|
قصيدة (سأحبكِ) لصلاح زنكنه أمام مرايا النقد
صلاح زنكنه
الحوار المتمدن-العدد: 8266 - 2025 / 2 / 27 - 23:43
المحور:
الادب والفن
بقلم : الدكتور عبدالكريم الحلو
أولا / نقد تحليلي فلسفي. 1- تحليل البنية الدلالية والتيمات المركزية :
أ. جدلية الحب الشمولي بين الفردي والكوني القصيدة تبدأ بمستوى شخصي، حيث يتحدث الشاعر عن حبه للحبيبة بكل تفاصيلها، من الغيرة إلى العناد، ومن الدلال إلى الجنون - ثم تتوسع الدائرة تدريجياً ليشمل الحب كل شيء: الله، الوطن، الشعب، الفقراء، الصعاليك، الشعراء، العشاق، المجانين، الأطفال، الشيوخ، الأحزاب، المنافي، البرلمان، الفصول الأربعة، والأعياد. هذه الدائرة المتسعة من الحب تذكرنا برؤية المتصوفة للحب الكوني، حيث يبدأ العاشق بحب شخص محدد، لكنه سرعان ما يذوب في حب أكبر، يصل إلى الله والوجود ككل. نجد هذا التصور عند ابن عربي في فصوص الحكم، حيث يرى أن الحب الحقيقي يتجاوز الكيان الفردي ليصبح حبًا مطلقًا.
ب. الحبيبة كمحرك للوجود " سأحبكِ كما أنتِ بكل أبهتكِ وأناقتكِ وأنوثتكِ " يظهر في هذا المقطع أن الحبيبة ليست مجرد فرد، بل فكرة تتجسد فيها كل القيم الجمالية والوجدانية. لاحقًا، عندما يقول:" سأحتفي بالحياة وأرقص في حفل ميلادك " نجد أن الحبيبة تصبح رمزًا للحياة نفسها، وكأنها نقطة ارتكاز تدور حولها كل الأشياء. هذا الطرح الفلسفي قريب من فكرة “المحرك الأول” عند أرسطو، حيث تكون الحبيبة هي القوة الدافعة للوجود العاطفي للشاعر.
2- التحليل الفلسفي: الحب كأداة للمصالحة مع العالم أ. الحب كفعل وجودي يطرح الشاعر الحب بوصفه حالة كلية تتجاوز العلاقات الثنائية لتشمل الوجود كله. هنا، يمكننا مقاربة رؤيته بالفلسفة الوجودية، خاصة عند سارتر وكيركجارد، حيث يُنظر إلى الحب كطريقة لإضفاء معنى على الحياة. • في الوجودية، يكون الإنسان مسؤولًا عن بناء هويته وخلق معناه الخاص. • في هذه القصيدة، يتخذ الشاعر الحب وسيلة لصنع هويته الخاصة، حيث لا يكون مجرد عاشق، بل محبًا مطلقًا لكل شيء.
ب. الحب والمجتمع: نقد ضمني للأوضاع الاجتماعية في قوله: سأحب الفقراء والصعاليك والمتسولين. نجد أنه لا يكتفي بحب الفئات التي يتم الاحتفاء بها عادة (الوطن، الشعب، الحكومة)، بل يمتد الحب إلى المهمشين والمنبوذين. هذا الطرح يحمل بعدًا نقديًا؛ فاختيار هذه الفئات يوحي بأن الشاعر يرى خللًا في المجتمع، ويقترح الحب كأداة لمواجهة هذا الخلل.
ج. الحب والسياسة: موقف وجودي؟ يقول: (سأحب المنافي والأحزاب والبرلمان والجمعيات الخيرية) هنا ينتقل الحب إلى المجال السياسي، مما يطرح سؤالًا: هل هذا الحب قبول للأوضاع كما هي، ؟ أم أنه سخرية خفية؟ • إذا قرأناها على أنها حب حقيقي، فإنها تعبر عن روح تصالحية ترى في كل شيء جانبًا يستحق الحب. • وإذا قرأناها على أنها سخرية، فقد تكون إشارة إلى واقع سياسي مرتبك يجعل حتى “المنافي” و” الأحزاب” ضمن دائرة الأشياء التي يجب أن نتقبلها كما هي.
التحليل الأسلوبي: التكرار والتصعيد العاطفي أ. التكرار كأداة تعبيرية • “سأحب”: تكرار هذه الجملة في كل بيت يجعل الحب فعلًا متكررًا وشاملًا. • هذا التكرار يخلق تصعيدًا عاطفيًا، حيث يبدأ الحب بالمستوى الشخصي ثم يتوسع حتى يشمل الوجود بأكمله.
ب. التقابل بين الثنائيات • “سأحب الله والوطن والحكومة والشعب” يجمع المقدس والسياسي. • “سأحب الفقراء والصعاليك والمتسولين” يجمع الفئات الاجتماعية المهمشة. • “سأحب الشعراء والعشاق والمجانين” يجمع بين الرومانسي والمجنون، وكأن الجنون والعشق والشعر في مستوى واحد. هذا الجمع بين المتناقضات يعكس فلسفة ترى الحب كحالة توحد بين المتضادات، وهو طرح قريب من الرؤية الصوفية للحب الإلهي.
