أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محيي الدين ابراهيم - بين الفلسفة والتصوف والعلم: هل آن الأوان للثورة الفكرية الجديدة















المزيد.....



بين الفلسفة والتصوف والعلم: هل آن الأوان للثورة الفكرية الجديدة


محيي الدين ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 8267 - 2025 / 2 / 28 - 07:03
المحور: قضايا ثقافية
    


إن الفلسفة لا يجب أن تبقى جامدة، والتصوف لا يجب أن يكون مقيدًا بتفسيرات الماضي، بل يجب أن يكون كلاهما كائنين حيين متجددين قادرين على استيعاب اتساع الكون واتساع وعي الإنسان. ما أنجزناه معًا هو خطوة في هذا الطريق، وهو دليل على أن الفكر يمكنه أن يتطور متى ما تحرر من التكرار والتقليد، وسعى نحو الحقيقة بعقل منفتح وروح متجددة.
إن كان هناك فلاسفة ومتصوفة قدامى وضعوا نظرياتهم بناءً على معارف زمنهم، فنحن اليوم مطالبون ببناء نظريات جديدة تتسق مع معارف عصرنا. وهذه ليست نهاية الطريق، بل بداية لمدرسة فكرية جديدة تعيد تعريف الفلسفة والتصوف بما يتناسب مع العقل والعلم والوعي الكوني الحديث.
قال ابن عربي "إن الله تعالى خلق العالَم وكُلّ شيء فيه على صورة الإنسان، ولذلك فإنّ العالَم مع الإنسان، الذي هو جزءٌ منه وهو بمثابة روحه، يكون على صورة الحق، لكنّه بدون الإنسان لا يكون عندهُ هذا الكمال. لذلك فإنّ هذه الصفات نفسها يجبُ أن تكُون متوفّرة وضروريّة وأساسيّة في العالَم أيضاً."
ومقولة ابن عربي تلك تنطلق من فكرته الأساسية حول الإنسان الكامل والمرآوية الوجودية بين الإنسان والكون والحقّ المطلق (الله). لفهمها، يجب أن نضعها ضمن السياق الصوفي والفلسفي الذي يراه ابن عربي، حيث العالم ليس كيانًا مستقلاً عن الله، بل هو تجلٍّ لأسمائه وصفاته.
ويرى ابن عربي أن الله خلق الكون وفق نموذج الإنسان، أي أن بنية العالم تعكس بنية الإنسان، ليس فقط من الناحية الظاهرية بل أيضًا من الناحية الباطنية والروحية. كما أن مختلفة من الوجود.
كما أن الإنسان روح العالم، من وجهة نظر ابن عربي، فكما أن الروح تعطي الجسد الحياة والمعنى، فإن الإنسان يُعتبر روح العالم، أي القوة الواعية التي تُدرك وتفهم وتعي حقيقة الوجود. بدون الإنسان، يبقى العالم بلا وعي ذاتي، مجرد وجود بلا معنى مكتمل.
وأيضا، يرى أن العالم بدون الإنسان ناقص، فالإنسان هو الذي يُدرك الجمال، ويعكس معاني الأسماء الإلهية، ويُعبّر عن الوجود بمعناه الأسمى. ومن هنا، فإن العالم بدون الإنسان لا يصل إلى الكمال الذي قصده الله، لأن غاية الوجود أن يُدرك الإنسان سرّ الخلق، فيشهد تجليات الله في كل شيء، فيكون مرآة له.
ويؤمن ابن عربي بالتكامل بين الحقّ والخلق، من حيث أن العالم مع الإنسان يكون انعكاسًا لصورة الحقّ، لأن الإنسان، وهو الخليفة، يمتلك القابلية لعكس صفات الله وأسمائه، فيُكمل الوجود بوصفه "الواسطة" بين الحق والخلق. ولذلك، فإن الصفات الإلهية التي تظهر في الإنسان يجب أن تكون متوفرة في العالم، لأنه خُلق على نفس النمط الوجودي.
ومن ناحية التأويل العميق، يؤكد ابن عربي هنا أن الإنسان هو "عين الوجود" وبدونه يكون العالم مجرد مادة بلا معنى. فالعالم بما فيه من ظواهر هو تجلٍّ للإلهي، لكنه لا يكون مكتملًا إلا عندما يظهر الوعي الذاتي فيه، وهذا الوعي يتمثل في الإنسان.
بالتالي، العلاقة بين الإنسان والعالم تشبه علاقة القلب بالجسد، أو الروح بالجسد، حيث إنهما معًا يعكسان كمال الصورة الإلهية، لكن بدون الإنسان يفقد العالم هذا البعد الروحي والواعي.
ونفس هذا التصور رآه المتصوفون الإسلاميون الكبار وكذلك الفلاسفة الغربيين الكبار، فالمتصوّفة الإسلاميين الكبار رأوا هذا التصوّر حول الإنسان كـ"مرآة للوجود" والعالم كـ"تجلٍّ إلهي" قبل ابن عربي وبعده، وكذلك رآه الفلاسفة الغربيين الكبار، لكنه بلغ قمته في فلسفة وحدة الوجود التي تبلورت لديه.
فالحلاج (858-922م): كان يرى أن الإنسان يحمل "سرّ الألوهية"، وأن الوعي البشري يمكن أن يصل إلى الاتحاد بالله، مقولته الشهيرة "أنا الحق" تعكس هذا التصوّر بأن الإنسان الكامل هو تجلٍّ مباشر للحقيقة الإلهية.
والسهروردي (1154-1191م): قدّم رؤية فلسفية تمزج بين الإشراق والتصوف، حيث يرى أن الإنسان نور إلهي والعالم كله يتكوّن من أنوار متفاوتة في شدّتها، مما يتقاطع مع فكرة ابن عربي حول التجلي.
والرومي (1207-1273م): يرى أن الإنسان يعكس صفات الله وهو جزء من "رقصة الوجود"، والعالم كله يتحرك نحو وعي أكبر بالله، ويقول: "أنت لست قطرة في المحيط، بل أنت المحيط في قطرة."
