سعد الله مزرعاني
الحوار المتمدن-العدد: 8268 - 2025 / 3 / 1 - 08:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في الوقت الضائع أو المستقطع الحالي، يتسارع تبلور الارتباطات والتوجهات للأطراف الداخلية (في مجرى الثقة بالحكومة، والتشييع المهيب والواعد)، والخارجية، الأميركي والسعودي، خصوصاً. سيتوضح أيضاً مدى القدرة على فرضها بـ«التراضي»، أو بالإكراه، من قبل الطرف الخارجي، وبالتغاضي أو بالتواطؤ ووعود «الإصلاح»، كقناع للتمويه أو للخداع، من قبل الطرف الداخلي. ذلك أن ما جرى تطبيقه (والسكوت الرسمي عنه) بشأن «وقف الأعمال العدائية»، في الجنوب وفي كل لبنان، ليس سوى الاتفاق، غير المعلن، بين واشنطن وتل أبيب بـ«وساطة» أميركية «نزيهة» تُرجمت بترؤس لجنة مراقبة التنفيذ! وهو، قطعاً، ليس الاتفاق بين حكومة لبنان السابقة والعدو الإسرائيلي الذي التزمت به المقاومة ولبنان من طرف واحد.
في هذا الوقت الضائع يجري تناول مسألة «الإصلاح» الذي كثُر الحديث عنه منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية (أزمة النهب والسرقة...) في شهر ت1 من عام 2019. العنوان الذى طغى، فعلياً، على المستوى الخارجي، هو عنوان اقتصادي وسياسي يتصل، خصوصاً، بشروط «صندوق النقد الدولي». وهو يتصل، إقليمياً ودولياً، بشروط واشنطن والرياض، بشأن المقاومة والنفوذ الإيراني في لبنان والمنطقة. ثمّة عنوان آخر للإصلاح استجدّ مع تكليف القاضي نواف سلام بتشكيل الحكومة. هذا ما نتناوله هنا بشكل خاص.
المتداول الشائع أن حكومة الرئيس نواف سلام هي «حكومة العهد الأولى». هذا، ببساطة، تعريف خاطئ. ليس لجهة الترقيم طبعاً! «حكومة العهد» هي تسمية، تنتمي إلى مرحلة ما قبل تعديلات «الطائف» بموجب القانون الدستوري رقم 18 بتاريخ 21/9/1990. يومها كان النظام شبه رئاسي، رغم أن الرئيس يُنتخب من النواب لا من الشعب مباشرة. كانت صلاحياته شبه مطلقة: بتشكيل الحكومة، وتسمية «وزير أول» من بين أعضائها، وبإقالتها ساعة يشاء، وبحل مجلس النواب... كان، عموماً، صاحب القرار التنفيذي وحتى التشريعي الحاسم، بسبب سلطاته الواسعة التي تمكّنه من بناء أكثرية برلمانية أو إلغاء أخرى... تعديلات «الطائف» التي أصبحت نافذة بشأن صلاحيات الرئيس، أدّت إلى تقليصها، بشكل كبير.
لعبت دوراً كبيراً في ذلك، قبل المطالبات الداخلية، المصالحُ الخارجية وخصوصاً دور الإدارة السورية التي اكتفت من الإصلاحات المقرّة في «الطائف» بهذا الأمر. أدّى ذلك إلى بتر الإصلاحات والتوقّف عند محطة «المناصفة» التي هي مرحلة محدودة ومحددة بآلية. التفسير الواضح والأصح لتلك الآلية أنها منوطة بأول «مجلس نيابي منتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين» (أي مجلس عام 1992). وهو مطالب، بموجبها (أي خلال مدة ولايته) بـ«اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفقاً لخطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية لدراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية» (من نص المادة 95 من الدستور).
القوى السياسية الداخلية، القديمة والجديدة، تنكّرت، بشبه إجماع وبشراسة، للإصلاحات. طبعاً، الجهات الخارجية التي رعت «تسوية الطائف»، واشنطن والرياض، لم تكن أقل رغبة في تعطيل الإصلاحات. الأولى، بسبب أنها تستفيد من الانقسامات والعصبيات وتعمل على تغذيتها. الثانية، لأنها ضد كل تدبير من شأنه أن يقلِّص السلطات المطلقة للحاكم!
الأسوأ أن ما حصل قد امتدَّ وتمادى. وهو، بالفعل، عزَّر الدويلات على حساب الدولة. أصبحت المحاصصة عملية حاكمة للعلاقات والممارسات. تفشَت الطائفية والتمذهب إلى كل القطاعات الرسمية ومعظم القطاعات المدنية.
