر سويسرا، دون حضور روسيا والصين، ودون تقديم أي حلول مقبولة للخروج من هذه الحرب والأزمة، أظهرت بوضوح فشل السياسات الحربية الغربية في أوكرانيا. إن زيادة إرسال الأسلحة العسكرية والاقتصادية إلى أوكرانيا لمواصلة الحرب، إلى جانب العقوبات المفروضة على روسيا والجو "المناهض لروسيا"، لم يكن لها أي تأثير في تغيير موقف أوكرانيا وتقدمها في الحرب.
بالإضافة إلى الجانب العسكري، فان تحميل تكاليف وأعباء هذه الحرب على جماهير الدول الغربية، وخاصة في أوروبا، دون أي أفق للتقدم أو الانتصار، وضع العديد من المشاكل أمام جميع الحكومات الغربية. أصبحت جماهير أوروبا أكثر احتجاجاً على استمرار الحرب وسياسة التقشف الاقتصادي. إن الاحتجاجات على استمرار الحرب، وعلى الحصار الاقتصادي على روسيا والذي كان في الواقع حصاراً اقتصادياً على الدول الأوروبية، وعلى الآثار المدمرة لهذه الحرب وعلى الأزمة الاقتصادية وسياسة تشديد الأحزمة، والتي نسبت الأحزاب التقليدية والحاكمة في أوروبا جميعها إلى "انتشار النفوذ الروسي في الإعلام الافتراضي"، أصبحت كل هذه في الواقع وقوداً سياسياً للأحزاب اليمينية والفاشية في جميع أنحاء أوروبا لجذب الرأي العام ضد الأحزاب التقليدية، الأحزاب التي جاءت براية السلام والرفاهية الكاذبة.
إن الخروج من هذا الوضع والأزمة كان منذ فترة على جدول أعمال الغرب. كانت المعضلة الرئيسية هي أن الغرب كان يحاول تصوير هزيمته في هذه الحرب على أنها هزيمة لروسيا. لم تلق خطط مثل خطة الصين لـ"سلام هجين" بين روسيا وأوكرانيا موافقة روسيا، حيث أن إنهاء الحرب، مثل بدايتها، لا يتم عبر اتفاق مع أوكرانيا وزيلينسكي، بل فقط مع الغرب عبر معاهدة حول توسع وجود قوات الناتو بالقرب من روسيا، مع ضمانات كاملة من الغرب، وخاصةً من أمريكا. وهكذا، كان بدء نهاية الحرب في أوكرانيا والهزيمة السياسة العسكرية للغرب والناتو واضحة، ويجب أن يتم الردعلى هذه القضية. تمثل رد ترامب بقبول هزيمة الغرب في هذه الحرب، مع إعفاء نفسه من المسؤولية الشخصية. ان هذه هي القضية هي ما أثارت قادة أوروبا.
في هذه الأثناء، ان دموع التماسيح التي ذرفها ترامب حول الدمار الواسع في أوكرانيا وتدمير المواقع التاريخية والمذابح الواسعة للجنود والمدنيين في أوكرانيا، لم تكن ذات قيمة أو تأثير يذكر لدى جماهير العالم التي شهدت خلال هذه الفترة القصيرة مفاوضات ترامب مع طالبان وسياسة التطهير العرقي في غزة وأمر ترحيل ملايين الأشخاص تحت عنوان "مهاجرين غير شرعيين"و التخلي عن حتى الحد الأدنى من الاتفاقيات البيئية وحول الصحة العالمية والهجوم على الحقوق الاجتماعية للناس في أمريكا نفسها. من هذا المنظور، هذه المرة أيضاً، يتم النظر إلى ترامب ليس كشخص بأساليب غير تقليدية، بل كممثل للنخبة الحاكمة الأمريكية وسياساتها في عالم متعدد الأقطاب اليوم. يمثل ترامب اليوم سياسة أمريكا وتركيزها على المنافسة مع الصين وخلق فجوة بين روسيا والصين على الصعيد الاقتصادي ومواجهة مجموعة بريكس، والتي يتم دفعها بشعار "أمريكا أولاً". سياسة تفرض فيها أمريكا رسوماً على جميع طالبي الوصول إلى قوتها العسكرية.
منذ فترة، انتهى عصر الكتلة الغربية المتحدة. بعد انهيار الكتلة الشرقية، ومع هزيمة سياسة إشعال حرب بالوكالة في أوكرانيا ضد روسيا، لم تعد أمريكا تشعر بالالتزام بالحفاظ على صورة الحليف وتكاليف ذلك. اليوم، أصبح الموقف العسكري والاقتصادي لأوروبا، كقطب عالمي، أضعف بشكل واضح في خضم هذه المنافسة العالمية الواسعة. إن ما قام به ترامب، بوعده "باستشارة" قادة أوروبا، دون السماح لهم بالمشاركة في المفاوضات مع روسيا، ليس "انقلاباً" أو "خيانة"، بل فقط تعبير عن هذه الحقيقة دون تزيينها خلف صور قادة "متحدين" و"أقوياء" في المؤتمرات التقليدية.