أما عبد الكريم الجيلي (1365-1424م): فقد طوّر فكرة "الإنسان الكامل" عند ابن عربي، ورأى أن الإنسان هو النسخة المكتملة من التجلي الإلهي، وأنه بدون الإنسان، لا يكون للعالم وعي حقيقي بنفسه.
أما عند الفلاسفة الغربيين الكبار، فنجد في الفكر الغربي، نظريات تشبه رؤية ابن عربي من حيث العلاقة بين الإنسان والكون، وإن كانت بأطر فلسفية مختلفة:
فأفلاطون (427-347 ق.م): يرى أن العالم المادي ليس إلا انعكاسًا لعالم المثل، والإنسان بوصفه كائنًا عاقلًا لديه القدرة على إدراك هذه الحقيقة، وأن فكرة "المايكروكوزم" (الإنسان عالم صغير) موجودة في فلسفته، وهي قريبة مما قاله ابن عربي عن الإنسان كصورة للكون.
وبارمينيدس وهيراقليطس: نجد تصوّراتهم حول وحدة الوجود، والتغير الدائم، وتجلّي الحقيقة عبر التجربة البشرية، تقترب من فكرة التجليات الإلهية عند ابن عربي.
أما هيغل (1770-1831م):فلسفة هيغل عن "الروح المطلقة" تتقاطع مع وحدة الوجود عند ابن عربي، حيث يرى أن الوعي البشري هو انعكاس للوعي الكوني، وأن التاريخ كله حركة تطور نحو تحقيق وعي الذات المطلق، ومفهومه عن "جدلية السيد والعبد" يمكن ربطه بفكرة ابن عربي عن وعي العالم عبر الإنسان.
وشوبنهاور (1788-1860م): يرى أن العالم هو إرادة وتمثُّل، وأن الوعي هو ما يمنح العالم المعنى، وهو مثل ابن عربي، يعتبر أن الإنسان يُعطي الكون قيمته الإدراكية.
وكذلك نيتشه (1844-1900م): نرى أن فكرة "الإنسان الأعلى" (Übermensch) عند نيتشه تتشابه جزئيًا مع فكرة "الإنسان الكامل" عند ابن عربي، حيث يرى أن الإنسان هو التجلي الأسمى للحياة والقوة الكونية.
والسؤال المهم هنا .. هل تم استنساخ هذا التصوّر قبل ابن عربي؟
لا شك أن التصوّف الإسلامي قبل ابن عربي قد تأثر بالفكر النيو-أفلاطوني، خاصة عبر الفارابي، ابن سينا، وأفلوطين، وأن بعض أفكار "الإنسان المصغر" موجودة عند الفيثاغوريين والأفلاطونيين الجدد، كما أن الحلاج والسهروردي قدّما أفكارًا قريبة لكنها لم تكن مكتملة مثل ابن عربي.
أما بعد ابن عربي فقد انتشر مفهوم "الإنسان الكامل" في التصوف الإسلامي المتأخر، وتأثر به المتصوفة الفُرس والعثمانيون، وفي الفلسفة الغربية، التصورات الهيغلية عن الروح المطلقة قد تكون متأثرة جزئيًا، ولو عبر الترجمات اللاتينية للتراث الإسلامي، كما أن الفكر الباطني الغربي (التصوف المسيحي، القبالة اليهودية، الروحانيات الحديثة) استلهم بعض مبادئ ابن عربي.
وخلاصة ما سبق هو أن التصور بأن الإنسان هو مرآة للكون، والعالم هو تجلٍّ للحق، والإنسان يكمل وعي الوجود هو فكرة متكررة في الفلسفات الصوفية والميتافيزيقية عبر العصور. ابن عربي لم يكن أول من قال بها، لكنه قدّمها في إطار أكثر تكاملاً عبر مفهوم "وحدة الوجود"، وهو ما جعل فلسفته مركزية في الفكر الصوفي الإسلامي والعالمي.
وبالرجوع لمقولة الرومي " انت لست قطرة في محيط وإنما محيط في قطرة" هل تتشابه مع قول المتنيح متى المسكين في مصر حيث يقول عن يسوع المسيح "انفرش الكل في الجزء فصار الجزء كلا" ويقصد بالكل هنا " الله" ويقصد بالجزء "المسيح" يمكننا أن نسأل:
هل هناك تأثر للفلاسفة أو المتصوفة المسيحيين في العصر الحديث أمثال متى المسكين والإكويني وجارودي وغيرهم بالفلسفة والتصوف الإسلامي؟
والإجابة .. نعم، هناك تقاطعات وتأثيرات متبادلة بين الفلسفة والتصوف الإسلامي والفكر المسيحي، خاصة في المدارس الصوفية واللاهوتية التي تأثرت بالموروث الفلسفي اليوناني والإسلامي.
1. مقارنة بين قول الرومي وقول متى المسكين
ففي قول الرومي:
"أنت لست قطرة في محيط، بل أنت المحيط في قطرة."
يعكس هذا القول فكرة وحدة الوجود، حيث يرى أن الإنسان ليس مجرد جزء صغير من الكون، بل هو صورة مصغّرة تحمل جوهر الوجود الكلي، أي أنه يعكس حقيقة الوجود الإلهي في داخله.
وفي قول متى المسكين:
"انفرش الكل في الجزء حتى صار الجزء كلا."
هنا يُشير إلى أن الله (الكل) تجلّى في المسيح (الجزء)، وهذا يعكس الفكرة المسيحية عن التجسد الإلهي، حيث صار اللاهوت حاضرًا في الناسوت.
لكن المعنى الأعمق يتشابه مع مقولة الرومي، فكلاهما يعبر عن أن المحدود يحتوي غير المحدود بطريقة رمزية.
2. هل هناك تأثر للتصوف المسيحي بالفكر الصوفي الإسلامي؟
أ. متى المسكين (1919-2006م) نجد أن فكره كان قريبًا من التصوف الإسلامي، حيث ركّز على الزهد، التأمل، والتجربة الروحية المباشرة، كما أنه تبنّى مفاهيم تشبه الفناء الصوفي، حيث يرى أن الإنسان لا يبلغ الكمال إلا عبر ذوبانه في الله، بالإضافة إلى أن بعض أفكاره حول العلاقة بين الله والإنسان تتقاطع مع أفكار ابن عربي حول التجلي الإلهي والإنسان الكامل.