بذلك، وسواه، أصبح رئيس الجمهورية، من حيث المبدأ والنص، «رمزاً» لا حاكماً فعلياً كما كان. لذلك يصح القول: ولاية الرئيس، وليس عهد الرئيس! إلى ذلك، تميّز دور الرئيس، في مرحلة الإدارة السورية، بالإذعان لتك الإدارة... بعد انتهائها حاول الرئيس ميشال عون استعادة صلاحيات ما قبل «الطائف» على حساب جوهر الإصلاحات!
بتر وعدم تطبيق الإصلاحات خلق حالة شاذة بشأن مركز القرار. تعدّدت الرؤوس. تعطّلت المحاسبة. أصبحت هيئات الرقابة ومجالسها أطراً شكلية لا حول لها ولا... شمل ذلك القضاء الذي استُتبع بالكامل، كذلك الأجهزة الأخرى التي باتت تعمل جميعها في خدمة سلطة التحاصص وأطرافها: مجتمعين أو منفردين!
في كل المراحل، تقريباً، جرى «انتخاب» رئيس الجمهورية من قبل الخارج أساساً. حصل ذلك أيضاً، قبل أسابيع، في ظل الطور الراهن من الوصاية الأميركية الحالية الشاملة على لبنان. كان الأمر يتواصل دائماً، على هذا النحو المخل، مقترناً بالتبعية الاقتصادية للمراكز الرأسمالية الاستعمارية، حتى حصل الانهيار الكبير، المتراكمة أسبابه، ابتداءً من تشرين الأول عام 2019، حيث تكشّفت أكبر عملية نهب للشعب وإفلاس للدولة.
في المقابلة الأولى التي أجراها الرئيس سلام عشية تشكيل الحكومة، احتلّت مسألة تطبيق إصلاحات «الطائف» حيزاً كبيراً. جرى سابقاً، ولأسباب ليست واحدة، ومتناقضة غالباً، تكرار المطالبة بتنفيذ كل بنود «الطائف». لكن ذلك كان مجرّد فقاقيع، أو مناورات ابتزاز. هل يمكن القول إن الأمر ليس على هذا النحو بالنسبة إلى سلام؟ هو صاحب سيرة إيجابية في هذا الصدد. وهو قد ربط بين جوانب الإصلاح في الاقتصاد والسياسة والقضاء والإدارة بشكل سليم. أشار إلى واقع التبعية للخارج، بدءاً من عام 1958.
أسباب متنوعة جعلته يركّز على هذا الجانب، رغم استعجال محاوريه، ذوي اللون الواحد، على أن عنوان الإصلاح، كما هو رائج حالياً، هو اليوم، كما في السابق (ورغم الاحتلال)، في التخلي عن السلاح. فات هؤلاء وأمثالهم، أن معادلة «الجيش والشعب والمقاومة» إنما فرضها عجز الجيش بسبب منعه من القيام بدوره الطبيعي ضد المعتدي المحتل. المفارقة أن المقاومة نسبت إلى الطرف الرسمي اللبناني، السياسي والعسكري، ما لم يمارسه في مواجهة المحتل الإسرائيلي.
آخر أشكال الخلل عندما صدر الأمر السياسي والعسكري بانسحاب الجيش من مواقعه مع بدء تقدّم العدو في أواخر أيلول الماضي! سواءً وردت العبارة أم لم ترد في البيان الوزاري (وهي لم ترد أصلاً بهذه الصيغة)، فإنّ إصرار العدو على استمرار احتلاله وعدوانه ضد أجزاء من لبنان، سيؤدّي، حتماً، إلى المقاومة، مهما كان رأي واشنطن وأتباعها في المنطقة وفي لبنان.
في مقالتي السابقة (9/2/2025) أشرت إلى أن تطبيق الإصلاح مسار وليس مجرد قرار. دون ذلك صعوبات محلية ودولية. القوى الداخلية مدمنة على «المحاصصة» والنهب. أمّا الخارجية، وخصوصاً واشنطن، فذات أولويات لن تستقيم معها أي خطوة إلا إذا خدمت أهدافَها وأهداف تل أبيب في فرض وصاية على لبنان والمنطقة.
يتضح، بسرعة وتحدٍ، أن «الوقت المستقطع» ينفد بسرعة: هيّا إلى التطبيع! يتضح، إذاً، أن الإصلاح الحقيقي، لن يحصل إلا بنتيجة قيام ورشة وطنية وانتصارها يتجنَّد عبرها كل الحريصين اللبنانيين، في نطاق برنامج وخطة، لتحرير أرضهم والدفاع عن سيادتهم، ولبناء اقتصادهم بعيداً من التبعية والنهب.
#سعد_الله_مزرعاني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