4- البعد الإيقاعي والموسيقي • القصيدة تعتمد التوازي الإيقاعي، حيث تكرار الجملة “سأحب” يخلق موسيقى داخلية تشبه الترانيم الصوفية. • هذا الإيقاع المتكرر يجعل النص أقرب إلى ترنيمة حب شمولية، لا تقتصر على العشق العادي، بل تمتد إلى كل عناصر الحياة. قصيدة حب أم فلسفة في العشق؟ هذه ليست مجرد قصيدة حب، بل بيان فلسفي عن الحب كفعل كوني. يبدأ النص في مستوى شخصي ثم يتوسع ليشمل السياسة، المجتمع، الأديان، والفصول الأربعة. هذه الرؤية تجعل القصيدة أقرب إلى “مانيفستو وجودي”، حيث يكون الحب هو المبدأ الذي يعطي الأشياء معناها. باختصار، هذه قصيدة تمزج بين العاطفة والفلسفة، بين الحب الشخصي والحب الكوني، وتقدم رؤية تتجاوز حدود العشق التقليدي إلى تجربة روحية تتقاطع مع التصوف والوجودية في آن واحد.
ثانيا / تحليل انطباعي عندما تقرأ هذه القصيدة، لا يمكنك إلا أن تشعر بأنك أمام حالة عشق مطلق، لا يقتصر على الحبيبة وحدها، بل يمتد ليشمل كل شيء. إنها ليست مجرد قصيدة غزلية، بل إعلان عن الحب كقوة حيوية، كموقف من العالم، كفلسفة للحياة. 1- انطباع أول: صوت العاشق الكوني أول ما يلفت الانتباه هو طغيان الفعل “سأحب”، وكأن الشاعر يتخذ من الحب موقفًا لا يتغير، مهما كانت الظروف. هذا ليس حبًا هشًا يتأثر بالمزاج أو الزمن، بل حالة وجودية متجذرة، أشبه بما نجده عند المتصوفة، الذين يرون في الحب طريقًا للفناء في المحبوب، سواء كان إنسانًا أو فكرة أو حتى الله نفسه. يبدو الشاعر هنا كأنه يريد أن يعانق العالم كله، أن يحتضن المتناقضات بين يديه. الحب عنده لا يقف عند الجمال والحنان والأنوثة، بل يتسع ليشمل حتى الفقراء والصعاليك والمتسولين، وحتى المنافي والأحزاب والبرلمان، وكأن الحب لديه ليس مجرد عاطفة، بل حالة فكرية، رؤية فلسفية تحتضن كل شيء، حتى القبح والخذلان والمجهول.
2- الحبيبة: نقطة البدء أم نقطة الوصول؟ تبدو الحبيبة في البداية وكأنها محور كل هذا الحب، ولكن مع تقدم القصيدة نشعر أنها مجرد الشرارة التي أشعلت نار العشق الأكبر. ربما بدأ الحب بها، لكنه سرعان ما امتد ليشمل العالم بأسره، حتى صار حبًا وجوديًا يتجاوز الشخصي إلى الكوني. “سأحب الفصول الأربعة والسنة الميلادية والسنة الهجرية” هذا السطر تحديدًا يعكس شعورًا بأن الحب تحول إلى احتفال بالزمن ذاته، بالأيام والسنوات والفصول، وكأن الزمن يصبح أكثر جمالًا فقط لأن هذا الحب موجود.
3- اللغة والإيقاع: موسيقى تتكرر كتراتيل صوفية التكرار اللافت لجملة “سأحب” يمنح القصيدة إيقاعًا يشبه التراتيل الصوفية، وكأنها ليست مجرد كلمات، بل طقس شعائري، حيث يردد الشاعر تعاويذه الخاصة للحياة، للحب، للعالم. هذا التكرار لا يشعرنا بالملل، بل على العكس، يجعل الحب يبدو أكثر رسوخًا، أكثر اتساعًا، أكثر إلحاحًا. كما أن الجمع بين الأشياء غير المتوقعة (الحبيبة، الله، الحكومة، الصعاليك، البرلمان، الفصول الأربعة) يخلق حالة من الدهشة المستمرة، وكأن الحب هنا ليس شيئًا ناعمًا فقط، بل أيضًا تمرد على التصنيفات التقليدية للعاطفة.
4- هل هناك سخرية خفية؟ رغم أن القصيدة تبدو للوهلة الأولى قصيدة حب خالص، إلا أن بعض المقاطع تثير تساؤلات: “سأحب المنافي والأحزاب والبرلمان والجمعيات الخيرية” هل هذا حب حقيقي، أم أنه سخرية ضمنية من واقع سياسي واجتماعي مرتبك؟ يبدو وكأن الشاعر يلمّح إلى أن العالم مليء بالتناقضات، لكنه يقرر أن يحب كل شيء رغم ذلك. ربما يقول لنا إن الحب ليس قبولًا أعمى، لكنه محاولة لفهم الأشياء واحتضانها رغم عيوبها.