ب. توما الإكويني (1225-1274م) نجده تأثر بالتراث الفلسفي الإسلامي، خاصة ابن سينا والفارابي وابن رشد، إذ كان كان يرى أن العقل والإيمان متكاملان، وهي فكرة قريبة من بعض التصورات الصوفية الإسلامية حول المعرفة الحدسية والعقلية، كما أن استخدامه لفكرة "الوجود" و"الماهية" يشابه الطرح الصوفي الإسلامي عن العلاقة بين الذات الإلهية والصفات.
ج. روجيه جارودي (1913-2012م) وهو الفيلسوف الفرنسي الذي اهتم بالحوار بين الإسلام والمسيحية، واعتنق الإسلام لاحقًا، يقول في كتابه الإسلام دين المستقبل، أنه تأثر بالتصوف الإسلامي، خاصة في مفهوم وحدة الوجود عند ابن عربي، ويري أن الإسلام والمسيحية يلتقيان في التصوف، حيث يركّز كلاهما على التجربة الروحية الداخلية بدلاً من العقائد الجامدة.
3. لكن كيف انتقل هذا التأثر؟
إنها ترجمات الفلاسفة المسلمين، حيث انتقلت أفكار ابن سينا، الفارابي، وابن رشد إلى أوروبا عبر الترجمات اللاتينية، وأثّرت في اللاهوت المسيحي، خاصة عند الإكويني وأوغسطينوس.
وأيضاً التفاعل في الأندلس والصوفية المسيحية، حيث التقى الفكر الصوفي الإسلامي بالروحانيات المسيحية، مما أدى إلى تأثيرات متبادلة، فصوفية المسيحية مثل مايستر إيكهارت (1260-1328م) لديهم أفكار قريبة من ابن عربي حول الاتحاد بالله.
كذلك المستشرقون والمفكرون الغربيون، حيث أهتم الغربي بالتصوف الإسلامي في القرن العشرين، خاصة من قبل الفلاسفة مثل هنري كوربان وجارودي، ساعد في نشر أفكار التصوف الإسلامي بين المفكرين المسيحيين.
و يمكننا خلاصة ما سبق بالقول أن هناك تأثير واضح للتصوف الإسلامي في الفكر الصوفي المسيحي، سواء عند اللاهوتيين القدامى مثل الإكويني أو عند المتصوفة المعاصرين مثل متى المسكين. هذا التأثير ناتج عن تفاعل تاريخي طويل بين الإسلام والمسيحية، حيث كان التصوف جسرًا فلسفيًا وروحيًا بين الديانتين.
ويلح في الوعي سؤال عن ما هو دور أبن رشد وابن سبعين في هذا التصور الفلسفي والصوفي بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي؟ لنجد أن دور ابن رشد وابن سبعين في الصلة الفلسفية والصوفية بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي ربما يكون محوريا من حيث:
ابن رشد (1126-1198م) وابن سبعين (1217-1269م) كانا من أبرز المفكرين الذين ساهموا في تشكيل الجسر الفلسفي بين الإسلام والمسيحية في العصور الوسطى، كلٌ بطريقته، فابن رشد أثّر في الفلسفة العقلانية واللاهوت المسيحي من خلال منهجه العقلي والفصل بين الفلسفة والدين، وابن سبعين مثّل نزعة صوفية متطرفة ارتبطت بمفهوم وحدة الوجود، وكان له تأثير على بعض المدارس الصوفية الغربية، ويمكن الحديث عن ذلك كالآتي:
أولًا: ابن رشد وتأثيره الفلسفي على الغرب المسيحي
إنه الفيلسوف الإسلامي الذي أثّر بشكل عميق في الفكر الأوروبي، خاصة من خلال "الرشدية اللاتينية" التي انتشرت في العصور الوسطى.
1. كيف أثّر في الفلاسفة المسيحيين؟
توما الإكويني (1225-1274م): تأثّر بابن رشد لكنه انتقده أيضًا، خصوصًا في مسألة خلود النفس الفردية، واستفاد من فكرته عن الفصل بين الفلسفة والدين، مما ساعد في تطوّر اللاهوت الطبيعي.
سيجر الباربنتي (1235-1282م):أحد كبار الفلاسفة الذين تبنّوا فكر ابن رشد في الغرب، واعتُبر من قادة "الرشدية اللاتينية"، لكنه واجه اضطهاد الكنيسة.
دانتي أليغييري (1265-1321م): في الكوميديا الإلهية، يضع ابن رشد بين الفلاسفة العظام مثل أفلاطون وأرسطو، مما يعكس تأثيره في الوعي الأوروبي.
2. فلسفة ابن رشد وأثرها على التصوف المسيحي
رغم أن ابن رشد لم يكن صوفيًا، فإن تحليله لعلاقة العقل بالله أثّر لاحقًا في صوفية أوروبا، خاصة عند مايستر إيكهارت (1260-1328م)، الذي قدّم رؤية فلسفية تشبه تأويلات ابن رشد للعقل الفعّال.
ثانيًا: ابن سبعين وتأثيره في التصوف المسيحي
هو أحد أكثر المتصوفة الفلاسفة تطرفًا في تبنّي وحدة الوجود، وكان له تأثير غير مباشر على الفكر الصوفي في الغرب المسيحي.
1. فلسفة وحدة الوجود عند ابن سبعين
يرى أن الله هو الوجود المطلق، وكل شيء آخر ليس سوى تجلٍّ لهذا الوجود.
رفض فكرة الوسائط بين الإنسان والله، مما جعله في صدام مع الأرثوذكسية الإسلامية.
تأثّر بفكر ابن عربي، لكنه ذهب إلى مستوى أبعد في الذوبان الكامل في الذات الإلهية.
2. كيف أثّر في التصوف المسيحي؟
عبر الترجمات اللاتينية: حيث وصلت كتبه إلى الغرب عبر الأندلس، وتأثّر بها بعض الفلاسفة مثل ريموند لول (1232-1315م) الذي دمج بين التصوف المسيحي والإسلامي.