علاوة على ذلك، ان هذه السياسة الأمريكية ليست "سلمية" ولا تتعقب "إنهاء للحروب"، بل تحمل في طياتها زيادة في العسكرة. هذه المرة، أكدت جميع الحكومات الأوروبية، بزعم "الواقعية"، من حزب العمال في بريطانيا إلى اليمين في إيطاليا أو "المعارضة" لوبان في فرنسا، جميعهم على أهمية زيادة ميزانياتهم العسكرية. ويطالب جميعهم بمراجعة الحصص والميزانيات الوطنية. في مثل هذه الظروف، لم يعد هناك مكان لإثارة المشاعر القومية البريطانية أو الفرنسية أو الألمانية، حيث أن لا واحدة من هذه الدول قادرة على الظهور كقطب عالمي بمفردها، بل فقط في اتحاد أوروبي. ان جوهر القومية و"اليمين المتطرف" بالنسبة للبرجوازية الغربية هو تقليل "التكاليف" التقليدية، أي المكاسب التي فرضتها الطبقة العاملة على الحكومات الأوروبية من خلال احتجاجات واسعة، وسيستمر استخدام هذا السلاح أكثر فأكثر من قبل البرجوازية الحاكمة في هذه الدول.
ما نشهده اليوم فيما يتعلق بـ"السلام في أوكرانيا" والمفاوضات بين أمريكا وروسيا، فبالإضافة إلى الاعتراف بهزيمة سياسة الناتو والغرب تجاه روسيا، هو تمهيد لمفاوضات أوسع بين روسيا وأمريكا والصين حول مناطق نفوذهم. ان نتائج هذه المفاوضات والاتفاقيات المحتملة الناتجة عنها ليست قابلة للتنبؤ بعد، ولكن حتى الآن، يعد انخفاض وزن ومكانة أوروبا بين الأقطاب العالمية وزيادة العسكرة في أجندة البرجوازية ورأس المال العالمي من النتائج الأولى لذلك.
في ظل الظروف التي تواجهها الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية الأخرى من أزمة شرعية من جانب الإنسانية الحرة، في ظل الظروف التي أصبحت فيها أوروبا لسنوات مسرحاً للاعتداء على الحريات السياسية والمدنية للناس، في ظل الظروف التي يسيطر فيها الفقر والبطالة على الغرب، لم يعد من السهل على الحكومات الأوروبية إثارة الضجة حول العودة إلى "الديمقراطية" مقابل "الديكتاتورية" ودفع سياسات التقشف الاقتصادي وإثارة عدم الاستقرار الاجتماعي. اليوم، هناك نضال واحتجاج واسع ضد كل هذا الوضع في أوروبا وأمريكا، وهما في طريقهما إلى التوسع.
في مواجهة المحاربين الذين رفعوا علم "الدفاع عن أوكرانيا" و"الدفاع عن أمن أوروبا" وخنقوا أي احتجاج في المجتمع ضد استمرار الحرب في أوكرانيا، تبين صحة سياستنا نحن الشيوعيين والجماهير الداعية للحرية التي أعلنا منذ البداية، أمام آلات الدعاية البرجوازية الضخمة، أن هذه الحرب ليست حربنا، وعلينا الوقوف من أجل إنهائها فوراً، ومواجهة التضحية بجماهير أوكرانيا. أعلنا أن هذه الحرب ليست من أجل أمن جماهير أوكرانيا، بل هي حرب لدفع السياسة العسكرية للناتو ضد منافسها، روسيا. وقفنا ضد إثارة المشاعر القومية و"تجريم" كل من ولد في روسيا، وأصبح ذلك أكثر وضوحاً من أي وقت مضى.
إن إنهاء هذه الحرب هو الخطوة الأولى فقط لتهيئة الظروف التي تمكن الطبقة العاملة في أوكرانيا من تسوية حساباتها مع البرجوازية الحاكمة هناك. الأمر الذي يواجه هذه الطبقة في أوكرانيا، والذي يواجه العمال في أوروبا وأمريكا وروسيا والصين هو إنهاء هذا النظام بأكمله الذي يصون نفسه فقط من خلال التفرقة والانقسامات الوطنية والدينية في المجتمع.إن دفع هذا الصراع الطبقي، اليوم، بعد ظهور حركة واسعة وإنسانية ضد الإبادة الجماعية في غزة، بعد صحوة الجماهير المحبة للإنسانية في الغرب، وبعد فقدان الحكومات لمصداقيتها، أصبح في وضع أفضل مما كان عليه عندما نشبت الحرب.
#امان_كفا (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