الخاتمة: احتفاء بالحياة أم استسلام للحب؟ وأرقص في حفل ميلادك كونكِ سر ديمومة قلبي المتوهج بكِ أبدًا. تنتهي القصيدة بمشهد احتفالي، حيث يصبح الحب نبضًا مستمرًا لا يتوقف، بل يتجدد كل عام، تمامًا كعيد ميلاد الحبيبة. إنها ليست فقط قصيدة عن الحب، بل عن كيف يصبح الحب طقسًا يوميًا، جزءًا من هوية الإنسان، طريقًا للمصالحة مع الحياة. الخلاصة: قصيدة تفيض بالعشق، لكنها ليست غزلية فحسب, ليست مجرد قصيدة حب، بل قصيدة عن كيف يمكن للحب أن يكون موقفًا فكريًا، رؤية فلسفية، وحتى شكلًا من أشكال الاحتجاج أو القبول الهادئ للأشياء كما هي. إنها قصيدة تجعلك تشعر بأن الحب يمكن أن يكون قوة ثورية، لكنه أيضًا يمكن أن يكون ملاذًا، مكانًا للهدوء وسط فوضى العالم. قصيدة تجعلك تتساءل: هل نحن قادرون على أن نحب العالم كما هو، رغم كل ما فيه؟
سأحبكِ كما كنتُ أحبكِ دوما سأحبُ غيرتكِ وغروركِ دلعكِ ودلالكِ عطركِ وعنادكِ حنوكِ وحنانكِ جمالكِ وجنونكِ سأحبكِ كما أنتِ بكل أبهتكِ وأناقتكِ وأنوثتكِ سأحب الله والوطن والحكومة والشعب سأحب الفقراء والصعاليك والمتسولين سأحب الشعراء والعشاق والمجانين سأحب الأطفال والشيوخ والعجائز سأحب المنافي والأحزاب والبرلمان والجمعيات الخيرية سأحب الفصول الأربعة والسنة الميلادية والسنة الهجرية والأعياد والمناسبات الوطنية سأحتفي بالحياة وأرقص في حفل ميلادك كونكِ سر ديمومة قلبي المتوهج بكِ أبدا
* القصيدة من المجموعة (سأدل العصافير عليكِ) دار الفؤاد / مصر 2021
#صلاح_زنكنه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النَّصُّ الطّافحُ بلذّةِ التَّشْويق / قراءة تأويلية في قصص (
...
-
جلولاء ضيقة كصحراء, و فسيحة مثل قلب أم رؤوم.
-
الحرب أورثتني العطب الروحي, وسلبتني الطمأنينة
-
الحياة بكل تفاصيلها هي الخلفية الحقيقية والذخيرة الحية لأي أ
...
-
أحبكِ
-
صلاح زنكنه يرسم بالكلمات
-
فيزياء الحضور الأنثوي في مجموعة (الصمت والصدى) لصلاح زنكنه
-
صلاح زنكنه / صياد الدهشة
-
القاص صلاح زنگنه في حوار صريح / الكاتب الحقيقي له موقف
-
القصة الكبيرة لا يكتبها إلا قاص الكبير
-
لا أحفل بالتراث ولست مغرماً بالسلف
-
حالات استثنائية في قصص (صوب سماء الأحلام) لصلاح زنكنه / أحم
...
-
عمق الثيمة وبساطة اللغة في أحلام صلاح زنكنه .. مشتاق عبد اله
...
-
ثلاث إضاءات على مجموعتي القصصية (وجع مر)
-
من أرشيفي الورقي .. حوار أجرته معي الشاعرة كولالة نوري
-
سماحيات 32
-
ثلاث إضاءات لكتابي وجع مر
-
مدن
-
أسماء الشهور ومسمياتها عبر التقاويم الرومانية والسريانية وال
...
-
خالد بن يزيد / بين الكيمياء والنساء
المزيد.....
-
رحيل الكاتب البيروفي الشهير ماريو فارغاس يوسا
-
جورجينا صديقة رونالدو تستعرض مجوهراتها مع وشم دعاء باللغة ال
...
-
مأساة آثار السودان.. حين عجز الملك تهارقا عن حماية منزله بمل
...
-
بعد عبور خط كارمان.. كاتي بيري تصنع التاريخ بأول رحلة فضائية
...
-
-أناشيد النصر-.. قصائد غاضبة تستنسخ شخصية البطل في غزة
-
فنانون روس يتصدرون قائمة الأكثر رواجا في أوكرانيا (فيديو)
-
بلاغ ضد الفنان محمد رمضان بدعوى -الإساءة البالغة للدولة المص
...
-
ثقافة المقاومة في مواجهة ثقافة الاستسلام
-
جامعة الموصل تحتفل بعيد تأسيسها الـ58 والفرقة الوطنية للفنون
...
-
لقطات توثق لحظة وصول الفنان دريد لحام إلى مطار دمشق وسط جدل
...
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|