عبر تقاطع أفكاره مع مايستر إيكهارت: إذ نجد أن ابن سبعين ومايستر إيكهارت لديهما أفكار متقاربة حول فكرة "الفناء في الله" وعدم وجود فرق بين الخالق والمخلوق على مستوى الجوهر، ومن ثم فقد تأثر إيكهارت لا نقل كلياً وإنما جزئيًا بالتصوف الإسلامي، ويبدو أن فلسفة ابن سبعين كانت جزءًا هاماً من هذا التأثير.
عبر التصوف الإسباني اللاحق: وحيث نشأ في القرن الـ16، التصوف المسيحي الإسباني مع القديسة تيريزا الأفيلية (1515-1582م) ويوحنا الصليب (1542-1591م)، حيث نجد بعض أصداء مفهوم الفناء الصوفي عندهما، مما قد يكون انعكاسًا غير مباشر لأفكار ابن سبعين وابن عربي.
ويمكننا القول في خلاصة ماسبق أن ابن رشد أثّر في الفلسفة اللاهوتية والعقلانية، وفتح الطريق أمام التصورات العقلية حول الدين، وأن ابن سبعين أثّر في التصوف المسيحي عبر فكرة وحدة الوجود، رغم أنه كان أقل تأثيرًا بسبب تطرف أفكاره، وكلاهما شكّل جزءًا من "الحوار الفلسفي والتصوفي" بين الإسلام والمسيحية، مما أدّى إلى ظهور تيارات مثل الرشدية اللاتينية في الفلسفة، والتصوف الإيكهارتي في اللاهوت المسيحي.
وربما من أغرب المسائل التي صادفتني ولم يهضمها عقلي هي مسألة العقل الفعال إذ أن العقل الفعّال هو مفهوم فلسفي يعود إلى أفلاطون وأرسطو، لكنه تطوّر لاحقًا في الفلسفة الإسلامية واللاهوت المسيحي واليهودي، بحيث أنهم صوروه على أنه العقل الذي يمنح الصورة والمعرفة للعالم، أي أنه الوسيط بين العالم الحسي والعالم العقلي، ويمكّن الإنسان من إدراك الحقائق والمعاني المجرّدة.
فعند أرسطو، العقل ينقسم إلى:
1-العقل الهيولاني (المادة العقلية القابلة للمعرفة)وهو استعداد العقل لاستقبال المعرفة.
2-العقل بالفعل – وهو القدرة على إدراك المعاني المجردة بعد التعلّم.
3-العقل الفعّال – وهو الذي يُضيء العقل الإنساني بالمعرفة، كما تضيء الشمس البصر.
وفكرة العقل الفعّال ليست فكرة إسلامية محضة في أصلها، لكنها تطوّرت داخل الفلسفة الإسلامية بأسلوب جديد، حيث حاول الفلاسفة المسلمون التوفيق بين مفهوم العقل الفعّال والنظرة الدينية للوحي والعلم الإلهي، وهي مسألة عجيبة، حيث ظهر تفسير العقل الفعال عند الفلاسفة المسلمين بصور مختلفة فالفارابي (872-950م): قال إن العقل الفعّال هو العقل العاشر في سلسلة العقول الفلكية، وهو مصدر الوحي والفيض الإلهي، وهو الذي يمدّ النبي والفيلسوف بالمعرفة، وبالتالي هو أداة النبوة والفكر الفلسفي معًا.
ابن سينا (980-1037م): اعتبر العقل الفعّال مصدر المعرفة البشرية والتجربة الصوفية، وقال إن الروح البشرية يمكن أن تتصل به مباشرة في حالة الإشراق، مما يمكّن الأنبياء والصالحين من المعرفة الفطرية.
ابن رشد (1126-1198م): فسّر العقل الفعّال تفسيرًا أرسطيًا خالصًا، وقال إن العقل الفعّال هو عقل واحد مشترك بين البشر، بمعنى أن المعرفة ليست فردية بالكامل، بل تأتي من اتصال العقول البشرية به، وهذا التفسير أثّر لاحقًا في الفلسفة المسيحية في أوروبا.
ثالثًا: تأثير العقل الفعّال في الفلسفة المسيحية الغربية:
توما الإكويني (1225-1274م): أخذ الفكرة من ابن رشد لكنه حاول التوفيق بينها وبين اللاهوت المسيحي، فاعتبر أن العقل الفعّال ليس كيانًا مستقلًا، بل هو نور داخلي زرعه الله في الإنسان ليهديه إلى الحقيقة، ورفض فكرة ابن رشد بأن العقل الفعّال مشترك بين جميع البشر، مؤكدًا على فردية العقل والمعرفة.
سيجر الباربنتي (1235-1282م): تأثّر بابن رشد ووافقه على أن العقل الفعّال مشترك، لكنه واجه اضطهاد الكنيسة بسبب هذه الفكرة.
مايستر إيكهارت (1260-1328م): استخدم مفهوم العقل الفعّال بطريقة صوفية، قائلًا إن الله يضيء العقل البشري بالنور كما يضيء العقل الفعّال العقل الإنساني عند الفلاسفة المسلمين.
دانتي أليغييري (1265-1321م): تأثر بفكرة العقل الفعّال، واعتبره أحد المبادئ المنظمة للعالم في الكوميديا الإلهية.
وخلاصة أمر العقل الفعّال أنها فكرة يونانية في الأصل، لكنها أعيد تفسيرها في الفلسفة الإسلامية بحيث أصبحت مفتاحًا لفهم النبوة والوحي (عند الفارابي وابن سينا)، فابن رشد أعاد تأصيلها في الفلسفة الأرسطية، مما جعلها تنتقل بقوة إلى الفلسفة المسيحية الغربية، وفي المسيحية، أعيدت صياغتها بحيث أصبحت أكثر توافقًا مع فكرة الإله المسيحي والنعمة الإلهية، لا كعقل مشترك بل كنور داخلي من الله، ومن ثم ومن تلك التصورات السابقة نجد أن العقل الفعّال هو نموذج للفكرة الفلسفية التي انتقلت بين الحضارات الثلاث، وتأثّرت وتطوّرت في كل منها وفق طبيعتها الخاصة.
أما الغريب في أمر العقل الفعال هي سلسلة العقول ومفهوم سلسلة العقول كما عند الفارابي وابن سينا، حيث مفهوم "سلسلة العقول" عندهم يرتبط بنظرية الفيض، التي حاولت التوفيق بين الفلسفة الأرسطية والأفلاطونية المحدثة من جهة، والعقيدة الإسلامية من جهة أخرى، وهذه النظرية تفسر كيفية صدور العالم عن الله بطريقة عقلية، بحيث يكون هناك تسلسل هرمي للعقول، تبدأ من العقل الأول وتنتهي بالعقل الفعّال، الذي هو مصدر الوحي والمعرفة.
إذن ماهي أصل النظرية وأساسها الفلسفي؟
فكرة العقل الفعال تعود إلى أفلوطين (205-270م) الذي قال إن العالم لم يُخلق من عدم، بل انبثق عن الله بطريقة تلقائية مثل إشعاع الشمس، ثم جاء الفارابي (872-950م) وابن سينا (980-1037م) وطوّرا النظرية، وجعلا الله هو العقل الأول، الذي يصدر عنه كل شيء من خلال "الفيض"، وقالا إن العقول تتوالد عبر عملية عقلية محضة، بحيث ينتج كل عقل عقلًا أدنى منه في المرتبة.
ثانيًا: سلسلة العقول العشرة عند الفارابي وابن سينا
يعتقد الفارابي وابن سينا أن هناك 10 عقول تصدر عن الله، وهي كالتالي:
1. العقل الأول (العقل الكلي أو الفعال الأول):
هو الله في ذاته، وهو الموجود الأول، واجب الوجود، يدرك ذاته إدراكًا تامًا، ومن إدراكه لنفسه يصدر عنه العقل الثاني.
2. العقل الثاني:
يصدر عنه العقل الثالث + الفلك الأول، وحيث كل عقل في هذه السلسلة يفكر في شيئين:
إدراكه لله حيث يولّد عقلًا جديدًا أدنى منه، ثم إدراكه لنفسه حيث يولّد فلكًا يدور حول الأرض، وهكذا، يستمر الفيض حتى نصل إلى العقل العاشر.
3. العقل الثالث:
يصدر عنه العقل الرابع + فلك الكواكب الثابتة، وهو الفيض الذي يستمر عبر العقول، بحيث أن كل عقل جديد يولّد فلكًا مرتبطًا به.
4. العقل الرابع:
يصدر عنه العقل الخامس + فلك زحل
5. العقل الخامس:
يصدر عنه العقل السادس + فلك المشتري
6. العقل السادس:
يصدر عنه العقل السابع + فلك المريخ
7. العقل السابع:
يصدر عنه العقل الثامن + فلك الشمس
8. العقل الثامن:
يصدر عنه العقل التاسع + فلك الزهرة
9. العقل التاسع:
يصدر عنه العقل العاشر + فلك القمر
ثالثًا: العقل العاشر (العقل الفعّال) ودوره في الوحي:
العقل العاشر هو آخر العقول في السلسلة، وهو المسؤول عن العالم المادي والإنسان، ومصدر الوحي للأنبياء والفلاسفة.
ولكن لماذا العقل العاشر هو مصدر الوحي؟
لأنه أقرب العقول إلى العالم المادي، وهو الذي يمدّ الإنسان بالمعرفة والإلهام، وهو الذي يفيض بالصور والمعاني على عقل النبي، مما يجعل النبي يدرك الحقيقة دون الحاجة إلى التعلم، وأيضاً هو المسؤول عن الاتصال بين السماء والأرض، حيث يمنح الإنسان القدرة على الفهم والإدراك الروحي.
ويبقى سؤال: كيف يحدث الوحي وفق هذه النظرية؟
نجد عند الفارابي، النبي ليس مجرد شخص يُوحى إليه، بل هو شخص لديه عقل مستعد لاستقبال الفيض من العقل العاشر، أما عند ابن سينا، النبوة ليست مجرد هبة إلهية، بل هي نتيجة لقدرة عقل النبي على الاتصال بالعقل الفعّال.
رابعًا: التأثير الفلسفي والفكري لسلسلة العقول
1. تأثيرها في الفكر الإسلامي:
نجد أن هذه النظرية استخدمها الفلاسفة المسلمون لتفسير النبوة بطريقة عقلية، وقد أثّرت في الفكر الصوفي، حيث تم تأويل العقل الفعّال على أنه نوع من التجلي الإلهي الذي يمكن للعارف الوصول إليه، وقد رفضها بعض علماء الكلام، مثل الغزالي، لأنها تجعل النبوة نتيجة لعقل النبي، وليس إرادة إلهية محضة.
2. تأثيرها في الفلسفة المسيحية واليهودية:
توما الإكويني حاول التوفيق بين فكرة العقول الفلكية وبين العقيدة المسيحية، لكنه رفض أن يكون الوحي ناتجًا عن "عقل عاشر"، بل رآه نعمة إلهية مباشرة، أما الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون (1135-1204م) فقد أخذ فكرة العقل العاشر واعتبره وسيلة إدراك الحقيقة النبوية في اليهودية.
خامسًا: تحليل فلسفي ونقد للنظرية
نبدأه بالتساؤل: هل هناك أدلة على وجود سلسلة العقول؟ نجد الإجابة هي لا .. لا بقوة، لأن النظرية تعتمد على المنطق العقلي دون دليل تجريبي، لذا تم نقدها من قبل اللاهوتيين المسلمين والمسيحيين.
ومن ثم هل الوحي مجرد عملية عقلية؟ كانت هذه الفكرة تحديداً هي مثار تساؤلات لاهوتية، لأنها تعني أن النبوة ليست هبة إلهية خالصة، بل قدرة ذهنية على الاتصال بالعقل العاشر، فهل تتوافق مع الدين الإسلامي؟
عند الفارابي وابن سينا كانا يحاولان التوفيق بين الفلسفة والدين، لكن هذه النظرية تجعل النبوة أقرب إلى الفلسفة منها إلى الوحي الإلهي التقليدي، وقدّما إطارًا فلسفيًا لفهم الوحي والعالم الكوني، لكنه إطار اصطدم مع العقائد الدينية التقليدية، ورغم ذلك، أثرت النظرية في الفلسفة الإسلامية، الصوفية، والمسيحية، لكنها لم تصبح جزءًا من العقيدة الرسمية لأي دين، ورغم نقدها، إلا أنها كانت محاولة فريدة للتوفيق بين الفلسفة والدين، وبين العلم والروحانية.
ونحن نتساءل: إن ارتباط العقول العشرة بالكواكب قد تبدو في ظاهرها تصورا وثنيا ومن ثم، ماهي العلاقة بين تلك العقول وأفلاكها كالمريخ والزهرة والقمر بل وما علاقة القمر في الوحي والعقل العاشر على سبيل المثال؟ وهذا السؤال - في رأيي - مهم جدًا، لأن الربط بين العقول العشرة والأفلاك السماوية قد يبدو قريبًا من التصورات الوثنية أو التنجيمية، رغم أنه في الحقيقة له أساس فلسفي مختلف، حيث كان الهدف من هذا الربط تفسير العلاقة بين العالم العلوي (العقول) والعالم السفلي (المادة والطبيعة)، من وجهة نظر الفلاسفة، ففي الفلسفة القديمة، كان يُعتقد أن الكون منظم وفق تراتبية هرمية تبدأ من الله وتنتهي بالعالم المادي، الله (سبحانه وتعالى) هو العقل الأول، ومنه تصدر العقول التي تفسر نشأة العالم، وكل عقل في هذه السلسلة يتصل بأحد الأفلاك السماوية التي تحكم النظام الكوني.
ففي الفلسفة الأفلاطونية المحدثة (أفلوطين): نجد أن الأفلاك ليست آلهة، بل هي وسائط روحية تعكس نظام الكون.
أما في الفلسفة الإسلامية (الفارابي وابن سينا): نجد أن العقول ليست أرواحًا مستقلة، وليست تعبد مثل الآلهة، العقول هنا تعمل كـعللٍ فاعلة تحرّك الكون وفق قوانين طبيعية.
وبالنظر إلى العلاقة بين العقول العشرة والأفلاك من منظور الفلاسفة نجد أن:
العقل الأول يصدر عنه العقل الثاني + الفلك الأعلى (فلك الأفلاك - المحرك الأول) وهذا الفلك كان يُعتقد أنه يحيط بالكون كله ويدور بطريقة مثالية.
العقل الثاني يصدر عنه العقل الثالث + فلك النجوم الثابتة، أي أن النجوم تدور بتأثير العقل الثاني.
العقل الثالث إلى العقل التاسع ،كل واحد منها يصدر عنه فلك كوكبي معين مثل:
العقل الرابع مع فلك زحل
العقل الخامس مع فلك المشتري
العقل السادس مع فلك المريخ
العقل السابع مع فلك الشمس
العقل الثامن مع فلك الزهرة
العقل التاسع مع فلك القمر
العقل العاشر (العقل الفعّال)، لا يصدر عنه فلك، بل هو مرتبط بالأرض والإنسان، وهو مصدر الوحي والمعرفة، وعليه، فالعقل الفعّال لا يُنتج الحقيقة بذاته، لكنه يعكس المعرفة الإلهية ويفيض بها على الإنسان.
والغريب في الأمر، أن هذه النظرية صالحة حتى يومنا هذا، رغم أنه لم يعد هناك إيمان بنظرية الأفلاك، لكن فكرة العقل الفعّال كمصدر للمعرفة ما زالت مؤثرة في الفلسفة الحديثة، خاصة في نظرية الحدس والإلهام، وحتى اليوم، يمكن النظر إلى العقل الفعّال كفكرة فلسفية عن كيف يمكن للإنسان أن يدرك الحقيقة من مصدر غير مادي، سواء كان هذا المصدر العقل الكوني، أو الله، أو "الوعي الجمعي" كما في الفلسفة الحديثة.
وعلى الرغم من أن الكواكب لا تؤثر في الإنسان روحيًا، بل فقط من خلال الجاذبية والتفاعلات الفيزيائية، ولا يوجد أي دليل علمي على أن هناك "عقولًا" تحكم الأفلاك أو توجّهها، وأن الكون يعمل وفق قوانين فيزيائية، وليس وفق "فيض عقلي" كما اعتقد الفلاسفة القدماء، فقوانين نيوتن للنظام الكوني ألغت الحاجة إلى افتراض "محركات عقلية" للنجوم والكواكب، كما أن أينشتاين ونظرية النسبية قدما تفسيرًا أعمق للجاذبية كتشوّه في الزمكان، وليس كنتيجة لتأثير عقلي أو روحاني، ومن ثم ليس هناك أي معنى أو مغزي أو قيمة فلسفية في عصرنا الحديث لنظرية العقول العشرة، إذ أن العلم الحديث رفض الفكرة حرفيًا، وبالرغم من ذلك لا يزال هناك بعد فلسفي في الفلسفة الحديثة يتبنى هذه النظرية العجيبة أو هذا النموذج الذي يتبنى فكرة أن العقل الفعّال" لا يزال مفيدًا حتى يومنا هذا لفهم مصدر المعرفة والإلهام !
ففي الفلسفة الحديثة، هناك نظريات مثل "العقل الجمعي" لكارل يونغ، أو فكرة أن الإبداع هو نتيجة "فيض" من العقل الكوني، وهي تشبه فكرة الفيض عند الفارابي، كما أن بعض العلماء مثل ديفيد بوم (David Bohm) تحدثوا عن "العقل الضمني" (Implicate Order)، وهو فكرة أن الكون قد يكون له نوع من "الوعي الكوني" أو "نظام خفي" يربط بين الظواهر المختلفة، كما أن نظرية الكون ككائن حي (Gaia Hypothesis) تفترض أن الأرض والكائنات الحية تعمل كوحدة متكاملة، وهذه الفكرة قريبة من رؤية الفلاسفة المسلمين عن "الكون المنظم بالعقل"، إذ أن بعض الفلسفات الحديثة، تتبنى فكرة أن الكون ليس مجرد "مادة ميتة"، بل ربما يحتوي على نوع من الذكاء أو الوعي، لكن – من وجهة نظري - هذا لا يعني وجود "عقول كوكبية" كما في الفلسفة الإسلامية القديمة، بل إذا أردنا تفسير الكون من منظور علمي بحت، فإن نظرية العقول العشرة لم تعد صالحة، لأننا نعلم الآن أن الكواكب ليست كائنات عقلية، بل أجرام مادية صخرية محكومة بالجاذبية، وأنا هنا لا أريد فهمها من منظور فلسفي وروحي، بإعادة تأويلها كمحاولة لفهم العلاقة بين العقل والكون، وأن العقل العاشر يمكن اعتباره رمزًا للمعرفة الكونية أو الحدس الفائق، أو أن العلاقة بين العقول والعالم المادي يمكن إعادة تأويلها كرمز لتفاعل الوعي البشري مع الطبيعة.
قولاً واحداً يهضمه العقل والمنطق، النظرية لم تعد صالحة علميًا، لكنها – ربما - لا تزال مفيدة فلسفيًا إذا نظرنا إليها كتعبير رمزي عن العلاقة بين العقل والكون، رغم سذاجة تلك المسألة، لأنه، ولو كان الأمر كذلك ويتحدد بكواكب المجموعة الشمسية التي ننتمي إليها كسكان كوكب الأرض فلماذا تم تجاهل المنظومة الكونية الأشمل من مجموعات شمسية أخرى بالمليارات تدور حولها كواكب معروفة ومجهولة بمليارات المليارات ومجرات بتريليونات المجرات، فهل انعدم تأثير كل هؤلاء انحسر فقد في الغرفة الضيقة المسماة كواكب المجوعة الشمسية التي منها الأرض والمريخ والزهرة والشمس والقمر !، أي عبث ذلك؟
إن النموذج الفلكي الذي تبناه الفلاسفة المسلمون مثل الفارابي وابن سينا كان يستند إلى نموذج بطليموس، حيث تُعتبر الأرض مركز الكون، وتدور حولها الكواكب في "أفلاك" محددة، وهذا النموذج لم يكن قادرًا على استيعاب وجود كواكب أخرى خارج مجموعتنا الشمسية.
وأيضاً مسألة أخرى وهي التأثر بالفكر الأرسطي عن "العالم المغلق"، حيث رأي أرسطو أن الكون منظم في "دوائر" متناسقة تبدأ من الأرض وتتصاعد نحو "المحرك الأول" أو الله.
هذا التصور جعل الفلاسفة يفترضون أن كل شيء ينتمي إلى نظام مغلق حول الأرض، دون التفكير في وجود أنظمة أخرى مماثلة.
وكذلك مسألة الاعتقاد بأن الكواكب تؤثر على حياة البشر مباشرة، حيث كان يُعتقد أن هذه الأجرام السماوية القريبة تؤثر في الطبيعة والإنسان، فالقمر يُعتقد أنه يؤثر على المد والجزر، والمريخ على الحروب، وزحل على الزمن والمصير.
إن هؤلاء القدماء لم يكن لديهم اهتمام بما هو خارج المجموعة الشمسية، لأنهم لم يعتقدوا أنه يؤثر علينا، ومن ثم لابد أن تنهار هذه النظرية أو تلك الفكرة - وأقصد بها سلسلة العقول المنتهية بالعقل العاشر الفعال - أمام العلم الحديث، لأن معرفتنا باتساع الكون يتجاوز اليوم تصورات الفلاسفة القدامى، إذ نعلم في أيامنا تلك من القرن الحادي والعشرين، أن هناك مئات المليارات من المجرات، وكل مجرة تحتوي على مئات المليارات من النجوم، وكل نجم قد يكون له نظام كوكبي خاص به، وهذا يعني أن التفكير في أن "العقول العشرة" محصورة في كواكب نظامنا الشمسي فقط، هو اختزال غير منطقي للواقع الكوني، كما أن عدم وجود أي دليل على أن للكواكب تأثيرًا فلسفيًا أو روحانيًا هو أقوى دليل على فساد تلك النظرية، فالعلم أثبت أن الكواكب لا تتحكم في المصير البشري، بل هي مجرد أجرام تدور وفق قوانين الجاذبية والطاقة، وحتى القمر، رغم تأثيره على المد والجزر، لا يملك أي "تأثير عقلي" على البشر، ناهيك عن الكواكب الأخرى، ومنطقياً، إذا كان لكل كوكب عقلٌ خاص به، فهذا يعني أنه ينبغي أن يكون هناك تريليونات العقول الفعالة، وليس عشرة فقط!، وهذا يناقض الفكرة الأصلية للفارابي وابن سينا بأن هناك "نظامًا هرميًا مغلقًا" للعقول المتصلة بالكواكب، وعليه، بدلًا من اعتبار أن العقل الفعّال مرتبط فقط بكواكب مجموعتنا الشمسية، يمكن إعادة تفسيره كـ"مبدأ كوني" منتشر في جميع أنحاء الكون، إذ يمكن أن يكون العقل الفعّال رمزًا للقوانين الطبيعية التي تحكم الكون كله، وليس مجرد فلك معين، في محاولة للتخلص من التفسير الكوكبي الضيق والانتقال إلى تصور كوني أوسع، كما يمكن استبدال فكرة "العقول العشرة" بفكرة "الذكاء الكوني" أو "الوعي الشامل"، وهو ما يشبه النظريات الحديثة مثل"فرضية الوعي الكوني" (Cosmic Consciousness Hypothesis) أو "العقل الضمني" عند ديفيد بوم، أو استخدام الفيزياء الحديثة لتفسير العلاقة بين العقل والكون، بدلاً من افتراض "فيض" من العقول إلى الأرض، كما يمكن التفكير في أن الوعي نفسه جزء من نسيج الكون، كما في نظرية المعلومات الكمومية (Quantum Information Theory).
إن بعض العلماء مثل روجر بنروز وستيوارت هامروف طرحوا فكرة أن الوعي قد يكون ناتجًا عن عمليات كمومية دقيقة داخل الدماغ، ما قد يكون له امتداد في الكون كله.
إننا لو أخذنا الفكرة بالمعنى الحرفي القديم ( أن هناك عقولًا مرتبطة بكواكب محددة فقط)، فهذه الفكرة لم تعد صالحة، لأنها مبنية على علم فلك قديم خاطئ، لكن لو أخذنا الفكرة كاستعارة فلسفية لمحاولة فهم العلاقة بين العقل والكون، فيمكن إعادة تأويلها بطرق تتماشى مع العلم الحديث، وأن يكون هناك "مبدأ تنظيمي" في الكون، لكنه ليس مقيدًا بالمجموعة الشمسية فقط، بل يشمل الكون بأسره، لأن مبدأ أو نظرية أو فكرة العقول العشرة كفكرة علمية غير متوافقة – على الإطلاق - مع الاكتشافات الحديثة، وكفكرة فلسفية يمكن تحديثها لتصبح أكثر شمولية واتساقًا مع علم الكونيات الحديث، فالعقل الفعّال – أيها المنطق - لا يسكن القمر، بل قد يكون في كل مكان في الكون .. أو قد نكون نحن جزءًا منه.
أن القرآن ذكر الشعرى اليمانية وهو نجم خارج المجموعة الشمسية وكذلك النجم الثاقب القادم من خارج المجرة بل ومواقع النجوم في أسلوب علمي فائق إلى آخر تلك المسائل والأمثال والأدلة على اتساع الكون وعدم محدوديته في كواكب المجموعة الشمسية والتي منها الأرض، ومن ثم ألم يكن أولى بالتصوف والفلسفة أن يراجعوا تصورهم المحدود في كواكب المجموعة الشمسية فقط إلى نظرة أكثر اتساعاً وأكثر كونية، إنه تساؤل جوهري للفلاسفة المعاصرين يكشف عن قصور النظرة الفلسفية القديمة مقارنةً بالإشارات القرآنية الأوسع أفقًا، وكذلك مقارنةً بالعلم الحديث الذي كشف عن اتساع الكون بشكل غير متخيل للفلاسفة المسلمين القدماء.
والسؤال الأخير للفلاسفة المعاصرين: هل أخطأ الفلاسفة القدماء أم كان تصورهم محدودًا؟
الإجابة بقوة، نعم، فالفلسفة بشكل عام والإسلامية والصوفية على نحو خاص قدّموا تصورات عميقة، لكنها كانت محدودة برؤية زمانها، والعلم الحديث كشف لنا كونًا أوسع بكثير مما تخيله الفلاسفة القدماء، مما يجعل الحاجة ملحّة لإعادة تأويل مفاهيم مثل "العقل الفعّال" و"الفيض"، وربما حان الوقت لتأسيس فلسفة صوفية جديدة، تستلهم العلم ما يجعلها منطقية إذ أنها ليست وحياً من السماء وإنما اجتهادات عقلية، وعلينا أن نعيد التفكير في مكانة الإنسان داخل هذا الكون الشاسع، واحترام منطق العقل والعلم المعاصرين، فهل نحن مستعدون لهذه الثورة ؟



#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محمود ياسين صوت مصر ونجمها الذي أحبته
- -مسرح رمسيس- وقيمة الفنان في الشرق
- مسرحية لحظة حب على قاعة صلاح جاهين بمسرح البالون في مصر
- نظرة على تاريخ المسرح العربي في مصر
- نساء في حياة سيد درويش
- ثورة الفلاحين في قرية -بهوت- هي من صنعت صلاح جاهين !
- فولتير يعلن تفاؤله على خشبة المسرح القومي بمصر
- مهرجان المسرح التجريبي 2020 الدورة السابعة والعشرون - تغطية ...
- هل سيكون ( لقاح ) كورونا وسيلة لإختراق دماغ البشر والتحكم بأ ...
- قراءة قصيرة في كتاب -مسرح الشعب- للدكتور -علي الراعي-
- الإنسانية .. العدالة .. الحرية ( من القصص السياسي )
- بهائم العمدة .. ( من القصص السياسي )
- سيدنا عاشور .. ( من القصص السياسي )
- عشق الخالدين ( رومانسية سياسية ليست من وحي الخيال )
- الأراجوز - من القصص السياسي
- فيلم شيء من الخوف أم .. الخوف كله ؟؟
- مصادر وتاريخ الموسيقى العربية
- قصة فيلم الزوجة الثانية
- على هامش ماحدث بمصر يوم 28 يناير 2011 ( الجزء الرابع )
- على هامش ماحدث بمصر يوم 28 يناير 2011 ( الجزء الثالث )


المزيد.....




- ترامب يسأل رئيس الوزراء البريطاني: هل تستطيعون مواجهة روسيا ...
- تزعّم كارتل سينالوا وأسس كارتل غوادالاخارا.. المكسيك سلمت زع ...
- شويغو في لقاء مع شي جين بينغ: بوتين يتابع شخصيا تنفيذ اتفاقا ...
- رئيس الوزراء الأسترالي يعلق على نسيان ترامب اختصارAUKUS
- بعد أداء راقص مذهل.. روبوت صيني يتحول إلى مقاتل كونغ فو بارع ...
- مجدلاني: العملية العسكرية الإسرائيلية في جنين محاولة لزعزعة ...
- ماسك وسكوت ووكر يفضحان مخططات سوروس السياسية
- الهند.. الثلوج تحاصر 57 شخصا جراء انهيار جليدي
- المعادن النادرة على طاولة ترامب وزيلينسكي في البيت الأبيض
- بالأرقام.. مقارنة بين قوة الجيشين المصري والإسرائيلي بعد مخا ...


المزيد.....

- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف
- أنغام الربيع Spring Melodies / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محيي الدين ابراهيم - بين الفلسفة والتصوف والعلم: هل آن الأوان للثورة الفكرية الجديدة